الأحد، 22 يونيو 2014

سفاح الارهاب و"الدول" الملية... وَلَد غزوة الانبار

المستقبل، 22/6/2014
 ألهبت غزوة "الدولة الاسلامية في العراق والشام" شمالَ الغرب العراقي، واستيلاؤها في يوم وليلة على مدن عواصم مفترضة مثل الموصل والحويجة وسامراء وتكريت، وهي كانت ترابط في ضواحي الفلوجة والرمادي وبعض أحيائهما الداخلية منذ أشهر على كيلومترات قليلة من بغداد- ألهبت المخيلات والاهواء البلدانية (الجغرافية) الاستراتيجية الهاجعة أو اليقظة. وبعثت أحلاماً ورؤى عريضة عرض المدى والوطن العربيين. فوسع حلف المخيلات والاهواء والاحلام والرؤى التحرر من سايكس- بيكو، وأثقال الرجلين والامبراطوريتين البغيضة التي أناخت على التاريخ، وقيدت اضطرابه ومده وجزره وحصرتها في قمقم بلدان – دول قطرية مزعومة. فأرغم العربي السوري (أو السوري العربي) على القول "سوريا"، وقصر مدلول قوله على 194 ألف كلم هزيلة، وإسقاط الأمداء الواسعة المتصلة من طوروس شمالاً الى زغروس شرقاً والبحر غرباً وما قدر الله جنوباً، الى الكويت وسوق الشيوخ إذا شئتم، أو حائل أو تبوك، والى العقبة غرباً وما بعد سوريا الجنوبية الى سيناء كلها، بين خليج العقبة وبين البحر الاحمر.
 وفي الغزوة الخاطفة والمنصورة تبددت الحدود المصطنعة التي رسمها الاستعمار، وثبتها أعوان الاستعمار وما بَعده، وحصنها العملاء، وعقلنها الاستشراق. فإذا بجرابلس ومنبج والباب، والرقة والحسكة والبوكمال طبعاً، أقرب الى الموصل والحويجة والفلوجة والرمادي من حبل الوريد، قبل قطعه بالسيف فوق النطع إذا لم يداهم الوقت. وعلى رغم تولي العصابات الارهابية والتكفيرية هذا العمل التاريخي المجيد، وسعها الانصراف اليه آمنة مطمئنة الى خطوطها الخلفية في سوريا الضيقة وما بعد الاستعمار. وبينما أصليت أحياء شرق حلب، في الاثناء، القصف الذي يليق بشقاقها وخروجها على "الشرعية"، اضطرت بعض قرى الرقة، في ريفها المقيت ومهد مقاتليها الذين عدوا عنوة على المدن المعتدلة والمجربة وجروها والنظامَ الى الاقتتال والدمار، الى انتظار قصف سلاح الجو "الشرعي" قرابة الاسبوع الكامل (يوم الاحد الواقع في 15 حزيران ثم الثلاثاء في 17 منه)، وبعد إخلاء مسلحي "الدولة الاسلامية" القرى الثلاث المحظوظة.
قَصص واستراتيجيا
 فدبت الحياة الموارة في شرايين المشرق العربي اليابسة، واستيقظ التاريخ الأصيل والعربي في المدى (المضطَرَب) الذي كانت تجوبه الأحلاف القبْلية العربية الكبيرة والرخوة (وهي انقلبت "متحدات" في المناسبة) مثل الدليم وعنزة والعكيدات وزبع وشمَّر والروَلة، وتحاصر مدنه الهزيلة، وتجبيها على سبيل "الخوة"، أي المؤاخاة القسرية التي يفرضها القوي الجائع على الضعيف الممتلئ البطن، والمسلح على الأعزل الصاغر والمحتاج الى الدخالة والحصانة من القتل والنهب. والمشرق العربي هذا، وهو حضن القبائل والمدن المسيحية القديمة مثل انطاكية وحران، هو كذلك مسرح المخيلة البلدانية الاستراتيجية وميدان القَصص البطولي الشعبي والمَلَكي العربي والأعجمي: من "سيرة عنترة" و"فيروز شاه" الى مدونة "الظاهر بيبرس"، ومن "الاميرة ذات الهمة" الى "سيف بن ذي يزن"، ومن "تغريبة بني هلال" الى "سيرة الزير بو ليلى المهلهل". إلى غزوتين تاريخيتين ومؤرختين: واحدة بلغت النجف ودمرتها في 1857 وأخرى اجتازت امارة شرق الاردن في 1928. فأهل هذه الملاحم وأبطالها "الصناديد" و"بحر" رجالها (المالكي نوري أو جواد) إما خرجوا من شبه جزيرة العرب ويمموا شمالاً وغرباً الى مغارب افريقيا التي حسبوها مغارب الارض، أو خرجوا من الشرق الأسيوي والقوقازي والتتري وساحوا غرباً وجنوباً، وانتهوا على الدوام الى انشاء سلطنات عظيمة لحموا اجزاءها قسراً بالمصاهرة والتزويج والولاء وموت الامراء من غير أعقاب. وفي الحالين، بنوا أركان "عالم غيبي... كما لم يسبق في التاريخ منذ نهاية الحروب الصليبية"، على ما يكتب حسين جمو ("الحياة"، 15 حزيران) قارناً حوادث اليوم بالحرب الاوروبية الثلاثينية في القرن السابع عشر، وبنشوء أوروبا الدول – الامم الوطنية وخلافتها البطيئة الامبراطوريات وبطانتها الكنسية الرومانية والمسكونية في اعقاب معاهدة فيستفاليا.
 وما ولدته ليلة من ليالي (صحراء) النقب (إيدوميا التوراتية)، على زعم مالارميه، حمله المعلقون المحترفون في الصحف الاقليمية والدولية على مولود نبوي تام الخلق، وينطوي منذ خلقه، وإلقاء الروح في نطفته، على مصائره كلها، من ألفها الى يائها. وهي بعض من مصائر الأكوان والمجتمعات التاريخية والعمران. فتباروا في اختطاط دولة "الدولة"، وهي عصائب قتلة ومقتولين، وحدودها وأقاليمها وجوارها القريب والبعيد وحروبها الآتية وفتوحاتها وهزائمها. فشهوة أصحاب البلدانيات الاستراتيجية، وعلى وجه الخصوص إذا كانت مادتها المشتهاة هذه النواخي، مشارق الارض ومغاربها، "نهمة لا تشبع" على قول ابن منظور في شهوة العلم.
 وألبست هذه الشهوة حلة القصص الملحمي وقطعه الشبيهة بقطع "المكانو"، أو بالمدونات الرقمية، لا قيد على جوارها وعلى تذييلها بملاحم جديدة. فبعد تفكيك سايكس – بيكو والتوازن الاستراتيجي والصراع على الشرق الاوسط البائس، وكلها انتهت الى خيبات دامية، توج أهل الهزائم ملاحمهم بلعبة الخمس البحرات الاستراتيجية الكبرى. ورأوا انفسهم أصحاب كلمة سر محورية تفتح أقفال خطوط انابيب النفط والغاز كلها: المنحدرة من المشارق الاسيوية الهندية والاسكندرية، أذربيجان وحوض قزوين وحوض البحر الاسود، والمشتاقة الى السفر غرباً من طريق المتوسط وإيجه والادرياتيكي، بالغاً ما بلغ ثمن الرحلة وعوائده التي ربحها سلطان الجبل وعموم السوريا. وحين حطت الرؤية الاستراتيجية رحالها خلطت قمة حلب بقاعدة درعا البلد، و"بستان هشام" بمراكز "سيرياتل". وانقلبت المنافسة على طرق الانابيب ومحطات التخزين والعوائد "الهائلة" الى "مكاسرة على حافية الهاوية"، على قول خبراء وأصحاب مكاتب تحليل واستشارات يتقاضون ثمن أتعابهم على الهواء، وتتخاطفهم المحطات الفضائية الباحثة عن روايات تليق بحدس المستثمرين البدوي وإعلامهم الأثيري والسواتلي.
 ولكن الهذيان "الجيوسياسي"، أو بعضه، لا يفتأ يعرب عن بعض الحقائق. وهذه الحقائق لا تتعلق بالوقائع. وحقيقتها هي الأحلام والرؤى والاماني والرغبات التي تنضح بها نفوس أصحاب الخطط الاستراتيجية العظيمة التي تقدم الإلماع الى بعضها المشرقي، وهي الاصداء التي ترددها الوقائع والحوادث المشهودة في نفوسهم وعلى ألسنتهم. فعشية الهجوم على الموصل واكتساح نينوى وصلاح الدين وشمال الانبار، أسر بشار حافظ الاسد، مستودع سر أبيه وروحِه، الى "صحافي" من أهل المجالس والأمانات، أن الغلو في "فبركات صور طائفية" يسأل عنها صور الاعلام، وأبرزها صور "هجمة التكفيريين والارهابيين على المعتدلين من أهل السنة وأهل الصوفية العريقة" ("الاخبار" الصادرة ببيروت، 11 حزيران). ويعقب هذا الكلام المرمز- وهو يفيد بأن ثمة أهلي سنة: أهلاً يحاورهم "الدفاع الشعبي" أو العلوي و"المسيحي" بعد حصارهم سنتين وآخر "وهابياً" لا يحاوَر- على "إشارات تغيير" ترسلها "أميركا والغرب، بعد ان "صار الارهابي في عقر دارهم: ثمة أميركي فجر نفسه على الاراضي السورية، وثمة فرنسي من اصل مغاربي قتل يهوداً في كنيس في بروكسل".
 ويكاد يكون تقرير الوقائع المفترض مفتاحاً يفتح شفرة تعاطي الرئيس السوري المثلث الولايات (مع) الحوادث وتأويله لها: لا تغير أميركا وأوروبا سياستها العدوانية بالسليقة والفطرة في شأن سوريا و"خيار المقاومة" الواحد إلا إذا مسّها مس "القاعدة" وإرهابها؛ وغداة سقوط 230 الف قتيل واعتقال 258260 معتقلاً وفقد 99440 مفقوداً (عن "مركز دراسات الجمهورية الديموقراطية") "ثمة" أميركي مسلم واحد، عداً ونقداً، قتل نفسه في عقر دار سوريا، ولكن الرئيس المثلث يرى انه في عقر "دارهم"، و"ثمة" فرنسي واحد عائد من سوريا، حيث لم يبق ثمة يهود، قتل يهوديين اثنين يلمح إعلام الاخوانيين الى انهما عميلا "الموساد" شأن رهائن الخليل، ببروكسيل. وهذه قرائن مروعة ومخيفة جداً على "المركزية الغربية": قتيلان اسلاميان يقومان عدل أو نظير أو كفء الآلاف المؤلفة من "المحليين الوطنيين"، على ما كانت دوائر الاول الاستعمارية والاستشراقية تسميهم. ولكنه ثمن لا غنى عنه في سبيل صيرورة الارهاب في "عقر دارهم"، وحملهم على ان "يبدأوا يرسلون إشارات تغيير" في عبارة الرجل الفصيحة. ويستشرف الرئيس "الجديد" مدة ولاية ثالثة (7 سنين قحط،على عددها في رؤيا فرعون التي فسرها يوسف بن اسرائيل)، وربما رابعة، يستثمر فيها بدء الاشارات، ويحولها ذهباً استخبارياً صافياً، ومساعدات وهبات اقتصادية، وأحلافاً إقليمية متوسطية، ودعوات الى استعراضات عسكرية...
أمداء مشرقية
 وعلى وقع الغزوة التكفيرية وفتوحها الخاطفة – على مثال إسراء معكوس، ومن غير تشبيه او تمثيل- قامت مقارنات بلدانية استراتيجية وقصصية ملكية - شعبية محورها "اسد سوريا الكبرى" (على قول جان لاكوتور الفرنسي في 1976، وهو قول أغاظ ياسر عرفات فوق العقد من السنين)، من جهة، ونوري المالكي المسكين والضئيل، من جهة أخرى. فذهب صحافي آخر، ليس من قماشة الاول التقنية ولكن من قماشة نظرية أعلى كعباً قد تستلهم مهدي عامل الشيوعي الماركسي، الى انه "بينما تخوض الدولة السورية معارك طاحنة ضد التمرد الارهابي (لعله يقصد قصف مكاتب الرقة التي أخلتها "الدولة" غداة اسبوع على الغزوة [الكاتب]) في ما قبل المدى الداعشي، تقوم الدولة العراقية المفككة المستندة الى عصبية شيعية بلا مشروع باتباع استراتيجية استقطاع قبائلي سني ضد (داعش)، ولكنها تخسر في المنافسة لكونها لا تقترح مشروعاً وطنياً وانما استتباعاً لفروع قبلية على الطريقة الاميركية في انشاء ما عرف بـ(الصحوات)..." ("الاخبار" نفسها بقلم ناهض حتر). واطار المقالة زلازل ايديولوجية وقومية وقبائلية ودولية وبلدانية واجتماعية في الامداء المشرقية العريضة.
 وتخلص المقارنة الى خفة كفة المالكي في الميزان وحط (طبش) كفة الاسد، على ما مر للتو. وغداة أسبوع تقريباً على المقارنة هذه، يستأنف المعلق في الصحيفة ما سبق ان خلص إليه:" داخل العشائر (العراقية) نفسها انقسامات تنذر بتفتيت التمرد الذي أعطته داعش صورتها الاجرامية، بل وسرعان ما جرت الترتيبات لإقامة قوة عسكرية من شمر للسيطرة على حدود اليعربية ضد داعش وسواهم من المتمردين، وكما هو معروف، لدى دمشق نفوذ تقليدي وسط القبائل اهتز وقتاً، لكن التطورات الايجابية، داخل سوريا، تسترده، وسيكون ذلك أساسياً في أي حل للأزمة العراقية" ("الاخبار" 17 حزيران، وفي الاثناء نبه بعضهم البلداني الى سقوط حلف شمَّر من لائحة قبائله ومتحداته، وقد ينبه الى الرولة في تعليق حاسم آت).
 وقد يكون هذا "سر" الاسد الثاني بعد الاول، وعلة "هدوئه الاسطوري" ودقة تحليله الاستراتيجي، على الدوام. فهو، رجل الدولة الواحدة الفولاذي، يعول على نفوذه في صفوف عشائر تترجح ولاءاتها الكثيرة، المتزامنة والمتعاقبة، بين أجهزة دول ومنظمات ومصادر تمويل. والحق أن بين العشائر وبين المنظمات الجهادية، الارهابية وغير الارهابية، نزاع حاد وعصي على الحسم: فغالباً ما تتهم المنظمات "الجهادية" العشائر وشيوخها بالهوى العصبي والميل الى "القوة" المركزية الوطنية أو المحتلة، وتعالج الهوى والميل، بالاغتيالات. وتنزع المنظمات المقاتلة الى "توحيد" الشطور العشائرية بالقوة واللين؛ على ما حصل أخيراً في درعا نفسها. وانقلاب الكتائب السورية المقاتلة من "الجيش الحر"، وغيره من التشكيلات "المعتدلة" الى كتائب اسلامية، ليس مرده الى المساعدات، على اصنافها، وحدها، وبعضه يعود الى غلبة المنزع العصبي المفتِّت على جنود "جيش عقائدي" قتل فيهم مَلَكة الرأي والحكم السياسيين والفرديين.
ومَشَت "الدولة الاسلامية" المزعومة، وقبلها "جبهة النصرة" التي أطلقت اجهزة الرئيس المثلث قادتها من سجونها الخاصة، في الشمال الشرقي وأطرافه المركبة سكاناً والمتنازعة، بين تركيا المتذبذبة وبين العراق المتناحر والممزق. وطيلة سنة ونصف السنة، وسع أجهزة "الجمهورية العربية السورية" رشوة عشائر شرق حلب، أو شيوخها، بالسيارات ورزم أوراق المئة دولار، وحالت بينها وبين الانضمام المتعثر الى المعارضة و"حركاتها". ووقعت معركة حلب، في صيف 2012، حين قصَّرت الرشوة عن المدد والدوام، ونافستها رشى أخرى مصدرها مواطن بعض الاحلاف الاصلية في حائل والجزيرة العراقية، وانهار ولاء القوات المسلحة، وانفجر الخلاف التركي الاسدي على نحو يصعب رأبه. والى القوم العشائري، توسلت سياسة أجهزة "الدولة" السورية بكرد غرب كردستان السوري. وهم أو معظمهم أنصار "العمال الكردستاني" الاوجلاني الذي آواه الجهاز الاسدي بدمشق، وعلى الاخص في البقاع اللبناني قبل ان يضطر الى إخلائه بالحسنى على قول صالح مسلم، وتركه طريدة بيد الامن التركي والموساد الاسرائيلي، غداة اتفاق أضنة في 1998 وإذعان الحكم العربي السوري الى بنودها المهينة (قياساً على عروبة الجهاز الحاكم الهوامية والخطابية). وعادت الاجهزة فاستردت "بعض" الكردستاني غداة القطيعة التركية. ونزلت قوات الجيش "العربي" واستخباراته للكرد "الغربيين" عن سيطرة مرقعة ومتناثرة على بعض المواقع في بلادهم. وأحجمت المعارضات السورية، السياسية والعسكرية، عن استمالة الكرد، والاقرار لهم بحقوق اتحادية، شخصية وادارية، ووطنية سياسية، برهنت التجارب والاختبارات على ضرورتها. فأقام الكرد، حيث سرح "الدولة الاسلامية" و"النصرة" وغلبة القوم العشائري، والحوار التركي والعراقي، على ترجيح بين هذه الجماعات والقوى.
صيف 2013
 وأبلت "الدولة" المزعومة في قتال الجماعات التي تناوئ أجهزة النظام أو تتحفظ عنها، من غير أن تطلق يدها في التمكين (في رطانة "الجهاديين"). وهي اتفق تألقها المفاجئ في صيف 2013، سنة بعد تألق "النصرة" وبعد مباشرة "حسم" استعادة حلب، مع انتشار عدوى الانهيارات العسكرية، واشتداد عود "النصرة" والتمهيد لـ"حرب" القلمون الحزب اللهية والعباسية، وظهور حاجة أردوغان "الغازي" الى مهادنة "الكردستاني" إبان ذر الخلاف مع حليفه "الامام" عبدالله غولن والخشية (الأسدية) من تقارب أنقرة والكردستاني. وفي صيف 2013، نجح الهروب الكبير، الهوليوودي، من أبوغريب، سجن المالكي الحصين والحصيف.  وقضت الحصافة المالكية بسجن 1200-1300 من اشرس ارهابيي "القاعدة في بلاد ما بين النهرين" (و"دولتها الاسلامية") وحليفها البعثي، عزت الدوري والنقشبندية المتصوفة على الطريقة البكتاشية وجيش الانكشارية في ذروة قوته، في سجن واحد. وهذا دعوة صريحة الى الهرب الواحد والمجتمع. وأدى تضافر هذه العوامل والحوادث، من غير الزعم ان "يدا خفية" واحدة ضفرتها الى بعض في هذا الوقت، الى بروز الطيف الارهابي "الجهادي"، واحتمال خلافته الارهاب الاستراتيجي النظامي، حقيقة لا يمارى في جوازها الواقعي. وهذه الحقيقة، وهي من انجاز سياسة متعمدة انتهجها بشار الاسد وناضل في سبيلها وفرضها على بعض مخالفيه في الحلقة الضيقة حوله، قادت الجنرال ديمبسي، قائد الاركان الاميركي، الى اشارته على الرئيس اوباما المتردد في الشطر الثاني من صيف 2013، في اعقاب قصف بشار الكيمائي الغوطة الشرقية، بترك قصف المرافق السورية لأن تحطيمها يعني حتماً انهيار "الدولة" الاسدية في الشام وأيلولة الخلافة، على المقدار نفسه من الحتم، الى الجماعات الارهابية و"الجهادية" المتألقة.
 وكان نوري المالكي يكابد، منذ أواخر 2011 – وانسحاب القوات الاميركية، وتغلغل النفوذ الايراني في أوصال الدولة والمجتمع العراقيين، وهذا ما يكنى عنه اختصاراً باسم قاسم سليماني وفيلق القدس- مشكلة معقدة، قياساً على "عالم" السياسة  الذي يتقلب هذا الصنف من السياسيين العرب والمسلمين بين أظهره. فهو تقدم على أقرانه الشيعة في 2006 جزاء قبوله نهجاً اميركياً قضى بالتخلص من "المتطرفين" الشيعة، وأنصار طهران وحرسها وباسيجها، بالقوة و"الصولة"، على لفظة اختارها المالكي شعاراً لحملته على "جيش المهدي". ونظير هذا الصنيع، على المقلب السني، استقطبت القوات الاميركية "الصحوات" على "جيوش الفاروق"، وقصمت بها ظهر الخلايلة الزرقاوي وحلفائه البعثيين والنقشبندية الذين كانت الاراضي السورية في أيام العز الاسدية ملاذهم وخطوطهم الخلفية.
 وعلى الوجهين، قصَّر المالكي ولم يحرز زعامة أو رئاسة شيعية غير مدافعة، على نحو ما لم يحرز زعامة "عراقوية"، على ما كان يقال في الضباط غير العروبيين حتى 1963 ومقتل عبد الكريم قاسم على السنة و"أبناء العشائر"، وبالأحرى الكرد. وهو اتقى، بالتنصل من هؤلاء والتضييق عليهم، تهمة تملقهم، والسير في معاملتهم على خطى الاميركيين. فاحتاج الى تأليب السنة عليه في سبيل توحيد الشيعة وراءه. ولم يكن السنة، سياسيين و"أبناء عشائر" ومشايخ عشائر ومشايخ معممين أو علماء وجماعات "جهادية"، متماسكين منذ انخراطهم السياسي في 2009. وغلبت المهادنة على سياسييهم وجمهورهم وناشطيهم، على ما لا يرغب المالكي. وعندما بادر الجمهور السني في الرمادي والحويجة، مطلع 2013، الى التجمهر والاعتصام السلميين، وطالب بالوظائف والتعويض عن نتائج الانشقاق عن "الجهاديين" والعفو عن شطر من الاهل سبق تورطه في الارهاب، وبحصة من عوائد الدولة وريوعها وتوزيعها الاستثمارات والمناصب والعمولات السخية، انتهز المالكي الفرصة. وأراد شق الجمهور، فـ"صال" على شطر منه في الحويجة، وأوقع مئات القتلى في صفوفه، وطارد قياداته السياسية الاهلية والدينية، وحمل بعضها على الهرب وسجن بعضاً آخر، وأبقى في الاعتقال بعضاً ثالثاً، وصادر الوزراء السنة والشيعة من غير انصاره على صلاحياتهم. فرمى عمداً في احضان "الجهاديين" جزءاً من الجمهور السني. وبدا هؤلاء، "الجهاديون"، "ملاذ أبناء العشائر والمحامين عنهم وعن "أعراضهم"، على ما تسرع الجماعات الاسلامية أو جماعات المسلمين الى القول في كل مرة يجنح الخلاف الى التفاقم. ومن استمالهم من هذا الجمهور ماطلهم ما وعدهم به، وأثار الشبهات حولهم وعرَّض بهم، وجعلهم عبرة لسواهم من الذين قد يتبعونهم الى موالاة الرجل.
الحاجز المائع
 فتجدد خلط السنة عموماً، و"أبناء العشائر" على الاخص، بالجماعات "الجهادية" المسلحة والمنظمة، والوثيقة الصلة بالمتبرعين والدعاة والجماعات المناوئة للدول والمتطوعين الاسلاميين أجهزة الاستخبارات التي كانت عوناً لها حين كانت تقاتل الاميركيين والشيعة معاً (وهي أقامت على ارهاب هؤلاء بعد جلاء الاولين). والاجهزة السورية تتصدر المساندين والمُلجئين لقاء "عمولة" سياسية وعسكرية وفي بعض الاحيان مادية. وكان عسيراً على عموم أهل السنة في العراق أن يرفعوا حاجزاً صفيقاً بينهم ، أو بين سوادهم وجمهورهم وبين جماعات منهم، اسلامية محلية واسلامية أجنبية وعراقية قومية وبعثية، اضطلعت بالشطر الاكبر من قتال الاميركيين وحلفائهم، وكان لها الدور الاول في تكبيدهم الخسائر التي قادتهم الى الانسحاب. وحين انسلخ الجمهور، وتبعه السياسيون، من مساندة ارهاب "إخوانهم" وتنصلوا من مواطأتهم- وهؤلاء، على شاكلة الخلايلة الزرقاوي، أثخنوا فيهم وفي أهلهم مقدار ما أثخنوا في عدوهم الاهلي "الصفوي" و"الرافضي"- وأتاحوا بعض الاستقرار للعراق، ومهدوا الطريق الى الجلاء الاميركي، لم يبادر الجمهور الشيعي الى مصالحة وطنية عامة، ولم يقطع الطريق على تغلغل الارهاب في الجمهور السني. وانقسم طاقمهم على نفسه. فبقيت نوايا مقتدى الصدر وعزائمه التوحيدية أسيرة أهواء عامية وثأرية مذهبية عجز الصدر عن كبحها بعد أن غذاها، وعوَّل عليها. وانكفأ المجلس الاعلى الى دور ملحق بطهران، بعد أن خسر في أعوام قليلة جيلين من قياداته المجربة. واعتصمت المرجعية بالنصح المتعالي والمشورة اللفظية، وبعض المراجع أشد غلواً مذهبياً وحرفياً من كثرة المقلدين. وفتوى الجهاد الكفائي، في انتظار الجهاد العيني، قرينة ربما على فشو ولاية الفقيه في عروق عصبية متخشبة.
 فخلت الساحة للحليفين الاقليمين المتكاتفين والمنقسمين في شأن العراق وعليه، سوريا وإيران. ونفوذ السلطتين والطاقمين في البلد الذي يجر أثقال عقود من التسلط البعثي والحروب الداخلية والخارجية ينهض على ركائز مختلفة ومتضاربة، وينزع الى غايات يصعب التوفيق بينها. فطهران الخمينية تحمل العراق على شطرين متضادين: شطر شيعي خالص وتابع ومنتزع من دائرته التاريخية والجغرافية و"محرر" منها، وشطر سني مناوئ ومتسلط على الشطر "الصديق" والمنقاد (والشطر الكردي شوكة في الحلق قد لا تقتلع أبداً). وتعزو طهران الخلاف الداخلي الى منازعة اقليمية، وهي ترى حلَّها في بسط سيطرتها العسكرية الساحقة، على ما يحسب حرسيوها وآياتها على اقاليم الغرب العربي، ويصدع بها الشمال التركي والشرق الأسيوي ومعسكرات ما كان استكباراً ظالماً. وسوريا "العروبة" جزء من الغرب ومن التغريبة الملحمية. ونفوذها في المحافظات السنية مصدره البعيد عروبة عرقية وبلدانية (جغرافية) صحراوية، ومصدره القريب إيواؤها مقاومة الاحتلال الاميركي لذي مكَّن الامر لسيطرة الشيعة على بغداد، وحماية بعض الجماعات المقاتلة وتيسير معاملاتها المالية وانتقال المتطوعين العرب والاجانب الى ألويتها.
 ويدخل هذا في سياسة جمع الاوراق التي تنتهجها "العصابة" في سياستها الاقليمية. فالنفوذ المكتسب في الجماعات والمنظمات و"الشخصيات"، في ظروف الحرب والفوضى وانقلاب الجبهات والتجارات المتفرقة، سُلّم الضباط والقيادات الى الاستعمالات المزدوجة والمثلثة، والى تحول الادوار ولبوس أصحاب الاقنعة غير المتوقعة. وعلى هذا فلا شك في حيازة الاجهزة الاسدية نفوذاً قوياً في قيادات "الدولة الاسلامية" على جبهتي الحدود العراقية – السورية، من مقاتلين "جهاديين" ومساجين سابقين محررين وضباط صداميين. ونفوذ الاجهزة في المجالس العسكرية، العشائرية و"الجهادية" المختلطة، وفي متصوفة النقشبندية العرب والكرد، لا يرقى اليه شك. ويبدو انهيار القوات العراقية في نينوى (الموصل) وصلاح الدين (تكريت)، وتسليم الضباط والرتباء الامر والسلاح الى المهاجمين، أثراً من آثار هذا النفوذ وأوجهه وأقنعته الكثيرة. فلماذا يقاتل الضباط والرتباء "إخوة" لهم، قربتهم اليهم العصبيات القديمة الغالبة والمغلوبة، وسياسة الادارة المتسلطة الجديدة، والمظلومية الواقعة عليهم، والاعتصامات المغدورة...؟ وهذا لا يجهله الغزاة، وتعلمه أجهزة الاسد المثلث بعلم عميق، واختبره الجيش العراقي و"ثوار العشائر" أو "أبناؤها" طيلة نصف السنة المنصرم في ضواحي الفلوجة والرمادي. وكلهم يعرف أن كرد العراق لن يتخطوا حدود كردستان الى ما وراء الارض المتنازعة، ولن يقاتلوا عن طاقم حاكم ينكر عليهم حقوقاً سياسية واقليمية وعوائد يرونها ثمناً زهيداً لما ألحقه فيهم العراق العربي والموحد من كوارث وآلام.
وعليه، جاز افتراض ان الغزوة الانبارية تؤجج الخلافات في اوساط المعارضات السورية، وقد تقوّي "الدولة الاسلامية" موقتاً قبل أن تستنفد قواها وقوى من يقاتلها. وفي الاحوال كلها، تدمغ الغزوة الجماعة "الجهادية" المتصدرة على بعض جبهات سوريا الطرفية والداخلية بدمغة الارهاب الاقليمي، وتحقق "نبوءة" بشار الاسد وتوقعه تفشي "التكفيريين الوهابيين" في المشرق العربي كله، وطلبه "تغيير" معاملته. وتحقق من وجه آخر، تهمة جمهور سنة العراق وسياسييهم بمواطأة "الجهاديين" والمؤامرة على وحدة العراق وسلطته المشروعة والمنتخبة لتوها وجيشه "الغالي". وتجدد وصمهم بالولاء "الاميركي"، وتمحو دورهم في إجلاء الاحتلال، واطفاء الاضطراب الاهلي. وتمنح سياسة نوري المالكي، في صيغتها الحرسية السليمانية، مسوغاً داهماً، وتحلق حوله معظم خصومه الشيعة وجمهورهم الذهبي المتطرف، وتفض عنه الجمهور السني الذي تحتضنه اجهزة "العصابة"، ويفزع بعضه الى رعاية اقليمية قريبة وموصوفة. وتدعو القوى الدولية الغربية الى النصيحة بالصبر على المالكي، على رغم تعنته وانفراده. فتجني سياسة جمع الاوراق "السورية" موقعاً عراقياً تفاوض منه دول الجوار المعنية، وفيها ايران نفسها، القوى الدولية. وتجني طهران الحرسية تعاظم احتياج الوزير الاول والنافذ الى بركتها، وتطويعها خصومه ومنافسيه والمتحفظين عنه، لقاء انقياده الى خصوماتها الاقليمية والدولية الكثيرة والمتجددة. فإذا لم ينفجر هكذا عراق- وما قد يحول دون انفجاره تجديد نظام اقليمي ودولي تنخرط في تعريفه القوى الدولية كلها، الناشئة والعريقة والعائدة، ويحول دون تداعيات ثقيلة على دوائر الجوار الواسعة- استقرت وحدته الركيكة على صيغة ائتلافية ضعيفة تقوي سيطرة الاطراف الراعية على الاقاليم الثلاثة واقوامها وشعوبها، وتبعد احتمال دولة متماسكة على حوض النفط الاعظم وعقدة الحدود بين عوالم "اضداد":  الفرس والعرب، الفرس والترك، الترك والعرب، المشرق العربي المتوسطي وشبه جزيرة العرب، السنة والشيعة، المشيخات والانظمة "العامية"، دائرة سكن كثيف ودائرة سكن مبعثرة، وشعوب وقبائل لا تميل الى التعارف مقدار ميلها الى التقاتل.


ليست هناك تعليقات: