الأحد، 1 يونيو 2014

حكاية ضغائن سيّارة





المستقبل الاحد 1/6/2014

لم يبدُ سائق سيارة التويوتا لاريس العمومية السوداء حين تمهل، مستجيباً طلبي إليه التوقف ليسمع اسم الوجهة التي أقصدها ويرى إذا كانت من مقاصده المزمعة أم لا، نابياً أو مختلفاً عن العاملين مثله في مهنة السواقة اللجبة ببيروت. فهو مثل معظمهم يرمق راكب سيارة الأجرة الجديد قبل ان يستقر هذا بمقعده، ويغلق الباب وراءه إيذاناً بانطلاق المركبة والآلية ورضا السائق والمسافر بشروط السفر، بنظرة تتفاوت حدة تفحصها الغريب من غير تخليها في الأحوال كلها عن الاستقبال المتفحص. وبينما يلزم معظم السواقين «الشباب»، وهم من لم يبلغوا الثلاثين أو بلغوها لتوهم، الصمت في أثناء «صعود» الراكب واستقراره وغلقه باب السيارة، فيقيمون على غيابهم ساهمين او يقصرون النظر والاستعانة على صدوع قليل ومهذب، يمعن المسنون والشيوخ النظر.

وقد لا يتكتمون على ضيقهم ببطء الوافد، أو على فضولهم الذي حفزته ملاحظة عليه أو يتمون المحادثة التي كان وقوفه على ناحية الطريق ابتداءها. ومذاهب هذه البدايات شتى. فقد تقود الى مباسطة في الحديث، او الى صمت ثقيل أو خفيف، والى مزاح ينقطع او يتصل.

وسائق سيارة التويوتا في ظهر 17 ايار المنصرم، وكان يوم سبت، أشيب الشعر وغزيره، يشبه على ما لاحظت من بعد الأخضر الابراهيمي، الوسيط الدولي والعربي السابق في المعمعة السورية المتمادية والمستقيل من وساطته عشية اليوم العتيد. وهو مثله، أو مثلما كان قبل أن ينوء بالوساطات الأهلية الكثيرة التي حملها وزعم ان عسرها لا يثني «صبره» عن احتمالها ولا «يستنفده«، وعلى خلاف الديبلوماسي الجزائري والدولي الدمث والمطمئن، بادر صاحبي الى الاحتجاج على سؤالي إياه عن رسم سيره الى الروشة وقصده اياها من غير التواء كثير. وهو اجاب سؤالي عن قصد الروشة بطلب اجرة محلين او راكبين. فقال، وهو يمج سيجارة بين السبابة والوسطى ويكاد يلتصق بالمقود ويحاول تمييز الراكب المحتمل ممن لا رجاء منه «منروح ع الدعبول (موقف سيارات) ومنه الى بداية قريطم ونشك على نصر الروشة.. بعدو نصر؟ ليش في طريق غيرها؟«.

فانتبهت الى ان مسافرة سبقتني الى الجلوس على المقعد الخلفي، وانتحت زاوية وراء السائق، وأدركت وجودها من غير تقريره او تخصيصه بنظرة او قول. وأردت القول ان نصراً، الاسم ومرجع المطعم الذي كان بهذا الموقع، مضى وحلت محله اسماء وشارات أخرى. وقلت هذا من غير ان يقطع قولي احتجاجه او يحرفه عن غايته. وهممت بالقول ان خطة سيره ليست الوحيدة الجائزة من الموضع الذي نحن فيه، وهو شارع الجزائر بمحلة كركول الدروز، على ما تُعرف على رغم نعي رأس اعيان القوم بالمحلة. ولم أتم ما هممت به لما احتسبت التواءه وتعقيده في معرض لا يحتمل لا هذا ولا ذاك. فسكت على بعض مضض. وكان السائق انعطف الى الطريق العريضة المفضية الى «كاراج دعبول»، وقبل ان يبلغه طلبت المسافرة الخلفية بنبرة لا تخلو من إلحاح، النزول «على اليمين«. وكررت الطلب والالحاح بينما الرجل يسوق يسارا والجهة اليمنى من الطريق تتسابق عليها سيارات كثيرة وتزدحم فيها. فدارى لجلجة في حلقه لم يقو على اخراجها، وهو محشور بين قيادة السيارة الى اليمين وبين استعجال المسافرة الملحة والآمرة النزول حيث تريد.

وغادرت المرأة الفتية (صوتا) السيارة من غير شكر. ورجع هو في رغبته ربما في الثأر من نبرتها والكلام فيها وعليها. فاستأنف سيره، وانعطف الى اليسار صوب فردان، محطته قبل قريطم، وهو على بعض حنقه المنحسر، وعلى التصاقه بالمقود ونظرة المتحفز. وحين أدار رأسه إلى جهتي، رأيت صفحة وجهه أو معظمها وعينيه الملونتين اليقظتين والمحتقنتين دماً، وتكشف فمه عن شفتين رقيقتين وعن اسنان برتها السنون والتبغ والحوامض، وابتدأ قوله المعاد ان لا طريق اخرى إلى الروشة غير التي يسلكها، أبصر على الرصيف القريب امرأة عليها او على وقوفها المنتظر مخايل راكبة جائزة. فمال صوبها بمقوده وجسمه وسألها: «لوين؟«. فأجابت المرأة الثابتة في لباس اشبه بالعباءة فوق ثوب اسود حول قبته تطريز قليل بخيط اخضر من غير ان تلتفت أو تحول عن عبارة وجهها الأسمر الداكن والعريض الخدين والمترفع على خشية، «ع خلدة». فاستعاد الرجل كل ما مال به لتوه. وتجدد بحثه المتحفز عن ركاب في طي مشاة.

ولم تظهر عليه الخيبة. فهو ربما حدس في سمت المرأة القريب من بداوة لا تخفى على الجوالين ومتصفحي الوجوه والوقفات والمشيات من أمثاله. وعقب على جواب المرأة، وتلفظها باسم مقصدها البعيد بل النائي، وفوق الأمرين عقب على الوجه العاتب واليائس أو المرير بعض الشيء. فقال: «ليش شايفي حالها» من غير صيغة السؤال، وعيناه تجوبان يمين الطريق والأرصفة. وحين مرور المركبة بمبنى الكونكورد ثم بمقهى ليناز، وأمنت دخولها مسرباً من مسارب الطرق، اخرجت من كيس البلاستيك الذي أودعته بعض أشيائي صحيفة فرنسية يومية حملتها معي تداركاً لتأخر الصاحب الذي أنا ذاهب لملاقاته في المقهى. وتصفحتُ عناوين الصفحة الأولى، والخبر عن مهرجان كان السينمائي يتوسطها. ولم تفتني وأنا في حالي هذه ملاحظة السائق على المرأة «الشايفي حالها»، على خلاف قوي من شعوري. وأردت إعلان مخالفتي وابلاغها إليه، وهو افتأت علي حين زعم ضمناً ان سؤالي عن رسم طريقه الى الروشة من غير مسوغ، ولا ينم الا بجهلي أو شكوكي النافلة. وأراد، على ما حدست ولو لم يفعل، إحراج المرأة أو الصبية التي كانت قبلي في السيارة، واضطرت الى مخاطبته بنبرة آمرة ليصدع بطلبها النزول إلى يمين الطريق وعلى مقربة من كاراج الدعبول.

فقلت غير راغب حقيقة في المناقضة، جاهراً مخالفتي، وأنا أهم بقلب الصفحة الأولى من الصحيفة: «وين شايفة حالها؟ المسكينة عم تعتذر وهيي مستحيي». فردد في ما يشبه سره، وهو ساهم وفاتر اليقظة والانتباه الى سرح بصره، «مستحيي.. مستحيي». وخرج من خفوته وفتوره، بينما أنا اقلب صفحات الصحيفة وألقى عليها نظرة تعرف، وقال: «هاي جرايد برا، شو في أخبار عن بلادي؟». فقلت حائراً ومتملصاً: «هول بيهتمو بالسينما». وهو وقعت عيناه على صورة نيكول كيدمان، غرايس كيلي في فيلمها بكان، في صدر الصفحة الأولى. فعلق: «إي! هني همّن السينما». ولم يكد يصمت، أو يعلق كلامه بعضاً من ثانية، وظننت برهة خاطفة انني تخلصت من المحادثة واطمأن هو الى يقينه بتفاهة برا وجرايده، حتى أتم جملته التي خلتها تامة: «.... ونحنا بتعتيرنا». وحسبت ان قراءة الصحيفة الفرنسية اليومية تقضي علي برفع ظلم التهمة التي يسوقها السائق الظالم والمفتئت للصحيفة، بعد سوقه التهم الي وللراكبة الأخرى وللمرأة القاصدة خلدة. فأجبت أنهم يهتمون بغير السينما.

وكنت بلغت في تصفحي الصفحة الثالثة، وتتناول مقالتها الأولى والعريضة عرض الصفحة كلها، القصف المدفعي وآثاره في المدن السورية. وفي وسط المقالة صورة لمبنى مستشفى (مشفى) الشفاء في حلب وهو متداع ومشطوف الواجهة من اعلاها الى طبقتها الارضية، وعلى جهتيه وفي مقابلته هياكل ابنية خاوية جردها الحريق من لحمها، مما بدا لحماً بعد جرده وذوائه، وفقئت عيونها، وأخرجت أحشاؤها وبددت في عراء السماء والأرض معاً، ورحلت عنها ابوابها ونوافذها وسقوفها، وبقيت هياكل الأبنية واقفة على جهتي طريق ضيقة ومليئة بالركام والانقاض، معلقة بين أفق أخرس وواجم وبين عتمة متكتلة ومتكورة على نفسها في مطلع الصورة الفوتوغرافية وابتدائها. «هيدا مقال عن حلب، هيدا مستشفى حلب». وكانت السيارة دخلت محلة الصنوبرة، بازاء مبنى ضخم ينسب ملكه الى بهاء الحريري، وشارفت كورنيش قريطم. ووسع السائق اثبات الصورة، وهو على خلاف الابراهيمي من غير نظارات، وتمييز المستشفى، أو هذا ما خلته. وعلق على ما رأى، أو على ما أخبرته انا به، وقال: «وعم يقولو انو الاسد دمر المستشفى». وهذه المهمة كذلك لم يسأل.

فرأيت نفسي مرتبكاً ومتورطاً، ولم أرد ذلك. فأنا أردت تبرئة ذمة الصحيفة، وقومها، من خفة الاهتمام بالسينما وحدها، واغفالها «تعتيرنا»، على قوله. ولم أشأ التحكيم في المسؤولية عن الموت المخيم على شارع يقع فيه المسمى مستشفى الشفاء، والمنقلب اضعف من نعش واقل حيلة من قبر. وتلعثمت على عتبة جواب لم افكر فيه، وقادني اليه انفعال عكسي وآلي. فقلت، متستراً بما خلته حياداً أو تقريراً: «هيئتو القصف من فوق، من الجو، بالطيران، واللي عندو طيران هوي...» طبعاً وبداهة.. «الاسد«، لو لم يسبقني الرجل، من غير أن يغادر قعوده المتحفز تصفحه المشاة على الناصية المستقيمة والمديدة، ويعلل قوله، ويسنده الى احتجاج عريض: «لما هولي بيقتلو بسيارات انتحاريي بشو بدو يقاتلن؟ بخراطيم مي؟ ـ يا محلى الكحل بعيونكن؟ المجرمين..«. قطعت قوله على جاري عادة او قاعدة في المناقشة تنص على وجوب الاستحواذ على الكلام، وقطع دابر الجواب في الأحوال كلها. وحين فعلت هذا لم افكر في ما يحسن بي أن أفعل أو ما عليّ أن أفعل. فكلامه الحاضر والمتأهب من غير تردد على «الانتحاريي» و»المجرمين» و»حق» صاحبهم في القتل والدمار بالطيران، وقصف المستشفيات، ومحق المدن وجعلها خرائب محروقة بالكبريت والحامض، أصابني بهلع كاد أن يكون عصبياً.

ولم أفطن لحظتذاك الى أن مكلمي بهذا الكلام يداري، بدوره هلعاً ليس أقل ثقلاً من هلعي. فأنا تراءى لي حين قال ما قال أنني خسرت الضحايا الذين لم أعرفهم، أولئك الذين عرّفتهم الأخبار والصور والأغاني والأناشيد والأشرطة على اليوتيوب والمقالات وبعض الأحاديث القليلة مع سوريين في سهرات هاربة تنتهي بمواعيد لا يلتزمها أحد، اذا سأل الواحد أصحاب انعقادها عن اسم من أسماء الساهرين اجيب بجهل الأصحاب بمصائر هذا الساهر أو ذاك. وهؤلاء الضحايا ائتلفت قسماتهم المرئية والمعنوية من وجوه قتلى مسجّين في أكفان هي، في أكثر الأحوال، ثيابهم العادية، وربما كُللت الوجوه والرؤوس بغطاء رأس أسود أو أبيض، فأقر الوجه النائم والساكن على سكينة ومهابة منورتين وملائكيتين. وبعض الضحايا هم ترديد صدى أناس قلائل عرفتهم في زمن سابق، خرجوا من السجون وهم يقولون مشافهة وفي رسائلهم: «أحوالنا على العموم بخير وعسى أن تكونوا بخير»، ولا يزالون يكتبون أنهم بخير «على العموم» بعد أن تهدمت منازلهم، وهجروا منها، وسافر من قدر من الاولاد على السفر، وتفرق الأصدقاء... هؤلاء وغيرهم مثلهم هم «انتحاريي» صاحبي العارض، و»المجرمين» القتلة، الذين يحل قتلهم وقصف مستشفياتهم وبيوتهم وشوارع مدنهم فتبقى منها أجسام المباني العظمية وسقوفها وأبوابها ونوافذها الضريرة، وحطامها المترمد، وذاكرتها الهاذية والرتيبة.

والخسارة الجسيمة والمباشرة، الناجمة عن حمل الحوادث السورية على «انتحاريي» و»مجرمين» وعلى «حق» عام في التدمير، غير مقيد، جواباً عن فعلة هؤلاء، تودي بما هو أعظم من صورة الضحايا ومن شواهد وشهود على عمومية وحقيقة رغبات سورية في الرشد والاحترام والمساواة. والأعظم هو اختباري أنا فلان الفلاني، واختبارنا (نحن اللبنانيين)، حوالى 30 سنة احتلالاً مهيناً، ومسرحياً مضحكاً، يفوق أي احتلال آخر قبحاً ومسخرة وقرفاً. فالانكار على السوريين حقيقة أو رجاحة ما دعاهم، أو دعا من أسرعوا منهم وربما وسعهم أن يكونوا الكثرة لو نزل الحاكم على حقوق المواطنية وامتلكوا الشجاعة النادرة يومها، إلى القيام على جماعة حاكمة سلطانها على الناس قدر لا راد له ولا مفاوضة على إطلاقه؛ هذا الانكار يضمر أو يعلن رأياً في اختبار اللبنانيين الاحتلال السوري الأسود.

ومفاد هذا الرأي أننا لم نختبر طيلة 3 عقود مديدة، هي نصف أعمار معظم من لا يزال على قيد الحياة أو أكثر، شيئاً كريهاً وممضاً غير غارات إسرائيلية قاتلة، وعدوان واحتلال يهوديين، وتهجير «طائفي» مسيحي، وفصل احتلال أميركي هزمناه (هزموه)... وما عدا هذا هو بعض متفرعات هذا وحواشيه. أو هو قيام على أنانية المارونية السياسية وغبنها وغبائها وصليبيتها الأصيلة، وانتصار للأخوة الفلسطينيين المظلومين وللعروبة البيضاء. وهذا رأي ينفي أحوالاً ووقائع كثيرة ليس أقلها شأناً اندماج الهوية الذاتية والأصيلة المفترضة، العثمانية الإسلامية، أو العروبية الدموية والإمبراطورية، في نظم سياسية واجتماعية و»ثقافية» عقيمة وقاهرة تفترض معاصرة عوالم ودوائر وعلاقات (دولاً ومواصلات وعلوماً وإنتاجاً وسلعاً وتوزيعاً وأسواقاً..) لم تعد قائمة منذ زمن «سحيق«. واندماج الهويات أي الهوية الواحدة الأصلية في نظم اجتماع وسياسة سلطانية، هاصرة وخاوية لم يبق شأناً عارضاً، وهو ليس شأناً شاذاً ولا خصوصياً. إلا أن ما جعله حاجزاً تاريخياً صاداً ومدمراً، ومقبرة إرادات، هو رفض الجمهور، جماعات ونخباً، فك الهويات من النظم السلطانية ومراتبها ومثالات توحيدها السياسية والاجتماعية القاصمة، أولاً، ثم استغراق الجمهور في حمل الهويات على هوام صوفي وسحري يغشى الجماعات ويحلها، كلاً وفرداً فرداً، في أجسام مرصوصة وملكية تداوي «مرض« الحياة وتدفع الموت بالموت. ورفض فك الهويات من النظم السلطانية والاستغراق في هوامها الصوفي والسحري يمحوان إمكان أو جواز إنشاء صور مركبة وربما مؤتلفة أو جامعة عن تواريخنا ولتواريخنا. فتتسع بعض هذه الصور لاختبار اللبنانيين النير السوري الأسدي، ولاستعادة العقود السود والمريرة على صورة قريبة من تلك التي خبرها لبنانيون كثر: إذلالاً وتذريراً وتمويهاً وكذباً وفظاظة وسرقة وإفقاراً وإرهاباً وشراء ويأساً واحتقاراً للنفس. وهذا كله تحت نظر محتل غاصب مزهو ومتشفٍ وخائف.

وأنا لم أثقل على سائق السيارة المستعجل، مثلي، بمثل هذه الآراء. ولا وسعني، والسيارة دخلت كورنيش قريطم وخلفت الصنوبرة إلى يمينها، تعقب الآراء. ولكن الشعور بالخسارة على جهتيها، السورية واللبنانية، جراء تلخيص السائق الصورة الفوتوغرافية على النحو الذي لخصها عليه، وخزني وخزاً حاداً وأوجعني، وطعن طعناً جارحاً في تذكري الثلاثين سنة «السورية»، وفي فهمي لها ولنفسي في أثنائها وتليتها، إلى اليوم.

ولم يغفل صاحبي، الكريه إذ ذاك كراهة لا تطاق، عن وقع قولته عليّ، وربما عن فظاعتها وهولها، وهو على يقين ثابت وقوي بصدقها. فأنا حاولت الرد بالقول إن هذا الدمار لا يقوى على إلحاقه إلا من لا يحصر ثأره بالإرهابيين، ويشمل به «الشعب السوري». ولا شك في أن محادثي لاحظ ارتباك جوابي، وضعف مناسبته الحال، و»دفاعيته». فانتقل إلى مرحلة ثانية وتالية من القول تقوم بتعليل المرحلة الأولى: «هني بيعرفو اللي عم يقولو إنن عم يقاتلو الأسد شو بيصير إذا راح الأسد؟...».

ـ «أكثر مما صار؟ مش هوي اللي عمل اللي عملو؟».

ـ «إنتو ما بتعرفو المجرمين شو بدن يعملو... بلشو بسوريا، وبس يخلصو من سوريا مكملين ع هون، ع لبنين، واللي مفكر حالو زامط غلطان...».

بدأ بإخراجي من المخاطَبين المتهمين بمشايعة «الإرهابيي« و»المجرمين»، ونسبني إلى أصحاب مقالة، «اللي عم يقولو». وصاحب الإخراج بعضُ اللين في القول، وميل إلى التعليم والشرح، وتعليل بالجهل وبالغفلة. وزاد التصاقه بالمقود، وفتر تعقبه الرصيف من غير أن ينقطع، وخيّم ما يشبه نذر ضجر على وجهه وجلوسه.

ـ «بتعرف فتح الإسلام؟ كيف فبركوهن وكيف فلتوهن ع طرابلس وع مخيم نهر البارد؟ هيك عم يعملو بسو...».

ـ «هول مش عِبرا. إنتو ما بتعرفو، أني بِعرف، إنن بس يخلصو من سوريا، وبعدما خلصو من العراق واليمن، جايين لهون، تينـ.... نسوانّا ويدبحو رجالنا وولادنا ويحرقو بيوتنا...».

ـ «وين شايف إنن قادرين... هلي عملو بالضاحية والسفارة...».

ـ «معو حق حزب الله يآتل بسوريا، ولولا إنو قتلن هونيك كانوا نسوان الكل نتا.... إنتو ما بتعرفو، مبلشين بالعراق وبعدين على سوريا، وبس يخلصو جايي الدور هون على نسوانّا...».

ينبغي أن أقر بأنني لم أنتبه يوماً إلى مسألة «نسوانّا» هذه، وعلى النحو الذي يرعب السائق. وعندما توالت السيارات المفخخة في بير العبد والرويس والحي «الإيراني» وحارة حريك وغيرها، برزت مسألة «حياتنا» أو «دمنا»، والخوف مما يتهددهما. وها هو الرجل العادي يمحض بشار الأسد و»الحزب»، على ما يقولون من غير حاجة إلى الإيضاح، الحق في «الدمار الشامل» والماحق بذريعة طوفان وشيك يودي بالنساء وبحيائهن. وهو لا ينكر، شأن علمانِّي أو ملحد كافر، على «الانتحاريي» و»المجرمين» الجهاديين معاملتهم النساء، وفرضهم عليهن الحجاب أو البرقع، وإعمالهم في قصاصهن الحدود أو الجلد والرجم والقطع والتعذيب. فهذا مما يفعله أصحابه حيث هم الحكام والأسياد. وهو، الحليق الوجه ولابس الثياب الملونة والفاتحة والطلق اللسان في التسمية بأسماء مباشرة و»زفرة»، لا يبدو متمسكاً بـ»خط« بعض أصحابه الواجمين والمتقبضين وغائري العينين والمنجذبين إلى أخبار وتعليقات إذاعة النور أو إلى الأدعية والمجالس المسجلة. وهو رغم الفرق بين تماسكه وتوازنه، وهو يقول ما يقوله، وبين الهول المادي والمعنوي الذي ينم به قوله ويلهج به وكأنه حكاية الطوفان الجديد، فهو لم يبدُ ممثلاً أو مصطنعاً المشاعر والانفعالات التي يوحي بها قوله.

وهو لم يحتج بالإرهاب السياسي والديني، على معنى الفرض بالقوة والإرغام أو على معنى إيذاء الناس الآمنين أو المدنيين؛ ولم يحتج علناً بحرب المذاهب. وهو ربما حسبني من خارج المذهبين ومن خارج «الدين كله»؛ ولم يلوح بفظاعة الحرب وبآثارها العاصفة والمزلزلة في الناس وحياتهم وسكنهم. فقصد بقوله المتدفق، والمنطلق بقوة ذاتية مصدرها صوره وأخيلته وفجاجة ألفاظه، ثغرة في منطق محاوره أو مساجله لا علاج لهما. فهو أدخل المطارحة، والقول مثله، في لجة متلاطمة أشبه بغزوات المغول والتتار. وهذه أقوى وقعاً، وأفظع فعلاً من الغازات السامة وغارات النابالم وغيرها من الأسلحة البعيدة والعمومية. فللسبي وللقتل المتعمد بسلاح جارح يسفح دم القتيل، وينتظر الإجهاز عليه، ويُشهده على الاستيلاء على منزله ونسائه وأولاده، وينتزع منه قيامه من بيته ونسله مقام المصدر والرأس. لهذه في نفوس «أهلنا»، وفي رواياتهم وأخبارهم، أصداء لا يقاس هجومها العاصف بصور تتناول الشعب والدولة والجماعات عموماً. فانتهاك «نسوانّا» يغشّي على البصائر والصدور والأفهام، ويصيب الواحد، وهو ابن رجل وامرأة، في صلب كيانه وتعريفه وهويته، أي في لحمه ودمه وعظمه ومنيه ونسبه. فلا تفريق بين الواحد الفرد وبين جماعته، أو بينه وبين معايير دخوله في جماعته واستواء الجماعة واحدة ومتماسكة تعرّف آحادها بروابطهم، وتعرّف دنياهم بهم.

وحين بلغ صاحبي هذا الموضع من احتجاجه، وكنا وصلنا المنعطف الذي يلي سور الكوليج بروتستانت وبريد شوران ومنه نستقبل مطعم نصر الذي توالت الأسماء عليه ومقصدي، جردني من «حججي» كلها. مرت بخاطري سريعاً مقارنة بين «معالجة» بشار الأسد أزمة نظامه ومعالجة النظام الإيراني أزمته في 2009، ونويت استعمالها في العيب على الأول. ولكنني استبعدتها، فهي طويلة، والوقت يدهم، وهي مراوغة. وقوله في النساء، وفي علمه وجهل الجاهلين وأنا منهم، جرد المقارنة من أي قوة كيانية أو دموية نافذة.

ـ «هيئتك كتير بتعرف... أنا بعرف أنا بعرف وإنتو ما بتعرفو، وشو الفايدي من يللي بتعرفو؟ عم بتقول إنو الجماعة خلّصو من اليمن والعراق، وجايين من سوريا لهون...».

قلتها كما قال هو ما قاله في نسائه، جملة واحدة متصلة، وأنا أعلمه أنني «نازل هون»، وهو اضطرته الإشارة الحمراء إلى الوقوف في صف السيارات الصادعة بأمر الإشارة. وشددت اللسان المعدني (الستانليس) الفضي اللصيق بالمتكأ الجلدي، إليّ، ففتحت الباب، وتركت مقعدي الدافئ، وأنا أتم تصغيري بمعرفته ومعرفة أصحابه، وضعف جدواها. وأغلقت الباب ورائي من غير صفقه. واستدرت ملتمساً طريقاً إلى الرصيف في مقابلتي. وكانت السيارات تتحفز لانتقال ضوء الإشارة إلى الأخضر. فسمعت الرجل يقول وهو يقلع: «ما تحلمو برئيس، لا اليوم ولا بكرا».

ليست هناك تعليقات: