الأحد، 20 سبتمبر 2015

أيلان كردي... الولد والبحر



الأحد 20 /9/ 2015  

 
لولا الوحدة المتكومة على شاطئ تأوي إليه أمواج رفيقة ومتعرجة، قد تفي بهدهدة ولد نام منذ بعض الوقت ولا تطمع في قلب مركب صيد صغير، لغلب الظن أن الجسد الصغير، المسجى على سريره الفسيح والعريض، لن يلبث أن يستفيق من نوم غرق فيه وينهض منه ليتابع سفره أو يلحق بركب أهلٍ سبقوه الى مكان يعرف الولد النائم، حين يستيقظ، طريقه اليه. فالرأس الكبيرة، قياساً على الجسم، احتفظت بتمليسة الشعر السابل والخفيف. واليدان منفرجتان، غير مقبوضتين. وظلت أصابعهما وراحتاهما من غير ثني على خوف أو توجس، أو كراهية.

والجسد الصغير، المنكب على وجهه وصدره وبطنه وركبتيه ومقدم حذائيه، مقيم على اجتماع اجزائه وأعضائه، وعلى مناسبة مواضعها ومطارح سكناتها بعضها بعضاً. فكأن يداً ساهرة رعت نومه على هذا النحو الذي ربما اعتاده أو يرغب فيه، وهو النحو الذي تحمله أمه عليه حين تشده الى صدرها، وأودعته من غير فظاظة الرمال الطرية وبحصها المتناثر بين مد الموج، المستطلع والحذر، وبين جزره المستعجل والهارب.

وينام الولد غير متشعث ولا متفرق في انتظار النهوض والرواح ربما الى المدرسة القريبة، أو في زيارة الى بعض الاهل والجيران. فهندامه هندام عيد ويليق بالاحتفالات الاهلية والمدرسية، وينم بذوق الام ومهارتها في خلط الالوان، وإجابتها بعضها بعضاً، وإيمائها بعضها الى بعض واقتراحها. فالاحمر النبيذي الذي يصبغ بصباغه القاني والمسترسل صدرية الطفل يلائم من غير نبو كحليَّ البنطلون القصير والممتلئ بمؤخرته وحفاضاته على الارجح. وبين القميص أو الصدرية والبنطلون بعض من غوى الجسم الطري. والقدمان لم تتخليا عن حذائين جديدين لا تزال خياطة نعليهما ظاهرة. ولم يعفِّ المشي على الطرق المتربة والكثيرة الحجارة على بلاستيك النعلين المخطط لإسالة الماء في «الترع» الدقيقة.

وما عدا اصفراراً حاداً يشي بشحوب حول الاذن اليسرى، وقد يكون من آثار أشعة شمس طالعة لتوها على مناكب هذا الشطر من الارض، لم تشُب ألوان الجسم ومواضعه شائبة. ولولا آثار كدمات على الحاجب الايسر تقود الى إغماضة سوداء، لم تشِ قرينة بغير نوم النائم أو قيلولته قبل السفر والرحلة.

وعلى هذا، فأيلان كردي قد يكون، أو كان ليكون ملاحاً عتيقاً ومجرباً لا تحصي السنون القليلة تجاربه، مخر عباب البحر النبيذي، على ما تصف «أوديسة» هوميروس زرقة بحر إيجة المائلة الى الاخضرار، وعرج على شاطئه محتسباً بعض الاقالة من التعب قبل استئناف الرحلة. وهو استلقى على موضع من الشاطئ، ربما سبقه الى الاستلقاء عليه عوليس، «الرجل ذو الالف حيلة»، وهو في طريقه من طروادة في تراقيا اليونانية (والرومللي العثماني من بعد واليوم) الى إيثاكا والمرفأ الاثيني. وعلى هذا الشاطئ، أو غير بعيد منه، أبصرت نوسيكا، ابنة ملك الناحية او الثغر، عوليس عارياً ومنكباً على صدره ووجهه، وفي شعره حبات رمل علقت من الشاطئ برأسه ولحيته، وملح كثير. وحسبت ابنة الملك الجميلة والفتية، وهي تتنزه في صواحبها وخادماتها، ان الرجل العاري والمستلقي على الشاطئ، والبقية الباقية من قافلة بحرية أغرقتها عاصفة عاتية هدأت منذ يوم أو يومين، لا يبعد أن يكون إلهاً متخفياً في خلقة رجل وصورته.

وهذا من معتقدات القوم وزمانهم. وهو قد لا يكون إلهاً ولكن هذه الالفة المنعقدة على هذه الغرابة تشي لا محالة بنسب إلهي. فهما، الإلفة والقرابة، من غير طينة أشياء عالمنا، ومن غير طينة أوقاته، وكأنهما من سوابقه ولواحقه أو مقدماته وملحقاته. وأيلان المجتمِع على نفسه، أو المقيم على تنسيق اجزائه وجوارحه (مِن جرح - مَن جَرَح الولدُ الكردي النازل من كوباني وهضبتها وفراتها الى بحر الروم؟)، يولي وجهه ورأسه البحر الذي لفظه وسجاه رملَ الشاطئ وبحصه. وهو لا يوليهما البر، على خلاف اليوناني العائد من حرب دامت عشر سنين، ضعفي عمر «الحرب» التي كان ابن كوباني «عائداً» منها الى أرض ومدن بعيدة لم يحدس على الارجح في وجودها ورسومها. والوجهُ، أي توجُّه الجسد كله، الى البحر، وهو البري أباءً عن أجداد، يحمل أيلان ربما على طير ملون وثقيل أراد الطيران في رحلة بعيدة المزار الى بلاد جزر الواق الواق، على ما حسب سلفه الآخر والاسعد حظاً، سندباد البحري البغداي فالبصري. ولم يطق الطير المضي على الرحلة، فتخلف مرهقاً، وكبا على الرمل، مركباً قاتم الاشرعة ومنكس الجناح.

وقد يكون هذا - أي الجمع بين الرحلة المديدة وبين الجنوح المبكر، وبين صمدة العرس ووحشة الكب، وبين الوجه الى البحر وإدارة الظهر الى البر، وبين إزماع السفر وبين التسليم لصدر الام وصدر الارض- ما حمل ولد كوباني، المكلومة والمدماة، على صورته الاخيرة وأصدائها المتجددة والمترامية. فالصورة تنم بإشارات لا تستوي معاني دالة إلا من طريق تتمات ومثالات تنفخ فيها وقتاً وعمراً لم يُعطهما أيلان، ولم «يمتع» بهما. فهو عوليس وسندباد وملاح وطائر مهيض وتلميذ أول يوم مدرسة وعريس صفه وأثير أمه ومهاجر مغامر، هو هذا كله على وجه «كان ليكونَ» ويلابسَ هذه المصائر ويباشر بعضها لولا انقلاب المركب وانحرافه عن طريق جزيرة ليسبوس الى هاديس، عالم اليونان السفلي ومقر (أطياف) موتاهم. وانقلاب المركب، وغرق مسافريه، وسوق الامواج الطفل الغريق وحيداً وشتيتاً الى شاطئ بودروم، وجلي عدسة المصور(ة) أيلان الطفل على وجهه المنكب على الارض بين بحر وبر أو سفر ومرسى، قطعت هذه المصائر ودفنتها في طي الغيب وضميره.

ولكن أيلان لا يزال معلقاً بين هذه المصائر، ولن ينفك، منذ الثاني من أيلول/ الثالث منه، معلقاً ومترجحاً بينها. وفي وسعنا، وربما علينا أن ننحي باللائمة على أنفسنا- نحن مشاهدي الصور وموحدي الحقائق والوقائع والاكاذيب بصورها-، انكار تسليمنا للصورة الفوتوغرافية ونصبنا إياها علماً على قوة الحوادث ودلالتها، وإلحاح معالجتها، وعلى نقائض هذه. ونزعم في سرنا، غير مصدقين، أننا لو خيرنا بين انقاذ لوحة لفان غوغ من ألسنة حريق وبين انقاذ هرة لما ترددنا وفضلنا الهرة على اللوحة، على زعم ألبيرتو جياكوميتي النحات الكبير، ونؤاخذ أنفسنا على ضعف تصديقها المعيار النبيل هذا.

فالعالم الذي صنعناه، على ما هو عليه، وسوانا على ما نحن عليه، يتوسل بالصور الفوتوغرافية الى العبارة عن أحواله ومصائره وتأويلها. وبعض هذه الصور، معظمها على الارجح، يزعم القوة على ايجاب محال الناس والاشياء والادوار والحوادث والمعاني. وبعض قليل جداً لا يوجب شيئاً من خارج، ولا يحل محل شيء. وتمثل سوزان سونتاغ على هذا الضرب من الصور برسوم غويا «فظائع الحرب». فيعقد بين المعاني والرسوم المضمرة أو الوليدة والمحتملة بعقد من غير عصمة. ويدعو، من غير إكراه، الى إعمالها في استقراء الحوادث والمصائر، ونشر ما «كان ليكون» من أمرها لولا كذا وكذا مما فعلنا، ومما لم نفعل، ومما كان علينا ان نفعل. ويخرجنا هذا الضرب، من الافتتان وتحجيره وإقراره الى التشكك في أنساب الحوادث والوقائع، وتقليبها على وجوه جائزة كثيرة.

ليست هناك تعليقات: