السبت، 22 يونيو 2013

ربيع مروة وياسر مروة وسرمد لويس... "يمتطون غيمة"


 المستقبل 16/6/2013
بينما تضطلع الشاشة العريضة المعلقة والمشرفة على الخشبات وعلى الصالة، من علٍ ومن عرض، بقص سيرة ياسر مروة المهلهل- على المعنى البطولي الشعبي ومن غير زعم أنه "اول" من هلهل امتطاء الخشبات وغيم الخَلق-،  (وبينما) تحكي الاشرطة والاقراص المدمجة المسجلة بلسان المتكلم فصولاً من هذه السيرة. فتتواطأ مع صور الفيديو على تحقيق الحكاية وإثباتها، أو تسعى في شأن آخر مثل الإلمام بجسد صاحب السيرة و"مسح" الجسد المضطجع – في الاثناء الطويلة هذه، وهي وقت التجهيز المسرحي والسينمائي كله، يتشاغل ياسر مروة، الحاكي (الحكواتي) والمدلِّل وصاحب السيرة وبطلها والمعلق الحواشي عليها، والمراجع نفسه في مرآة الحكاية، وهو جالس على كرسيه الى طاولة عليها ركام من علب الاقراص المدمجة، بالعلب هذه.
 فهو يفتحها ويغلقها، ويخرج منها القرص ويعيده إليها، ويرتب الركام وينقِّل بعض أجزائه بين وحداته. ويرافق صورته وكلامه بعض الفقرات المسجلة، فيشخص الى الجمهور، ويشبِّه مكالمته ومخاطبته. أو يحجم عن المكالمة، ويمسك عن المخاطبة، فيبدو "جمهوراً" أو كالجمهور. ويستمع الى بعض (معظم) فصول السيرة أو الحكاية، شأننا نحن، ويكف عن تقليب علب الاسطوانات. ويعرض جسده، جالساً وغير نائم في ضوء تكتنفه ظلال تقيد العرض، ورأس ياسر المتصدعة على الخصوص، على الجمهور، وتدعوه تورية الى ملء الظل والصمت والإيماء بالصور والاشارات والكلمات والتوريات "المناسبة"، على قول تمرين مدرسي شائع أو كان شائعاً.
 النتاج
 والتمرين، على أشكاله ووجوهه، لا يقحمه المشاهد على "أمتطي غيمة" (عمل ربيع مروة "مع" ياسر مروة وسرمد لويس، 26 أيار، من اعمال "اشغال داخلية"، دورة اشكال ألوان الجمعية اللبنانية للفنون التشكيلية في 2013). فهو في صلبه أو هو منه صليبة، على قول عربي في النسب القوي والصريح. وياسر مروة، و"معه"، على معنى السند والعضد والاستجابة والاقتراح وربما الترجمة الى لغات وتقاليد قد لا يجيدها، صاحباه، يتمرن على سرد سيرته وحوادثها وسلك متفرقها وفتاتها في خيط يوده جامعاً، ربما ولا يرى، في أوقات أخرى، ما يحول بينه وبين تركه على بعثرته وجواره لعلهما ينتجان أو يلدان توليفاً و"مونتاجاً".
 ويقرأ المشاهد "رغبة" ياسر مروة في رواية سيرة، هي على وجه التأكيد من أجزاء سيرته الموثقة في ملف عائلي ومدرسي وطبي و... مسرحي شاهد معاً، على الشاشة المشرفة على الخشبات بأحرف ملونة، حمر إذا لم تخطئ الذاكرة، تركض ركض أحرف الآلة الكاتبة على الورقة الضوئية وصفحتها. فيقول ياسر لربيع، في احد المشاهد المكتوبة والبصرية الاخيرة، أنه يود أن يصنع معه "شيئاً"، "أي شيء". واستيضاح الثاني الاول ما عسي يكون الأي شيء هذا، من غير جواب شاف، يحمل المستوضِح على اقتراح "موضوع" هو "نفس" صاحب الرغبة، أو صاحب الرغبة نفسه، أي رغبته التي يقوم بها ويتماسك، على قدر، أو آخر، نفساً وسيرة وسعياً، وتجمع آثاره و"ملفاته" في مدونة تشبِّه السِّلك أو السَّلك (الواحد أو في خيط واحد).
ويحضر صاحب السيرة، ممتطي الغيمة (كناية عن خبط وقائع سيرته على غير هدى ولا إلى غاية، وكناية عن الخفة والهشاشة، وكناية أخيراً على وجه السخرية عن اتحاد الفارس ومطيته في فرِّ السير البطولية وكرِّها)، وقائع سيرته ومروياتها حضوراً كثير الوجوه ومضطرباً ومتفاوتاً. وهو في احواله كلها ليس حضور التجسد والحلول والتجلي. وذلك على خلاف الاستعارات الصوفية الطاغية التي يُمثّل بعضُها ("في حضرة الغياب" الدرويشية "الفلسطينية") على قوة الصور الاتحادية والفيضية والجميعية والحلولية وأصدائها الدموية والعصبية في العبارات العربية والاسلامية المتداولة والرائجة. ويتخفف مسرح المرُوِّيين ولويس من التجسيد والتمثيل والحلول، على رغم قرابة المسرح الوثيقة بها، وهو يبلغ قصده هذا من طرق مسرحة تتقاسمها "آلات" الاستعادة والسرد والترجيع والتوقيع، وتحفظ شتاتها (شتات المسرحة) من غير تسليم بها أو لها إلا لماماً، وعلى سبيل الطبابة.
البؤرة
 فمن وجه أو ناحية، يحضر صاحب السيرة، وراوي آثارها وحوادثها ومستودَع بعض الآثار الظاهرة ومتذكر ملفاتها ومدونها، (أمام) الجمهور، ويؤدي حضورَه ومثوله أداء قوياً ويكاد يكون طاغياً. فجسد ياسر مروة، جالساً الى الطاولة وواقفاً ومقلباً علب الاقراص والتسجيلات فتحاً وغلقاً ومحاكياً المخاطَبة ومنصرفاً عن الجمهور، ومعرِّضاً رأسه وجبهته الى الضوء، يملأ فضاء الخشبات وعيني المشاهد(ين) على نحو لا تحتمل وطأته. فهلهلة الجسد الجريح والمصاب والمكلوم هي تحقيق بعض أخبار السيرة ومصدقها. وتكاد هذه، التحقيق والتصديق والهلهلة، تبعث "بطل" السيرة في صورة ضحية أو أضحية تنوب عن القبيل (أو المدينة)، وتسدد الحساب عن خطيئته أو ضلاله وغوايته. ولو انفرد ياسر مروة بالمسرح، أو افرد به، وصال على الخشبات على "طريقة" منير أبو دبس وتقمص "الملك يموت" التي أبكت الجمهور وكاتبها يونيسكو (على ما يروي معرِّبها أو ملبننها المزهو بصنيعه، اليوم) على نحو ما تقمص دور الملك فيها انطوان كرباج، لما وسعه ربما التماسك والترفع عن الحلولية البطولية وتصوفها الشعاري والاعلامي الفعلي المميت والكاذب والمرقع (نسبة الى مرقعة الصوفي المجتمعة من خِرق متفرقة خيط بعضها الى بعض).
فالمسرح، في "أمتطي غيمة"، ليس مطية تجلٍ، ولا مجلى فيض رسولي الى الينابيع ولا منها. وهو أقرب الى مختبر أو مشغل "يحرتق" فيه العاملون فيه، والمترددون اليه بين الوقت والوقت، رواياتهم وأخبارهم ويجربونها ويتمرنون على ترتيبها وسلكها. وليس هذا ما يوحي به جلوس ياسر مروة الى أشرطته المسجلة والاقراص المدمجة وحده. فالجالس الى الاشرطة والاقراص، في ظل الشاشة المهيمنة وأغصانها، لا يصنع سيرته، ولا يستقيها من معين أو مصدر ثقة. وهو لا يتعدى "محاولتها"، على شاكلة الشاعر الضليل وصاحبه الباكي (على غير الاطلال هذه المرة).
 وتخرج أجزاء السيرة وبعض أوقاتها وفصولها، من شذرات الصور والاقوال والاوراق. وصاحبها المفترض، والشاهد على حقيقتها، الى جانبها، وعلى مقربة منها، بيننا نحن الجمهور وواحداً منا، منصرفاً في الظاهر الى صنعها وتأليف (ما بين) أجزائها وفتاتها. وهذا الصنع يشبِّه الحاضر، حاضر العرض، ولا يدلِّس التشبيه ولا ينكره. فالصنع سبق العرض، والعرض أثر من آثاره المتأخرة، ورجع صداه المتردد. ولكن المسرح، مضمار السَّرح أو الرعي والبسط والانتشار، لا يتستر على الصنع، ولا يتكتم عليه، ولا يطوي التماسه التماسك، والقرار على معنى جامع، في سيرة بطولية أو مأساوية أو كوميدية غنائية متصلة. والوسائط، الآلية والصناعية، التي يتوسل بها صنع السيرة تبدد وحدة صاحب السيرة وسيرته أو اتحاده فيها، ورغبته في صدورها عنه وصدوره هو عنها، وعن نواتها أو نطفتها المبهمة والفاهرة. ويبقى حضور ياسر مروة، ولو على وجه المتمرن والمحرتق والمختبر والمنسق، على وحدة البؤرة واجتماعها. والبؤرة "أمر متوهم"، ولا قوام أو حقيقة له من نفسه. فهو ما يتحصل من التقاء الاشعة أو الخطوط أو الطرق أو المنازع أو العزائم، وما شابه. وكان انطونان أرتو ذهب، وهو يدري معنى قوله ومذهبه، الى ان صاحب أنا، أو أنا التي يزعمها قائلها إنما هي "مفترق (أو ملتقى) أشياء فريد" (لا يُرجع فيه الى ما قبله).  
 وحال أنا هذه، أي ائتلافها من التقاء "الاشياء" وافتراقها، تدعو "صاحبها"، وصاحبها هو استعارة وكثرة، الى استئناف التأليف والاستعارة، والعودة على بدئهما، المستأنف بدوره لا إلى أول. فالجالس الى رواية سيرته، شأن صاحبنا، أو أصحابنا الثلاثة، ومباشر سيرته من غير أن يدري سيرة من هذه الى ان يحين أجله، شأن سواد الخلق، مدعو الى السؤال عمن يكون، وعمَّ يصنع بحوادث ترجمته ووقائعها وأخبارها وآثارها وندوبها. والحق أن الامر ليس من البدائه (أو بدهياً)، ولا هو مقضي من تلقاء نفسه أو تلقاء صدقه وبكارة أحاسيسه ومشاعره الطافحة. والثلاثة، أصحاب "امتطي غيمة" على مقادير متفاوتة ربما، بدوا في ثلث الساعة الاول من العرض معولين على البديهة وصدق الاحاسيس ومفارقات القول وتداعياته. وهذه من فن "المونولوجيست" وارتجاله الساعي في القفشة التي تذهب رسماً، ويركن إليها التجريب السائر وحكمته المتناقلة والمتضاربة.
 وعلى هذا النحو يروي ياسر مروة جزءاً من طفولته البيتية والمدرسية. ولا يدفع التجهيز أو التخريج، وتوزيعه وسائط القص ومصادره وتوقيعه إياها الانقياد الى سهولة الذاكرة وخلبها "العاطفي". فيري الفيديو الجمهورَ وقتاً طويلاً قياساً على محل المروي من السيرة وعمله فيها، شجرة الاسرة، وعينة من سجل الولد المدرسي والمسلكي. فيخشى المشاهد، لبعض الوقت، أن تبهر الورقة القديمة، وحروف الكتابة المليئة والمترددة، وإنشاء السيدة فاخوري المعلمة، تذكر ياسر وتستبقيه مائلاً على صفحة غديره الراكد، محدقاً في صورته.

 وهذا ما لم يدم. فنفض صاحب السيرة عن سيرته وحوادثها المصبَّرة نازعها الى الصمدة النرجسية، والهدهدة الآسية. وخاض في دوامة الاختبارات المتقاسمة والجارحة، المترددة بين حد الانكفاء الأليم والعقيم على النفس وبين التبدد في عام " سياسي" وحكائي خارجي. فألبسَ الجسد المهشم والمصاب حلة رواية ساخرة، قربتها دقتها الوصفية وفجاجة لغتها من قتامة (حوادث) المتفرقات وبابها، وأدرجتها ملحميتها غير المظفرة في زمن متمطٍّ الى يوم آتٍ يليه يوم آت... 

ليست هناك تعليقات: