السبت، 27 يوليو 2013

"البوابة التاسعة" تتحرى أحوال ساحات عربية في تونس والكويت وأبوظبي وبيروت...لقاء الجماعات والأمكنة والحوادث يجلو المدن على صورة اجتماع حي

المستقبل - 28/7/2013

 في الاشهر الثلاثين الاخيرة، منذ انتصاف كانون الاول 2010 في تونس، والساحات وأسماؤها تملأ آذان أهل (اللغة) العربية، أو تصمها إذا جاز التخلي عن التهذيب وسمْته. فمن دوار "7 نوفمبر" على جادة الحبيب بورقيبة التونسية الى ميدان التحرير بالقاهرة، ومن جادة أو طريق السبعين في صنعاء الى ساحة بنغازي الليبية قبل الساحة الخضراء بطرابلس الغرب وساحة اللؤلؤة في المنامة، وقبلها ساحة الحرية أو الشهداء ببيروت وساحة أو جادة أزادي (الحرية) بطهران، الى ساحات فرعية في عواصم المحافظات (سيدي جابر والقائد ابراهيم بالاسكندرية ...)، وأخيراً وليس آخراً ساحة تقسيم باستانبول فميدان التحرير بالقاهرة ثانية وكوكبة الساحات الأخرى - تلك التي شهدت بداية تظاهرة واعتصام مثل ساحة الارادة في الكويت وتلك التي آذن الاعتصام فيها، وهي ساحات البلد بدرعا والعباسيين بدمشق والساعة بحمص والعاصي بحماه وهنانو بحلب والتحرير بدير الزور بفض جموع المعتصمين وتفريقهم بالرصاص والاعتقال والحصار والقنص والقتل والتجويع والتشريد والنزوح والنفي تتدافع وتتآخى أسماء الساحات ومشاهدها واحتفالاتها ومواقعها وملامحها في أذهان أهل المجتمعات العربية (وغيرهم). ويجتمع من تدافعها وتآخيها ما يشبه مشهداً واحداً متصلاً ومتقلباً على وجوه لا تحصى. وهذا المشهد يذكر ببعض الرسوم والتصاوير التي زينت كتباً أوروبية روت فصول الخلق والتكوين في صفحة واحدة أو صفحتين متصلتين، أو تلك التي حاكت الفصول نفسها على بوابات الكنائس أو زجاجها الملون.
"الخلق"
وخطرت هذه ببال رئيس تحرير مجلة "البوابة التاسعة/ مقالات المدينة وأخبارها"، فادي طفيلي وأصحابه، وهذا ما لا شك فيه، أم ألمت ببالهم وطوفت به، فالعدد الثاني، الموسوم باسم مقتضب يتصدر الغلاف ويتوسطه:" الساحة"، يردد أصداء فصول "خلق" الساحات العربية وتكوينها السياسيين والاجتماعيين الرمزيين والمعنويين معاً وجميعاً. وسرعان ما يدرك قارئ "الساحة" / "البوابة التاسعة" أن مقالات العدد (وهو الثاني من المجلة البيروتية)، رغماً أو طوعاً، تتناول الساحات المتفرقة على وجه كائنات تاريخية واجتماعية حية تمور بالحركة والصخب، مجازاً وحرفياً، فوق تناولها على وجه أمكنة أو "جثة"، على ما كان أهل العربية يقولون ("وإنما المكان جثة"، على ما كتب سيبويه في "الكتاب"). فكأن تاريخ الثلاثين شهراً الاخيرة، وغير المنقطعة، حمل المجلة وكتابها على النظر الى (مادة) الساحة، من (باب) المدينة، نظراً سياسياً واجتماعياً- فالموضوع يحتمل معالجة وصفية تقريرية، موضعية أو مورفولوجية وطوبوغرافية، لعلها الأقرب الى العادات الجغرافية المألوفة والسائرة. ولكن التاريخ السياسي المعاصر- وهو في معرضنا تاريخ حركات عامية وديموقراطية، المساواة العمومية والحرية ركنان من أركانها على تفرق مصائرها واختلافها لابس الساحات، وخالطها. "فاشتملت منه" على حوادث جسيمة، وحبلت بمنعطفات عادت فولدتها في بعض هذه الساحات. وميدان التحرير القاهري عَلَم على أحوال الملابسة والمخالطة والاشتمال والحبل والولادة هذه. وعلى نحو ما ولد "أخوة" لميدان التحرير، هم محمد محمود وماسبيرو والاتحادية، ولدت ضرائر، على المثال القرابي والنسبي العربي، هي ساحة رابعة العدوية وساحة النهضة وميدان رمسيس. والقابلة، القانونية، أو الزائفة والمقلدة، هي حركات الجموع السياسية.
ومقالات "البوابة التاسعة"/ "الساحة" العربية كلها، وهي معظم مواد تتعقب الافعال والحوادث العامة (العامية والعمومية) والمشتركة التي وَلَدت الساحات على النحو الذي ألفناه منذ حوالي 30 شهراً، وبلغ ربما ذروته في الاسابيع الثلاثة أو الاربعة الاخيرة (إذا جمعنا، على ما ينبغي، ساحة تقسيم وحديقة غيزي الى سيرتنا أو ترجمتنا السياسية المصرية). فالساحة، عَلَماً وشارة ووقتاً، تؤرخ خروج بادرة سياسية عامة الى العلن. والخروج، في هذه السياقة، يحفظ من معانيه القديمة معنى الابتداء والانقطاع من حال متصلة ومقيمة، ومعنى الانكار والاحتجاج على سلطان غالب. وربما كانت مقالة لاريسا تشومياك في "مشاهد من السلطة: تجليات الاعتراض في تونس بن علي" (ص 49-61) تمثيلاً واضحاً وحاداً على سيرورة إيجاب الساحة أو ابتكارها واقعة عامة ومشتركة وليس مكاناً أو موضعاً فحسب.
البداية ... التونسية
والقرينة هي أن دوار أو ساحة "7 نوفمبر" والاسم يتيمن بتاريخ "ثورة" زين العابدين بن علي رئيس الاستخبارات، على الحبيب بورقيبة الرئيس المزمن والعجوز الذي أصيب بأعراض الشيخوخة- لم يستوِ بؤرة التظاهر والاحتجاج إلا في ختام حركة نقَّلت البؤر الواحدة تلو الأخرى. وتشترك البؤر المتعاقبة هذه في جمعها سمتين أو حالين: فهي عامة أو مشرَّعة على عموم المواطنين، وفي وسع هؤلاء التردد إليها، ولا يسعهم إذا مروا بها إلا الوقوع عليها، وهي من وجه آخر "في قبضة السياسة"، أي السلطان، ومسرح "دعاية سياسية للحكومة" أو دعوة الى الصدوع بالولاء لصورة بن علي، ولما سمي، منذ تقرير خروتشوف الى مؤتمر الحزب الشيوعي السوفياتي العشرين (في خريف 1956)، "عبادة الشخصية" أو "عبادة الفرد". وتحصي لاريسا تشومياك مظاهر سطو رئيس الاستخبارات السابق على صفحات دوائر العلانية العامة والمشتركة: جدران المباني العالية والمطلة على المفترقات والجادات والساحات، ولوحات الاعلانات، والحدائق. ومن هذه، تسللت الصور الرتيبة و"الرئيسة" الى الكتب المدرسية ومسيرات الأعلام الرسمية، والى الانتخابات، وبطاقات الانشطة الثقافية والسياسية.
فرغبة بن علي وجهازه، ومن غير شك رغبة معمر القذافي والأسد الاب والاسد الابن وحسني مبارك وقبله الرئيسان العسكريان وعلي عبدالله صالح وبومدين الجزائري ومرشدي "الأمة"...، هي جمع موضوعات الرغبات والنزعات الجمعية وربما الفردية المتفرقة في "موضوع" أو غرض واحد، وفرض "الموضوع" لازمة تلح على الرعايا من الجهات كلها، ولا فكاك لهم منها. ويذكر هذا بإلحاح صورة انيتا إيكبيرغ الطاغية، في دعاية جدارية تحسِّن شرب الحليب من ماركة صناعية واستهلاكية، على فتى شريط فيلليني "اماركورد" ("الحبل المر"، أو حبل المشنقة): الفم الشره، والاسنان المفترسة في حلة بيضاء مميتة، والصدر العريض عرض اللجة الهائلة والعميقة، والاغنية الطقطوقة التي تتردد على مسمع الولد وتؤرقه ولا يطيق سماعها ولا فراقها والصمم عنها... وربما لم تبلغ مزاعم "الرؤساء القادة" وأجهزتهم الشيقة حد الطمع في مضاهاة "عمق" النوازع الجنسية، وقوة تشبثها وهيمنتها، ولكن تواضعهم لم يدعهم الى القناعة بشطر من المسارح العامة، والنزول الى الناس ومشاغلهم المشتركة والحيوية عن مسارح أخرى يتولون هم شغلها بصورهم وكلماتهم وغواياتهم.
وقبل التجمهر السياسي الصريح، واعلان الجمهور ("الشعب") إرادة رحيل الطاغية وإخلاءه مكاناً أو متسعاً يسع غيره الاضطراب فيه واقتسامه، يقصد الجمهور "مسرحاً بديلاً" يضطلع بالتمثيل على عام مشترك، أو عمومية مشتركة، جمهورية وعامة، ولا يكون مرآة أخرى ورتيبة "للواحد" الكامن وراء كل صفحة منبسطة، ولم تحلّها بعد صورة أو عين "بالفعل" سبقت الواحد المتربص الى التعيين، إذا تجرأت على السبق أو جاز لها أن تتجرأ. والمسرح البديل في حال تونس، هو ملعب كرة القدم. وعلى خلاف صفحة الجدار الفسيحة والمشرفة كلها على الملأ، من غير بقية تسرها وتطويها عن الارصاد أو الأعين الفاحصة، يسع ملعب كرة القدم وجمهوره التفرق مسارح وجماهير. وهو ذريعة الى تأليف الاناشيد والاغاني، والانقسام "أحزاباً" وروابط وشيعاً، والتستر بالنفخ في حماسة اللاعبين على انتقاد المتسلطين والمتنفذين والمجسدين في اسمهم وصورتهم الكل السياسي والاجتماعي.
والمقارنة بين الساحات والمفترقات والحدائق والجادات، حيث يتربع الاسم والصورة غير منازَعين تحت بصر الرقيب المهيمن والواحد، وبين ملعب كرة القدم، حيث تتيح الكثرة والهتافات والانقسامات (على منافسي الدوري الثنائي، النادي الافريقي والترجي التونسي) الاستعارة والتورية والكناية، هذه المقارنة تبرز الدلالة المسرحية للساحة الديموقراطية على نحو ما تبرز المبنى الطغياني والخانق للاسم الواحد والصورة الواحدة. ففضيلة كرة القدم في الدول الديكتاتورية ومجتمعاتها هي مسرحتها الانقسام وكثرة الادوار في الفريق الواحد. فلا لعب، على المعنى المسرحي وعلى المعنى الرياضي، إلا بقيام فريق بإزاء فريق آخر وعلى خلافه. ويقتضي لعب الفريق الواحد تولي اللاعبين، وهم كثير أو كثرة، وظائف متفرقة ومختلفة على رغم تضافرها على انجاز مهمة جامعة. وعلى هذا، فاللعب هو تربية على تقسيم العمل وعلى الجواز والاحتمال والحد، وتأديب بأدب المنازعة وأضدادها وجمالياتها وجزائها. فتربية الطغيان تزعم أن الفرق على وجوهه الكثيرة: فرق الفرد والفرد، وفرق الدولة والمجتمع، وفرق الحاكم والمحكوم، وفرق العام والخاص، وفرق الديني والسياسي، وفرق القانون والعرف، وفرق النافع واللذيذ... يضر بالإجماع المفترض ولا يؤمن من ألا يفضي الى التناحر.
الكويت و"الإرادة"
وتذهب مقالة ليّان الغصين، "الفضاء العام وتحولاته" (في دفتر من 24 صفحة على حدة أغفل ترقيم الصفحات، وقرن النص المكتوب على الصفحية الى يمين القارئ بصفحة مصورة كاملة الى يساره ما عدا الصفحات الثلاث قبل الاخيرة أو "الرابعة") الى الربط بين حركة سياسية اجتماعية كويتية دابة، أقرب الى التململ منها الى العبارة المبتورة والمتحصصة، وبين إيجاب ساحة الارادة "السياسية". وتصل الديوانيات، وهي مجالس ضيافة واستقبال ومداولة عائلية وبيتية، من جهة، وعامة مشرَّعة على الاختلاط (الأسري)، من جهة أخرى، الوجهين. وتشبه كويت الغصين تونس تشومياك شبهاً غير مباشر. ففي وسع السلطة الاميرية الكويتية سن قانون يحظر اجتماع 30 شخصاً معاً في مكان عام، غير منزلي أو بيتي. وينصب هذا الحظر بالجماعة التي تعدّ 30 شخصاً وتقصد التجمهر علانية على غرض مشترك، "خصماً" للسلطة يحق لهذه مقاضاته وتهمة اشتراكه أو جمهرته بالعدوان على العام والمصلحة العامة التي تتولى السلطة تمثيلها ورعايتها والصدور عنها.
وفي مرآة المقالة تبدو الكويت، أي عمرانها المديني والمعماري السكني المحدث (منذ 1952 والتخطيط البريطاني)، على طرف نقيض مع اجتماع العشرات او المئات من مواطنيها متظاهرين، ومسيرهم جماعة أو فريقاً مخالفين السلطة، ومطالبين بحقوق أو بتلبية احتياجات قد تنكر السلطة حقيقتها ومساغها. فالعمران المديني والمعماري هذا استقر، عن يد سلطة الوصاية البريطانية أولاً، على صورة تنبذ اجتماع "الثلاثين"، وتحول دونه. فليس في المدينة، أو "نسيجها العمراني، أرصفة وقف على المشاة من غير اصحاب السيارات والمركبات الآلية وسواقيها وركابها. وعلى هذا فالسير على الاقدام أو الرقص أو التريض أو المواعدة على ما تحصي الغصين، متعذر أو مميت وهو محظور قانونياً. وبين دوائر السكن، وبينها وبين دوائر العمل من مكاتب ومتاجر، أو دوائر الترويح، مسافات طويلة. ولا يُتصور اجتيازها "في المناخ الجاف" والحار الذي يتسلط على الكويت، شأن أمصار شبه جزيرة العرب وحواضرها وبواديها الاخرى. ويحول الطريق السريع الذي يصل دوائر الاقامة والعمل والترويح بين السكان وبين الالتقاء والاجتماع والضوي بعضهم الى بعض: فهو، أي الطريق، ذو اتجاهين واحدهما مغلق على الآخر ويستحيل الانتقال أو العبور من الواحد الى الآخر، ويستحيل تالياً على الناس الالتقاء وبالأحرى التجمهر. وشبكة الطرقة "دائرية وملتفة"، وعازلة. والبناء في هذه الدوائر يقدم ناطحات السحاب (او الابراج) على اصناف البناء الاخرى. والبيوت التقليدية، الطينية والواطئة والمتحلقة على صورة خلايا، جرفت لتخلي المحل للأبراج.
فيلتقي "الناشطون الكويتيون والفنانون" والاحتجاج حكر على قلتين أو جماعتين أقليتين تعريفاً وقد تضاف جماعة ثالثة هي "المثقفون" ورابعة هي "المهندسون"- في ساحة الاراداة، أو في مراكز تجارية تواتي عروضاً علنية، أو في "نسخ حديثة" عن الديوانية ومجلسها. والحق أن رواية ما تصنعه هذه الجماعات، وما تنوي صنعه، ومسرح أو مسارح صنعها، مشوشة. ولا يفهم قارئ المقالة، وهذه حالي، حقيقة ما يحصل على وجه الدقة. فالسيدة ليَّان الغصين تكتب: "ويتمسك الفنانون والمهندسون والمثقفون بحقهم في النزول الى الامكنة العامة والحضور فيها". وهذا واضح، وما يتمسك به هؤلاء هو فعل ظاهر ومادي، ومن نتائج فعله أو انجازه انتهاك نواهٍ سبق للسلطة أن نصت عليها وألزمت السكان "المواطنين" بها. ولكن التمثيل على الفعل المفترض لا يتناول فعلاً ظاهراً ومادياً بل "(اقتراح)... نسخة حديثة عن الديوانية... (على) مهرجان التصميم الدولي". وهذا ليس "نزولاً الى الامكنة العامة"، ولا "حضوراً فيها"، على خلاف الزعم. والقول ان اقتراح النسخة الحديثة عن الديوانية "(يشرك) العالم كله في الحفاظ على إرث الكويت" يعظم الامر، ويوهم بمساواة اقتراح أو "فعل" ثقافي وجمالي، ولا مشاحة في دلالته، "نزولاً" و"حضوراً" عامين ومشتركين.
والقول، في الفقرة نفسها، أن "فنانين من أمثال عليا فريد وأسيل اليعقوب يغيرون وجه الكويت، ويزرعونها بمعالم وتضاريس خيالية تجافي (أم تنكر أو تخالف؟) الواقع مجافاة تدعو الى اشكال جديدة من المشاركة في المكان العام" القول هذا "يجافي" حقيقة الحال، ويحمل التخييل، و"زراعته" وغشيانه الصور، على إنجاز "اشكال جديدة من المشاركة". وبين الامرين، التخييل والمشاركة، فرق ينبغي ألا يستهان به بذريعة صدور التخييل، أو اقتراح رسوم مدينية جديدة، عن أبنية رمزية وحاجات اجتماعية غير اعتباطية، أو بذريعة مماشاة الاقتراح قصداً شريفاً، ولا يطعن أحد، ولا ينبغي لأحد أن يطعن فيه، وهو "المشاركة في المكان العام". فبين "تخيل" عليا فريد وأسيل اليعقوب "المعالم والتضاريس " التي ترعى مشاركة عامة وبين تبني الكويتيين الخطط التي تضمن حقهم في المشاركة ومشاركتهم في إلزام السلطة بها، فرق كذاك الذي بين "تأويل العالم" وبين "تغييره"، في العبارة الثورية و"المادية" المعروفة. فقد يؤدي "توثيق مراحل التطوير العمراني الكويتية وتحليلها، و(رصد) أثر التغيرات المدينية في الوعي العام"، الى "(تغيير) أسس الالتزام السياسي في أقدم أمة في الخليج"، وقد يبقى التوثيق والرصد أثراً بعد عين، على قول بدوي قديم. وحملُ ما تراه نخبة جواباً شافياً عن مسائل حقيقية وملحة إذا لم تماش جماعات "عامية" هذه النخبة، ولم تدمج برنامجها في برنامج النخبة ولم توحد الجماعتان برنامجيهما على نحو أو آخر. هذا الحمل قوي الشبه بديكتاتورية متنورة وعقلانية. والتنوير والعقل، شأن العصبية الدينية الجامعة أو الهوى القومي والعرقي، لا يؤمن جنوحهما الى القسر والتعسف إذا هما غفلا عن "حقوق" أو علل غير متنورين ولا عقلانيين. وإكراه غير متنورين وغير عقلانيين، أو من يفترضون كذلك، على ما لا يريدون قسراً، باسم مصلحة "حقيقية" لا يقرون بها ولا يدركونها على هذا النحو، يسلط الضوء على بعض تناقضات التنوير والديموقراطية المولودة جزئياً منه.
وتدور بقية مقالة الغصين في فلك "أهمية الحفاظ على إرث الكويت الثقافي"، أو "الوقوف على ظاهرة هدم العمران الحداثوي" الذي شيد في اربعة عقود هي عقود 1940 1980، أو الطعن في برج الحمراء، أحد "صروح الاستهلاك المعولم". والرابط بين هذه الافكار وبين بعض مثالات الافعال المدينية غير الاستهلاكية (مثل المشي في السوق وارتياد "العشاق" الممرات الاسمنتية والمنشآت الرياضية حول المناطق السكنية وانتخابها "مكاناً لمواعيدهم السرية"...) غامض. ولا يخلص القارئ من هذه جميعاً الى دلالة الدور الذي اضطلعت به ساحة الارادة في تظاهرات الكويتيين، في 2006، على قانون الانتخابات وقصره اقتراع الناخب على مرشح واحد، وتقييده بهذا المرشح، عوضاً عن المرشحين الخمسة الذين طالبت بهم حملة "نبغيها خمسة". ولساحة الارادة سمتان فارقتان: فهي تشرف أو تطل على البحر، وعلى طريق الخليج الساحلية، شارع آل سالم، وتقوم قبالة مبنى البرلمان الكويتي. والبعد البحري " الملاحي" هو القاسم المشترك. وسمتها التاريخية الثالثة هي وراثتها ساحة الصفاة الداخلية، قلب مدينة الكويت في عهد ما قبل النفط. وعلى هذا، فتوسط الساحة الجديدة الاحتجاجات والحركات السياسية، واضطلاعها بدور قطب "المواعدات" العامة والعلنية (قضية البدون ودمجهم في المواطنة الكويتية، تنحية رئيس الوزراء الشيخ ناصر آل محمد آل الصباح "المفروض" بإرادة أميرية على رغم افتقاره الى سند نيابي برلماني...)، هو نظير تولي مجلس الامة الكويتي تمثيل عموم المواطنين، أو الجماعة الوطنية، بإزاء الحكم والحاكم. فهل يخرج الكويتيون من طريق السمات الثلاث أو بواسطتها من بعثرة وتفريق تضافرت على دوامهما الطرق الملتفة والدائرية والطريق السريع ذو الاتجاهين وطول المسافات بين دوائر السكن وبناء الابراج؟
أنقاض الخطة
وتبدو هذه، في مرآة محاورة تود رايس عبد الرحمن مخلوف، المهندس المعمار ومخطط أبو ظبي الاول (ص 62-77)، قدراً لا طاقة للبلدان الناشئة هذه ولأهلها على مقاومته. فحفيد شيخ الأزهر، وهو في العقد العاشر من عمره اليوم، يسر بصوت خافت أن خطته لم يبق منها شيء، وقد "تكون شبكة الطرق بقيت على حالها، ولكنها صارت أوسع". فمن خلفوه على التخطيط والعمارة تركوا البناء من طبقتين أو دورين، وأوصوا ببناء الابراج محلها. وذهب أدراج رياح "الحداثة" المفترضة اقتراح الرجل تشييد وحدات سكنية قوام الواحدة منها سبعة منازل حول فناء داخلي يجمع أهل البيوت، وهم أقارب، ويصلون فيه صلاة العشاء ويتزاورون. وتستقل الوحدة السكنية بمرافقها المشتركة، المدرسة للأولاد والمسجد للمصلين. فهذه "اندثرت". وانتقلت عدوى ما سماه مايك دايفيس "مرحلة دبي الرأسمالية" الى .... دبي، وكانت دبت في أبو ظبي. ولكن عقدة في لسان عبد الرحمن مخلوف تحول بينه وبين الاعراب عن رأيه في العدوى "الغريبة" التي دبت أولاً في الكويت، وانتشرت في أرجاء "المجتمعات" النفطية حين انفجر النفط في عروقها.
ويحقق صمت عبد الرحمن مخلوف افتراض التوارد أو التعالق بين "إرادات" الجماعات السياسية وبين تبلور ساحات عامة في المدن هي مسارح فعل هذه الإرادات، ومجلس هذا الفعل، وبعض معناه. فكل ما يقوله مخلوف ويرويه لا يخرج عما دار بينه وبين أمير أبوظبي وحده. ويختصر الامير، واعتباراته المخالفة اعتبارات المخطط المدني (في شأن السوق الذي حسب المخطط أنه المرحلة الاخيرة من الخطة وأمر الامير بالابتداء بها)، "أبوظبي"، "دولة" و"شعباً". فلا غرو ولا غرابة إذا تبددت صورة المدينة وخطة خِططها، في خريطة الطرق أو مجسمها، وفي الابراج و"ناطحات السحاب". وإذا كان الكلام على مدينة الكويت، "أقدم أمة خليجية" يتداعى كلاماً على البدانة والمواعدة والمشي وشراء أصوات المنتخبين في الديوانيات وتكلفة الأسهم النارية في ذكرى انقضاء 50 عاماً على الدستور والبعد الملاحي للشارع الساحلي... ويترك جانباً أموراً كثيرة أخرى مثل الانقسامات والمرتبية والعصبية والاجتماعية والمذهبية الجغرافية. فالكلام على تخطيط أبوظبي، ومن بعدها دبي، يقتصر على "إرادة" الحاكم وأعوانه والمشيرين عليه. وهذه الارادة لا يبدو منها، في معرض محاورة المعمار الكبير، إلا محوها أو إغفالها أبنية المدينة وصور اجتماع سكانها أو أهلها. فلا مدينة على معنى جغرافي أو مكاني خالص. والرأي هذا هو الوجه السالب لرأي موجب: تفترض المدينة عاملين متنازعين ومختلفين هما مجتمع (أو جماعة أفقية العلاقات والروابط) و"أمير" أو سلطة ودولة. فإذا اقتصر الامر على قطب صاحب الأمر أو وليه وحده انحلت خطط السكن والزيارات والصلاة والتدريس والمشي والمواعدة في "المسافات الكبيرة" والطرق السريعة و"الاستهلاك المعولم" وأبراجه.
بيروت "عالكولا"
وربما عثر سؤال طارق أبي سمرا (ص 23-35) عما حال بين عقدة طرق "عالكولا" (نظير "عالصور" البيروتية القديمة وإنما على معنى آخر: "بعد الكولا؟"، على ما يلاحظ الكاتب)، وهي ليست "محلة" ولا ساحة ولا محطة سفر(يات) ولا ضاحية بل ثنايا تأخذ من هذه الأحوال كلها بطرف أو ثنية- وبين الاستواء ساحة، على بعض جوابه: لم يكن المكان يوماً مسرح منازعة إنشائية"، إذا جازت العبارة، أو تأسيسية بين ما شبَّه مركزاً أو بؤرة وبين جماعة أو مجتمع أو أهل اجتماع. وتضافر الطرفية (المكانية والأهلية)، والوصلات أو المحطات والبوابات، وجزئية الجماعات المتقطعة والملحقة بـ"مراكز" أو مرافق نائية، لعل تضافر هذه الاحوال والسمات فاقم التفلت من المركز(ين) ومن قطبية المنازعة فلم يجتمع "جسم" المكان المتخلع في معنى متماسك من غير مشهد رمزي او حادثة "أولى"، فتعقد هذه بين الحوادث المتفرقة، الناس والمرافق والمصادر ومقاصد السعي، على مسرح منازعة متجددة الفصول والأدوار من غير ان تنفك واحدة، على سبيل التورية والاستعارة. وقد تتفرق "عالكولا" ساحات أو زوايا أو تنأى الواحدة فيها بحالها، شأن المجمع السكني الضخم الجديد والقوي الشبه بالعمارة "التوربو" في بلغراد (صورة ص 22، وصورة ص 17 البلغرادية) ووارث قصة المعمل المندثر، عن قريناتها او تندمج في كتلة من كتل الطريق الجديدة.
القاهرة وميدانها
وحين يؤرخ خالد أدهم لـ"نشوء ميدان التحرير" في القاهرة، وتقلبه بين "منعزل مائي، (و) طرف، ثم مركز" (ص 36-37)، يدعو القارئ أول ما يدعوه الى ملاحظة تجدد فصول المنازعة وأدوارها وانعقادها على قطبين وعلى مسرح أو ميدان. ففي 21 شباط 1946 "تقاطر عشرات الآلاف (من المصريين) الى وسط (القاهرة)... وعندما بلغ المتظاهرون (ميدان الاسماعيلية، التحرير من بعد) اتجهت نحوهم أربع مركبات عسكرية، وأصلتهم نيران رشاشاتها، فقتلت 23 متظاهراً". وسمى المتظاهرون اليوم المشهود، "يوم الجلاء" تيمناً بجلاء القوات البريطانية الذي يستبقونه، على نحو ما يستبقون اليوم "الرحيل" أو "النصر" أو "الكرامة". ولا يشك خالد أدهم في ان ميدان التحرير "كرسته ثورة 1952 (...) مركز المدينة الرمزي والسياسي المركزي للمدينة". والنعوت الاربعة، العمراني والرمزي والسياسي والمركزي، وهي على صيغة النسبة، تعيد وتبدي معنى واحداً على وجوهه: المعمارية الاجتماعية، والتاريخية الانشائية، والقطبية المشتركة، والمرتبية.
وتعقُّب أحوال المكان الخالص أو المحض، على النحو الذي يتعقبها عليه المؤرخ، حجة على ان الساحة لا "تولد" ساحة أو غير ساحة ("عالكولا" مثلاً) بل تصير ساحة، على مثال المرأة ومنوالها في سيرة سيمون دي بوفوار التاريخية والاناسية "الجنس الثاني". فأول أمره كان الميدان العتيد "مفازات من الوحل منتشرة بين سبخات واسعة في مستنقع كبير" وبعيدة من الكتلة الحضرية والسكانية القائمة الى الشرق. والى منتصف القرن التاسع عشر، توسعت المدينة على محور شمالي جنوبي، وقيدت تلال المقطم توسعها الى الشرق وأراضي الطمي وسماح النيل تمددها الى الغرب. وحرر انحراف مجرى النيل صوب الغرب، في القرنين الثالث عشر والرابع عشر (م)، أرضاً حملت من الماضي القريب والقديم الوحول والاستنقاع قبل أن يهذبها الاستعمال والاستصلاح البشريان و"المدنيان". والتمدين جاء على صورة السلطان والملك. فبنى ابراهيم، نائب السلطان على مصر، القصر العالي بين النيل وبين المدينة "الملكية" والاسلامية وزرع الارض. وحين خلف سعيد ابراهيم شيد قصر النيل، غير بعيد من القصر العالي. وخلف الجيش المصري وثكنه ووزارة حربه على قصر سعيد، على ما يليق بالقوة المسلحة وبحراستها "القصر" من المدينة، والفصل بين الاثنين. وبنى اسماعيل قصراً ثالثاً، الاسماعيلية، في الارض المستصلحة. وأباح هذه، على عرضها ورخصها، للمقاولين والباشوات والوزراء وقادة الجيش. فأخرج توسع المدينة من محور الشمال الجنوب، وقدم قطب الغرب عليه مفتتحاً الصفحة المحدثة، "الاوروبية" و"الكولونيالية"، عليه. فانقلبت المدينة من قاهرة أولى، بلدية وأهلية، الى "قاهرة ثانية"، بورجوازية وسياحية وإدارية سياسية. وعلى هذا، حل مبنى البرلمان محل الثكن العسكرية التي اخرجت من المخطط، على ما ينبغي في دولة حديثة لا يستوفي "جسد الملك"، لا الزائل الفاني والفردي ولا الرمزي أو الصوفي السلالي الباقي، تمثيلها أو التمثيل عليها.

وأقامت القاهرة "الجديدة"، وهي عصور وطبقات، على إدارة ظهرها الى النيل، والشخوص الى الاسماعيلية والقاهرة. وانتظر الميدان الاسماعيلي نحو قرن من الزمن، الى 1951 وغداة إخلاء الجيش البريطاني المحتل ثكن قصر النيل، لتتوسطه شارات إنشائية، مثل "المجمع" الوزاري والاداري، على صفة مركزية "ثقافية وسياسية". ونافست الميدان على الصدارة السياسية الرمزية ساحات أو ميادين أخرى مثل ميدان الاوبرا. والقرينة على "ميدانية" الأوبرا السياسية هي قصد "التظاهرات العامة" المكان، وانتخابه محجة ووجهة وموئلاً. ورفد كورنيش النيل، والفنادق الجديدة التي رعت السلطة "الوطنية" والعامية (الناصرية) تشييدها، الاسماعيلية التحرير بروافد جمهور عريض، ونازعها عليه وعلى استقطابه واستقباله. ونهضت الفنادق الكبيرة، سميراميس فشيبيرد فهيلتون، أقرب فأقرب الى النيل، والى الاهرام مما يلي النيل، علامات على دمج القاهرة البلدية والاهلية بالقاهرة المحدثة، الرأسمالية والوطنية، و"توحيد(هما)" على "مجرى النيل... الذي يربط البلاد بأسرها"، على قول خالد أدهم غير المقنع ولا المتماسك. فهو "يطير" على زعمي من تعاقب حلقات عمرانية واجتماعية وسياسية الى خلاصة "رمزية" مجردة مسوغها "احلام الماء"، على ما كان باشلار قال في الصور الشعرية السابحة في المادة الأولى الاسطورية. والملاحظة على موقع الميدان بين أحياء سكنية الى الشرق، هي امتداد القاهرة "الكلاسيكية"، وبين مبان رسمية تطوقه من الجهات الاخرى، أو "بين المدينة (مجتمعها) والدولة" تقيد الطيران ببينية عمرانية عامة وضعيفة الدلالة على هذا النحو. فالسعي في الاختصار الرمزي، والرغبة فيه، يدعوان ربما الى نهب الوقت والمسافات والمسارات والبيانات. وهو ما تدعو اليه الساحة حين تتألق في حادثة أو حوادث تاريخية غالباً ما يلابسها الفعل (المنازعة) والموت المأساوي (الرد على طلب الاقتسام) و"الاسطوري". ولكن التحجير على ألق الحادثة في بنية ثابتة يمزج ضربين او وقتين من التاريخ والتأريخ ويتعسف.

ليست هناك تعليقات: