السبت، 7 مارس 2015

شمعة ضعيفة في تشييع (جيل) بشير هلال

8/3/2015 (المستقبل- نوافذ)
  يتمنى واحدنا أمنية (بل أماني) حارة ومحمومة لو وسعه أن يكتب في صديق أو صاحب قضى، ومضى على وجهه الى ملاقاة مصيره الإنسي، أن الصديق أو الصاحب كان «أسداً من آساد (الدين)»، أو شهيداً « في قافلة الوجود» ، أو آية من آيات الإبداع الانساني وولياً من أولياء «الشعب» و»التحرر»، وابناً باراً من أبناء الاقنومين في واحد. ويتعذر مثل هذا التأبين في حال بشير هلال، الصاحب الذي مضى قبل أيام الى ملاقاة «الوجه»، على ما تقول عربية غير قاطعة فيمن فقد وجهه، واستحال عليه من بعد التوجه على غيره وإليه، واستحال على غيره التوجه إليه وعليه، في آن مبهم مستغلق وبدهي معاً. وعلة التعذر، في معرض صاحبنا، ليس مردها الى صدق الأحكام في هذا المعرض أو الى كذبها. فقبل البت في الصدق أو الكذب، ينبغي البت في جوازهما وفي مناسبتهما «المادة» التي يُعملان فيها.

ففي «العالم» الذي أقام به الصديق الراحل، على ما أحسب، ولم أعرف منذ نحو الثلاثين عاماً انه غادره الى غيره، افتقرت الأماني التي تقدمت العبارات عنها، مثل القول في الواحد أنه أسد أو شهيد أو آية أو ولي أو ابن (يستوفي الكناية عن نسل الآباء)، الى ما صَدَقها، وإلى تحقيقها، أي افتقرت الى جمهور يحملها على الصدق والحقيقة. وجلي أن الجمهور المقصود بالجملة المتقدمة هو دائرة من الناس شاركها بشير هلال اعتقادها وتصديقها، وشاركته الاعتقاد والتصديق، على مقادير متفاوتة. ويكذب زعم بعض المراثي في الصديق الراحل. وهي صدرت عن بعض كبراء القوم وأعيانهم، حسباً ونسباً ومكانة وموارد ودوراً في الحوادث الجسام التي قلبت أركان العالم المشترك هذا رأساً على عقب. فهؤلاء، الكبراء، لا يزالون يركضون في ميدان يصول فيه الآساد والشهداء والآيات والأولياء والابناء المتحدرون من أصلاب الآباء العظام ويجولون. وذلك غداة خمسة قرون تامة على وراثة أذرع الطواحين التي يحمل إليها أهل الفلاحة والزرع من أراضي الجوار البخيلة غلال القمح والشعير والذرة سيوفَ العماليق ورماحهم وسلاحهم. وهم، الكبراء إياهم، يشاركون كبار قادة الميليشيات الاهلية و»رجال موتها» (على ما سمى أصحاب رفعت الاسد، ومجندو قواته وقوات شقيقه الخاصة، أنفسهم غداة 1982 ومآثرها في حماة، ميادينهم وبعض مآثرهم وأكاليل غارهم، على ما يذكِّرون بين الوقت الوقت وينوهون).

وتراءى لي قبل ثلاثين سنة يوم التقيت بشير هلال المخلِّف وراءه الحزب الشيوعي و»نضاله التحرري»، و»جبهته الوطنية»، وقواته «المشتركة» الفلسطينية اللبنانية، وحروبه الملبننة والاهلية التي حمله عماه الصفيق والأحمق والاحمر على المرحلة البورجوازية من ثورة عمالية واشتراكية أممية تحت لواء الكي جي بي السوفياتي-، أن ما أخرج بشير هلال من أسر هذه الخرافات، ورفع عن رأسه وصدره وكاهله ثقلها المهلك والمميت، هو طلب الإفاقة من نشوة الترهات الشيوعية والتقدمية، وصورها الفقيرة والخلابة. فكانت تسمية أعمال القتل والاغتيال والنهب والخطف أو الحرق والقصف والثارات والنكايات والمكائد المتبادلة، والجبهات المفتوحة على «نيات» ممولين وسياستهم وأرصدتهم واستثماراتهم، (كانت تسمية) بعض هذه بأسمائها العينية وأوصافها جزاءً أو ثمناً يعوض من يسمي بعض أكلاف الخروج من العالم المسحور والبذيء خسارته العظيمة أو جزءاً منها.

وأنا أتكلم عن التعويض جزافاً وتخميناً. ويبعثني عليه بعض ما أخبرني إياه بشير هلال، يومها أو بعدها بقليل، راوياً بخيلاً وساخراً بعض فصول نشاطه الحزبي من قبل. فهو عمل في دائرة الحركات المهنية والعمالية، و»تأطيرها» و»قيادتها» و»تنظيمها»، على ما أجمع على القول يومها حزبيون كان يحدوهم طموح محموم الى القيام في محور «الثورة» و»تناقضها الاساسي» المفترض. ودعاه الى هذا العمل ، ربما أو على ما أذكر، ما سلف من دراسته الجامعية بعض مواد حقوقية وقانونية. وحين أبديت اهتماماً حاراً بقدس أقداس ما حسبته وآخرين كثيرين غيري يوماً «تجربة عمالية» اختص بها الشيوعيون اللبنانيون، وانفردوا باستطلاع شعابها الخفية، وأوديتها العميقة والنائية، قبل أن يضلوا طريقها وينسوا أسرارها ويتحولوا جهازاً من أدعياء التصريف والتدبير- اعتذر بشير بكياسة حيية عن اضطراره الى احباط اهتمامي وحماستي. وقال أن ما أصوره أو أحسبه «تجربة»، على المعنى الفضفاض والكشاف الذي بدا أنني أسبغه عليه، لم يتخطَّ محاكاة بعض ما كان سبق لبعض الاصحاب و»الرفاق» أن حاول تجريبه واختباره قبل عشرة أعوام بجوار معامل أو مصانع «كبيرة» في الحازمية أو الشويفات أو تل الزعتر والدكوانة وعين السيدة أو البراد اليوناني والكرنتينا، الى جوار بعض ضواحي صيدا وبراداتها وتعاونيات البقاع وجمعياته ومزارعه.

وقال أن المحاكاة الخجولة هذه ولم أعلم إذا كان هو علم أن المثال المفترض كان يدين بمعظم مواده الى مثالات سابقة «هانية»- نسبة إلى اخبار رواها مهاجر من قبائل الهان المغولية عاد الى دياره ووصف روائع ما رأى على مسامع قومه فخرجوا غزاة في طلب «روائع الدنيا» بدت ابتكاراً مغامراً في أعين رفاقه ومحازبي حزبه. ولكنه هو كان يعلم من أين جاء بابتكاره. والحق أن خيبة بشير هلال كانت أعظم من خيبتي. فهو اعتقد، ولو على بعض اصطناع وقسر، وآمن بترتب خلاص أو شبه خلاص على اجتماع شرائط الحقيقة والصدق والعزيمة لجماعة من الناس، في المحل «الصحيح» من مجرى التاريخ، وفي الوقت المؤاتي.

وهذا الاعتقاد التمس مسوغاته وبراهينه من «علم» لا راد له، يقضي في المسائل المختلطة ومصادرها الحدسية بمنطق تحليلي بسيط. والتمسها كذلك، في وقت واحد، من ازدواج «العلم» يقينيات ذاتية وحميمية حارة تناسلت على عدد دوائر الاختبارات في «عالم الحياة». ورعى حلف من سموا «قيادات الشباب» في الحزب الشيوعي اللبناني، ونصبهم المؤتمر الثاني ولاة و»كوادر» عليه، ومثقفي الحزب الجهازيين و»المجددين» العصبويين، هذا الاعتقاد وآلاته ومسالكه.

وقامت وصاية الحزب الشيوعي، وهو نواة جبهة «وطنية» جمعت في مرقعة لا تستبعد خِرْقةً من غير نص على تقريب أو تبعيد، قامت وصايته الظاهرة على الحركة الفلسطينية الخابطة خبط عشواء، واللاجئة عنوة الى الحضن اللبناني المدبب، مقام الدليل الموثق (بالرعاية السوفياتية) على دور تاريخي ثابت وقاطع. وضمن الدور المزعوم والمشبِّه ركاماً لا يحصى من التخييلات والأكاذيب والصفقات من كل الضروب والفنون.

فكان الخروج من ركام التخييلات والأكاذيب والصفقات، ومن بنيان هذا الركام الغوطي، مغامرة ورهاناً مغريين بل ضرورين. وبدا، لوهلة أولى، أن الخروج لا يحتاج الى جزاء وثمن، و الى داع. فالتخفف من أثقال الكذب والالتواء والتلجلج، ومن أوساخ المواطأة على التزوير والقهر والقتل، وجد مسوغه الاخلاقي والجامع، والسياسي ربما من بعد، في نفسه، وقام مقام غاية سامية لا تتعداها غاية. والأرجح أن مثل هذا الجزاء الاخلاقي والذاتي طمأن بعض الشيء، ولبعض الوقت، كثيرين «منا»، بينهم على ما أحسب بشير هلال، وحل عقدة، على التقليل، من لسانهم أو ألسنتهم. وكان تكاثر الكتاب والخطباء والمنتدين ومحاوري برامج الكلام المتلفزة والاذاعية، وتعاظم أعداد المدونين والناشرين الحائطيين والمتزلجين والمغردين، من ثمرات حل عقد الألسن التي تضافر التجديد الآلي والالكتروني على تعهدها ورعايتها.

ولكن استعادة الروح الاخلاقية، وتولي التواصل والنشر الاجتماعيين خدمتها وجهرها، لم يؤديا الى إنشاء حيز سياسي فاعل، لاح أن بدايات الحركات «الربيعية» العربية ترهص بنشأته وإرسائه على مقادير متفاوتة. ففي الاثناء، أي بين أواخر ثمانينات القرن الماضي وبين أواخر العقد الاول من القرن الواحد والعشرين (وبعض معالمها تصدع الشيوعية السوفياتية، ونهاية الحرب الافغانية والحرب العراقية الايرانية، وقيام نواة دولة فلسطينية، وانبعاث دولة لبنانية أسيرة، واستجماع الاسلام السياسي والجهادي عوامل سطوته وتبلور حركاته، وبروز الصين قوة متصدرة في سياقة عولمة عشوائية ومتدحرجة ... على غير ترتيب ولا تبويب) خلَفت حركاتِ التمرد والتقوض الوطنية والمحلية المقيدة بكيانات ضعيفة حركاتٌ أهلية واقليمية وعالمية مسلحة. وجمعت هذه في مركَّب متنافر وفاعل، عصبيات الاهل المقاتلة وعصاباتها المنظمة الى أبنية بعض أجهزة الدول وإداراتها وبيروقراطيتها ومواردها، وإلى مرافق أحلاف إقليمية ودولية عسكرية واقتصادية وديبلومسية متشعبة. ودمجت أجزاء بعضها في بعضها الآخر. فولد دمجُها، على تباعد مستويات العناصر المندمجة وتضارب نزعاتها وحاجاتها، أزمات سياسية وأهلية واجتماعية وقومية وجغرافية متفجرة تتغذى ذيول بعضها من تلابيب بعضها الآخر.

وفي النطاق العربي والمشرقي، «الضيق» نسبياً، خَلَف البنيانَ الجبهوي الهشَ والداخلي، ومنظماته المتداعية والملحقة، بنيان أمتن بما لا يقاس من سابقه، «السوفياتي» التركيب اختصاراً. وتولت قوى فتية عامية، راديكالية وخلاصية أخروية، إحدى قدميها في لجج مجتمعات متصدعة والقدم الأخرى في قلب أجهزة الدول الإدارية والأمنية والاجتماعية، (تولت) تدمير البنيان القديم ومرافقه وبعض أهله وجماعاته. وتخلت هذه القوى عن ركام التخييلات والأكاذيب والصفقات الغوطي. وأسفرت، بعض السفور، عن وجوه فظة وغليظة، وسمَّت الهويات والمطامع والحاجات والوسائل والغايات بأسمائها الجارحة والقاتلة: فتركت الصراع الى الاستئصال، والرأسمالية الى امريكا، والهيمنة الى الاسلام وإيران، والاستغلال الى الاستضعاف، والانتصار الى الإمامة والوراثة، والقيادة الى العلماء المجاهدين والشرعيين والضباط، والمسألة القومية الى اجتثاث اليهود من الوجود... فالقتل والقتال هما المعيار والميزان في المجتمع والدولة جميعاً.


ولم يجفل «الجمهور» من نصب القتل والقتال أفقاً ومعياراً. فالدخول الصريح في سلطان العنف وملكه، على خلاف استظلال ركام التخييلات والأكاذيب والصفقات المواربة، «حرر» الجمهور العتيد من دعاوى جبهات التحرر، ودعاه الى «الفعل» وامتحانه القاسي ومعياره المميت. وبدا التحرير والدعوة صادقين. وهما صادقان، حقيقة وفعلاً. فهما لم يعدا بغير القتل والشهادة في الدنيا، وبالجنة والاسلام في الآخرة. وأنجزا وعدهما، وينجزانه غير هيابين الانقسام والخلاف الميدانيين والأهليين، ولا وباء الاقتتال الاخوي وحصاد طواعينه. ويعول التحرير والدعوة على ولادة ولاية شرعية عادلة، أو صنوها خلافة راشدة، من مشاهد الإحياء العميم والممعن، ومن «فعالياته» على قول خليجي عمَّ. وعلى هذا أغمض بشير هلال جفنيه، بعد «رفاق» سبقوه وقبل آخرين ينتظرون، ولا يعتدّ بَدَّلوا أم لم يُبدلوا.

ليست هناك تعليقات: