الأحد، 6 سبتمبر 2015

الحركات المدنية اللبنانية (والعربية) ومحنة ترجُّحها بين الأداء الإعلامي وبين تمثيل «الثورة»

6/9/2015

انحسر الاحتلال والتسلط السوريان على جماعات اللبنانيين وأفرادهم عن قطاعات ودوائر من الحياة السياسية والحياة الاجتماعية، على حدود «الحياتين» وتخومهما، تفتقر إدارتها أو سياستها الى تقاليد وقواعد معلومة ومستقرة بعض الاستقرار. فـ»الادارة» الاحتلالية السورية لا عهد لها في بلدها أو مجتمعها بحركات اجتماعية ومدنية ترجئ التعريف السياسي والعصبي وتعلقه الى بعض الوقت، وتدعو الى معالجات تدمج الجوانب والوجوه التقنية في معايير مصلحية عامة- وطنية، على معنى يلتبس على أفهام ضباط الاستخبارات والموظفين الوسطاء، وسعاة البريد بين رأس «العصابة» وبين الحواشي الفرعية والثانوية. وأسعف «عمالُ» الاحتلال وأنصاره المحليون وخلائفه وعمدة دوامه وتسلطه معاً، قوات الردع والقهر فقسموا السلطة على اللبنانيين قسمين أو شطرين: واحداً سموه سياسة، وحصروه في شؤون الأعمال الحربية على اسرائيل ورد عملياتها، وضبط آثار العمليات في أحوال جماعات السكان التي تحملت وزر هذه الآثار أو معظمها، وفي علاقات الجماعات الأهلية اللبنانية بعضها ببعض (وصوغ النظام الناجم عن ميزان العلاقات). والشطر الآخر صُرف الى تدبير الأمور الحياتية الجارية، والمثقلة بأعباء 15 عاماً من «التحرير» المدمر والناقم على ازدهار غير مقسوم قسمة متساوية، أو غير متوازن على ما جرى القول من بعد.

فوسع خطيب «حزب الله» المسلح في 2004 يوم طرحت مسألة المحروقات وكلفتها، وعالج لواء ركن العماد اميل لحود ووزير داخليته وخارجيته الفعلي الأمر، بتنظيم تظاهرات في الضاحية أردي في أثنائها 3 قتلى، وسدد مجلس الوزراء 50 مليون ليرة لبنانية أو 33 ألف دولار أميركي دية القتيل الواحد أو تعويضه، وردد نبيه بري لازمة الياس الهرواي في قصور لبنان عن التصدي لمسألة المازوت من غير المساعدة الاخوية السورية وسعه القول أن الوزارة أخلت بالقسمة، ونكثت بالعهد المسؤول. فهي كان عليها، بحسب عقد ضمنه أولاً الاستطلاع والرصد السوريان، ان تتولى تدبير «المازوت والطحين»، وتترك شؤون الحرب و...الحرب، العالية الكعب، الى مارشالات (عقداء) المعادلة المظفرة واختباراتهم المدوية في عبادان وخورمشهر وجزر مجنون وشط العرب وحلبجة، وقبلها في القنيطرة ومرتفعات الجولان. وها تقصيرها يؤلب «الناس» الشرفاء على قياداتهم السياسية والطبيعية، وعلى أحزابهم المقاتلة والمقاومة. وهذا ما «لا نستطيع القبول به»، على قول صاحبهم. وهو مؤامرة مفضوحة على المقاومة ودمها وعظمتها...

[الحرب/الخدمات

والحق أن القسمة، السياسة (على معنى الحرب وموازين القوة الفعلية والولاء) والخدمات، كانت أكثر اشتباهاً والتباساً. فنظير الحزب الشيعي والايراني المسلح، «حزب الله»، والمتعالي عن المحاصصة وتوزيع الغنيمة الداخلية من الوظائف الحكومية والوساطات وعوائد المرافق العامة والسمسرات، ما خلا تعويضات الاخلاء والاعفاء من كلفة الخدمات الاساسية وبعض البوابات، والقانع بعوائد المقاومة والشهادة من بيت مال المرشد الايراني، وأوقاف أضرحة المعصومين، هجمت المنظمات الموالية والحليفة على فيء الوزارات وريوعها. فعادت وزارة العمل ردحاً من الزمن الى وزراء البعث و»القوميين السوريين». وتعهد وزارة الصحة والاسكان والموارد الكهربائية والمائية والجامعة اللبنانية رئيس المجلس النيابي المزمن وحاشيته الاقربون. وولي التربية «ناصريون» أو بعثيون سابقون تدغدغ بعضهم أحلام رئاسية، والدفاع صنائع مختلطون ومخضرمون... وتركت المالية، الادارية والتنظيمية (التقنية)، الى أنصار رفيق الحريري ومساعديه. وعقد الامور وفاقم التباسها سعي رئيس مجلس الوزراء «الضروري» في ازدواج الادارات العامة أو إثنينيتها. فهو عمد الى استخلاص المرافق الحيوية من المصادرات وحصونها السورية والعروبية السياسية المحلية، ومن استرسال الادارة والموظفين في سبات دهري بالغ التكلفة. وحمله على رعاية الازدواج اعتقاده بفاعلية السوق وإوالياته، ورده على ثقل ريوع الاحتلال السوري و»المقاومة» الباهظة باستمالة ولاءات شخصية وعامة تتولى النهوض بالوظائف الانمائية والاعمارية الكبيرة وبالاعلام، وتجزي الحلفاء الدوليين عوائدَ مغرية.

ورست القسمة، واشتباهها والتباسها، على حال غريبة ومعمَّية لم تفقد مفاعيلها السياسية والاعلامية أو بعضها، الى اليوم. فقرَّ في الاذهان والافهام، من طريق سعي سوري وحزب اللهي وأملي حثيث... جاراه اليسار المتحدر من الحقبة الفلسطينية المجيدة وذيولها الناصرية والقذافية والصدامية الهزيلة، أن القوات السورية المحتلة و»سياستها» اللبنانية تقتصر على حماية انتصار التكتل الاسلامي المقاوم على الفريق المسيحي الانعزالي، ورعاية «المقاومة الاسلامية» الناشئة فالمقتدرة والقوية الساعد من اجتياح اسرائيلي وشيك ولا ينفك مهزوماً. وعلى هذا، من يُسأل عن حكم الدولة واللبنانيين ونهجه هذا الحكم، ويُحاسب على انحرافه عن اضعف معايير العقلانية والاستقامة على انحرافه الخفي و»روائحهما» هو القطب السياسي الثانوي والتابع. ولا يزال قائد الجيش الاسبق ومقدَّم تيار مسيحي عريض وخائب، ميشال عون، يطعن في «الاكثرية المتحكمة»، مستأنفاً القسمة السورية والحزب اللهية والاملية السابقة والكاذبة. ولا تزال الصحافة الحرسية و»التجارية» تطعن على «الحقبة الحريرية»، بعد استثناء أمل وميشال المر والحرس الماروني الرئاسي والحزب الارمني الغالب من هذه الحقبة، وتزف بشرى «تصفيتها» القريبة، السياسية والمعنوية هذه المرة.

فمن تسلط على اللبنانيين وعلى الدولة؛ وشَطَر جماعاتهم وأفرادهم شطرين وفريقين تفصل بينهما حروب أهلية سابقة ولاحقة مزمنة؛ ونصب «مجتمع الحرب» الشريف والقوي والاصيل نظير أو لقاء مجتمع وضيع وعميل «كومبرادور» وويكيليكسي شاغله حب الحياة الذليلة والتمرغ على أعتاب السفارات التي تختصرها سفارة اغتيلت مرات، وأخرى غير مرئية ولا قائمة؛ ومن قسر اللبنانيين جماعات ودولة على نفخ الحياة في المعنى الفلسطيني الآفل والمريض، ومكَّن لمحترفي «تحرير» و»عودة» قرف منهما أهلهما، وازدرى ارادة الجماعات والافراد (في) حياة آمنة وعلاقات مواطنة ومساواة؛ وساس اللبنانيين على هذه المعايير المستخلصة من تجربة تسلط داخلي مدمر أفضى الى المأساة السورية المروعة- من هذا شأنه زعم أنه لم يكن يوماً في موقع السلطة والحكم بل كان معارضاً شرساً ومداوماً للفساد والمحاصصة والتبذير والامتيازات والطائفية، ومدافعاً متماسكاً وعنيداً عن الجمع بين المقاومة الصلبة وبين الحوكمة الرشيدة السديدة والعقلانية. ونسب «الحزب» السوري والايراني (اختصاراً) نفسه الى المحرومين والمستضعفين والمظلومين والمسحوقين. فثنّى بحرب اجتماعية جامعة وقاصمة على الحرب الاستقلالية الوطنية وحرب التحرير «الدينية» الشاملة والأزلية على «الامبريالية» وشياطينها، على مراتبهم.

وأغلق «الحزب» المختلط والجامع، العروبي والمسلم والسياسي والاهلي والاجتماعي والمسلح، الابواب والنوافذ على الحياة السياسية اللبنانية وعلى اللبنانيين الخارجين من نحو عقدين من النزاعات والحروب المنقلبة والمُعشّية، وسجنها في مطمر عبقري لم يبتكره ولكنه بالغ في تزيينه وغوايته وإعماله، هو مطمر «الطائفية». فما كان علماً على تخبط السلطنة (الخلافة) العثمانية والاسلامية في سلاسل أو قيود شكل السيطرة السلطاني أو الامبراطوري والديني، وعجزها عن التماس طرق ناجعة الى تدبير مجتمع بالغ الاختلاط القومي والديني والاجتماعي في ظرف انقلاب ميزان قوى تاريخي- اختصره «الحزب» السوري والايراني في عيب «لبناني» (ضمناً: مسيحي وليبرالي وغربي) أو وصمة لبنانية. فناط بها العيوب الاصلية والفرعية كلها، على نحو ما تُعلّق المحن والمصائب والعثرات على العين وصيبتها. ونعتُ الطائفية الكريهة بالسياسية- وهي التي يراد «إلغاؤها» في مجلس النواب، وبموجب اقتراح قدمه رئيس المجلس المزمن والمتجرد من الغرض والمصلحة «3 مرات» على قوله في خطبته الصدرية الـ38، ولم يلق الاستجابة- هذا النعت لا يرمي الا الى التمهيد لسيطرة «الطائفة الميليشيا» الواحدة والمرصوصة. فتتمة الالغاء، أو شرطه، انتخابات نيابية عامة على أساس أو معيار أكثري ينادي به اليوم مناداة مبحوحة الحزب الشيوعي (حدادة) وأمة حسن نصرالله وفتات الاحزاب الحليفة : تتجند الغالبية العددية المذهبية، «العسكرية» والمالية الخدماتية المنضبطة، للاقتراع في الدوائر المختلطة (من جبيل الى بعبدا وساحل لبنان الى دوائر الجنوب شمالاً وغرباً وجنوباً، وفي دوائر البقاع الموشاة) «اقتراعة» رجل واحد.

فيسدل الستار الصفيق والحالك السواد على احتكار طغمة أهلية وعصبية، أي «حزبها» الواحد، السلطة والمغانم والمرافق والموارد، وتتربع في سدة «دولة»- «أمة» واحدة تنخرها العداوات والنعرات، وتنتظر انفجار الآنية المحكمة الغلق، والفائرة تحت الغطاء المحكم ظاهراً. وتنطلي الخدعة على النخب الثقافية (فالمعارضون السوريون الاوائل والمدنيون حسبوا، وبعضهم لا يزال على يقينه، بأن السوريين غير طائفيين، على خلاف اللبنانيين طبعاً). و»الطائفية» اللبنانية الذميمة والكريهة، والتي تزكم أنوف «الحزب» السوري العسكري البوليسي والايراني السلطاني والمذهبي، هي، حقيقةً وعملاً، تلك التي تقضي بتوزيع السلطة والموارد جماعات يحملها على تعريف نفسها بروابطها الاعتقادية والاهلية تحصن الجماعات الاخرى من بعض أرجح معايير الحداثة وأعمها، مثل المساواة المدنية والمواطنة السياسية وحقوق الانسان وإصدار التشريع عن المداولة والاحتجاج الراجح والوقائع والحاجات الطارئة... ويحملها على هذا التعريف، من وجه آخر، امتناع هذه الجماعات من الاخذ بالمعايير المتحدرة من التنوير وكلياته الجامعة والعامة. وتتوسل الجماعات الاهلية الى حصانتها بل إحصانها بسلطة «الدولة» المستولية وقوتها العسكرية القاهرة. فنشأ عن هذا احوال هجينة تغذي «التناقضات» السياسية والاهلية: تقوم جماعة أهلية جزئية وخاصة محل الدولة العامة والوطنية الجامعة من غير ان تتخلى عن روابطها أو متعلقاتها الجزئية التي تلحم بين أجزائها، وتستولي على عوائد الدولة ووظائفها وتتولى توزيعها توزيعاً متفاوتاً يذهب معظمه الى الجماعة الاهلية وعصبيتها. ولا بد ان يترتب على القيام الاهلي محل عمومية الدولة الوطنية أو القومية أو الدينية الشكلية، وعلى توزيع الموارد غير المتكافئ، انقسام حاد بين أهل القوة والاستيلاء وبين من يرون أنفسهم اهل ضعف مصادَرين ومستتبعين.

وينشب الصراع، بهذه الحال، بين جماعات يجمع شتاتها التماسك الاهلي بإزاء الجماعة الاهلية المتسلطة والمركزية والساعية في استقطاب اجزاء أو افراد من الجماعات الخاضعة الاخرى، وضمها اليها على شاكلة رهائن او حيلاً تتستر على سيطرتها او غلبتها. وتجدد هذه الحال مقومات الكيانات الطائفية والمذهبية والقومية (الاقوامية)، وتنفخ الحياة فيها وفي اطرها المدينية والمهنية، وتبعث الخلافات والمنافسة في صفوفها. ولا يسع الجماعة الاهلية الغالبة إلا اللهاث وراء سراب سيطرة محكمة ترتق خروق الجسم الوطني المتعاظمة، الناجمة عن سيرورات الحروب والنزاعات الاقليمية والدولية، وعن أطوار الوقائع السكانية والاجتماعية الجديدة. والحروب الاهلية والعصبية هي أفق الجري وراء سراب مثل هذه السيطرة الكاملة. ويتوهم أهل القوة المستولون ان القبضة البوليسية الساحقة و»الاستئصالية»، على قول جزائري عسكري، والامعان في التجريد القومي أو الاعتقادي، هما دواء خروق الجسم الوطني وفسوخه وانهياراته.

[ التعريب

وقبل أن يرسو مثل هذ المركَّب (العصبي الامني- البيروقراطي- الريعي- الاقليمي) في سوريا البعثية الاسدية وما بعد الناصرية، والاصح القول قبل ان يظهر عارياً فيها، دلت الدلائل كلها على ولوغ فلسطيني- سوري، ثم سوري- ايراني في صناعته وتبيئته في لبنان واللبنانيين. ولا شك في مماشاة البيئات اللبنانية، الاهلية والمدينية المحدثة والمختلطة، هذا المثال. فهي كلها مترجحة، على مقادير متفاوتة، بين تغليب اللحمات العصبية على اجتماعها، وانكفائها عليها، وحماية هوياتها الفقيرة من طريق تعليقها على الهويات الاوسع وسراباتها، وبين استجابة الاحكام الفردية المترددة، ودواعي الانشاء الجزئي والارادي واختباراته، و(استجابة) الامتحانات السياسية والاجتماعية المحتملة. واستقوت العروبة السياسية في لبنان- وهي محصلة الحلف غير المتكافئ في وقت أول، بين قوى أهلية (عروبية اسلامية) وحزبية مدينية ضعيفة القوام الاهلي والشعبي وهزيلة المراس السياسي، وبين منظمات فلسطينية مسلحة مشرذمة وتأتمر معظم أجنحتها بمصادر إنشائها ورفدها بالمقاتلين والموظفين وتمويلها بسلاح «حلفائها» وأولياء أمرها وأمر سياستها ومواردها. فاستعرت الحملة على «الطائفية»، وشُهِّر بدَيْن لبنان (المسيحي والماروني والمصرفي المالي و»حلقة الوصل الامبريالية»، على قول أحد أصحابنا) بكيانه المنعزل، «الانعزالي» و»غير الاتصالي» العروبي في لغة العصر يومذاك، الى الطائفية وحدها. وقصرت هذه على «جماعة مذنبة» أو مجرمة واحدة. وخُيِّر اللبنانيون بين التمسك بطائفيتهم واقتتالهم الفطري، على ما ذهب اليه بشار الكيماوي، خالف حافظ «جزار حماه»، في مستهل 2005، وطبقتهم السياسية المتعفنة وليبراليتهم المزيفة والمهجنة- وهذه كلها وضعت في خرج واحد- ، وبين مثال «الدولة» العروبية والعضوية الواحدة والقوية، والديموقراطية الشعبية والاصيلة تالياً وعلى الدوام.

و»عُرِّب» لبنان واللبنانيون في سياقة طويلة من الحروب الملبننة، الداخلية والاقليمية، ومن صوغ اجتماعهم ومؤسساتهم على موازين قوى مقحمة ومصطنعة. والتعريب يعني إخراج المنازعات السياسية والاجتماعية والثقافية، عنوة وبالقوة المسلحة والمرصوصة، من مجاريها وأوردتها المتغلغلة في اجسام الجماعات الفعلية والقائمة على انواعها: الاهلية والاقوامية والاعتقادية والمهنية والوظيفية الطبقية والسياسية والبلدانية الجغرافية، وأذابت هذه النزاعات في مواجهة أو حرب «مركزية» بين التحرر القومي، و»دولته» وحزبه أو طاقمه، وبين العدو المستعمر والمستكبر والكافر الامبريالي الصهيوني. ولا يؤبه كثيراً او قليلاً بمضمون التعريفات أو النعوت هذه. فدورها الاول عملي أو عملاني وهو النفخ في الحرب الاهلية والداخلية التي تسوغ احتكام السلطة وأهل القوة المزمن الى حال الطوارئ وأحكامها العرفية الثابتة والمتشددة، المعلنة أو المضمرة. وعليه، فأهل السلطة والقوة الاهليون والمنتصبون في قلب «الدولة» ولاةً عليها هم على الدوام مناضلون ومعارضون، وربما انقلبوا ناشطين محاصرين ومستضعفين تصليهم القوى الغاشمة والمستكبرة حرباً وعدواناً عالميين لا ينقطعان. وعليه كذلك، فهم لا يبلغون من الاستيلاء على السلطة، والانفراد بها، وحراسة مداخلها ومخارجها، نهاية او غاية لا تبلغ.

ومعنى التعريب كذلك، والحرب الاهلية المسلَّطة على الدوام على الاجتماع الوطني، باسم التحرر القومي ووحدة «دولته»، أن تؤخر الاحتياجات الاجتماعية والمعيشية، ومعها ربما وقبلها المعايير الحقوقية المدنية، الى مرتبة دنيا ونافلة، فلا تذرّ الشقاقَ والخلافَ في «الشعب« المرصوص والمتجانس والمتحفز للحرب، وقعت أم عُلِّقت الى أبعد الأجلين. فلما اجتمع شطر راجح من اللبنانيين- وهو راجح معنوياً وقد لا يكون راجحاً احصائياً ومادياً وانتخابياً- على معارضة «النظام السوري- اللبناني» أو المركَّب العروبي السياسي، وقاموا على اغتيال أحد مداميكه، أياً كانت اليد القاتلة، وعلى تصرفه المتعسف والعشوائي بـ»قوانينه» أو أعرافه المضمرة، انتهك هذا الشطر القسمةَ التي ينهض عليها «النظام السوري اللبناني». وهو لم ينتهكها من باب خلطه أهالي الطوائف والجماعات الاهلية، وتكذيبه انغلاق اللبنانيين بالفطرة على عصبياتهم ودوائرها وعلى احترابهم الاهلي، وحسب. فانتهكها من باب أوسع وأعرض هو تسليط المحاسبة القانونية والقضائية على «الحق» السلطاني، القومي والشرعي، في الاغتيال والقتل إذا اعترضت «الرعية» مسالكَ السلطان الى غاياته القومية والشرعية. فالحق السلطاني في القتل وجه من أوجه التوحش الذي زعمت بعض الفرق الجهادية والارهابية التصدي لإدارته حيث تنحسر قوة «دول الكفر»، وزاولته الانظمة العصبية الامنية من غير تنظير قبل أن يرتد عليها وعلى مجتمعاتها ويدمرها أبشع تدمير وأوحشه.

[ المدنية

وهذا هو «النظام» الذي خلَّفه تضافر المنظمات الفلسطينية المسلحة والسيطرة السورية البوليسية والريعية والاقليمية على إدارة «سيبة» أو سباء لبنان واللبنانيين. وأسهم هؤلاء في الادارة، وأقبلوا عليها غير متحفظين إلا لماماً. ولم يَسعْ نظام العروبة السياسية محق أجزاء أو سمات من النظام «الطائفي» السابق طبعت بطابعها مجتمع الجماعات اللبنانية، وتحدرت اليه من صدارة «مجتمع جبل لبنان» التاريخية منذ القرن الثامن عشر وفي اثناء القرنين اللاحقين. ويدين مجتمع الجماعات اللبنانية، وهو لم يبلغ التمام الاجتماعي والفردي، جراء الحصار العصبي الداخلي والاقليمي له، الى هذه الصدارة وميراثها بالنقض على غلبة جماعة واحدة من الجماعات واستيلائها على الدولة العمومية واستتباعها، وقيامها محل الدولة من غير التخلي عن روابط الجماعة العصبية. ويدين لها بالليبرالية الاجتماعية والاقتصادية، وبتبلور عوامل مجتمع مختلط ومديني نازع الى الفردية ومقيم على رعاية تضامن أسري يصعب الاستغناء عنه ريثما تنهض هيئات عناية قوية وباهظة الكلفة. ولم تخطئ العصبيات المسلحة، وأولها العصبية الشيعية، فهمَ حركة «14 آذار» وفصولها المتتابعة. فحملتها على حركة مجتمع سياسي وطني وليبيرالي مدني تنزع الى تقويض «النظام السوري- اللبناني»، وقسمته الخبيثة والمدمرة الدولة قسمين أو شطرين: سياسياً أهلياً لا يتماسك ولا يستقيم إلا بالاستيلاء العصبي على إدارة «الدولة»، وشطراً اجتماعياً مدنياً وفردياً يُقصر على عقلنة بعض الاحتياجات وتلبيتها.

ولكن هذه القسمة لم تعد ممكنة بعد أوقات أو أدوار 2005 اللبناني، و2009 الايراني، و2010 -2011 التونسي والمصري والليبي والسوري واليمني. فانفصال القطب السياسي (الاهلي)، وزعمه القيام بنفسه وبوحدة الدولة والمجتمع والسيطرة عليهما من فوقٍ معلقٍ في الخواء الاجتماعي والسياسي، امتحنه انفجار المجتمعات ودولها امتحاناً لا قيامة لهذا القطب، وعلى هذه الحال، بعده على الارجح. واستعادة «عصبيات الدولة« في معظم البلدان العربية (والاسلامية في حال إيران) التي بدا أن القسمة انهارت فيها، تسلطها ورجحان كفتها، لا يعني استعادة القطب السياسي (الاهلي) قيادته إلا على نحو ساخر ومسرحي كوميدي وتشبيهي. ويخلط اللبنانيون الثائرون على الفساد والادارة الخائبة، وعلى دهرية الجماعة الحاكمة من غير عصبية دولة صريحة ومتجانسة، (يخلطون) حركات متفرقة ومتنوعة. فوجه من حركتهم، أو حركاتهم، يماشي القسمة السياسية/الاجتماعية، ويعلن الرضا بها والانقياد لها. ولكن مدنية الحركات هذه، وتحدرها من «14 آذار»، يطعنان طعناً مباشراً وثخيناً على القطب السياسي الاهلي والعسكري الامني الذي صنعه الاحتلال السوري و»نظامه» وخلّفه وراءه، وتمثل العصبية الشيعية والحرسية عليه تمثيلاً ناتئاً وقبيحاً. فتعمد العصبية هذه، من طريق بعض فروعها التي تعيلها وبعض سواقط جماعات طرفية، الى استدخال الحركات المدنية. فتحمل المجابهة العنيفة والموضعية، أو محاكاتها التلفزيونية والاعلامية، على العمل الثوري والجذري، وتحمل جسم الحركة وكتلتها الغالبة على التردد والنكوص والانقياد «للسفارات» الفولكلورية التي حلت محل المسوغات السياسية والاجتماعية.

ولكن خداع الحركات المدنية نفسها، وتوهمها أن استجابة بضعة آلاف من اللبنانيين دعوتها الى التظاهر الحر والمباح من غير قيد يعني نضوج ظروف تغيير «النظام» والانتصار على «الطائفية»، يقصران (الخداع والتوهم) الحركات على إخراجها الاعلامي المضلل الذي يتضافر على تسويغه أهل الحركات والمتربصين بها والمشككين فيها، جميعاً. فطوال نحو عشرة أيام انشغل فيها اللبنانيون بالاحتجاج على تراكم النفايات، والآراء في التراكم والاحتجاج، والدعوات الى المسيرات، اقتصر الاعلام ودعاة التنديد على تزيين المشهد وترويجه من غير زيادة عليه. فانشغل الطرفان، الاعلام والدعاة وقد صارا طرفاً واحداً، بتكرار نفسيهما ومحاكاتهما وأداء المحاكاة. فأهملت الجوانب التقنية والمالية والسياسية المؤسسية والتشريعية والاجرائية من المناقشات. ولم يدعَ الى المناقشة لا الخبراء الفنيون، ولا أهل التجارب والمعالجة، ولا المشاركون السابقون في معالجة بعينها (ومعالجة بلدية صيدا «جبل نفاياتها» قريبة العهد)، ولا نواب أو وزراء أو إداريون لابسوا المسألة، ولا صناعيون وتجار نقل، ولا بلديون، ولا ناشطون في حقول العمل المدني. فكأن هؤلاء، والقضايا التي تدور عليها مشاغلهم وأعمالهم وخبراتهم، حواش تعكر صفو المشهد التلفزيوني المترجح بين برنامج الحوار الحليق والناعم وبين استعادة ساحة تيين آن مين في حزيران 1989 (استعادة كاذبة ومغشوشة: فالفتى العاري الصدر، والحافي القدمين، في مقابلة السياج الشائك و»الهبولة» التي أشعلها أصحابه، لا يغامر بشيء، ولا تهدده دبابات الجيش الاحمر ولا استخبارات دينغ شياو بينغ، ويسانده أهل شيعته وحيه، ويصفق له جمهور ساحة رياض الصلح الظرفي والمفتون). فخرج الجمهور، والمؤدون، وهم على علمهم الثابت والفقير بالمسألة التي شغلت اللبنانيين وتشغلهم. وبددت الحركات المدنية فرصة انضاج رشد سياسي وحقوقي تحتاج اليه حاجة المتنفس الى الهواء.

ليست هناك تعليقات: