الأحد، 22 مارس 2015

رحيل أولريخ بِكْ مفكر عولمة كوسموبوليتية عادلة داعية جمع الأجنحة إلى الجذور واقتسام أكلاف الكثرة ومنافعها



(المستقبل 22/3/2015)
 
حين تناول الألماني أولريخ بِكْ (Beck) (1944-2015) مسألة العولمة، في مطلع القرن الجديد، فكتب «السلطة ونقيض السلطة في عصر العولمة» (2002 باللغة الألمانية، و2004 بالفرنسية)، عالج موضوعه المترامي الاطراف من وجهين بارزين كانا خفيين أو كالخفيين: الوجه الأول هو السلطان والسياسة، حين كانت الاحصاءات الاقتصادية والمالية على وجه الخصوص تزعم وصف النظام الجديد وصفاً دقيقاً؛ والوجه الثاني هو ولادة هذا النظام، وهو بعد نطفة أو جنين، في ثنايا أزمة سياسية عاصفة تتهدد أركانه ومسارحه ومصائره بالفوضى العارمة. ولا يشك قارئ بِكْ، منذ قراءته صفحات عمله الاولى، في أن ملابسات الكاتب والكتاب الألمانية والتاريخية- تلك التي ترقى الى توحيد الرايخ الثاني في الربع الثالث من القرن التاسع عشر، فإلى الحربين العالميتين وتربع النازية على الرايخ الثالث، ونشأة جمهورية بون «الغربية» كانت السبب أو العامل الراجح في معالجة كاتب الاجتماعيات مسألة (مسائل) العولمة من وجهي السياسة وأزمتها في النظام الجديد.

النكران القومي

فهو يلاحظ، منذ أسطر عمله الأولى، أن الشعبوية اليمينية بأوروبا (ولا يلبث أن يضيف الشعبوية اليسارية الى الجناح اليميني الغالب)- وهي حركات قومية ضيقة تزعم تخليص الشعوب من الأخلاط والأغراب و»تطهيرها» من هجنتهم، ومداواة «أمراض» البطالة وهشاشة العمل وتردي الأجور وضعف مرافق الصحة والتعليم والسكن وانتفاخ نفقاتها وقلة الولادات وتفشي الجريمة بواسطة طرد الأجانب والمهاجرين من الاراضي الوطنية- عرض ناجم عن أزمة العولمة. فاستعادة «الاولوية الوطنية» في ميادين التوظيف والاستثمار والصناعة والمبادلات والنقد، وتوطين التمثيل السياسي والسلطات، على خلاف مصادرة البيروقراطية الاوروبية ورأسمالية أسواق المال والمصارف الاميركية السلطة والمصالح، هي أدوية الشعبوية، على وجهيها، للازمات المتناسلة منذ أواسط السبعينات الخالية على وجه التقريب. وتتردد في مقالاتها وأفعالها أصداء «الاشتراكية- القومية» (النازية)، وتتغذى من الازمة الاجتماعية العميقة التي هزت أركان مشروعية الدولة الوطنية في العقد الرابع من القرن الماضي.

فالزعم أن عمالة القوة العاملة الكاملة (أي الرجوع بالبطالة الى معدلها الهامشي والبالغ نحو 3-4 في المئة) جائز في اطار حمائية الدولة الوطنية بينما البطالة الجماهيرية تتفشى في أرجاء العالم ويتعاظم العمل الموقت والجزئي؛ وأن لا خطر يتهدد المعاشات التقاعدية حين يبلغ متوسط خصوبة المرأة الواحدة 1.3 طفلاً؛ وأن التعدد الثقافي ومحبة الشعوب بعضها بعضاً يقيلان المجتمعات المتنازعة والمتناحرة من عثراتها وعداواتها وحروبها؛ وأن علاج الكوارث البيئية والغذائية، تلك التي حصلت وتلك الموشكة على الحصول، هو بيد التقنية والصناعة اللتين كانتا السبب في الكوارث- هذه المزاعم، وغيرها مثلها، والسياسات والاجراءات التي تصدر عنها أو تترتب عليها هي ثمرة انكار الوقائع الكوسموبوليتية، والدوران في فلك الدولة الوطنية وهيئاتها وأبنيتها التي فاتت وطويت معظم مقوماتها السياسية، في المرتبة الاولى. فما أن تلمس المجتمعات افتقارها الى موازينها الأمنية السابقة أو القديمة، وذلك حين تتصدى للجريمة أو تعمد الى طرد الاجانب وطلاب اللجوء، حتى تضطر الى النزول عن حصرية بعض المرافق السيادية مثل البوليس ومراقبة الحدود سعياً في استعادة السيادة والأمن الوطنيين أو الداخليين.

والحق أن دارس اجتماعيات العولمة الراحل حدس في شعبوية اليمين الاوروبي، ثم في شعبوية اليسار حين الاقتراع على مشروع الدستور الاوروبي في 2005، «ظلامية جديدة» موضوعات نضالها الاثيرة هي مكافحة الأفول والانحطاط والسعي في تجديد القيم والجماعات (الأقوام) العصبية والأصلية. وهي موضوعات أو معانٍ سبق للحركات الفاشية والنازية والقومية الاصولية، بين الحربين الكونيتين، أن قدمتها وصدرتها، وأدارت عليها شواغلها وخططها الصناعية والعسكرية على حد سواء. وتشترك الشعبويتان في غايات يمينية، قومية وأصلية، وفي مناهج أو أدوات يسارية، مثل التنديد والنقد الضاربَيْن عرض الحائط بالمحرمات، والمشرعّيْن الباب في وجه الضغائن على الحداثة والباعثين هذه الضغائن. وهما تترتبان، على مقادير متفاوتة، على تعريف العولمة. فيذهب تيار الى تعريفها بتعاظم «التشابك» (والشبكات على أنواعها وأصنافها هي مرآة هذا التعاظم)، وما يترتب عليه من تعالقات، وتبعيات متبادلة، وتدفقات عالمية (مالية ومعلوماتية وسلعية)، وهويات وشبكات اجتماعية تعلو دوائرها الدوائر الوطنية والمحلية وتتخطاها.

ويرى تيار آخر أن ركن العولمة هو «إلغاء المكان بواسطة الزمن» (التزامن) على قول هارفي. فوسائط التواصل الجديدة، من طريق الشبكة العنكبوتية وفروعها و»تطبيقاتها»، توحد أجزاء الكرة الارضية ونواحيها، وتدمج أوقاتها وأوقات أهلها في وقت (متواقت) واحد. وعدد الناس أو الافراد الذين يتَّجرون على صعيد عالمي، أو يتولون أعمالاً تدعوهم الى الاقامة في أكثر من بلد واحد والى الانتقال بين بلدان كثيرة، أو تربط بينهم علاقات غرامية أو زيجات من غير أن يقيموا في بلد واحد، هؤلاء لا ينفكون يتكاثرون يوماً بعد يوم. والهويات والولاءات السياسية أقلعت عن الاقتصار على هوية وطنية واحدة أو ولاء مفرد. ولا ينكر بِكْ حقيقة كلا التيارين أو تعريفه العولمة. ولكنه يدعو الى حملهما، أو حمل الوقائع التي يصفها التياران، على انعطاف تاريخي. والقرينة البارزة على الانعطاف التاريخي هذا هو امحاء الفرق بين ما هو وطني وبين ما هو دولي داخل إطار (سلطة) سياسة داخلية عالمية غير واضحة القسمات بعد.

الحداثة الثانية

وعن هذا الفرق المتصدر تفرعت مفهومات الحداثة الأولى (منذ القرن الثامن عشر الى أواخر القرن العشرين)، الراجحة والغالبة، عن المجتمع والهوية والدولة والسيادة والمشروعية والسلطان والسلطة. وعليه، ينبغي السؤال أولاً عن كيفية تصور عالم أو دينامية عالمية أبطلت المسائل والمشكلاتُ المترتبة على الحداثة الجذرية والراديكالية أركانها السابقة، ومنطق فعلها العائد الى نظام الدول الامم، على نحو ما أبطلت فروقاً وهيئات أو مؤسسات تاريخية جوهرية. ولا يقتصر الفرق الباطل، أو المبطَل، على ذاك الذي بين الوطني والدولي، بل يتعداه الى الفرق بين الاقتصاد العالمي وبين الدول (الوطنية)، و(الفرق) بين حركات المجتمع المدني العاملة على نطاق عالمي والمنظمات الأممية وبين الحكومات الوطنية. وثمرةُ بطلان الفروق أو إبطالها هي سياسة داخلية عالمية يتعدى فعلها، منذ اليوم، الخطوط الفاصلة بين الدائرتين التقليديتين، وغدت مناطَ منازعة على السلطان لا يُعلم مآلها أو عاقبتها، ويتولى أصحابها المتنازعون المفاوضة على الحدود، وعلى القواعد الاولى والفروق الجوهرية.

وحين ينفك الوطني من دائرته (الوطنية)، ويخرج الدولي من مداره أو نطاقه (الدولي)، تفقد الواقعية السياسية إذا هي بقيت أسيرة دائرتها الوطنية، نفاذها وفاعليتها. وينبغي إبدالها بواقعية كوسموبوليتية، على ما يلخص أولريخ بكْ دعوة كتابه. وتولي الواقعية الكوسموبوليتية المكانة المتصدرة الى الاقتصاد العالمي، ودور أطرافه وأقطابه في بيئة دول متحالفة ومتنازعة. وتولي كذلك مكانة أولى استراتيجيات الحركات المناوئة للمدنية، شأن الشبكات الارهابية التي تُصْلي الدول والمجتمعات عنفاً مخصخصاً أو صادراً عن الجماعات والمصالح الخاصة. وعلى الواقعية الكوسموبوليتية الإجابة عن مسألتين: ما هي الاستراتيجيات التي يفرضها أقطاب الاقتصاد العالمي على الدول؟ وكيف يسع الدول، في مقابلة ذلك، استعادة قوة على المنازعة السياسية العالمية تقسر رأس المال العالمي على الانقياد الى نظام كوسموبوليتي يستبطن حرية سياسية، وعدالة شاملة، ورعاية اجتماعية وحماية بيئية، لا غنى عن التزام موازينها جميعاً.

فمنذ اليوم، تكاد لا تحصى أعراض الحداثة العمومية: من التغير المناخي ودمار البيئة والاخطار المترتبة على التغذية والتهديدات المالية الكونية الى الهجرات السكانية العريضة ومترتبات التقنيات المجهرية والجينية المتجددة وهجرة الاوبئة... ويؤدي إعمال التقنيات هذه الى السؤال عن أسس الحياة المشتركة، واختبار نتائج انقلابها رأساً على عقب في حياة كل إنسي (من التخصيب والولادة الاصطناعيين الى إعمال الخلايا الجذعية في التطبيب). ومن العسير تصور عالم آمن، غداة 11 أيلول (2001)، ما لم يكن هذا العالم مشتركاً، حقيقةً وفعلاً، يقر للغير بغيريته، وقادراً على إدراك التقاليد القومية والإتنية، والوطنية والدينية، وفهمها، وإفادتها من مبادلاتها وتشاركها هذه المبادلات.

وينبغي أن يقود إحصاء هذه الظواهر، وجمعها بعضها الى بعض، وتدبرها بعضها في ضوء بعض، الى تبديد إلفتها وبداهتها الوصفيتين والتقريريتين. فالدول والهيئات والوكالات والمنظمات التي تتعاقد على برامج وخطط سياسية، وتنوي التصدي لمشكلات وقضايا متشابكة مشتركة وعامة مثل تبييض الاموال وغسلها، أو تفشي السندات المالية المسمومة في أوصال الجهاز المصرفي والمالي العالمي أو السطو على الاتصالات الخصوصية، أو تعاظم التجارات المحظورة والمزورة من المخدرات والمواد المشعة الى السلاح والمعادن الثمينة والاعضاء البشرية- هذه الدول والهيئات لا تصدر مداولاتها ولا قراراتها عن (معرفة) بصيرة بأركان مشروعيتها. فهي لا تلم بالمعاني التي تقع عليها أو توضع تحت أسماء مثل «سياسة» أو «دولة» أو «سلطة» أو «إدارة»، شأن الجمهور. وآية هذا الاختلاط أو التخليط اضطلاع جماعات محلية وضيقة بنفوذ كبير على نطاق عالمي، وتولي أقطاب عالميين الحل والعقد في دوائر محلية ضيقة، وتملصهما كليهما من تسديد الرسوم المهنية المترتبة على أعمالهما.

وحَمَلَ عمومُ التشكك في الانشطة الارهابية دولاً ديموقراطية وقوى عسكرية على الاجازة لنفسها «رخصة صيد الارهابيين» من غير التزام الحدود الوطنية، ولا التقيد بمعاهدات تسليم المطلوبين وإجراءاتها القانونية والقضائية. وهذا يُشبِّه حال «سلم دهري» (لا نهاية زمنية له) قريب من حال «حرب دهرية»: فيبيح السلم الاجراءات والأحكام الاستثنائية على النحو الذي تبيحه الحرب، سواء بسواء. وفي الاثناء،لا تزال الحدود والفروق الاقليمية المتفرقة قائمة على رغم التباسها بعضها ببعض وتداخلها. فما معنى «السيطرة المشروعة» بهذه الحال؟ ويخلص أولريخ بك من هذا الى الافتراض أن العالم، أي «أهله»، يشهد تدميراً ذاتياً خلاقاً للنظام العالمي «المشروع»، الى اليوم، والمولود من ولاية الدول- الامم عليه. وانقلاب العالم من حال حال، أو من طور الى طور، «تطور شديد الالتباس»، ولكنه يضمر فيما يضمر «نظرة كوسموبوليتية». وعليه، فـ»صدام الحضارات» قد لا يكون تشخيصاً دقيقاً ولا وحيداً لمرحلة التدمير الذاتي الخلاق، وفوضاها العظيمة (على نعت توراتي وقرآني متضافر). وقد تعد المرحلة بولادة حضارة انسانية يرعى حضنُها تقاليد وروافد كثيرة المنابع، ومختلطة المياه.

وينبغي أن يبدد مفهوم «الكوسموبوليتية»، على النحو الذي يُعمَل في هذه السياقة، المعنى النخبوي الذي تتذرع به المطامع الامبريالية الى ترجيح كفتها، ليدل على معايير الكثرة وألوانها ومنازعها، والاقرار بها في السر والعلانية، وتضمينها الاوضاعَ الاجتماعية والاحوال التاريخية المتفرقة. وذلك على شاكلة فهم متعارَف ومشترك، شائع في دوائر واسعة من الجمهور، ويقوم منه (من الفهم) مقام الحدس. وإذا كان شعار السياسة الواقعية الوطنية أو «القومية» يقضي بـ»بلوغ الغايات الوطنية من طريق وسائل وطنية»، فشعار السياسة الواقعية الكوسموبوليتية هو :» سياستنا وطنية ويتوجها النجاح على مقدار كوسموبوليتيها». فالأطر والاحوال العالمية والمشتركة توجب مشتركات وجوامع تتقاسمها الامم والشعوب، على مقادير متفرقة ومتفاوتة، من غير شك، ولكنها تدعو الامم والشعوب الى التوسع في شركتها ومعالجتها. وموازنة السيادات الوطنية بعضها بعضاً، وإفضاؤها الى مقايضة المكاسب والخسائر على نحو تتبدد معه كلتاهما ويرسو الحساب على صفر، يكذبها التاريخ القريب. فلا الحرب الثانية انتهت الى مثل هذه الموازنة، ولا الحرب الباردة حققتها.

الاستقلال من طريق التبعيات

وإيجاب الروابط التعالقات بين السياسات والمجتمعات ينبغي أن يفضي الى محصلة موجبة وفائضة، والى تعظيم الاطراف كلها مكاسبها.

ففي عصر الازمات والاخطارالشاملة يضطلع انشاء شبكات التعالقات والأواصر (المتبادلة) بين المجتمعات ودولها بتوسيع هامش استقلال المجتمعات والدول الذاتي، ويحرر هذه من القيام منفردة بأكلاف معالجة باهظة لمفاعيل الازمات، وآثارها المتشابكة. وأصدق ما يكون هذا في الشأن الاقتصادي الذي تؤدي عولمته الى زئبقية ليس في وسع الدولة الوطنية، بالغاً ما بلغ سلطانها، احتواءها أو الإحاطة بها. وبحيال تداعي مفاعيل العولمة وتناسلها، حري بالذين تتطاول إليهم هذه المفاعيل، وهم المزدوجو اللغة و»البدو» (أو البادون والظاعنون) والمقيمون على سفر ورحلة وفي الثنايا بين الحدود، (حري بهم) ألا يقتصروا على جذورهم، وأن يجمعوا الاجنحة الى الجذور، والاختبارات الكثيرة الوجوه الى النازع البلدي والمحلي. فمن في مستطاعهم التقلب بين أظهر العالم على شاكلة مواطنين كونيين قد يضطلعون بدور قاسمٍ مشترك ثقافي بين مجتمعات غير متجانسة النسيج، على ما هي حال مجتمعات عالمنا اليوم. ويطرح هذا مسألة حقوق الانسان، في أحوال الاقليات والاجانب الهامشيين، على وجه يحتسب الوقاية من انفجار العنف والثأر من الخيبات والمهانات التي تلحق بالبشر. فعولمة مطالع القرن الواحد والعشرين يفرضها الأقوياء (أهل القوة)على الفقراء (أهل الضعف). والأقوياء هم السباقون الى قطاف ثمرات عولمة الحداثة الأولى، غير الكوسموبوليتية، وينسبونها الى انفسهم، ويصبغونها بصبغة رغباتهم ومصالحهم. والتسليم بهذا الأمر، على نحو التنصل من العولمة ونسبتها الى «النيوليبرالية» أو «الليبرالية المتوحشة»، على ما يصنع شطر من التيارات المعارضة، ليس قدراً لازماً.

وإذا بدا، الى اليوم، أن قواعد تفاعل الأقطاب الثلاثة الكبيرة والمؤثرة في مصائر العالم (الدول والمجتمع المدني العالمي ورأس المال) تقضي إما بربح قطب واحد من الأقطاب نظير خسارة قطب آخر وإما بخسارة الأقطاب الثلاثة من غير استثناء، فذلك عائد الى افتقار التشخيص الى الواقعية، والى الكوسموبوليتية، معاً. فيميل المراقبون، على اختلاف مواقعهم وتفرقها، الى تصديق منطق رأس المال، وزعمه لنفسه الاستقلال التام داخل اطار الاقتصاد «الكلاسيكي» والغايات السياسية. وكان هذا الزعم سُلّم ارتقاء «تحليل المبادلات والثروات»، في القرنين السابع عشر والثامن عشر الاوروبيين، الى نصاب «علم الاقتصاد». ومن هذا المنظور أغوت الايديولوجية النيوليبرالية الأنانيات الجامحة ودعتها الى منافسة من غير قيد ولا كابح، وأقنعتها بأن غلبة رأس المال وسلطانه لا بد أن تفضي، في آخر المطاف، الى عدالة عامة لا تستثني من توزيع العوائد المتعاظمة الفقراء المدقعين أنفسهم. وعلى هذا، فلا جدوى من التمسك بالدولة (الاجتماعية) ومرافقها التي تتولى بعض التوزيع والتعويض على «المحتاجين». وجزءٌ من رجحان كفة رأس المال هو تسلطه على إيجاب القواعد الناظمة للعلاقات الاجتماعية والسياسية. فالدول، أو الكيانات السياسية، لا تجاري منطق رأس المال الليبرالي الايديولوجي هذا. ولكنها تحجم عن اللحاق به حيث هو، وتزعم مقاومته ومقارعته من طريق تمسكها بالنطاق الوطني والتقليدي.

ويضطلع المجتمع المدني العالمي وفروعه الجمعية الكثيرة، بأدوار تتصدى لسلطان رأس المال ونازعه الى فرض منطقه على السياسة الداخلية العالمية. والسلطان النقيض الذي يملكه المجتمع المدني العالمي هو الإضراب المنظم، وكف العاملين عن العمل. ونظير الاضراب، يسع رأس المال صرف العاملين من العمل. ولا يزال هذا الضرب من جدل السيد والعبد سارياً في نواح كثيرة. ولكن «أوراقاً» جديدة طرأت على مقدرات رأس المال وموارده، أبرزها زئبقيته العالمية وحركيته المرنة. ويمثِّل أولريخ بِكْ على أثر زئبقية رأس المال الجديدة بسياسة فولكسفاغين، ماركة السيارات الالمانية المعروفة، في أوائل العقد الاول من القرن الواحد والعشرين. فبعثت الشركة العتيدة حماسة النقابات والمستشار الاشتراكي الديموقراطي غيرهارد شرودير ومديري الشركات، جميعاً، حين أعلنت خطة تقضي بإلزام العاملين الجدد العمل وقتاً أطول لقاء أجر أقل. ولم يلبث أصحاب العمل أن طلبوا «فتح» هرم الأجور، وسموا هذه السياسة «مرونة». ومعناها رمي أعباء المنافسة الشاملة وأكلافها على العمل والأجور. ولوحت فولكسفاغين، في خضم المفاوضات على اشتراطاتها، بصناعة مركبتها الجديدة، ميني- فان، إما في سلوفاكيا أو في الهند. ومصدر حماسة «الحزب العمالي» والنقابات حؤولهم دون نقل صناعة المركبة الى شرق أوروبا أو جنوب آسيا. (ووسم بِكْ آخر كتبه بعنوان يردد صدى إشاراته هذه، «لا لأوروبا ألمانية»).

والباعث على الخوف، في هذه الحال، هو تردي أجور العمال وتعويضاتهم الاجتماعية. وفي غمرة هذا الخوف يُغفل عن الخسارة التي مُنيَ بها عمال الهند وعمال سلوفاكيا، جراء إحجام الشركة الالمانية الكبيرة عن إنشاء مصنع جديد في واحد من البلدين، والتوسل بالتنقيل او التعهيد في سوق رساميل لا قيد على مرونتها او استقبالها الاستثمارات على أنواعها. وعلى خلاف موارد رأس المال وسلطانه، ينهض سلطان المجتمع المدني العالمي النقيض على «المستهلك السياسي». ويقوم سلطان المستهلك السياسي النقيض على امتناعه، ساعة يشاء وحيث يشاء، من الشراء. وليس في جعبة رأس المال، ولا في احتياطه الاستراتيجي، رد جواب على سلطان المستهلك النقيض. وليس في وسع أحد معالجة حلف المستهلكين وتعاهدهم على الامساك عن الاستهلاك والشراء من طريق الهجرة الى بلد آخر. فمجتمع الاستهلاك، اليوم، هو المجتمع العالمي القائم فعلاً. وليس بين المستهلكين وبين العاملين وجه شبه: فالأولون غير مقيدين باحتياجاتهم ولا بأوقات تلبيتها ومواضع هذه التلبية، بينما الآخرون غير مخيرين تقريباً في قبول «مقترحات» سوق العمل.

المستهلك السياسي والارهابي

وإذا قوّى المستهلك رابطته بشبكة أقرانه وامثاله، وبادر بعد التنسيق الى تعيين غايات دقيقة التعريف، أمكن تخففه من إكراه حاجاته الملحة وقيودها، وانتظامُه في سلك يتعدى الأطر الوطنية والمحلية من مقارعة المصالح والقوى المتكلتة والمناوئة. وشرط قيام السلطان النقيض تصدي مناضلين من المجتمع المدني لانجازه، وتبنيهم تحقيق وسائطهم. وليس هذا بالأمر اليسير. فالدعوة الى مقاطعة بعض السلع أو المنتجات تتوجه الى أفراد وليس الى منظمات أو أسلاك. وما يجمع الافراد، في عصر الفردية والحداثة الثانية، لا غنى له عن الاخراج المسرحي والاعلامي ولا عن إعمال الرموز الجامعة والعميقة. والأمران، الإخراج المسرحي والاعلامي وإعمال الرموز، لا يُبلغان من غير تكلفة باهظة. ويقع تمويلها على عاتق المستهلك السياسي. فهو من يقتطع قوته الشرائية بعض هذه التكلفة. ومن غير قوة شرائية يستحيل على المستهلك أن يسهم في الحملات التي تتولى تعبئة المجتمع المدني العالمي. وهو، المستهلك، يحصل هذه القوة من رأس المال، القطب الغالب والراجح في عملية التوزيع وسياسة المداخيل. وغلبة كفة رأس المال ، على هذا النحو، قيد على تمويل المجتمع المدني العالمي سلطانه النقيض، ومقارعته سلطان رأس المال.

ولكن القيد لا يبطل أصل المسألة، أي الحاجة الى اضطلاع المجتمع المدني بإيجاب سلطان جمهوري، وبإيجاب هذا السلطان من طريق أو نهج جمهوري. ويفترض النهج الجمهوري، على خلاف الاستبداد (« العادل»)، منازعة سلطان نقيض يلازمه ولا ينفك منه. ولا يستولي السلطان النقيض على السلطان إلا في معرض المنازعة وسياقتها. والسياقة هي قوام نظام الهيئات والابنية الذي يسوس المجتمعات، وتسوس نفسها من طريقه. ويرى بِكُ أن فكرة استيلاء المجتمع المدني على السلطة جديدة، ولم تختبر أو تمتحن بعد. وهو يسمي التناضح بين الدولة والمجتمع المدني، أو استطراقهما (على شاكلة الاواني المستطرقة التي يوحد اتصالها مستوى السائل فيها)، «الدولة الكوسموبوليتية». ويُفترض في أفكار هذه الدولة، وفي نظرياتها وهيئاتها أو مؤسساتها، أن تنشأ في سياقة تحررها من أطرها ومبانيها الوطنية، على نحو ما نشأ رأسمالٌ جديد في معرض عولمة المبادلات وزئبقية الاستثمارات وتنقيلها.

ولم تفت جدة المثال الرأسمالي وعولمة المجتمع المدني الجماعات أو المنظمات الارهابية. فأسرعت الى الاحتذاء عليها، وأفلحت في الارتقاء (الى) مرتبة أهل القوة العالميين، ونافست الدول والاقتصاد والمجتمع المدني على هذه المكانة. فانفكت من موجبات أو قيود المحل أو البلد، وتحررت من المثال المركزي وقسره، وبادرت الى الفعل على المستويين المحلي والدولي معاً. وبينما تتصدى جمعية غرينبيس لمقاومة الازمات البيئية، والتشهير بعواملها وأولياء هذه العوامل والمسؤولين عنها، وتندد «أمنيستي» (أو منظمة العفو الدولية) بانتهاكات الدول حقوق الانسان، تطعن الجمعيات غير الحكومية الارهابية في احتكار الدول العنف. والمنظمات الارهابية لا تقتصر على «الارهاب الاسلامي». ففي وسعها الشراكة مع كل الايديولوجيات، ومع كل الاصوليات. وينبغي تمييز رهاب حركات التحرر الوطني، المنغرسة في إقليم وفي إمة، من شبكات الارهاب العاملة على نطاق يتخطى حدود الدول وينتهكها، وتبطل في الاثناء مباني الحروب والجيوش الوطنية.

وصور التهديد الناشئة عن أفراد، وعن شبكات تحتية لم تبلغ مستوى الدول (على رغم أن بعضها حمل نفسه على «دولة»، وعلى «خلافة» أو امبراطورية في آن) تشغل مجتمع الدول وهي تشغله اليوم فوق ما شغلته مطلع العقد الاول.

والانتحاري الارهابي هو نقيض «المرء الاقتصادي»، الهاجس بالوقت والعمل والاستثمار والنتاج، ولا يبالي إلا بتعظيم خسائر العدو من غير إقرار بمعيار أخلاقي أو مادي. ويبعثه هذا على قسوة مطلقة. والعملية الارهابية الانتحارية فريدة: فصاحبها لا يقدم عليها أو يرتكبها إلا مرة واحدة، والسلطات لا تحتاج الى إثبات الجريمة وتحقيق نسبتها الى صاحبها، على خلاف الجرائم «العادية». فالجريمة نفسها، والإقرار بها، وقتل القاتل نفسه في العملية، متزامنة وتحصل في وقت واحد. ولا يستحيل أن تصدر دول، أو أجهزة عسكرية هي جزء من دول، الامرَ الى الانتحاري الارهابي بانجاز علمه، هذا بينما الارهابي الانتحاري هو ثمرة حال جديدة تصبغ الحرب بصبغة فردية. فيبادر الافراد الى شن «الحرب» على الدول، فلا تبقى الحرب شأنَ الدول ووجهاً من وجوه العلاقات الدولية. ويتوسل الارهابيون في عصر العولمة بالسلاح الجرثومي، على نحو لم يكن متاحاً للأفراد أو للمنظمات الصغيرة والفقيرة، وبسلاح نووي جيني في حجم صغير. فالتقانة المجهرية ولدت، أو في وسعها أن تلد أسلحة شديدة الفتك والضرر بتكلفة متواضعة.

وفي الاحوال كلها، خسرت الدول احتكار أسلحة الدمار الشامل. وتترتب على تعاظم سلطان الافراد العلمي والتقاني والعسكري بإزاء الدول، وقياساً عليها، مفاعيل سياسية «ثورية». فالحواجز التي حجزت طويلاً بين المجتمع المدني (وأفراده) وبين «العالم العسكري» لم تبق قائمة. وضعف هذه الحواجز يفضي الى عسكرة المجتمع المدني والزج به في دوامة عنف وبائي. وإذا تسللت العسكرة الى المجتمع المدني عمَّ التشكك في الافراد (المواطنين) وفي المجتمع كله، ووجب على المواطنين إثبات براءتهم من التهمة، وجاز لأجهزة الامن المبادرة الى مراقبة شاملة من غير علة أو ذريعة إلا الوقاية والاحتياط الأمنيين. وحيث يجوز التشكك في عموم المدنيين، والتوقي منهم، لا تستقيم ديموقراطية. ولا ريب في أن اضطرار الدول الى عقد أحلاف فيما بينها على محاربة مواطنين تشك في ولائهم، وتخشى خروجهم عليها، وقتلهم مواطنين آخرين، لا يؤاتي لا المواطنة ولا المساواة في الحقوق والواجبات.

قد يخلص قارئ الفقرات التي مرت، وهي توجز ببعض الدقة عُشر صفحات كتاب بِكْ، الى ان كاتبها يعوّل من غير تحفظ على انقلاب العولمة الى كوسموبوليتية سياسية وداخلية. والحق أن بِكْ، شأن استاذه ودليله يورغين هابيرماس لا يعوّل إلا على بصيرة معاصريه وإرادتهم وحريتهم، وعلى سعيهم في سبيل «بلوغ» المثال الكوسموبوليتي وأفقه. فهو لا يغفل، في ضوء حوادث سبقت نشره كتابه، مثل حرب كوسوفو في 1999 وحرب أفغانستان في أواخر 2001 وبينهما مهاجمة «القاعدة» نيويورك وواشنطن، عن احتمال انحراف ما سماه «انسانوية عسكرية» (وما عناه آخرون منذ 1991 وحرب الخليج الثانية بـ»واجب التدخل» العسكري والانساني في حروب أهلية وإقليمية أرهصت على وجوه مختلفة بصفحة الحروب المشرقية منذ 2011) الى مساندة عسكرية تمحو الفرق بين الحرب وبين السلم، وتعهد الى نفسها باستئصال «الشر» والتمكين لهيمنة دولة وطنية.

فالكوسموبوليتية الكاذبة تتوسل بخطابة السلم وحقوق الانسان والعدالة الدولية الى غايات وطنية أو قومية لا رادع لها. وبعض صيغ الكوسموبوليتية الكاذبة - ويمثل عليها بِكْ بمواطنه الالماني فيخته صاحب «الوطنية ونقيضها» (1806-1807)، فالاقربون أولى بالمعروف- يعلق إرادة بلوغ غاية الوجود الانساني على النوع الانساني نفسه وفيه، وينيطها بالوطنية الالمانية، وبتوليها بث الكوسموبوليتية بالأمة الألمانية أو «الدولة الاوروبية التي تتربع في ذروة الحضارة» (على قول فيخته). وهذا ضرب من المصالحة اللفظية والخطابية التي تجمع من غير فرق ولا تباين القومية والانسانية («الرسالة») تحت عباءة انبعاث الامة. وعلى هذا، ينبه صاحب «السلطة ونقيضها في عصر العولمة»، وعلى خلاف البرنامج الليبرالي الجديد وزعمه لنفسه القوة على انتظام ذاتي ومشروعية ذاتية، ينشأ الاطار السياسي العالمي عن البدائل التي يقترحها ويوجبها من داخل موازين العلاقات والمنازعات، وفي ثناياها. فالخطابة الكوسموبوليتية لا تنفك مسرح منازعة بين حركات تنزع الى الهيمنة وبين أخرى تعارض هذا النازع، وتسعى في لجمه وفي استيلاده صيغ حرية وعدالة عموميتين.

ليست هناك تعليقات: