السبت، 22 يونيو 2013

إخراج أجهزة القوة والإدارة من مباني الدولة الوطنية وسيادتها من طهران وبغداد الى سوريا على طريق الدمار الذاتي

المستقبل 23/6/2013
  يستوقف تردد السياسة الخارجية الاميركية في رسم خط مترابط فيما صار يعرف بالمسألة السورية. وأثار التعلل بضعف ثبوت استعمال قوات بشار الاسد السلاح الكيماوي في أربعة أو خمسة مواضع محلية، والتذرع بهذا الضعف الى الاقامة على الترجح، سخرية مراقبين وتنديد آخرين. وتعمد مشككون كثر، من ملل سياسية متفرقة، مقارنة مسألة السلاح الكيماوي النظامي أو الاسدي بالسلاح الكيماوي الصدامي. وعلى رغم الفرق بين دعاة "الحسم" الاميركي اليوم، مثل جون ماكين وسوزان رايس وبين دعاته بالأمس في العراق، وعلى رأسهم يومها توني بلير رئيس الحكومة البريطانية، وعلى رغم الفرق بين الدعويين وحجميهما، لا يتستر باراك أوباما على ثقل السابقة العراقية، أو السابقة الاميركية في العراق ومصير الحرب الاميركية في افغانستان بعد عقد وبعض العقد من السنين. فالخروج من العراق، وهو على تداعيه السياسي والأهلي والإداري، والتسليم الجزئي لـ"فيلق القدس" الحرسي ولحليف طهران ودمشق الشيعي العصبي، بعد خسارة 4500 قتيل و20 ألف جريح وإنفاق 3000 مليار دولار أميركي، امتحان عسير علَّم الدول الديموقراطية، وبعض الدول القيصرية والديكتاتورية، درساً قاسياً.
امتحان العراق
 وكان اميركيون وغير أميركيين خلصوا في ختام ستينات القرن الماضي، بعد نصف عقد على انخراط القوات الاميركية في حرب فيتنام ومحاولتها التصدي لإرادة الشمال الشيوعي توحيد الشطرين بقوة "حرب الشعب"، الى أن الدول الديموقراطية لا تتمتع بـ"الكفاءة" التي تؤهلها الانتصار في حرب غير نظامية. فمثل هذه الحرب تقتضي من الطرف "المتفوق"، في ميزان عسكري تقني، فك اللحمة القسرية والحميمة التي تنشئها قيادات الاحزاب المقاتلة (الشيوعية) بين مقاتليها وبين "الشعب". والسعي في فك اللحمة، بواسطة قوة مدمرة غير متكافئة و"اصلاحات" سياسية واجتماعية متأخرة على الدوام، يرسي الحرب على دوامة وحلقة مفرغة تأكلان القوات الغازية، وتحرجان نظامها السياسي وديموقراطيتها. وهامشية حرب العراق العسكرية والديبلوماسية، قياساً على محورية حرب فيتنام الاميركية وأصدائها الدولية، لم تحل دون تأثيرها القوي في التراث الاستراتيجي الذي خلفته وآل الى رئيس ديموقراطي متردد، على ما يصفه سلفه الحزبي المباشر بيل كلينتون.
 وهذا ما استبقه أطراف الحرب الأهلية والاقليمية العراقية مبكرين. فاستعجلت "القاعدة" التصدي لقوات التحالف الاميركية – الاوروبية وللجماعات والأحزاب أو المنظمات العراقية المتحفظة عن خوض الحرب على التحالف. وجمعت "مقاومتها"، على ما قسرت خصومها على تسميتها، وإرهابها الفريقين، في عدو واحد. فحشدت في حزبها روافد المتطوعين من ديار الاسلام البعيدة والقريبة، وأموال غلاة المسلمين وبعض "وسطييهم" وتواطؤ الجوار البلداني وأجهزته. ولم يفت حزب البعث الحاكم الى البارحة، وهو تحول في الاثناء عصبية "الدولة" الملية والأهلية وإلى رابطة الاجهزة السياسية والعسكرية والأمنية والادارية والثقافية الجامعة، ما يجنيه من دمج مقاومة الاحتلال في مقاتلة الجماعات والمنظمات الأهلية، والشيعية منها على الخصوص، المعارضة من قبل والمتحفزة لخلافة "دولة" صدام حسين وطاقمه. فأسرع بدوره الى مزج صنفي العمليات ووجهيها، وقدم الاغتيالات والتصفيات العينية والفردية العائلية على التفجيرات الانتحارية المدوية، وعلى قيادة جبهات التمرد المحلية وإماراتها الظرفية.
 وتربصت المنظمات الشيعية، والوكالات الامنية والاهلية الإيرانية والاجهزة السورية (الوثيقة الروابط بـ"فرع" البعث الوطني)، بالمتقاتلين جميعاً، إما استدراجاً لكسب ود الغالبية المذهبية التي تنوب عنها حكماً، وإما تعويلاً على وحدة نضال الفريقين وقتالهما الغزو الاجنبي تحت لواء الفريق الشيعي، على ما حلم صاحب "الحوزة الناطقة" وأمير جيش المهدي وصدر "الأحرار" اليوم. وكانت حماية قوات التحالف الكثرة الشيعية من قتلة "القاعدة" واغتيالات البعثيين ومناوأة الحزب الاسلامي الاخواني، التزاماً سياسياً وواجباً اخلاقياً لا مفر منهما، ولو من غير مقابل أو لقاء، على ما حصل فعلاً في حال المنظمات الشيعية الارهابية التي انشق معظمها عن "التيار الصدري" بعد 2007 وهزيمته في "صولة الفرسان". وعلى هذا، وسع المنظمات والتيارات والكتل الشيعية انتظار ثمرة استماتة المندوبين الاميركيين في تحطيم هياكل الحكم والادارة والامن الصدامية البعثية و"السنية"، الاستبدادية والاحتكارية، تمهيداً لاستيلاء الطاقم الشيعي، وهو البديل الاجتماعي والاهلي الوحيد، على الهياكل وعوائدها. ولئن لم يحفظ الشطر الأعظم من شيعة العراق بحماية فاعلة من هجمات الانتحاريين الجهاديين واغتيالات القوميين البعثيين، وبعض هذا الشطر تذرع بالحماية والميل الاميركيين "الموضوعيين" الى مقاتلة فريق أعدائهم، ورد الصاع صاعاً، والى الايقاع بالقوات الاميركية نفسها أو بالموظفين الامنيين الاميركيين الذي جندت الادارة شركاتهم الخاصة في المهمات الموازية. وتسلل خبراء ومدربون ومقاتلون "علماء" ايرانيون (ولبنانيون حزب اللهيون) وسوريون الى الجماعات والهيئات والكتل الكثيرة التي ولدت على أنقاض المجتمعات المتداعية السابقة وحطامها. وكان دأب المتسللين، ودأب الجماعات الاهلية التمهيد الى الاستيلاء على الحكم، وإقصاء الجماعات المنافسة وإضعافها وإنهاكها، والإثخان في قوات الاحتلال وتقويض مسعاها السياسي والامني الحيوي في تفادي الحروب الاهلية بواسطة الصحوات السنية والعشائرية. ولعل الإجماع على مقاتلة الصحوات مصدره انتقاصها من قوة "القاعدة" والبعث، من وجه، وبلورتها، من وجه آخر، قوة سنية على الدولة العراقية الوليدة تحت عباءة الشيعة (المالكي وأصحابه) وسندهم الاقليمي- الاهلي، وفي رعاية القوات الاميركية واستخباراتها احتساب دورها ومصالحها في الدولة الحابية. ومثل هذا الاحتساب، وهو ما حنثت به "دولة" المالكي وأصحابه، يخالف نازع الجماعات العصبية الاهلية الى التربع في ولاية الامر كله، واستئثارها بمرافقه وموارده من غير شريك من عصبيتها أو من عصبية الجماعات الاخرى.
تقويض الدولة
  وليس من ريب أو شك في ان عناصر كثيرة من مصائر الحملة الاميركية على عراق صدام حسين وطاقمه ونظامه- وهو في الآن الواحد ونفسه عراق سائر العراقيين وسوادهم، على اختلاف مشاربهم وأحوالهم ومصالحهم وأهوائهم- داخلية المناشئ والمصادر. وهي ولدت وترعرت في ثنايا الانقسامات العراقية الحادة التي رعتها السيطرة البعثية الساحقة والمديدة على دولة العراق وجماعاته. وهي انقسامات بين الحكم الاهلي والحزبي والعصبي والملي وبين الجماعات كلها بما فيها الجماعة المزعومة "حاكمة"؛ وبين مناطق العراق ونواحيه المتباينة الروابط والميول والعهود؛ بين الكتل الاهلية المذهبية والعشائرية بحسب مراتبها الداخلية وانقساماتها الاجتماعية، وبحسب أنسابها وتقاليدها واستقطابات جوارها ومواصلاتها ومواطآتها القديمة والمستجدة.
 ولم يبتدئ بعث صدام حسين وطاقمه ورهطه شبك الانقسامات العراقية الكثيرة والحادة بالانقسامات والمنازعات العربية والاقليمية والدولية التي لا تقل عدداً ولا حدة عن نظائرها الوطنية. ولكن 1) الانقسام المشرقي والمصري على المسألة الفلسطينية الاقليمية غداة 1973، 2) وارتقاء التكتل الخليجي العربي الى مرتبة قوة نفطية كبيرة وهشة غداة 1973 و1978، و3) بروز إيران الخمينية بعد الشاهنشاهية البهلوية قطباً إقليمياً ومذهبياً منازعاً على المشرق العربي و"ثورياً"، و4) تكوين البؤر الجهادية السلفية والاصولية والوطنية الاستقلالية على افتراقها وملاذاتها في بلاد احتلال سوفياتي قريب أو غير متمكن (من افغانستان الى الشيشان وبينهما البلقان المختلط) أو 5) في مجتمعات قسمتها العولمة الناشئة تقسيماً اجتماعياً وسكانياً وثقافياً حاداً، وجمدتها جماعاتها الريعية الغالبة على إدارة بالية ومتكالبة، و6) انهيار الاتحاد السوفياتي وتقوض القطبية الاثنينية – الدولية- ومعها مثال الدولة – الحزب المتآكل- هذه العوامل الثقيلة أدخلت بلدان العالم الثالث والعراق والعراقيين، في أتون صراعات تعاقبت فصولها الى اليوم.
 وقد يكون تضافر هذه العوامل، وبعض آثارها، هو ما أنتج السمات التي استقرت عليها اضطرابات المشرق أو موازناته منذ العقد الاخير من القرن الماضي. فعلى حين هزل دور الكيانات الوطنية و"دولتها" (أي دولها) في تدبير وقيادة النتائج الناجمة عن تفاعل أسواق السلع والمعلومات والمال والعمل واندماج إوالياتها، قوَّت المنازعات والانقلابات والحروب المشرقية المباني التحتية والعامية الاهلية، المنفلتة من عقال الكيانات وأطرها. فاندلعت منازعات وخلافات أهلية – إقليمية نفخت في العصبيات الجزئية والوطنية ("القومية")، واستعرت في "قواعد" البلدان والدول. واستعرضت المنازعات الكيانات أو اخترقتها عرضاً، ووصلت بين أجزاء من جماعاتها الاهلية وبلادها أو اقاليمها في اطار مشترك موقت. فدمجت حروبها بعضها ببعض، وأنشأت جبهات معقدة ومتعرجة موت في الجماعة الاهلية الواحدة، ومزقتها، وربطت الجزء من الجماعة المحلية الممزقة بطاقم نظام دولة قريبة أو بعيدة، على نحو ما قربت بين جماعات مقصية ومعارضة وبين نظيرها في بلدان يتحكم في جماعاتها طاقم متسلط. وهذا بدوره عظَّم الوجه العرفي والاستثنائي للتسلط القديم. ودعت شللاً وأفراداً من غير مُسْكة جامعة وفاعلة الى الانضواء في منظمات "مقاتلة عدوة".
 وفي أعقاب الحركات الناصرية العروبية، العسكرية الانقلابية والشعبية الجماهيرية والحزبية، ثم غداة الانتشار الفلسطيني المشرقي المسلح ورفده بؤره الكثيفة في قلب بلدان المشرق وجمعه أو تنسيقه روافده المهاجرة الى بلدان الخليج، تشابكت الاقنية الايرانية في الثمانينات ، وتوسلت ببؤر التشيع الإمامي في المشرق والخليج فألبته إلباً سعت في توحيده، جداول المعارضات "الفلسطينية" والوطنية وجداول المعارضات المذهبية في طول المشرق والخليج وعرضهما. ووحدت الضربين في "جهادية" خلطت الاهلية والمذهبية والعالمثالية والامنية والوطنية في مركب مشترك ومتسطرق الأواني. بينما كانت السلفيات والاصوليات الجهادية السنية تخوض حروبها الاسيوية والشمال افريقية المغاربية والبلقانية والمصرية بعيداً من "فلسطين" وأهومتها الحارة والمستعادة. وجاء الغزو الاميركي لعراق صدام حسين، على بعض شبه بالغزو السوفياتي لأفعانستان قبل ربع قرن من الزمن، فاستنفر العصبيات الاهلية – الاقليمية المتصلة والمتقاتلة، ووحد مسارحها في مسرح مشترك، وأقحم الدول المجاورة وأنظمتها الامنية والبوليسية على المسرح المشترك وجماعاته المتقاتلة. 
 فتقوضت البقية الباقية من نظام دول (وطنية) إقليمي و"عربي" شرق أوسطي. وتهافتت مباني الدولة الضعيفة، وانكفأت الطواقم الحاكمة على جماعاتها الملية والعصبية، وتضحمت سماتها الخاصة الجزئية والريعية. وتسابقت الدول والمجتمعات على رعاية احتياطات وودائع أهلية، مذهبية وقومية وعشائرية، في الدول والمجتمعات الاخرى، وعلى الاقتتال أو التأثير بواسطة هذه الاحتياطات ومن طريقها. فبرزت المنظمات والكتل الامنية والاهلية، وبرز قادتها وأقطابها وعملاؤها الميدانيون، "أبطال" ميدان هو أرض محروقة تلتهم علاقات الاجتماع وروابطه على قدر ما يلتهم لظاها النبات والحجر ويحرقهما. وحسبان بعضهم أن هذه الحال إيذان بـ"نهاية سايكس – بيكو"، وبنهوض محور "هلال خصيب" نواته سوريا وعراق منقسمان يرعاهما سلطان ايراني محاصر ومعزول ويقاتل بهما "جزيرة" عربية وسلفية مدرعة بدرع أميركية، هذا الحسبان هو من بنات استراتيجيات القمر، على ما كان يسمي منشقو الانظمة الشيوعية خطط "الاصلاح" الاقتصادي المركزي قبل مآله الى سقوطه البائس.
 وقطفت "الدول" الملية والاهلية العربية ثمرة قصرها على اجهزة سيطرة عشائرية وبيروقراطية ريعية في ميادين الحروب الداخلية والاقليمية التي تنقلت بؤرها وجذواتها، منذ 1967 على الخصوص، من النطاق الفلسطيني القريب والعريض الى حوض الخليج و"داخلياته" الأسيوية، ومنه غزت دواخل بلدان المشرق. وفي حلها وترحالها، حشدت هذه الحروب القوى الاهلية ونعراتها. وكانت هذه النعرات، على وجوهها المتقلبة، هي الوصلات والجسور بين القوى المحلية وبين أجهزة "الدولة". وحققت الحروب، أو معاركها "الكبيرة"، رجحان كفة الدواعي العصبية والأجسام الاهلية، على كفة الدولة الوطنية ودواعيها وآلاتها. فلما دخلت قوات التحالف، وعلى رأسها القوات الاميركية، الاراضي العراقية من جنوبها، ناحية الكويت، لم تحتج الى أسبوعين لتبلغ بغداد، على رغم انتشار جيش عراقي لجب لم ينقض عقد ونصف العقد على "انتصاره" على قوات ايرانية جرارة ورثت لتوها "سابع جيش" في العالم، على ما وصف الجيش الذي أنشأه محمد رضا بهلوي. وكانت القيادة الايرانية الخمينية تخففت من تهديد الجيش النظامي، وقتاله في قيادة ضباط محترفين وإمرة الرئيس المنتخب والمستقل والمنفي وشيكاً، أبي الحسن بني صدر. وأوكلت القيادة الملية الحرب الوطنية الدفاعية والخلاصية الى "جيشها" الخاص، الحرس الثوري. ووسع هذا القتال على الجبهة الايرانية – العراقية، ثم التسلل الامني الى جبهات خارجية وأهلية في لبنان وسوريا وفلسطين والعراق وبلدان الخليج الى بلدان آسيا الوسطى والجنوبية. وغلبت بنيته ومهماته الامنية وعملياته الاستخبارية الاقليمية والدولية على وظيفته الدفاعية الوطنية والقانونية. وحولت الحرب العراقية – الايرانية الجيشين الكبيرين "قوات خاصة" على الجبهتين: الحرس الجمهوري الصدامي على الجهة العراقية والحرس الثوري الخميني على الجهة الايرانية.
صدارة الخاص ووكالاته
ولم يؤدِ انهيار الجيش الصدامي، حرساً جمهورياً و"فدائيين" وقوات نظامية مفككة، الى توقف القتال. فلم تمضِ أشهر قليلة على سقوط بغداد، وتواري صدام حسين وطاقمه، وحل الجيش والادارة الحزبية، وظهور ارتجال ادارة الاحتلال وتعثرها، في أواخر 2003، حتى كانت انتشرت في انحاء العراق، وعلى الخصوص في ديالى وصلاح الدين والموصل والانبار، وفي قلب بغداد، "ألوية" مقاتلة يُعد مقاتلوها الانتحاريون، ومفجرو العبوات الناسفة المحلية الصنع بالدوريات الاميركية المؤللة الى فرق الاغتيال والقتل والتصفية الفردية والعائلية، بالآلاف. وعلى "مثال" فلسطيني – أردني – لبناني، سابق زمناً، لم يغب عنه "العامل" السوري ولا العامل الخليجي، لابست الاعمال الحربية الأهلية، على أنواعها وفروعها، "الحرب" المفترضة واحدة وجامعة على الغازي الاميركي والغربي (البريطاني في ضواحي البصرة والايطالي في واسط والعمارة لبعض الوقت). وغلب الشق الأول، الأهلي، على الشق الثاني، الوطني و"مناوئ الكولونيالية"، على قول فيدرين، وزير الخارجية الفرنسية الاشتراكي. وفي اعقاب 3-4 سنوات على حملة التحالف، وطوال سنتين تامتين تاليتين، 2007-2008، عصفت بالعراقيين، ناساً وبلاداً، حروب وخلافات هدمت معظم ما من شأنه تحكيم مرجع مشترك فيهم والإقرار له ببعض الدالة عليهم. وغذت بعض دول الجوار، إما عمداً أو عجزاً وتسليماً، شبكات "الجهاد" والقتل وقنوات التمويل والتسليح والتحريض. وبدا التفريع، وتقسيم العمل العسكري، وتكثير مصادر التمويل وشبكات التعبئة، أنجع الوسائل الى تكبيد الأعداء خسائر فادحة، وضمان ولاء جماعات القتل. وهذه تصرف "أوراقاً" سياسية وأوزاناً في عملية اقتسام النفوذ والمواقع والعوائد الجارية والآتية.
 وجعلت الدول والقوى الاقليمية المتفرقة، والمتعادية، نصب سياساتها الميدانية هدفاً مشتركاً هو ردع القوى الدولية المتدخلة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، من إعادة الكرة، كرة التدخل، ومن توسيعه في المسرح الاقليمي المتشابك. وإيران الخمينية الحرسية وسوريا الاسدية هما جناحا أو احتياطا هذا المسرح، من غير ان يعني هذا اطمئنان بلدان الخليج الى مرابطة قوات غربية ضخمة في الجوار المباشر أو على أرضها، ودَينها بسلامتها وأمنها الى مرابطة ترفع بين الوقت والآخر لواء "إصلاح" سياسي واجتماعي واقتصادي يقطع دابر الإرهاب.
 وحمل خوفُ النظامين الايراني والسوري من توسيع الغزو الاميركي إليهما، واستشعارُهما ضعف قوتها الذاتية العسكرية والسياسية المعنوية التي تخولهما الصمود في وجه القوة الخارجية وإحراجها وإبطال مسوغاتها، حمل الخوف النظامين على الجموح الى أقاصي (تغذية) العنف الأهلي و"الوطني"، وإشعال فتائله المذهبية والعشائرية والمحلية والقومية في العراق من غير إمساك أو اقتصاد. ودعا هذا النهج النظامين الى تكييف سياساتهما الداخلية، أي أبنية سيطرتهما، مع هذا النهج. فأمعنا في فصل ما وسعهما فصله من مباني سيادة الدولة الوطنية وآلاتها وأجهزتها، وإخراجه من دائرة صلاحياتها النظرية والمبدئية، وتوكيل أجهزة خاصة وموازية بإدارته المباشرة. والحق ان فصل بعض مباني الدولة من جسمها العام والمشترك، على ضعفه وهزاله، لم يكن انقلاباً على السنن والأعراف السياسية التي بني هذا النمط من "الدول" عليها ونشأ. ولكن خطة علي خامنئي، وحوله بعض قيادات الحرس الثوري واستخباراته، التعويل على السلاح النووي أولاً في حماية "النظام"، وإرادته ترتيب العلاقات السياسية والاجتماعية وضبطها على المسألة وصدارتها، أدت الى كارثة ولايتي محمود أحمدي نجاد، وتزوير انتخابات 2009 الفاضح، و"هندسة" انتخابات 2013 الرئاسية، على قول الجنرال سعيدي، الباسدراني، وانفجار أزمة "ولاية الفقيه" داخل ايران وخارجها. وتجلت الازمة، في الجوار الاقليمي، في تعاظم التعويل على الجماعة الخمينية المسلحة والامنية في لبنان، وصبغ "حماس" الفلسطينية بصبغة حزبية وأهلية ضيقة، وجر المنظمتين الى تخريب الاطارين السياسيين الوطنيين. وحرفت القيادة الحرسية القوى السياسية الشيعية في بلدان الخليج والمشرق عن انخراطها الوطني، ودورها الاصلاحي، السياسي والاجتماعي، المرتقب، الى الاقتصار على دور الوكالة المحلية عن مركز يتخبط في أزماته المتناسلة واضطراباته المزمنة والناجمة عن عجز كتل الجماعات الحاكمة عن صوغ قواعد حكومة مستقرة.
 ولكن حيوية المجتمع الايراني نجحت الى اليوم، غداة فوز حسن روحاني بالرئاسة، وإلحاقه، ومن ورائه أنصار خاتمي ومير حسين موسوي ومهدي كروبي (أقطاب "الفتنة" على زعم حسين شريعتمداري)، هزيمة منكرة بأقطاب الحرسيين والباسيج والمرشد- في الكمون تحت القشرة القمعية القاسية، واستعادة الروح والفعل بعد قمع 2009،، لقاء ثمن غير باهظ جداً، قياساً على الثمن السوري المأساوي الذي لم يسدد كله بعد. فلم يملك السوريون من رباطة الجأش، والتواطؤ الوطني الضمني، والتماسك والمصابرة ما امتلك الايرانيون، في ظروف أكثر مؤاتاة لهؤلاء، ومكنهم من احتواء نازع الكتل الايرانية المسيطرة الى التدمير والعنف، وإحياء التجمع العريض الذي حاط موسوي وكروبي ودعاهَما الى انعطافهما "الأخضر".
 ولا شك في أن ضعف أركان نظام آل الأسد، أو "العصابة"، على ما يسميهم عموم السوريين، لا يقارن بصدور النظام الخميني عن حركة شعبية عميقة تعثرت وانحرفت وارتدت على أصحابها بعد وعد متألق. وانخراط النظام السوري في لبننة حروب المشرق الفلسطينية والاقليمية أخرجه في وقت مبكر من إواليات حكم الدولة وتدبيرها، ورمى بطاقم الاستخبارات الانقلابي والمذهبي والعشائري في لجة أمنية موازية التهمت الدولة وهيئاتها ومعاييرها. فلم يكن العراق، بعد لبنان وفلسطين والاردن، وفي ختام مطاف كان ابتداؤه قبل 30 عاماً هي تقريباً عمر الاستيلاء، إلا تتويج نهج إخراج السلطة، وأجهزة القوة، من مباني الدولة وقيودها، وإطلاق سراحها وإعمالها في تدمير الروابط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وإلحاقها بطاقم السيطرة الفظ. فلم يكن بمتناول السوريين، وجمهورهم وجماعاتهم، حين بلغت عوامل الاضطراب العامة والمشتركة دولتهم ومجتمعهم "المصطنعين"، تجربة المراوغة والمصابرة التي خزنها المجتمع الايراني، أو قطاعات عريضة منه، وأسهمت في بلورته سياسات احتياطية. وكان نظام السيطرة السوري بالمرصاد. فلم يحرف الثورة السورية المدنية والديموقراطية والوطنية عن مساراتها المحتملة والمرجحة وحسب بل أغرقها في دوامة غائمة الافق.
http://www.almustaqbal.com/storiesv4.aspx?storyid=576226

هناك تعليق واحد:

لبنان او لا وهويتي دوما يقول...

تعليق فاروق عيتاني : يؤرخ وضاح شرارة للأحداث ابتداء من النكسة فيستعرض مسارها هنا و هناك في العالم بلغة أراها انا جذابة ، لكن وضاح لا يريد الغوص بعيدا وهو القادر على الغوص البعيد . فلنقرأ ما يكتبه نزيل بيروت ومؤنس وحشتها و العارف ببواطن لا تنتهي . هو واحد من المفكرين الكبار و الكبارو القلة التي انتجها عش العقربة هذا اللبنان بلاد المابين غير المستكملة لساحليتها و المضروبة مارونية اولا قبل ان تجهز عليها الأمة القلقة ، و أضيف انا و المقلقة ايضا.