السبت، 16 أغسطس 2014

القضاء المصري يقاضي مغتصبي نساء في ميدان التحرير: تقديم القانون على الحق يبطل الذوات والأفراد والحوادث

المستقبل، 17/8/2014







في الصورة الشمسية الملونة التي تتوسط مقالة صحيفة «الاخبار»، اليومية المصرية (26 يونيو/حزيران 2014)، في محاكمة «12 ذئباً بشرياً من المتهمين بهتك عرض السيدات والفتيات بميدان التحرير» القاهري، في 2 و8 حزيران من الشهر نفسه، وقبلها في 25 كانون الثاني (يناير) 2013، في الاحتفال بالذكرى الثانية «للثورة»- يرى القارئ 3 شبان يرفعون اليد اليمنى الى وجوههم، ويغطون الوجه باليد، ويديرون الرأس الى اليسار، وهو الجهة المقابلة لعدسة التصوير. ويتوسط الرجلين البالغين فتى يلبس، على خلاف صاحبيه، قميصاً قطنية بيضاء، قصيرة الكمين ومن غير ياقة، ويُدِل بقصة شعر دارجة: تتوسط الرأس لمة مجتمعة ومرفوعة بينما تكتفي أطرافه بشعر غير كث ولا «عبي».

والرجل القريب الى العدسة يلبس قميصاً طويلة الكمين، حرص على ثنيهما قبيل الكوعين، فبدت ذراعه عارية. وهو كذلك قص شعره قصة حديثة، على مثال «المارينز»: فحلق فوديه والجزء الاسفل من الرأس فوق الرقبة، عشية جلسة المحاكمة. ويتخلل رجال الامن وحرس السجن الثلاثة. فيتقدم الثلاثة حارس في زي قاتم يبدو انه يفتح القفل. ويتوسطهم ثان، من الامن المركزي، يلقي ذراعه على كتف الرجل ذي القميص المثنية الكمين. ويتأخر ثالث، من الامن المركزي، يسوق اثنين من المتهمين، الفتى والشاب الثالث الذي لا يظهر منه غير رأسه ويده التي تحجب وجهه. والستة يستقبلون بوجوههم وصدورهم الحاجز المعدني المخرَّم الذي يفصل قاعة المحكمة عن قفص المتهمين.
وقبل أن تدعو هيئة محكمة جنايات القاهرة، وهي من 4 قضاة، ممثلي النيابة العامة الى قراءة ما يسميه المصريون أمر الإحالة، وهو عريضة الاتهام أو تقريره في مصطلحنا اللبناني، أرادت إثبات حضورهم أو التحقيق في هوياتهم. فأداروا ظهورهم الى القوس وقضاته، والى الجمهور والمصورين، وحاولوا حجب وجوههم بأيديهم. وقالوا أنهم لا يريدون تصويرهم، وإثبات هوياتهم وحضورهم في صور شمسية تعرفهم بسيمائهم وليس بأسمائهم وأعمارهم ومهنهم ومحال إقامتهم وحسب.

وإدارة الظهر الى هيئة القضاء سبق إليها قادة الاخوانيين المصريين، في غضون السنة المنصرمة على خلعهم عن «عروش» مصر التي استووا عليها ولاة لا قيد على بيعتهم، على ما قال يوسف القرضاوي في اصحابه ومشايعي فقهه، في حزيران 2013. ولكن ظهور القادة الاخوانيين كانت قرينة على ظهار «شرعي»: فهم أوكلوا الى ظهورهم القول الى هيئة القضاء المصرية أن وجوه القضاة حرام عليهم وعلى وجوههم حرمة محارمهم. وهذا تمهيد للطلاق والانفصال إذا لم يطرأ ما يصلح ذات البين، وشروع في التخلي عن الكلام والمخاطبة وحمل هذين على تعسف محض، وعلى منطق قوة، لا سبيل معهما الى الاحتجاج. وهو جوهر القضاء والمقاضاة. فالمواجهة، أو الوجه الى الوجه، تستقبل، ولو على مضض وتحفز، العبارة التي ينم بها المتقاضي أو المخاصم ومقاله.
وأما الظَّهر، أو القفا، فلا «يقول» إلا انقطاع الكلام واستحالته، وإرادةَ من يولي ظهره العدو الاحتكام الى الانكار وحده. وبعض طرق التقاضي، مثل مرافعات القطيعة، يشكك في مشروعية هيئة القضاء، وفي القوانين التي تصدر عنها، وتتلفظ بأحكامها في ضوئها وبالرجوع إليها. فيُقال في محكمة تقاضي احد قدماء النازيين المتخفين انها من ذرية استعمارية ليست أقل توحشاً وبربرية من التوحش والبربرية النازيين. ويقال في قاضي التحقيق الذي تولى التمهيد لانشاء المحكمة الخاصة بلبنان، في لاهاي، ميليس، انه ابن يهودية او زوج يهودية، وأنه «عميل» سياسات تناهض سوريا «الاسد» والمقاومة والاسلام الخ.
وانكار المتهمين بالتحرش بضحاياهن وتعذيبهن واغتصابهن سلك طريق القول بعد الفراغ من قراءة النيابة العامة أمر الإحالة. وهو انكارٌ جملةً أو بالجملة: «ولا عملت إي حاجة، وما ارتكبتش يا بيه ولم ننزل الميدان للاحتفال» بفوز عبد الفتاح السيسي برئاسة الجمهورية، ولا بذكرى 25 (يونيو) الثانية، «ظلم يا باشا». وهذا غداة 62 سنة على إلغاء «ثورة يوليو» الألقاب. وفي رواية وقائع المحاكمة، وأمرُ الإحالة فاتحتها الاجرائية والعملية، لم ترد لفظة «اغتصاب»، على خلاف الملخص الذي تقدم للتو. واللفظة الاصطلاحية التي تنوب عن اسم الفعل الصريح والفج هذا هي «هتك العرض». وإذا أمعنت النيابة العامة (الاتهامية) في التفصيل والتدقيق قالت في المغتصبين المتحرشين انهم «جردوهن (أي جردوا النساء ضحاياهن) من ملابسهن وأحدثوا إصابات في أجسادهن من جراء الاعتداء عليهن وهتك عرضهن». ولا يشذ الخبر الصحافي عن التحفظ. وهو يماشيه ويلتزم نهجه في الكلام على الحادثة وتقيده بما يحسبه ربما مبنى قانونياً أو قضائياً وحقوقياً (فقهياً)، موضوعياً، للقول والعبارة. وإذا تمادى التقرير الجنائي في التخصيص، وتخلى عن المصطلح المتعارَف والانشائي مثل «هتك العرض» أو «استباحته»، كتب ان الجناة «انقضوا على (المجني عليهن) وطرحوهن أرضاً وجردوهن من ملابسهن عنوة كاشفين عوراتهن وتداعوا على موطن عفتهن غير عابئين بتوسلاتهن واستغاثتهن، وأبرحوهن تعذيباً تاركين بجسدهن الاصابات الواردة بتقرير الطبيب الشرعي».
والالفاظ الاصطلاحية والاجتماعية المتوارثة التي يرددها التقرير القضائي، ولا يحيد التقرير الصحافي عن جادتها، إنما تتناول موضوعها على نحو مخصوص. فالقول أن مجامعة عصابة من الرجال، قد لا يعرف واحدهم الآخرين من قبل، غصباً وبالقوة القاهرة امرأة لم تسبق لهم بها معرفة ولا سبقت لها معرفة بهم، في الطريق «العام»، وعلى مرأى من عابري سبيل ومحتشدين اتفق مرورهم بالمكان وأشهدوا على الواقعة الخاصة أو الفعلة- القول انها «هتك عرض» و»تداعٍ على موطن عفة» منحاز انحيازاً لا يحتمل الى ما تسميه السينما المصرية «المجتمع». فالعرض تشترك فيه المغتصبة مع الذين يحملون اغتصابها، ولم يمسهم هم أذى من أي نوع أو صنف، على انتهاكهم. ويصدق هذا في أحوال ليس فيها اغتصاب ولا قسر أو قهر: إذا أحبت المرأة صديقاً أو صاحباً، وإذا تزوجت بمن لا يرضاه أهلها، وإذا أظهرت في حفل زواجها ميلاً «فاضحاً» الى زوجها الذي عقدَ عليها للتو عن يد المأذون (وقتل الاخ أخته في حفل زواجها ببعض نواحي الصعيد، على ما روت الصحف المصرية غير مرة، قد يكون فعل آحاد ولكنه معروف). وهو شأن «العفة»، وهي أوسع معنى وحملاً. فمستودع العرض أو الشرف ليس النساء وحدهن، وقد لا يكون النساء أولاً بل هو الاهل ومن يدين الاهل بأحكامهم ومعاييرهم المشتركة.
والتحقيق، على هذا، يسمي الحوادث والوقائع والمشاعر بأسماء «اجتماعية»، ويغفل أسماءها النسائية، أو هو لا يسأل عنها ولا يتحرى حقيقتها. فليس في الإحالات عناصر أو أوصاف ترد الى المغتصبات وشهاداتهن وأقوالهن وأحوالهن. وإذا عرضت الإحالات الى «خوف» المفجوعات بالعدوان الصارخ عليهن، أو الى «التأثير في إرادتهن» و»إلقاء الرعب في نفسهن»، التزمت الجانب الآلي (المادي) والخارجي من الافعال. وحرصت الإحالات، ما وسعها، على إشهاد تقرير الطبيب الشرعي على صحة مقالتها. وتقرير الطبيب الشرعي، في المواضع التي يستشهده التحقيق الجنائي عليها، يقرر «أثر الجروح» في «جسدهن» (لماذا صيغة الواحد؟)، أو يصف «الإصابات» التي ألحقها المعتدون في النساء اللائي اغتصبوهن و»عذبوهن بدنياً».
و»الآثار» و»الاصابات» و»الجروح» التي يستشعرها من تقتحم الاصابع والايادي والذكور والأسنان والشفاه والألسنة، وربما الآلات الحجرية والمعدنية والزجاجية والبلاستيكية، منه (منها) الفم والوجه والشعر والرقبة والابطين والصدر والبطن والدبر والفرج والفخذين والركبتين، هذه (الآثار...) ما حكمها الطبي الشرعي؟ وهل اقتصر الامر، وهو على هذا كثير وفظيع، على التخويف والتأثير في الارادة وإلقاء الرعب في النفس وتكدير الأمن والمساس بالحرية الشخصية؟ ويبلغ الانحراف المهني والحرفي من أصحاب التقرير مبلغ الكتابة: «واحتجزوا وآخرون مجهولون (كذا) المجني عليهن في غير الأحوال المصرح بها قانوناً.». ولا تسوغ سياقة معقولة ولا مفهومة استثناء الفعلة الجرمية الموصوفة من «الأحوال المصرح بها قانوناً» والتنبيه إليه. فيذهب الظن بالواحد الى الأحوال التي تقدم ذكر بعضها، ويصفها الأهل بالانتهاك وقد تحمل على إرادة النساء أو رغبتهن ومبادرتهن. فإذا أطرحت إرادات النساء، ورغباتهن، ومشاعرهن وأحاسيسهن وآراؤهن في ما يُفعل فيهن، لم يبق إلا العرض والعفة، وهما من متعلقات الاهل، والقضاء الاهلي، أولاً والارجح أخيراً.
وليس في التقرير، على نحو تلخيصه في الصحيفة، صدى مباشر ومسموع لآلام النساء وعذاباتهن وأوجاعهن. فلا يحضر التقريرَ قولُهن في مصابهن وجلجلتهن. ويروي مراسل «الاخبار» المصرية أن «إحدى الفتاتين المجني عليهما... قامت (كذا) بالبكاء الشديد» في أثناء قراءة قرار الإحالة. لماذا يعصى الصحافيَّ القولُ المباشر: بكت إحدى الفتاتين، أو انتحبت؟ أو انفجرت باكية؟ وهي المرة الوحيدة التي تخرج فيها امرأة مغتصبة من «التقارير»: التقرير الجنائي والتقرير الطبي والتقرير الصحافي، ويضج بكاؤها في الجمع والسمع، ويجهر ما تتكتم عليه الاعراض والعفة، ويتكتم عليه الاهل و»المجتمع» من قبل ومن بعد. وقد تكون هذه المرة فريدة: فالقاضي قضى باستكمال المحاكمة في «جلسة سرية بغرفة المداولة». فلن يبلغ بكاء امرأة مغتصبة ومكرهة آذان الشهود أو آذان القراء، بعد.
وهذا كله من باب تقديم الموضوعي على الذاتي- على ما كان يقال في لغة فائتة، وعلى ما يُفكر ويُحس اليوم في لغة متخثرة، أو عظمية إدارية، أو تترجح بين الوجهين والمثالين الجمعي على الفردي، والاجتماعي أو المجتمعي على النفسي، و»الحزبي» على العفوي والفوضوي. ولا يقتصر التقديم بهذه الحال على ترتيب، بل تتعدى الترتيب (وهذا يقضي باحتفاظ الصفات الدنيا بحقيقة لا تجاري قوة الحقيقة «الاعلى» ولكنها لا تعدم بعض القوة) الى نفي حقيقة المرتبة التالية أو الاخرى. فيقضى في المسألة كلها، على رغم تعقيدها وكثرة وجوهها وخلطها الموضوعي بالذاتي والجمعي بالفردي، إلخ.، في ميزان واحد، وعلى سلم معايير وحيد ولا شريك له. وفي مرآة هذا الميزان لا يبدو الحق (والقانون، على ما ينبغي الاستدراك سريعاً في العربية) جامعاً ومانعاً وقاطعاً، وحسب. فإلى الجمع والمنع والقطع يبدو الحق مقتصداً، وحائلاً بين الذات والفرد والنفس وبين الاسترسال في لغوها الذاتي والفردي والنفسي بذريعة الاحاطة بوجوه الواقعة كلها.
وتقديم الموضوعي، الطب الشرعي وتقاريره، على الذاتي، آلام المرأة المغتصبة و»أحوالها»، يتستر على تقديم القانون، وهو شأن الدولة (الغربية: العقلانية والادارية البيروقراطية والقانونية)، على الحق أو الحقوق، وهي شأن المواطنين الافراد والمحكومين ومجتمعهم. وقد يؤدي تقديم القانون على الحقوق، على مثال التحاكم الى القضاء المصري في قضايا الاغتصاب الاخيرة، الى نفي الحقوق باسم القانون، والى الغاء «الذوات» وحقها في العبارة والعلانية والتطهر المسرحي، وفي تثقيل التهمة والدعوى على خلاف العذر المحل أو المخفف، وذلك باسم حقوق الدولة و»المجتمع» والاخلاق وأوامر الشريعة ونواهيها، وتحصيل هذه وتلك. ومرافعة القطيعة هي من صنف المذهب القاضي بتقديم القانون على الحقوق. و»قانونها» أو مرجعها هول ليل التاريخ الأليل، وعتمته الحالكة التي يسوي سوادها العكر بين البقرات، ورمادها الداكن بين الفأرات، على قول فيلسوف التاريخ الالماني.
وطريق هذا التقديم هي طريق قوامية «الدولة»، وكيل الامة (أو الشعب) ومفوضها بتفويض ناجز لا تخصيص او تجزيء فيه ولا عودة عنه، المطلقة على «رعيتها» أو شعبها وجماعاتها وأفرادها وهيئاتها وعمرانها ومعاشها... ولا سبيل الى مقاضاة «دولة» هذا شأنها، أو حاكم يتربع في سدتها بعد استفتاء (أو «انتخاب») محضه ثقة أو بيعة 90 في المئة ساحقة من «المواطنين» المقترعين والناخبين. ومثل هذه الدولة لا غير لها من داخلها «الصديق» (وخارجها عدو مميت)، ولا مخالف أو متحفظ أو معارض أو مشاق أو صاحب حق يسعه التعويل على دوام وطنيته أو مواطنيته، وحريته وبقائه على قيد الحياة وسلامته الجسدية، إذا هو شهر غيريته أو مخالفته أو تحفظه... وهذا في صيغة الفرد فبالأحرى في صيغة الجميع.
ولا يبدو تظاهر تقديم القانون على الحقوق في قضية الاغتصاب المصرية عارضاً ثانوياً أو اتفاقاً ومصادفة. فالتقديم هذا يشارك بعض أقوى وأعم المضمرات والأحاسيس والاحكام الجمعية والفردية العربية والدينية، قسوتها وفظاظتها الحربيتين. فـ»المرأة» (أي النساء الكثيرات) تتصور معينَ خوفٍ يحمل على الهلع، ومصدر فوضى تعصى السيطرة والقيد والوصاية والعقل- الحسن التسمية في معرض القول العربي. وحين يقاضي القاضي، المصري المسلم، مغتصبيهن فهو لا «يثأر» لهن، بعد أن استغنى بشهادات شرعية في الجروح والاصابات والكدمات عن شهاداتهن، بل يثأر «للمجتمع» وهيبته ومعتقداته في العفة والعرض، ويقتص من الاخلال بالأمن والادلال بالعيب، على اسم قانون مصري يعود الى نحو عقد من السنين، وسبي السبايا والاماء واقتسامهن غنيمة حلالاً خارج «ميدان» القتال وفي ميدان الاحتفال


في الصورة الشمسية الملونة التي تتوسط مقالة صحيفة «الاخبار»، اليومية المصرية (26 يونيو/حزيران 2014)، في محاكمة «12 ذئباً بشرياً من المتهمين بهتك عرض السيدات والفتيات بميدان التحرير» القاهري، في 2 و8 حزيران من الشهر نفسه، وقبلها في 25 كانون الثاني (يناير) 2013، في الاحتفال بالذكرى الثانية «للثورة»- يرى القارئ 3 شبان يرفعون اليد اليمنى الى وجوههم، ويغطون الوجه باليد، ويديرون الرأس الى اليسار، وهو الجهة المقابلة لعدسة التصوير. ويتوسط الرجلين البالغين فتى يلبس، على خلاف صاحبيه، قميصاً قطنية بيضاء، قصيرة الكمين ومن غير ياقة، ويُدِل بقصة شعر دارجة: تتوسط الرأس لمة مجتمعة ومرفوعة بينما تكتفي أطرافه بشعر غير كث ولا «عبي». 

ليست هناك تعليقات: