السبت، 23 أغسطس 2014

حين دقت مسز عايدة بوابةَ الأهل وردت الولد التائه إليهم...

المستقبل، 24/8/2014

  
                                                                                               
لا يذكر الولد الناشئ أو المترعرع في بعض أسر المسلمين الصيداوية، المدينة الساحلية والمختلطة، أو البنت جبيلية، الداخلية الريفية والشيعية من غير استثناء والقريبة من عين إبل المسيحية ويارون المختلطة، شأني، ابتداءً لـ"علمه" بالمسيحيين، وحضورهم عالَمه، وهو عالم أهله ودنياهم القريبة في أربعينات القرن العشرين. والحق أن تعريف أصحاب هذا العالم، وهم الأهل ودائرتهم الاقرب، بالمدن والبلدات الكبيرة، وبمواقعها وقربها من بلاد ينزلها مسيحيون أو بعدها من هذه البلاد، لا يستوفي أسباب "العلم" المبكر (أو المتأخر) كلها، ولا معظمها. فإلى قرب مساكن المسيحيين من مساكن الأهل المسلمين وجوارها القريب، وهذا القرب تشاركه سَكَنُ الجماعات الدينية المتفرقة في معظم المدن الصغيرة والقليلة السكان أو في البلدات والقرى يومذاك، أدى عامل آخر الدور البارز في التعارف والاختلاط المبكرين، هو الدراسة والتدريس.
 فالأسرتان اللتان رعتا نشأتي، أسرة أمي في صيدا وأسرة أبي في بنت جبيل، وغلبتا على حضانتها، وقامتا محل العائلة النواتية التي قوضها انفصال الوالدين السريع، هاتان الاسرتان كان التعلم والتعليم في مدرسة رسمية أو أهلية مختلطة تقليداً جارياً فيهما. فلم يقتصرا، التعلم والتعليم، على والدتي ووالدي، وهما تعارفا في دار المعلمين ببيروت (حوض الولاية) في ثلاثينات القرن الماضي، بل سبقا الى جدتي لأمي، وهي توفي عنها زوجها، التاجر المتواضع، ولما تبلغ الاربعين. وترك لها ستة أولاد، 4 بنات وولدان فتيان، ولم يترك إرثاً يعود عليها، وعلى أسرتها، بما يعيلهم. فتوسط بعض وجوه العائلة، وعلاقتهم بموظفي الانتداب الفرنسي لا تشكو الجفاء، وهي كانت تحسن القراءة والكتابة، فوسعهم تحصيل عملٍ في التدريس لقريبتهم، ومع العمل مرتبه أو راتبه الشهري والنقدي الجاري.
 وجدي لأبي كان شيخاً معمماً، درس على عمه، أخي والده ووالد زوجته من بعد. وكان عمه نجفياً شاباً، ومدرساً معروفاً. وحالت الحرب الاولى، بين حواجز ومواضع أخرى، دون سفر الشاب، جدي، الى النجف. فخلف عمه، وهذا توفي شاباً، على بقية مدرسته. فكان أن طلب معظم أولاد جدتي لأمي، خالاتي وأحد الخالين، ومعظم أولاد جدي لأبي، أعمامي وواحدة من العمتين، "العلم"، ودرسوا (ودرسن). ومعظمهم انتهى مدرساً أو معلماً وأستاذاً في مرافق الدولة التعليمية. وقلة يممت شطر التجارة وزاولتها في المهجر وراء البحار، وفي الوطن، على قول الناس الشائع يومها.
 وكان التلامذة والمعلمون، أولاداً وأهلاً، مسيحيين ومسلمين (ويهوداً بصيدا)، يختلطون. فيحضرون المدرسة معاً، ويتداولون الرأي في شؤون التدريس. وبعضهم كانوا يتزاورون، فلا تبقى المعرفة والمودة والإلفة حكراً على العاملين معاً أو على المتتلمذين، وتتخطى هؤلاء وأولئك الى الاهل والاقارب والجيران. ولم يكن ليفوت الجيران الفرق الظاهر، في القيافة والملبس، بين الزوار وبين من يزورون. ويعود تذكري الاول زيارة أصحاب أو اصدقاء مسيحيين اهلي بمحلة المصلبية، بصيدا القديمة المملوكية، الى الوقت المدرسي هذا. فأذكر أنني في وسط جمع من الاهل، هم أمي وجدتي وخالاتي وخالي، على الارجح، والحاجة عائشة – مالكة الدار التي كان أهلي يؤجرون مسكنهم منها، ويختلفون الى اليوم في شهرتها العائلية، فيذهب بعضهم الى انها من آل العيتاني، وأذكر أنها من آل كشلي، وهي عائلة الحاج صاحب الدكان في أسفل المبنى-. وربما كان أبي بين المجتمعين.
 وفي الجمع العائلي القريب رجل وامرأة على حدة من الاهل. والمرأة طويلة، عنقها الطويل والأملس والطري يزيدها طولاً ووجهها مبتسم من غير انقطاع. وتكشف ضحكاتها عن صفي أسنان بيضاء وقوية الالتماع، تحوطهما شفتان حمراوان وممتلئتان، ولا ريب في عودة حمرتهما الى قلم حمرة. ويجلل الرأس شعر قصير غريب يميل كذلك الى الحمرة. وتلبس المرأة الشابة، البيضاء والجميلة والضاحكة، تاييراً، من سترة وتنورة زرقاوتين. والى جنبها رجل يبدو أقل فتوة وضحكاً وانفعالاً منها. فهي تتوسط الجمع، والاهل مشدودون اليها والى روايتها، ويعلقون على كلامها. ويتردد في التعليقات اسمها، عايدة، أو مسز عايدة، أو نسبتها الى شهرة زوجها أو شهرتها هي، مسز قرعوني. وموضوع الكلام والرواية والانفعال هو أنا، العائد من تيه خارج المدرسة القريبة، وكنت "أدرس" في حضانتها الاولى، قادنا الى السكة الحديد في ضاحية صيدا، بين المدينة وبين مدرسة الاميركان الانجيلية، بجوار ما صار مخيم عين الحلوة في أعقاب سنتين ربما من رحلة "ضياعي"، على ما سمى الأهل الرحلة المرتجلة الى موضع لا علم لنا به ولا داعي أذكره في وسعي أن أسميه دعانا إليه.
 وحملني ربطُ أجزاء المشاهد بعضها الى بعض ووصلُها، وهذا ما رواه الاهل من بعد علي مرات كثيرة، حملني على خبر متماسك هو اننا "ضعنا"، زميلي وأنا، ولم يدر الأهل كيف يقتصون أثرنا، ولا أين. وكان الوقت بعد الظهر، وقريباً من الغروب، والفصل ربيعاً أو آخر الشتاء. وقضوا ساعات مرهقة من القلق والتخمين في أبشع التصورات والخيالات. وقبيل المساء، دق بوابة الدار زائران، السيدة قرعوني ، إذا صح أن هذا اسمها، وزوجها، ومعهما ولد البيت الضائع. وروت السيدة على الجمهرة الصغيرة انها وزوجها كانا يمران بجوار خط السكة، عائدين من زيارة أهل في المية ومية القريبة، ورأيا الولدين، فقالت عايدة أن احد الولدين يشبه ابن أخت توفيقة، خالتي وزميلة دراسة السيدة أو تدريسها. وأدركت أن الولدين هاربان أو تائهان. فما كان منها ومن زوجها إلا حمل الولدين في سيارتهما، أو في حنطور (عربة يجرها حصانان) كان بعض أهل صيدا يستعملونه في انتقالهم القريب.
 وهذا الجزء من الخبر لم يبق شيء منه في ذاكرتي. فأنا أذكر مشيي وصديقي بجوار السكة الحديد وعلى عارضات الخط، ووقوفنا على مصطبة محطة تشرف على السكة، وكلامنا الى رجلين سوداوين ينبغي أنهما كانا جنديين فرنسيين. وأذكر بعد هذا الجمع الذي استقبلنا، وأحاط بنا، والمرأة الطويلة والجميلة في تاييرها الازرق الانيق وحديثها ووقع حديثها علينا كلنا. وأما متى تركنا المدرسة، وكيف نوينا الرواح في نزهة، وما أدرانا من أين الذهاب، ومراحل الرحلة والتماسها مرحلة بعد أخرى، فلا دليل إليها، أي الى خاتمتها، إلا رواية السيدة، وروايات الرواية على ألسنة الاهل من بعد.
 وأردد اليوم أصداء الحادثة القديمة، وألمّ شتاتها، وأترك تحقيقها (ففي وسعي مكالمة بعض من حضروا الحادثة، ويحفظون الأسماء وربما الأقوال حفظاً دقيقاً، ولكنني لا أفعل وهذا ليس موضوعي ولا مطلبي)، لأن ما تفتقت عنه، أو ما حفظها وتماسكت به ولم تكف عن ترديده، هو جمعها علامات فارقة ومتضافرة عرَّفت في الحال، ثم من بَعدٍ متطاول ومتصل، اسماً (مسيحياً) ومعنى. فالمرأة الشابة تتقدم الزوجين، وترجح كفتها، ظهوراً وعبارة وتألقاً، في الميزان. وهذا علامة أو إشارة لم يخطئها انتباهي، وأنا اليف مجتمع نسائي: الجد توفي، ورأس الأسرة جدة عاملة وبكر بناتها العاملة كذلك، وكبير الخالين في المهجر وصغيرهما تلميذ خجول يدرس... ولكن ألق السيدة قرعوني من صنف آخر، ولا يمت بشبه الى ألوان نساء أهلي القاتمة والداكنة. ولا يقيد عبارة الوجه وقسماته، وفيها الشعر القصير وربما المصبوغ، القيد الذي يحول بين وجوه أهل خؤولتي وبين العبارة المسترسلة والمتدافعة والصاخبة. ولا أذكر أنني رأيت تاييراً على امرأة قبل تايير السيدة عايدة الازرق، "السماوي" الزرقة. ولم تقتصر أناقته على لونه وقماشته، وبساطة رسمه وقَصَّته. فقبة السترة تحيط بالرقبة برفق، ولا تستعجل ستر أعلى الصدر العالي، فتتصل الرقبة الطويلة بفسحة الصدر قبل أن تشد السترة على النهدين. والزوجان، السيدة قرعوني والسيد قرعوني، يجولان في حنطور، على الارجح، أو في سيارة، ويخرجان من المدينة القديمة الى ظواهرها، والى زياة أهل. وهما يخالطان الأهل من طريق المدرسة.
 ومذ ذاك، لم تفك المصادفات المتواترة العقد الذي ربط بين الاسم والمعنى "المسيحيين"، وهما جلتهما المرأة الصيداوية الجميلة والانيقة في حلة استهلال بهية، وبين التعليم على وجوهه الكثيرة. فغداة "الضياع" القصير انتقلت من مدرسة المقاصد الى "مدرسة الاميركان"، بضاحية صيدا الشرقية (وهي "شرق صيدا"، على ما سمت الصحافة ووسائل الاعلام سبحة الضواحي والقرى والبلدات التي هاجمها مقاتلون مسلمون شجعان، وحرقوا بعض بيوتها، وهجروا معظم أهاليها، واطفأوا أنوارها، غداة جلاء القوات الاسرائيلية عن صيدا المحتلة في شتاء 1985). وفي "مدرسة الاميركان"، الانجيلية والبروتستانتية، كان ابتداء النهار المدرسي اجتماعاً غريباً في قاعة واسعة، ربما كانت هنغاراً من مخلفات القوات البريطانية، صفت لصق جدارها العاري والمنحني مقاعد واطئة ومستطيلة من خشب. وكان التلامذة يدعون الى الجلوس والسكوت. وينهض رجل ثلاثيني أو اربعيني، شاحب الوجه وصقيله، عيناه حزينتان، يلبس بذلة رمادية لم يبدلها بغيرها طيلة سنتين قضيتهما في المدرسة، ياقتها عند مقدم الرقبة متصلة، على ما كان قساوسة البروتستانت يلبسون. ويتلو حكاية من كتاب سمعت أنه "الانجيل". ويدعو الحضور، بعد انتهائه من التلاوة، الى تأييد الحكاية وعبرتها برواية حوادث شهدوها، أو سمعوا بها، تخلص الى العبرة نفسها.
 وكانت المدرسة مختلطة، وكثير من تلامذتها هم من أولاد أقارب سبق أن رأيتهم في زيارات الاهل. وبعض المعلمات (من غير المعلمين؟ لا يعقل) كن من صديقات خالاتي، وبعضهن يترددن الى البيت العائلي. وإذا التقينا في المدرسة، في أوقات الفرص بين الدروس أو في أثناء طعام الغداء وربما في الصفوف، كن يقبلن علينا، ويكلمننا ويمازحننا. وبقي من السنتين هاتين، الى دخول الصفوف صنف من التلامذة، وهو اقتصر على تلميذ واحد في صفي سمي بالفلسطيني- بقيت حادثة فاجعة ترددت بعض اصدائها في بيت الأهل.
 ففي صبيحة أحد الايام، بينما كان التلامذة يتوافدون على المدرسة، وعلى قسمها "العالي" الذي يقوم على رابية مستديرة تطل أبنيتها الخشبية، ومنها هنغار الصلاة، على السهل أسفل الرابية، وعلى ساقية تجري مياهها القليلة بمحاذاة الرابية- انحدرت دراجة هوائية يركبها احد التلامذة من أعلى الرابية بسرعة خاطفة، وانحرفت قليلاً عن الجسر الضيق الذي يصل الرابية بالسهل، واصطدمت بالسور الواطئ والمطل على النهير الناضب. وهوى انطوان على حجر مستديرة وكبيرة مثل حجر رحى في وسط مجرى الماء الطيني، وتكوم جسده وكأنه نائم على جنب وذراعه في قميص قصيرة الكمين تحت رأسه، وتتقدم ساقه المنحنية والعارية في البنطلون القصير ساقه الأخرى.
 ولم يقل أحد شيئاً أو كلاماً، ولم تنفجر صرخة بالبكاء أو العويل. وبدت الحادثة، وما بقي منها هو اضجاع انطوان وحيداً على صخرة عريضة في وسط مجرى نهري ربيعي وطيني، بدت واقعةً من وقائع الطبيعة التي لا يد للبشر فيها مثلَ وقوع صاعقة على شجرة كثة ومائلة في سهل فسيح، ولا شاهد على وقوعها وعلى حرقها الشجرة إلا تخوم السهل البعيدة والمغبرة. وعلى نحو قريب من هذا، خلا مشهد انطوان نائماً على سرير النهر القريبة، والمنحدر الأجرد الى شمالها وشرقها، والسروات التي تحف بيوت الرابية الخشبية، في مواضعها، وفي انتظار مريب ومديد.
 ولم يعد أحد الى الكلام في الحادثة. والوقت الذي انقضى بعدها انخلع منها، ولم تخلق أثراً فيه. ولكن حداد الاهل على انطوان، وهو أخو معلمة من معلمات المدرسة وصديقة من صديقات الخالات، وصل عالم الاهل الحميم بالاسم "المسيحي"، وتخطى دائرة الرابطة المهنية. وهذه لم تختصر يوماً علاقات الصداقة والصحبة التي جمعت الخالات الى صديقاتهن وصواحبهن، وإلى أهل الصديقات والصواحب. وإذا كان التعليم ذريعة الاختلاط والتعارف فهو سرعان ما كان يفضي الى شراكة قريبة وحارة في شؤون الحياة اليومية الخاصة. فأخت انطوان حلت ضيفة أثيرة على بيوت الاقارب. ولما مرضَت، واضطرت الى الرواح الى بيروت، كانت إحدى الخالات رفيقة سَفرها ورواحها الى عيادة الطبيب. وبتنا نحن الثلاثة، ولست أذكر لماذا كنت في الركب، ببيت أقارب هناك. وسرت في الاحاديث الخافتة، وعلى وجوه الاهل، همهمة أوحت بأن من مشاغل الساعة الملحة زواج لور (من أي ثنية من ثنايا زمن لا أذكره خرج الاسم الرقيق والخافت؟)، وأن قسطاً من المهمة تتحملها بنات العائلة الصيداوية المسلمة والطرفية. والميل من زمالة التعليم الى الصداقة الشخصية والعائلية، فإلى تشارك شاغل الزواج والتزويج وما يفترضه من قرب وعلم بخفايا المفاوضة على بنود العقد وشروطه، كان (الميل) أليفاً وجزءاً من الاختلاط الاهلي الصيداوي الذي شهدته. فأمي كانت معلمة في مدرسة البنات "الرسمية"، الحكومية بصيدا. وكانت مديرة المدرسة الصغيرة والمبتدئة معلمة مسيحية إما من اهالي صيدا أنفسهم أو من أهالي ضاحية من ضواحيها القريبة. وتقيم المديرة المكتهلة، والغائرة العينين السوداوين في محجرين واسعين ووجه ناتئ العظام، والخفيفة شعر الرأس، غير بعيد من مبنى المدرسة، وتقيم معها أمها، وأختها التي تشبهها وينم وجهها بحلاوة باسمة ومريضة وموشكة على الذواء، وأخوها العازب والبالغ منتصف العقد الرابع والموظف الملاحي البارز. وفي صالون السيدة المديرة الضيق، وعلى كنباته الفردية المختصرة والقاسية المَجْلَس، والملابسة على الدوام أغطية من قماش سميك تستبق سمرته الوسخ المتوقع، كان الملبَّس الملون والسكري الضيافةَ الغالبة والرتيبة. فتتصدر الأم المنحنية الظهر، والمجعدة الوجه، الصالون. وتجلس الأخت في ثياب النوم تحت "روب" زهري ثابت، غير بعيد من الأم، وتبتسم وتحادث امي وإحدى خالاتي، وتحاول استدراجي الى مصافحتها، وترك خدي الى قبلتها. وفي الاثناء، تروح المديرة الى مطبخ الشقة وغرفها وتجيء، وتتولى الضيافة، والكلام، أو الشطر المهم منه.
 وأفضت الزيارات الكثيرة وغير المتبادلة، فأنا لا أذكر قيام المديرة وأختها وأخيها بزيارة الى بيت أهلي، الى أسفار صيفية قصدت بعض بلدات المتن، بكفيا وضهور الشوير والشوير وبولونيا وبتغرين، في سيارة عائلة المديرة بحثاً عن زوجة للأخ البحري العازب. والأمر لم يكن خفياً، ولا الكلام فيه موارباً. فيقال حال ركوننا السيارة، وجلوس الرجل بمقعد السواق، بعد شم العطور الغائمة والقبلات والسلام وتوزيع الملبس، أن مشوارنا اليوم الى البلدة الفلانية، حيت تنتظر فلانة زيارتنا. وفي الطريق، الطويل، الى البلدة البعيدة والغامضة تدور الاحاديث المفصلة على فلانة، فتتناول أوصافها على نحو ما قيل فيها، طولاً وعرضاً ووزناً ولونَ عينين ونظرة وحاجبين وجبهة وشعراً وأنفاً وخدين وبشرة وفماً وأسناناً. ولا يغضى عن "علمها" ودراستها، وعن عملها، إذا كنت تعمل، وعائد عملها. وينتقل التناول الى أهلها، ومن يكونون حسباً ونسباً وإسماً ومذهباً. فالخاطبون كاثوليك، على ما سمعت، ومن يقصدونها روم أرثوذكس. وأهلي لا يرون عيباً في روميتها. ويأمل الثلاثة، الخاطبون، ألا تنتبه والدتهم الى الهنة الهينة. وأما المسألة التي يكثر الكلام فيها، في هذه المرة وفي المرات كلها، فهي "الدوطة"، أو بائنة العروس المزمعة، أو "المال" الذي يهبه أهل العروس الى بنتهم حين يزفونها الى بيتها الجديد وزوجها.
فيأتلف من الكلام في الاوصاف والعيوب والحسب والنسب والممتلكات والعوائد، والمعروف المشهور والمقدر على التخمين، والقبض والبسط، وما تقدم إنفاقه وبذله وما لا يزال عالقاً، (يأتلف) ميزان دقيق لا يشبه ما كنت عرفته وفهمته من زيجات "المسلمين". فزواج الرجال على جهة الأعمام وأولادهم، مداره أو مدار الكلام فيه على "الحب" الذي يكنه هؤلاء، منذ طفولتهم البعيدة، لقريباتهم. وإذا بدا افتراض الحب عسيراً في أحوال تقتضي خطوبة امرأة غريبة وبعيدة المزار (بعيد مزار أهلها أو سكنهم)، دار الكلام على علاقات المناسبة الظاهرة بين الخطيبين، وعلى استحسان واحدهما الآخر وميله إليه. وسُكت عن المهر الإسمي، وهو جزء قليل من بنود العقد المضمرة أو المعلنة. وزواج الرجال، على جهة الاخوال وقراباتهم، لا يستدعي شروطاً طويلة، إذا استثنيت زيجات المغتربين والعائدين، أو بعضهم القليل، بثروة كبيرة تجيز الزواج ببنات الاعيان، وتجيز لبنات الأعيان استدراج بعض أبناء الفروع المتواضعة اللامعين والوسيمين واليافعين الى الزواج بهن.
 والحق أنه لم يكن لهذا كله، على جهاته المتفرقة، أثر يعتد به في مشاعرنا وميولنا وأهوائنا، نحن "الابناء". واضطلاع الاهل بدور بدا قوياً في ملابسات بحث الموظف البحري عن عروس ببلاد جبل لبنان النائية، لم يتستر على اضطراب دب في علاقات الاهل "العاطفية". ولا ريب في ان اختلاط الاهل الذي أجاز أسفار الخطوبة المشتركة، ولم يحل دون مناقشة كفتي الربح والخسارة من الميزان الذي توزن به العروس العتيدة، حمل الخالات الفتيات، وهن لم يبلغن العشرين، على تحكيم هواهن في عواطفهن ومشاعرهن وميولهن. ووقع هواهن، أو هوى بعضهن على أبناء جيران مسيحيين يقيمون بجوار مختلط، وبعض الابناء يتردد الى مدارس أخواتهم وهي نفسها مدارس الخالات والقريبات.
 وأتاح سكن أحياء الضاحية القريبة والجديدة، وجوارها المرسل والمختلط، وقربها من مدارس الارساليات، وضعف تماسك الأجسام العائلية وحداثة نزولها بهذه الجهة، وهي لم يبن بها مسجد الى اليوم غداة ستة عقود على ما تقدم روايته- التعارف والتقارب وتبادل الكلام والمجالسة. وبدا الشبان والفتيان المسيحيون، في أحوالهم وأفعالهم ودراستهم وخططهم وعلاقاتهم بأهلهم، مرآة سيرَ حياة وتواريخ شخصية متحررة، على مقادير متفاوتة، من قيود الاهل والسلف على الاقامة واللباس والدراسة والسينما والاجسام والمشاعر والكلام. واستخف ذلك هوى القريبات اللواتي تعلمن في مدارس الارساليات الاميركية أو الفرنسية، وسعين في كسب معاشهن من طريق التعلم، و"افتقرن" الى مثال والدٍ نافذ الكلمة والرأي والحكم أو الى أخ يخلفه على رسوم الصدارة الابوية. وبعض القريبات أُلزمن التخلي عن هواهن، وبعضهن تخلين طوعاً. فمنهن من أقام على "عهد" مستحيل، ومنهن من طوى العهد الى آخر أقرب من رسوم الاهل.
 وعاصَرَت هذه الحوادث، وهي لم تبلغ مبلغ الانعقاد على وقائع مشهودة ومشهورة، حوادث مشهودة وصارخة. فأحد أبناء عمومة أمي، وهو دارس فلسفة شاب وابن شيخ معمم، اعتنق الايمان المسيحي، أي تنصر وشهر نصرانيته ودخل الى سلك إحدى الرهبانيات. وقدم صيدا، ومولده ونشأته فيها، وأقام مدرساً بمدرسة الإخوة المريميين (الـ"فرير ماريست") على ألا يدعو الى ايمانه الجديد. وانتقل بعدها الى بيروت، ورعى ميتماً جمع بعض أيتام المسلمين، فأثارت رعايته حفيظة بعض دار الفتوى وتهمتهم. وكان يتردد على أهله وأهلي من غير تحفظ. ورأيته الى مائدة أمي غداة فض مخيم تل الزعتر بالقوة (في آب 1976)، وقدر عدد القتلى الفلسطينيين بألف أو 1200، وشغله أمن من بقي حياً ونقله الى مخيم صبرا القريب. وأحد أعيان أسرة أمي عرف بتردده علناً، عشية كل يوم من أيام الاسبوع، الى منزل أحد ميسوري المسيحيين، حيث يمضي السهرة الى ساعات الليل الاخيرة في حمع صغير من الوجهاء وموظفي الدولة. وزوجة الرجل الميسور إحدى جميلات صيدا الذائعات الصيت. فلم يشك أولاد الحي، وأنا فيهم، في ان السيدة الجميلة هي مدار السهر وقطبه. وحين تناول الحديث، فيما تناول، غداة خمسين عاماً على وفاة القريب ورجل الاسرة المضيفة، واقعة السهر التي دامت قرابة العقد من السنين، وألمحتُ الى رأيي وصحبي فيها، جزمت خالاتي في كذب الزعم وبطلانه. فالسيدة المسيحية الجميلة لم تبرح "طاهرة". ولما مر المشيعون بنعش القريب أمام شرفة السيدة، وألقت سلامها عليه، وهي غير القريبة وليست من الاهل، كان سلام الصديقة على صديق. 

ليست هناك تعليقات: