الجمعة، 11 أكتوبر 2013

تهمة الكيمياء غير المردودة

المستقبل، 23/9/2013

حسب الرئيس الروسي البوليسي، فلادمير بوتين، أن في مستطاعه إبراء ذمة حليفه ومولاه ودخيله (أو محميِّه) الرئيس السوري، بشار حافظ الاسد، من محرقة غاز السارين بغوطة دمشق الشرقية، في 21 آب (أغسطس)، قبل أيام قليلة من صدور تقرير لجنة تحقيق الامم المتحدة في استعمال الأسلحة الكيماوية. وأعلن رجل الاستخبارات السابق، وبطل "أيام" غروزني وبيسلان ومسرح بطرسبورغ ومجازرها، براءة مولاه في صدر صحيفة أميركية "كبرى" أهدته موقع افتتاحياتها. فقبل الهدية، وأقبل عليها إقبال النهم، الطفيلي الأشعبي، على مآدب الأعراس والأتراح. فمدَّ يديه وقدميه، ولم يقتصر على دفع التهمة عن "زبونه"، ومَدينه المثقل بديونه القاتلة. فمضى على تجريم السوريين المقاتلين في الغوطة، وجزم بإدانتهم ومسؤوليتهم عن قصف الضاحية الريفية القريبة بالغاز المميت، وبصواريخ أرض – أرض، وهي تشير زوايا محركاتها، أو بقيتها، المغروسة في الارض، إلى اطلاقها من هضبة قاسيون ومخازنها الحصينة، على ما لاحظ مراقبون ومصورون قبل ثلاثة أسابيع من تقرير التحقيق الاممي.
 ولا ينتهك استعجال التهمة وصدورُها عن الاتحادي الروسي الاول ورأس الفيديرالية الامني المزمن، دعوةً روسية ديبلوماسية الى الأناة، وانتظار ختام التحقيق، والاتعاظ بسابقة خان العسل واشتباهها وإلقائها بعض الشبهة على مقاتلين إسلاميين، وحسب. فالاستعجال يضرب عرض الحائط بكل هذا معاً، ولكنه ينم على نحو صريح وصارخ بسياسة بوتينية و"سوفياتية" راسخة وأصيلة انتهجها عقيد الكي جي بي في معالجة قيام الشيشان على استبداد موسكو وصلفها واحتقارها "الوطنيين المحليين"، على ما سمت القوى الفاتحة والاستعمارية كلها أهل البلاد المستعمرة الاصليين، و"إدارتهم" إدارة كولونيالية لا تتورع عن الاستئصال. واستوى في هذا الصنف من "الادارة" الاستعمار الهولندي وصنوه البرتغالي ووارث الاثنين الانكليزي والمنافس الفرنسي فالألماني. ولم يقصر "الوجود" السوري في لبنان، ولا قصر "ضحايا (الفلسطينيون) الضحايا (اليهود)"، بحسب عبارة إدوارد سعيد الخالدة، في المضمار. والعمائم الخمينية والحراب الحرسية  تسوس البلوش وأهل سيستان بما هم أهل له جزاء ضلوعهم في سفك الدماء الزكية وقتل المظلومين...
 فأعمل "القيصر"، أو قيصرون، في بلاد الشيشان- عدا القصف بالمروحيات المدرعة والمصفحة وهي من مفاخر الصناعة الحربية المحلية، وهدم البيوت على رؤوس الناس والاعتقال الجماعي، والتعذيب المدمر، والخطف والاغتصاب والتهجير- أعمل سلاحاً ماضياً يكاد يكون "ميتافيزيقياً"، على قول لورنس في سند الدعوة الشريفية المجازية الديني، هو حمل الثائرين على القهر الروسي على ارهابيين أصوليين وسفاحين إسلاميين. وسوغت التهمة ، وهي نظير تهمة الادارات الاستعمارية العسكرية المحاربين الاهليين بالتوحش او على وجه التخفيف والتلطيف بالبربرية، حرب الابادة على بلاد الشيشان، واستعمال "المولى" قديروف ولجانه وقوات دفاعه الوطني على الابادة، وندبه من بعدها الى إنهاض غروزني العاصمة من أطلالها وأنقاضها، وإطلاق يد قديروف الشاب في اغتيال صحافيين محققين روس في مقدمهم أنَّا بوليتكوفسكايا. وبعثت الحرب البوتينية، وبعض فصولها المصطنعة والبوليسية وفصلها "الوطني والمحلي" الاهلي الاخير، في صفوف الحركة الوطنية الشيشانية إرهابيين حقيقيين وقاعديين أصيلين.
 وهذا نهج قلما يخطئ دلالةَ المستولين وأهل القوة العارية الى الحروب الاهلية، والغرق في رمالها وأوحالها المتحركة والمعتمة. وبوتين لم يبتكر هذا النهج. وليس بشار حافظ الاسد السائر الاول على خَط أو طريق أهل السابقة. وهو خالفُ حجة في الحرب على الظلاميين المبتدعين وفي فقه هذه الحرب، ومعاصر أحد أئمة هذا الفقه وآياته وحليفه الصدوق. وحين تلجأ مساعدة الرئيس السوري، الدكتورة اللغوية والألسنية بثينة شعبان، الى رواية المحرقة الدمشقية على طريقة "ألف ليلة وليلة" فرنكشتينية ودراكولية (قالت: الارهابيون التكفيريون الوهابيون أغاروا على قرى ريف اللاذقية وطرطوس، في 20 آب أو قبله بقليل، وقتلوا 1428 نفساً من السكان، العلويين، ونقلوهم الى الغوطة، وكفنوهم هناك بأكفان بيض وصوروهم، وقالوا انهم قتلاهم، أي صرعى بشار الاسد وحلقة ضباطه القريبة، حين هم ضحايا الارهابيين الخليجيين)، فهي لا تنافس بعض الروائيين "اللبنانيين – الفلسطينيين" فحسب، وتبزهم في مضمار التراث والابداع، بل تلقن أحد سادة التجسس الروسي سابقاً على ألمانيا، والمنصور على الشيشان، درساً في التخييل والإصعاد في معارج الغرابة والعَجَب.
 وتوسل غيرُ مشكك في مسؤولية الرئيس السوري عن محرقة السارين بالغوطة بحجة حسبها لا ترد: لماذا انتظر المقاتل الشريف، على ما قال أبوه في نفسه، والمستقيم عشية قدوم لجنة تحقيق أممية الى دمشق ليقصف الارهابيين الوهابيين، وبعض أولادهم (426 من 1428) ونسائهم، بالغاز المميت؟ ألا يدل الامر على غباء تكذبه إدارة "الملف اللبناني" في 2000-2005 ثم 2005 – 2013؟ ومجابهة المحكمة الدولية المختلطة في قضية رفيق الحريري والقضايا المتصلة الاخرى؟ وخلافة الجماعة الحرسية والخمينية المسلحة على الادارة العتيدة والبارعة؟ وغيرها من بينات الذكاء وآياته التي لا ترد. والحق أن التسليم بمنطق المناقشة، حين يتولى تقصٍ مادي التحقيق والفحص والتثبت، مضيعة وقت لا طائل منها.
 ولكن الداعي الثقيل والمرير الى القلق والحزن هو استحالة الرد على مزاعم العين (الجاسوس) والمشيرة الدكتورة بالقول: القتل بالسارين، أو بغيره مثله من آلات القتل الخسيسة والارهابية، ليس من شيم أي فريق من فرق المعارضة أو الثورة (على المعنى الحرفي) السورية، وهو وقف على قوات "العصابة" وأعوانها. والرد على هذه الشاكلة، أي بإطلاق، مستحيل حتى لو ثبت أن المواقع الـ14 التي ذهب تقرير التحقيق الدولي الى ان سلاحاً كيميائياً استعمل فيها ليس فيها موقع واحد يتحمل فريق من المقاتلين التبعة عن استعمال السلاح فيه. فالحق أن في صفوف المقاتلين المتفرقين والمختلفين، ومن ينسبون الى "الثورة" أو ينتسبون إليها، ولم تكذب بعض تظاهرات الأهلين نسبتهم وعلاقتهم حين ظهرت فرق "المسوِّدين" بجوار باب الهوى قبل عام وبعض عام- من استجابوا النهج الاسدي والبوتيني والحرسي، وولغوا فيه، وساروا عليه.
 وحين طرحت على "ثورات" عربية سابقة، مثل الفلسطينية وربيبتها اللبنانية ("الوطنية" أو العروبية) واليمنية قبلها وبعدها والجزائرية قبلها كلها والعراقية اليوم (!)، مسألة الطوارئ والاستثناء العرفي أجمعت هذه "الثورات"، وأهلوها ومناضلوها، على ازدراء المسألة، وانكار حقها في المناقشة وحظها من التشاغل. وحُملت الانتهاكات، وهي لم تلبث أن انقلبت نهجاً معتاداً وسائراً، على استثناءات ظرفية ومؤسفة قبل أن يرمى بالمسؤولية عنها "مستوى وعي" المقاتل العادي، وإرث القمع والاستغلال الماضيين، وعنف العدو وشراسته، والطائفية التي خلفها الاستعمار وينفخ فيها عملاؤه، و"النيوليبرالية" المتوحشة والمتربعة في سدة العولمة، والحاجة الى المَدَد الخارجي... ولم تشذ "الثورة" السورية، وعلى الاخص في فصلها الثاني غداة تدمير قوات الاسد باب عمرو بحمص، عن السنن العربية الموروثة. ويتفق هذا مع تعهد حركات الاحتجاج المتناثرة قادة طارئون ومرتجلون، تساقطوا من الابنية الاجتماعية في اثناء انحلالها وتصدعها الطويلين قبل الانفجار، ولم "تهذبهم" أو تؤدبهم وتعركهم حياة سياسية مجربة.
 وهذا وغيره مما يتداوله، منذ بعض الوقت، كتاب سوريون متكاثرون، أو أتاحت "الثورة" نشر كتاباتهم على نحو ما دعتهم الى الرأي والكتابة والعلانية، صحيح. فإذا اضيفت إليه كثرة الجماعات السورية، وتنافرها الموروث، وانتهاج "العصابة" وأسلافها سياسة تفريق وتمييز وترهيب متصلة، بدا التعليل متماسكاً ومعقولاً. وبدت المقارنة بحركات التحرر، واضطرارها المفترض الى الارهاب جواباً عن وطأة السيطرة الاستعمارية وتحجيرها الشعب المغلوب على سلبيته، جائزة. وعلى هذا، ساغ قول من دفعوا تهمة الارهاب عن جبهة النصرة، حين قدمت بعض فصائلها القليلة والهزيلة بعد أشهر على ابتداء حركة الاحتجاج السورية، ورأوا أن بشار الاسد هو مصدر الارهاب الوحيد في سوريا، ولا إرهابي غيره وغير أنصاره وقيادته. ومن يقاتل هذا الارهابي لا يجوز أن ينسب بدوره الى الارهاب.
 وهذا "مذهب" جبهوي واعتقاد ستاليني سوفياتي. وهو يترتب على احتجاج أو قياس مقدمته الاولى والكبيرة أن عداوة الشر السياسي توحِّد على نقيضه وخلافه، وتجرد النقيض من أوساخ نقيضه وعلائقه، موقتاً. فلا ينبغي أن يدب الخلاف في "الجبهة" التي تقاتل الرئيس السوري وعصابته وحوشيته. وأما لماذا تقاتل "الجبهة"، وأجزاؤها وجماعاتها وكتلها، "العصابة" فسؤال مبكر وفج على الدوام، على زعم الجبهويين الأقحاح. وهؤلاء، على شاكلة الشيوعيين بين الحربين، قد يديرون الظهر لحلفاء الامس "المتآمرين"، ويرتمون في أحضان هتلر، ويتقاسمون بولندا وجمهوريات البلطيق وإياه من غير تردد. ويفترض الجبهويون، وهم في سوريا اليوم كثيرون وعلى رأسهم شيوخ "الحمر والسمر" أو المزيج الشيوعي والقومي، أن رص الصفوف اليوم حنكة شأن فضها غداً. ويفتقر الحساب والتعليل هذان الى عامل أو بعدٍ رئيسي، مكانة معنوية ودوراً عملياً، هو العمومية. فإذا لم تحتسب الأجزاء، الاهلية والقومية والدينية، مكسباً مشتركاً وجامعاً من ثورتها وانتصارها، وخشيت أو خشي بعضها انتكاسته حين انتصار الحركة، تهدد الثورةَ خطر مميت. وليس التفكك أو التصريح هو مصدر الخطر الوحيد. فافتقار الثورة الى العمومية المعنوية والعملية المصلحية يحط بها الى ذرائعية فقيرة. والتنديد بالارهاب الذي يصيبنا، وغض النظر عن إرهاب يصيب العدو، قصر نظر وعمى عن شروط مصلحة عامة، وإرادة عامة لاحقاً. وحين يدعو بعض أعلام المعارضة السورية اليوم الى التهوين من شأن السلاح الكيميائي، وحمله على تفصيل يتعلق بأمن اسرائيل ولا يقدم أو يؤخر في حرب الموت السوري الذريع، يستأنف هؤلاء إطراح العمومية، ويقللون من شأنها، على شاكلة الساكتين عن الارهاب ما لم يصبهم هم وأصاب "أهل" بشار الاسد ومقاتليه.

  والطَلب الى "العالم"، والى "الاصدقاء الاميركان" (على قول سليم إدريس) على نحو خاص، حماية السوريين من جرائم "العصابة" وسلاحها لا يستقيم إذا لم يحمِ السوريون أنفسَهم من بعض "اصدقائهم" والمقاتلين نصرة لهم أو "للاسلام"، على زعمهم. فواجب الحماية أو المسؤولية عنها واجب عمومي ومسؤولية دولية. والارهابيون سواسية، كانوا في المباني الحكومية المحصنة أم في اللجان الشرعية والدوريات التي تقتل الاولاد حين تتناول ألسنتهم "المقدسات". وهذا ليس درساً في الواقعية السياسية، على المثال المدرسي والامني... السوري أو الاسدي، وإنما دعوة الى عمومية تقدم المعنى السياسي الجامع، وهو في هذا المعرض المعنى الوطني السوري، على المعاني الاقليمية والدولية المضمرة أو المعلنة. والدروس الاخلاقية في الأنانيات الدولية والقومية، وفي الانحياز الى هذه المصلحة أو تلك، هذر مكرر وشديد الشبه بالبذاءة.  

ليست هناك تعليقات: