السبت، 6 سبتمبر 2014

على هامش ملحق «نوافذ» الخاص «المشرق... مسيحيين ومسلمين» ومقالاته إخفاق علاقات الجماعتين وجه من الحط بالحداثة إلى فولكلور أجوف

المستقبل 7/9/2014

خلا «المشرق... مسيحيين ومسلمين» (المستقبل/نوافذ، 24/8/2014) من بلدين، الاردن وفلسطين، هما من المشرق، وعلاقة مسيحييها ومسلميها بعضهم ببعض هي بمنزلة القلب منهما. وخلا كذلك من الجار المصري «الكبير». وهذا ربما استبعدته دائرة الجغرافيا غير السياسية ولا الاجتماعية، وتقطيعها البلدان والمجتمعات بحد الشفرة «الاستعمارية»، ولا تقل قسوة عن العصبية القبلية أو عن العصبية الاعتقادية الحشوية. فبقي في دائرة المشرق العريضة والمضطربة 3 بلدان هي لبنان والعراق وسوريا. والبَلَدان، الاول والثالث، مسرحا ضروب وأصناف من اختبارات واو العطف (في عنوان الملحق) ومصائرها ووجوهها، لا تحصى. وكانا، قبل محنة الموصل وسنجار والمدن الاخرى في أواخر الربيع المنصرم وأوائل الصيف والمحنة فصل من فصول محن عراقية متصلة وعامة على ما يذكِّر شاكر الأنباري، مرجع الكلام في «المسألة» الطائفية وشؤونها وشجونها. وعادت (ومنها العائد والعوائد) المرتبة المرجعية الاولى من المسألة الى «لبنان الطائفي»، على قول أحد أصحابنا غير مبتدئ ولا مبتدع، وعلى ما يصر بعض من لم يفيقوا بعد 40 شهراً مريرة ومروعة على التناثر السوري من هوام الوحدة الوطنية العميقة والراسخة.

ولا تلم مقالات «المشرق...»، اللبنانية والعراقية والسورية، إلا بالمدن أو البلدات الكبيرة والقوية الشبه بالمدن، من دون الارياف الشاسعة وسكانها المتنوعين والمختلفين، مصادرَ قومية ومعتقدات ومذاهب وعمراناً واجتماعاً ومعاشاً. فمن صيدا وطريق الجديدة وتلة الخياط والطيونة والشياح وعين الرمانة ببيروت الى القامشلي والحسكة وحلب ودمشق ودرعا وطرطوس واللاذقية، بسوريا، فإلى الكرادة والمسبح والعرصات وكمب الارمن والبتاوين والدورة ببغداد- وظلال بعيدة وضعيفة من قرية بجنوب لبنان وأخرى جردية بأقصى جنوب لبنان الشرقي، أو من يبرود بالقلمون السوري، أو الحامضية من قرى الرمادي- تطل جماعات مسيحية وأحياء وحارات ويطل أفراد في ثنايا الاخبار والروايات والذكريات ومقالات الاحتجاج والبرهان. وغلبة المدن، وأهلها وأخبارها، على المقالات «المشرقية» المترجحة، زمناً ووقتاً، بين أربعينات القرن العشرين وبين ثمانيناته (فيما يعود الى تأريخ المرويات ولا يعود الى الرأي وأحكامه)، والرواة من أهل هذه المدن، إقامةً إن لم يكن أصلاً وحسباً، وقطعهم التعليم من الارياف وأهلها وعاداتها هذه الغلبة ليست مدعاة عجب ولا دهشة.

الدين والاقاليم

ولكنها مشكلة، على المعنى الحرفي أو الاشتقاقي. فالمسيحيون تقصرهم صفتهم هذه على تدينهم بدين وإيمان، وعلى ما يتبع تدينهم هذا ويتفرع عليه من شعائر وسمت وإقامة ومشاعر وتلفظ بلغة وأسماء وغرابة أو اختلاف وسرائر ومهن أو أعمال... وهم هذا أو على هذا كله وغيره مثله. وينزع سكن المدن والبلدات المتمدينة الى تسوية سكانها على حد سواء أو واحد، ويحملهم على مثال مشترك. وهو يغمط أو يقلل علامات الاختلاف وقرائنه الداخلية أو البينية. فإذا نسبوا الى بلدانهم، أرياف وأقاليم أو مدناً، على ما يصنع غازي دحمان، تفتقوا عن فروق كثيرة: «... مسيحي حوراني ومسيحي حلبي ومسيحي حمصي ودمشقي... (فـ) العصبية المسيحية هي عصبية إقليمية مناطقية (و) يتعصب ابن حوران لحورانيته ويميل الى إبقاء منطقته من الديانات الاخرى أكثر من ميله لابن طائفته من منطقة ثانية».

وصاحب الملاحظة- وهي تصح في أوقات السلم فوق ما تصح في «أوقات الحرب»، على ما أرى- ريفي، من ريف محافظة درعا الغربي، حيث لا يقيم مسيحيون، وهم يقيمون إما «في المدينة نفسها (أ) وفي المناطق الشرقية». والمدن العربية المشرقية، والساحلية على الخصوص، هي مدن عثمانية الى أمس لا يعدو قرناً... ضخماً والحق يقال. وهي نشأت أو توسعت في أواخر القرن الثامن عشر، واستقبلت موجات النزوح العريضة من بوادي العشائر وأرياف الشاوية التي قسر أهلها على استجابة «دعوة» الاراضي المستصلحة حول المدن وزراعاتها السوقية التجارية والمصدّرة. وذلك على نحو ما حملوا على العمل في المشاغل الاوروبية والوطنية الجديدة، وفي مرافق أخرى قربتهم من «الغرب» وخدماته وتجارته وشروطه. فكانت الهجرة الى المدن، حيث «سبقت» العامة المسيحية، وسبق الأجانب وبعثاتهم القنصلية وتجارهم وإرسالياتهم ومدارسهم، تخلياً جزئياً وحقيقياً عن رسوم وسنن اجتماعية كثيرة غلبت غلبة تكاد تكون ساحقة على المعتقدات والافكار والمشاعر. ونشأت عن الهجرات وعن تصدع العمران المتوارث عامةً مسلمة أو عوام مسلمون، من خارج أهل المناصب والإدارة والحرب والتجارة والاقطاعات. وكتاب «نوافذ» هم، على الارجح، من ذرية هؤلاء العوام، مسيحيين (مسيحياً واحداً) و»مسلمين».

والارياف المشرقية لم ترعَ الفروق الدينية والمذهبية، الى الفروق البلدانية والاقليمية الكثيرة، وحسب. فهي كانت مدار نزاع حاد على الارض والعمل ونتاجهما وأخْرجَتهما، وعلى الجماعات ومعتقداتها. وطيلة خمسة قرون الى ستة كان المسلمون في الارياف قلة، وكان ذراري «النبط»، وهم خليط الفرق والجماعات المسيحية البلدية والاهلية والاقوام المترحلين من «الجبال» الأسيوية، هم الكثرة الغالبة. فالفلاحون وأهل الزرع «العرب»، أي المستعربون والمولدون، بقوا قلة قليلة ومتجددة. وبقي الزرع حرفة أهل الارض الاصليين ومهنتهم، المهينة في نظر المقاتلة والغزاة وأهل الريع و»الخوة». فكان أهل الزرع الاصليون القوامين على الغلال والتموين، وعلى الارض. وأقام بعضهم على هذه الحال الى مطالع القرن التاسع عشر. ومن سكن المدن والامصار من المسيحيين واليهود أو أقام على سكنها، ومن أسلم من أهل بلدان الفتوح، ولم يكن مسيحياً ولا يهودياً، عمل في المرافق الادارية والتقنية والكتابية، أي الدواوين والجباية والكتابة والطبابة والصيدلة والحرف.

وعلى هذا، لم يعرف المشرقيون المتأخرون (زمناً)، ولا عرف آباؤهم، وربما أجدادهم، مسيحيين إلا على شاكلتهم هم، عوامَ مدن متمدينة على الدوام وتفتقر الى مدنية متصلة. ولعل الافتقار، في رواياتنا اليوم، الى اختبار علاقات ريفية وبدوية، على شاكلة بداوة عرب شرق الاردن المسيحيين أو «بلاد مؤاب» في أوائل القرن العشرين أو أشوريي ريف الحسكة (عساف العساف)، دعا الروايات المتفرقة والمعاصرة الى الاحتفاء الأَخَوي بما يشبه شبهاً قوياً شعائر التسليك الشخصي والاجتماعي، أو شعائر الانتقال من حال خارجية متحررة من التبعات الى حال اندماجية مؤدبة، على ما سمتها الاناسيات. فالمسيحيون الذين تتعرض لهم الروايات معظمهم أهل مدينة أوائل. فهم سبقوا الى التطبع بطبائع يقتضيها أو يفترضها اختلاط الإقامة، وضعفُ أوامر الاسرة الواسعة ونواهيها وأحكام عملها الصارمة، وتعرض النساء للانظار والرغبات، والتحصيل الدراسي والمهني واختبار العمل والاقامة والتزاوج في ضوء دواعي التحصيل المزدوج وفرصه المتنوعة والكثيرة. وتنعقد هذه العوامل على إبراز من تعمل فيهم، وفي مجتمعاتهم، في صورة آحاد أفراد وأسماء، تصفهم سيرهم وحركاتهم وسكناتهم ووجوههم في هذه المواقف أو تلك.

أسماؤهم

فيحصرون الاخبار المروية بأسمائهم: مي المر وبيتها بالأشرفية وكميل شمعون زميل الصف في الجامعة العربية وسعيد عقل ومكتبه بعين الرمانة وجان دكاش وابنه نديم مقاتل «القوات اللبنانية»؛ ومريم القسيس جدة الام الكاثوليكية واليبرودية القلمونية والاب عفيف عسيران «الخوري (الراهب) المتوالي» وزملاء وزميلات دراسة الجامعة اللبنانية وملتقاها الدراسي والغرامي؛ وسمير أيشوع سرياني قامشلو ومخرجها المسرحي ووارث أصحاب صالات سينماها الاربع ومقاهيها الكثيرة والمحرض على إحياء تقاليد التشبه بالممثلات والممثلين وثيابهم وقبلاتهم وتسريحاتهم، وكابي موشي مسؤول المكتب السياسي في المنظمة الاثورية الديموقراطية (السريانية)؛ وفارس وإخوته وأبناء أعمامه الاشوريون المسيحيون المتقاتلون في ريف الحسكة وبيضهم الملون في عيد الفصح ووالد الصديق القادم من وادي النصارى المحوَّر «وادي النضارة»؛ وجوزفين جارة أم ذيب في بناية شهاب «الحديثة الضخمة» في الشياح والمدرِّسة زلفا الخوري في مدرسة الراهبات بفرن الشباك وأم جوزف مضيفة يوسف في ليلة عيد الميلاد وصاحبة القبلة الاولى الجانبية على وجهه ومتلقية القبلة الاولى التي طبعها الولد على وجه امرأة، وسوزان سكرتيرة مكتب المهندس؛ وجامعة البزاق الصباحية عن البلان في الحقل قبالة الضيعة واسكندر الحداد رفيق اللعب وآل الحداد صانعو السكاكين وأساتذة اللغة الفرنسية وعلم النفس والتصوير وفيليب التلميذ الثانوي المتواري والعائد والصديقة الآتية من القدس؛ ونوشا البلغارية ومنزل اهلها بكازنلك (مدينة الورود) ؛ و»البارون» بيدروس الحلبي وزوجته وابنتهما هاسميك (ياسمين) وساكو الجار الآخر الميكانيكي وكيفورك تاميزيان طبيب القلب قبل رحيله وصيدلي حي الهلك وحنا كعدة صاحب المطعم وأبو آكوب صاحب الخمارة وباسيل صاحب المشرب؛ وميشيل الطرطوسي والمشعنن وساكو الفتى الارمني الوسيم وصاحب قبلة مختلسة ومَرْضية أولى في مدخل بناية معتم بشارع القصاع الدمشقي وجانيت الشابة ومدرسة الرياضيات المتوفاة فجأة والمسجاة في كنيسة القصاع وسميرة وليندا صديقتا الوالدة وهيثم وديما اليبروديان وخالة ديما وأخوالها اليباردة؛ وفارس نوئيل لاعب الكرة البغدادي وزميل المدرسة المتفوق والمتمتع بـ45 دقيقة من الحرية في اثناء ساعة درس الدين وميسم الحسناء والمقيمة خلف الكنيسة حيث يتنقل المسيح بين 14 مرحلة من مراحل الجلجلة وسلوى زوجة الخال المورثة بناتها حسناً وتربية وهيئة جعلنهن محط رغبات أولاد العمات وأخت فوزي الطيار العسكري وصديق الصديق الذي بقي عاشقاً صاحبة الطلة الاولى الواقفة بباب بيت بولس وامتنع هو سليل العترة من «دمج عالمين متناقضين»؛ ووليم سركيس، صاحب الحانة البغدادية «المجنون» وجليس نجم والي حتى بعد تبدد «ضربة الناقوس وصوت المغني وهلهولة العرس»؛ والسيدة كوتية الخادمة قداديس كنيسة مار نقولا العجائبي الارثوذكسية بطرابلس لبنان وابنتها زكية ذات الاعوام الستة عشر والشديدة البياض والشعر الحالك السواد والعينين الواسعتين والعاشقة رفعت المصري ابن عبدالله المصري تاجر الاقمشة الحريرية ومقدمته على القريب الطبيب والهاربة الى طرطوس مع زوجها؛ و»سور» (الاخت الراهبة) أدلين، طاهية مدرسة العائلة المقدسة ببعبدا «القصيرة السمينة ذات الوجه المحمر« ومدرسة اللغة الفرنسية وقتيلة سقوط طائرة غادرت بها أدلين لبنان المشتعل الى وطنها فرنسا؛ والوالدة المتحدرة من «عائلة سريانية عتيقة جداً، من مدينة مديات» بديار بكر، وزوجها جورج عوض، المحامي وأحد أوائل البعثيين اللاذقانيين السوريين والسرياني الأصل كذلك، وأصحاب الاولاد المتنكرون بزي بابا نويل وواهبو الهدايا عشية الميلاد الى أولاد الاهل المسلمين؛ والسيدة قرعوني والسيد زوجها وانطوان ولور والقس قارئ الانجيل وزوجة الثري مضيفة عقد من السهر... (ينبغي الاعتذار الى القارئ عن الاطالة المفرطة وغير الوافية معاً، ولا عذر إلا الرغبة في الاستعادة والترجيح، «فإذا تركتَ، أدرتُ الاسطوانة في رأسي»، على ما يغني فيرّيه على لسان إحدى العاشقات).

وتضطلع المدرسة، مرفق التعليم على مراتبه ومراحله، بالدور الاول في التلاقي والتعارف والاختلاط وانعقاد المودات. وسبق المسيحيون، مدرسين وتلامذة، الى هذا المرفق الذي تعهدته ارساليات اجنبية دينية ورعته في وقت مبكر من التوسع الاوروبي، وأقامت على رعايته على رغم إخفاق «التبشير» والاستعمار»، على قول مسلمَيْن لبنانيين وبيروتيين حصرا غايات التدريس في هذين الغرضين (وبقي «الاستعمار» غائماً في ذهنهما الديني المحض). والسبق في هذا المضمار موقت ومتناقض. فهو لا يلبث أن يجر إقبال «المتأخرين» ولحاقهم بالسباقين. ولا يحجز حاجز دون الاقبال واللحاق و»النبوغ» في الشوط المشترك، على ما حصل في مجتمعات كثيرة قد يكون لبنان أقربها الى التمثيل والتحقيق. ومن «المتناقضات» تولي أسلاك رهبانية كاثوليكية توسيع التعليم في بلدان نفوذ دولها المستمِرة والمتحدِرة من ثورات ديموقراطية وتنويرية قامت على النظام القديم، وعلى حلف السيف الاريستوقراطي ومرشة الماء المقدس الكنسية. ومنها كذلك يقظة بعض المسلمين، من المتعلمين في المرتبة الاولى، على تراثهم وتقاليدهم، وخصائص هذه وذاك، وطلبهم «المفاصلة»، على قول سيد قطب، قبل التكفير والهجرة وقتال الجاهلية و»أصنامها»، والعودة الى «حكم الله» وشرعه. وعلى نحو ما طعن سيد قطب، المصري، في تولي المتعلمين المسلمين معلمين ومدرسين غير مسلمين، وتابعه على طعنه أساتذة خمينيون لبنانيون (بعضهم من منشأ غير مسلم)، تقضي الدائرة الشرعية في «الدولة الاسلامية» (البغدادية أو السامرائية الابراهيمية) اليوم بـ»اصلاح» التعليم وتطهره من آثار الغرب وعلومه فيه.

والتعليم، الإرسالي الخاص أو الرسمي الحكومي، جسر الى التعارف خارج المدرسة أو الجامعة، على نحو ما هو عقدة أو وصلة تقوي اختلاط السكن في الناحية الواحدة أو الحي الواحد، وتسوغه وتمده بذرائع تطيل أمده ووقته. فإذا بزملاء المدرسة أو زميلاتها أصدقاء طفولة ففتوة فشباب فـ»عمر». وهذا باب على الصداقات وروابط الهوى القوية، وباب على المثاقفة والانخراط في شراكات المكاتب الهندسية والقضائية والجمعيات المدنية والثقافية والسياسية. فإذا اجتمع الى هذا ضعفُ حجز المسيحيين المدينيين بين النساء وبين الرجال، أو الاختلاط والتعرض «الجنسيان»، ومشهديةُ الشعائر المسيحية وعلانيتها ومواكبها وتوسلها، الى الصوت والترنيم والصور، بالماء والضوء والالوان والسعف وأوضاع الجسم والوجه وعباراتهم الكثيرة- تمتع المسيحيون المشرقيون بمكانة أثيرة في قلوب المسلمين المشرقيين من أهل المدن والعصبيات الضعيفة والعامة والشبان والمتعلمين، وفي صدورهم وعقولهم.

ويفتقر الاحصاء المختصر هذا الى توقيت أوقاته المختلفة، وجغرافيتها، والى سياسياتها تالياً. فالكلام على مكانة أثيرة، أو على نفور، يفتقر الى تخصيص كثير الاوجه، في وسع من شاء التماسه جزئياً في مقالات «المشرق... مسيحيين ومسلمين». فما اقتصرت الروابط، واقتصر التعرض على فتيان (وفتيات) من غير اواصر عصبية قوية وفي طور الانشاء الذاتي أو «البحث عن الذات» (بحسب عبارة موروثة)، وخارج النزاعات الاهلية وتشمير الجماعات المرصوصة موقتاً لها، ارتفعت القيود عن الاقرار بالمكانة والسبق والريادة. ولا ينفك توافر شروط هذا الموقف من تبلور سياقات مدينية وعامية مؤاتية تتصدرها المنازع والميول الفردية، وتقدم معاييرَ الذوق والحكم والمناسبة المرسلة على معايير التقليد والقياس والاجماع المغلقة والمحصورة.

عشائر الطبقة الوسطى

ويترجح محمد أبي سمرا ترجحاً حاداً في تعريف السياقات المدينية الناشئة عن اختلاط أفراد متحدرين من «أصول» مختلفة. فيذهب، من وجه، الى أن «الغرباء» الذين يأتلف منهم حي السكن الجديد ينسج الواحد منهم من «الكلمات التي يسمعها محادثه ومن لهجته وملامحه وحركاته وثيابه وعمله، ملامح صورة ما لجاره الجديد». وهو يصنع هذا «ليكلمه ويتعرف إليه كشخص فرد». ومن وجه آخر، «يستقرئ له أصلاً وفصلاً ما، نسباً أو هوية سابقة على وفادته الى الحي وإقامته». ويجتمع الوجهان، الفردي المرسل والنَّسَبي السابق، على انشاء «بنيان رجراج ومتفاوت، أثناء تعارف السكان وتخالطهم وعلاقاتهم اليومية المتفاوتة التي تروح تجلو ذلك البنيان في مخيلاتهم المتغيرة والمتبدلة، وتملؤه بالصور وتهاويهمها». وتستثني الرواية من عموم السكان «عمال الطباعة وزمرة الزعران وسائسي الخيل في الاسطبلات». فهؤلاء جماعات متحجرة على هويات صلبة، كانت «(قوية) مادياً و(هامشية) معنوياً أو رمزياً ، في منتصف الستينات من القرن الماضي. وعلى حين تهاوى «الفضاء المشترك» الذي حاول السكان الوافدون والمختلطون إنشاؤه، وتمزق نسيجه، جنحت كتل من المقيمن، بعد أن يمم أولادهم شطر المدرسة والعمل والاقامة الثابتة والتحزب، وأمكنتهم تجارتهم وهجراتهم من شراء الشقق والمباني، الى استئناف عصبيات جامعة على أركان جديدة ليست المذاهب الدينية أقلها تماسكاً. وانقلبت هويات الهامش هويات محورية ومقاتلة، مادياً ومعنوياً رمزياً، وطلقت «الصورَ» وفرديتها. وصنعت من تساقطها الاول ذريعة الى كتل عريضة لاذ بها الضعفاء والمستوحدون والمتعثرون والمستضعفون المحرومون، وانتصبوا أعداء للمسيحيين واختلاطهم وفرديتهم ونسائهم ولغتهم العربية الرخوة ومدينيتهم وحسيتهم وغربيتهم...

ويؤيد وصف رستم محمود أحوال القامشلي ومرافقها «السريانية» ما يذهب إليه محمد أبي سمرا اليوم، وهو كان ذهب إليه قبل عقد من السنين، وتناول حوادث تعود الى أربعة عقود لبنانية تامة. فالمرافق «السريانية»، المسرح والسينما والمقهى والنادي، والكشافة والمسبح وفنون «الحياة» والمنظمة السياسية الديموقراطية والاهلية، حَمَلت على «تحرير الذات»، وطوت «الادوار التقليدية» البطريركية والعشائرية أو حاولت طيها. فقسمت الناس اثنين، أو حالين ودورين: «باتت الفتيات تقلد... فاتن حمامة ورقتها وثيابها وقبلاتها المسروقة (و) بات اليافعون يقلدون تسريحة ألفيس بريسلي...». وما صنعته الجماعات المتكتلة في الشياح، صنعته الناصرية الأمنية في القامشلي: «أغلقت نادي الرافدين، منبع كل... المؤسسات والمدنية... بأقفال حديدة صدئة»: فهجر رواد السينما صالاتها، ومقاهي المدينة «باتت صالات مضجرة لبيع البضائع الصينية التقليدية». فالمكلَّف أو ابن العشيرة، على نحوين مختلفين ومتضافرين، حلقة في سلسلة متماسكة من الفرائض والتبعات والحدود، فإذا تعداها وقع في الابتداع والهوى، وأضعف الجماعة والعشيرة. وعلى خلاف المكلَّف وابن العشيرة، «السريانيُّ» أو «ساكن الصور» مزدوج أو هو اثنان. فهو يعاني انقساماً يحول بينه وبين مطابقته نفسه مطابقة تامة وحلوله فيها، على خلاف مقتضى «طلب المُلك بعصبية»، على قول ابن خلدون عائباً على فرق الشيعة «الطالبيين» في زمانه «طلب الملك بغير عصبية»، ومنكراً عليهم الأمر.

وعلى هذا، فالمسيحيون المشرقيون المدينيون أهل مجتمع، على معنى تعاقدي وطوعي إرادي وفردي، وليسوا (لم يكونوا، في اواخر القرن التاسع والى منتصف القرن العشرين) أهل «دولة»، على معنى طلب الدولة والملك من طريق عصبية مستولية و»شوكة» ملتحمة. والفرق بين موارد القوة الاجتماعية وبين «ترجمتها» السياسية هو ثغرة مميتة ومدمرة في بنيان المجتمعات العربية والاسلامية ودولها. وإذا كانت المجتمعات مسرح منازعات حسية جمالية وفكرية وعملية أخلاقية، أو بقيت هذا المسرح الى النصف الثاني من القرن الماضي على رغم «الاخوان المسلمين»، فـ»الدولة» في مثالها العربي والاسلامي مدار استيلاء وغنيمة بالقوة المسلحة النظامية أو بالقوة الاهلية والعصبية. والفرق بين «الطبقة» المستولية وبين «رعية» المواطنين المذعنة هو الفرق بين الرؤساء والمشايخ الاقحاح والأسياد وبين «الناس» وعوامهم وسوادهم في أعقاب خروج القبائل من البادية (الاسطورية) الى الحضر وملكه وسلطانه وغاشيته وعبيده. فالانظمة السياسية التي تقوم على الفتوح والاستيلاء والريوع وأجهزة البيروقراطية غير القانونية ولا العقلانية، دأبها تحصين نفسها من «مجتمعاتها» و»حركات» أي انتفاضات هذه المجتمعات. فإذا كان مصدر «الحركات» جماعات من الخارج الملي والأهلي والسياسي والاجتماعي حق قمعها وقهرها وتمهيدها من غير بقية.

فحكاية المسيحيين المشرقيين، على ما رواها كُتّاب «نوافذ»، هي حكاية إخفاق مشرقي عميم. ويتطاول الاخفاق الى كل الجماعات التي سعت في إقامة جسور بين المجتمع، أي عملياً بين الطبقات الوسطى المدينية، وبين الحكم وهيئاته، أو سعت في ازدواج المحكومين أفراداً خاصين (مجتمعاً مدنياً) ومواطنين في دولة. وتطاول الاخفاق الذريع الى انشاء مدن ليست ائتلاف قرى وأحياء ومذاهب ومهن مختلطة ومتداعية، والى صوغ ثقافة ليست أصداء متنافرة لمثالات معيارية.

ليست هناك تعليقات: