السبت، 26 ديسمبر 2015

أنظمة الاحتكار العصبي العربية في تناقض داخلي مدمِّر (مقابلة)

المدن -يوسف بزي 26/12/2015
هنا نص الحوار مع وضاح شرارة في جزئه الأول، ونشدد على أن أجوبته هنا أتت شفاهية، وتم في ما بعد التدقيق في إملائها وتحريرها من غير تعديل:

* قبل نحو عشر سنوات استقلتَ من التدريس في الجامعة اللبنانية، ثم صُرِفت من عملك في جريدة "الحياة"... كانت تلك بداية مرحلة جديدة في حياتك. ما هي طقوسك اليومية، عدا ذاك الموعد اليومي "المقدس" لرياضة المشي؟

- أثرت أشجاني. على كل حال، يختبر المرء وضعاً أو أحوالاً بعد تركه لعمل وظيفي، منتظم بأوقاته وأماكنه وناسه الذي يلتقيهم.. يختبر تفاوتاً بين شعور قوي بالحرية، بسعة الإمكانات، بترامي حدود الممكن، وبين ضيق الوقت الفعلي المتاح والتركيب المعقد للعمل وإنجازه.
هذا الاختبار يحاول واحدنا، أو يظن أن بإمكانه تجاوز هذين الحدّين بانضباط طوعي، سرعان ما يتهاوى بوجه تنوع الرغبات، أو يأخذه اعتباط التنقل بين اهتمامات مختلفة ومتفاوتة، صعب حصرها وضبطها.
بالتالي، يجمع واحدنا اضطراراً بين شعائر كثيرة التفاصيل، منها القراءة اليومية الصباحية للصحف، فاجمع ملاحظات وأحياناً أنظم منها ملفات. وهذا عمل إداري تقريباً. كذلك هناك عُطَل إذا جاز التعبير، هي نزهات بين كتب يراكمها واحدنا، ويقرأ بضع عشرات من الصفحات من كل واحد منها، وتغلب مزاجيتها وبعثرتها ويغلب الهوى عليها. أحياناً، لأسباب غير واضحة، يؤدي هذا إلى إنجاز عمل كتابيّ، وأحياناً أخرى تغلب السجية، فيخزن واحدنا في رأسه أو صدره خططاً لأعمال كتابية ومقالات، واسعة غالباً، أو لكتاب له موضوع متماسك ومحور، وتُضبط معالجته بحدود واضحة.
هناك كذلك نوع من حضور وأحياناً رجحانٍ لكفة الحياة اليومية، الاهتمامات التي تتراوح بين الطبخ والتدبير المنزلي. وربما يدخل في هذا الباب المسترسل مشاهدة التلفزيون بطريقة مختلفة عما كانت عليه من قبل. والهوى هو مشاهدة الأفلام السينمائية والأفلام الوثائقية وموسيقى الجاز أو الكلاسيكية والرقص. كل هذه الأبواب التي كان الاهتمام بها يقود إلى مشاهدة غير منزلية، أصبحت جزءاً من حياة البيت. ويرافق هذا شغف ورغبة في رؤية أشياء لم يتح من قبل مجال لرؤيتها. ليس أمر المشاهدة أو المتابعة إحصائياً، إنما هو الاستعداد والانتظار والقبول. وهذا ليس جديداً تماماً، ولكن ثمة لوناً من الإقبال على ذلك أقوى وأحدّ مما اختبرته من قبل.

* بين كتاب جديد لك وآخر، نعد أنفسنا بكتاب عن سيرتك... هل ستكتبها؟

- لشخص مثلي، نثر بعض الشذرات من سيرته، أو ضُمّنت لمحات من هذه السيرة  في مقالات متفرقة... هذا الشخص يتردد بين وجهتين، أو منحيين: المنحى الأول يدعوه إلى كتابة سيرة نثرية، أي أن يعكف على سرد وقائع، وعلى وصف ناس، ورواية حوادث وتقديم أمكنة، أي أن يبقى على صفحة الوقائع بمعناها التسجيلي. ولكن ما أن أصيغ الموضوع على هذه الطريقة حتى يحضر قصورُ هذه الطريقة، وانتبه إلى أن زعم تسجيل الوقائع وسردها على هذا النحو يغفل حياة هذه الوقائع وروحها، ويحذف منها حركة داخلية، ليست خفية، وهي ثمرة إعادة السرد اليومية للنفس، بين النفس ونفسها، التي يقوم بها الواحد منا طوال الوقت.
كل يوم صباحاً، من دون أن أسأل نفسي، أفتعل نوعاً من جواب عن سؤال مخيّم من غير صياغة، هو: أين صرت؟ ماذا فعلت؟ أين تفكر أنك ذاهب؟ ما هي وسائل هذا المسير؟ هذه الأسئلة، وهي ظاهراً مجردة وتقليدية، صياغتها الفعلية تحمل كمياه النهر الجارية صور ناس ومواقف وأوضاع وأحوال ومشاعر، وانقطاعات وانعطافات ومراجعة نفس وندم ووثبات وأحلام واستعادات.. فالجواب هو محاولة خروج من هذا الخضم المتلاطم الفوضوي، ومحاولة تثبيت لهذا الاضطراب، غالباً ما ينتهي أو يعلّق على اهتمام عملي مباشر، وتبقى أصداء فكرة السيرة تحوم. فهذه الحال من التجاذب يظهر أحياناً أنها تؤدي إلى مطالع روايات. مطلع من صفحتين أو أربع يكتب عادة في جلسة متوهجة، ثم تنكفئ الكتابة عندما يبدو أن هذا التوهج لست أنا صاحبه، فأعود إلى التأمل في سياق أو في بناء له مراحل، وله عوامل، وله نوع من أوضاع نواتية أو محورية.. وإلى اليوم لم أفقد لا النية ولا الأمل في أن أنجز هكذا سيرة.

* منذ عشر سنوات، نزلت إلى الشارع بحماسة وتفاؤل كبيرين، إذ وجدت في لحظة 14 آذار 2005، "اجتماع تواريخ اللبنانيين الخاصة وتاريخهم الوطني المشترك"، وأسهبت في وصف تظاهرات ذاك الربيع. نزولك هذا إلى الساحة كان حدثاً في تاريخك "السياسي" الخاص، أليس كذلك؟

- ربما يجب القول أن المشاركة في المسيرات والتظاهرات واللقاءات، ربما بعد أكثر من ثلاثين سنة على ما يشبه الاعتكاف، كان حادثة "خاصة" أكثر مما هي "سياسية"، أي أن حادثة اغتيال رفيق الحريري كانت لها أصداء في ثنايا الوقت الذي ولد من الأعوام التي أعقبت 1989، والتي كان لرفيق الحريري دور أو وزن أو هو عامل من العوامل الأساسية التي رسمت قسمات هذا الوقت - وهذا كلام على حدود السياسة – أي مشروع إعمار بلد، وعودة حياة مؤسساتية منتظمة من الانتخابات الى المستشفيات والمدارس والمحاكم والسير والجباية، وإحياء الإدارات المختلفة، وإعمال القوانين والضبط على أوقات، وطبعاً تزفيت الطرق وبناء الأنفاق وتوسيع المطار.. مسائل كان واحدنا ليس فقط يدركها، ويختبر نتائج هزالها أو نتائج شللها. فجاء الاغتيال في الأيام الأولى ليهدد هذه المرتكزات والإنجازات والاحتمالات، يهددها بالكسر والقصم، ويلوّح بعودة الحروب الأهلية أو الملبننة، وهي "أهلية" نتيجة تركيب ورسوم الحروب الأهلية العربية وكجزء من النزاعات الدولية. طيف هذا التهديد أو شبح الحرب هذا كان مروعاً.
فأنا من الناس الذين بدأت الحروب تسفر عن وجهها ونحن في الثلاثين من أعمارنا. كنت بدأت أفكر وقتها ماذا أفعل؟ ماذا أكتب؟ كيف أعيش؟ والدخول في هذا الاضطراب الكبير، في الاقتتال من غير ميزان ومن غير معيار، كان كابوساً هائلاً. وهذا حَرَق أو أعدمَ خطط حياة، فَعَل فجوة حول واحدنا ووضعه أمام عجز هائل وإحباط بلا حدود.
هذا من الأمور التي دفعتني، وغيري من الناس، أن ينزلوا الى الساحات. وعلى صعيد أكثر عمومية: النزول الأول يوم الجنازة في 16 شباط 2005، وبدأ يرتسم فيه شيء بدا لي جديداً، هو خروج اللبنانيين على طريق مرسومة أو تركيب فرضه عليهم المزاج السياسي والأمني الاستخباري السوري. فمجرد رؤية جموع بأعداد نسبياً كبيرة، على غير موعد، من غير دعوة وطبعاً من غير إلزام، أخذ صورة المعجزة. هذه التلقائية التي سبقت الخطط السياسية، رغم دعوة وليد جنبلاط الأولى للمشاركة بالتشييع.. هذه التلقائية المشتركة والمتواقتة والمتزامنة تخيلتها وقتاً سياسياً حلم به واحدنا طوال عمره. ولواحد مثلي متحدر مما يسمى عملاً تنظيمياً – جهازياً، يتصيدَ الناس واحداً واحداً، ويقيد الدعوة بأفكار وبخطوات وببنود وبرنامج، ويصطدم على الدوام بتحفظ الناس، وحذرهم، وبرؤيتهم لالتزامهم من زاويتهم هم، بينما العمل التنظيمي – الجهازي يفترض صدور الناس عن المصالح المشتركة القسرية، الحتمية، واستجابتهم لحوافز موضوعية تقر بها ذواتهم. وطبعاً تجربة "حزب الله"، التي كنت أراها يوماً بعد يوم تتبلور وتتجسد، لم تكذب هذا الخط السابق.
وأنا الذي شاركت في تظاهرات 9 حزيران 1967 في بيروت، وفي ما بعد في كل جنازات القتلى الفلسطينيين واللبنانيين الى عامي 1972 – 1973، وغرقت في طوفان المتظاهرين.. كانت تجربة 16 شباط 2005 وما بعدها، اختباراً من نوع جديد تماماً. هذا ما حاولت أن أصفه في عدد من المقالات والتدوينات. فَرحتُ أكثر من فرحي بأن هناك طوائف تتظاهر وهناك ما يسمى "وحدة وطنية"، إذ كنت أعاين تداخل الناس الآتين من الطريق الجديدة والظريف ومطارح أخرى، وناساً أتعرف عليهم أنهم "قواتيون" و"عونيون" و"كتائبيون".. فوق هذا الفرح، فرحت بعدم وقوف الناس "بلوكات" وبانفراط البلوكات والكتل الصغيرة، وتكون كتل أخرى في أماكن أخرى.. واستخفني ناس وفتيات صبايا وشباب وبعض الأسر، التي تدخل في التظاهرة وتخرج منها. كانت صورة الروافد التي تصب في البحر الكبير، والروافد التي تخرج من هذا البحر، من دون التزام بمحل أو موضع أو موقع. ويكمل هذا المشهد أن لا أحد يهتف، أو لا أحد يتقدم الكتل، أو لا أحد مرفوعاً على الأكتاف، ولا ميكروفون أو سيارة عليها ميكروفون، وليس هناك ناس مقتنعون أن المحل الذي هم فيه عليهم أن يلازموه كي لا يضعف "الموكب". تصورت أن هذا المشهد، هذه الطريقة من الاجتماع والحضور، هي صورة لصيرورة لبنانية تاريخية، قوامها هذا الاستقلال الطوعي عن مصادر أو مراتب الأمر.
طبعاً، كان في الذهن الأشياء والأمور التي أنتجتها وثبتتها غلبة ما سميته "العروبة السياسية"، وهي سيرورة تشكيل جماعة حاكمة، متنافرة المصالح ومتنافرة المادة الإنسانية والاجتماعية، لحمتها من خارجها، على قدر "خارجية" العروبة السياسية، أو العروبة العربية، عن مجتمعاتها.
14 آذار اسم لقوى أو تيارات سياسية واجتماعية، وُلد تكتلها من واقعة، من حادثة. لم تولد من أمة لبنانية واحدة سرمدية، لم تولد من فكرة تملك جهازها السياسي التاريخي الأهلي.. المتخيل أو الحقيقي. لكنها ولدت من تشابك ومن التقاء روافد، استجابت لدواعٍ بلورتها الحادثة وتاريخها.
وفي استعراض مقارن لتواريخ سياسية في العالم العربي (أي العالم الذي سكانه ينطقون بالعربية)، غلب دائماً على نشوء تيارات وقوى سياسية مثالٌ زعم على الدوام تلخيص روح الأمة، مصائر الأمة، مراتب الأمة وأقوامها. فالتواضع اللبناني، الذي هو تواضع ضخم مثل أبي المتنبي (و"أبو" المتنبي هو جدته في المناسبة: "ولَوْ لمْ تَكُوني بِنْتَ أكْرَمِ والِدٍ... لَكانَ أباكِ الضّخْمَ كونُكِ لي أُمّا)، نشأ عن حوادث تشبه حادثة 14 شباط و14 آذار 2005 وغيرها من الحوادث. فـ"لبنان" القرنين السابع عشر والثامن عشر ارتسم في سياق حوادث ضم وفرز، وفي سياق تكوّن أجسام اجتماعية غير معروفة من قبل، مثل الكنيسة، ومن وصلٍ بين ما كان منفصلاً، ومن استيراد خارج إلى الداخل، ومن خروج عاميين من عاميتهم وتصدرهم، من غير نسب ولا صلب ولا شرف، جماعتهم العاملة والساعية في مناكب الأرض.
من ناحية ثانية، هذه الصيغة التاريخية، صيغة تكوّن لبنان واللبنانيين ومجتمعاتهم، لا بد من الإقرار بانقطاعها، وبنزيفها ربما طوال القرنين الماضيين، التاسع عشر والعشرين، هذا التاريخ ليس روحاً وليس ماهية وإنما هو بحسب منطقه (منطق هذا التاريخ) الفعلي، متصل أو منقطع، وهو تدبير يخطئ ويصيب، ينتكس، يتقدم أو ينجز. فالحال هو أن صلتنا المدركة والفاعلة بهذه بقيت مترجحة ومضطربة إلى اليوم. وهذا ما لا تطيقه لا العروبة السياسية ولا التشيع الخميني ولا الحركات الأصولية والجهادية الإسلامية. فما أنجزه الاحتلال السوري طوال ثلث قرن تقريباً هو إخراج السلطة السياسية والدولة من الروابط الضعيفة، التي كانت تشدها إلى مجتمع المجتمعات اللبنانية، ونقصد بهذا عدم وجود مجتمع متماسك وواحد.
وجزء من التراث التاريخي اللبناني الوطني، هو علاقة تقييد بين المجتمعات الأهلية وبين سياسييها، أو قيادييها أو وجهائها، هي غير السلطة، ولعبت طوال القرن التاسع عشر دوراً راجحاً وحاسماً في الرقابة على العائلات وعلى أسر الوجهاء.. وعلى العاميين، أمثال يوسف كرم، الذين خرجوا من الناس ومن الجماعة، من غير الأشراف والوجهاء، وقاموا بتحريك جماعتهم ورسم مستقبلهم ومستقبلها.
العروبة السياسية، "القيادة السورية"، وحليفها وخادمها المحلي، أتت بنهج سياسي قام على اقتلاع الوجاهات والناس الذين سماهم العرب "أهل القوة". اقتلعهم من مرجع يحكم مشروعيتهم. فيُنتخب النائب ليس لأن له عزوته، أو لغرضيته، أو ليخدم مصالح جماعة تتحكم بانتدابه، إنما تتشكل لوائح "بوسطات" أو "محادل" بناء على معايير تصدر من فوق وتُملَى على تحت. وهذا هو منطق "الودائع" الانتخابية، ومنطق تسديد خدمات إلى الأجسام السياسية الكبيرة، الميليشيات المسلحة أو شبه المسلحة، وترتيب رواتب أو مرتبات على انضباطها السياسي، وعلى سيرها في خط ضباط الاستخبارات والولاة السوريين.
14 آذار، الواقعة، العلم، الشارة، بعد نحو 30 سنة على صوغ "نظام الحرب الأهلية"، انقلب على هذا المنطق، أي استعاد المبادرة إلى الجماعات. والحق أن هذه الجماعات لم تنسخ الأبنية الأهلية السابقة، والمتصدعة في أثناء الحروب المتناسلة، إنما مزجت عوامل متفرقة ولدت بدورها أبنية سياسية هجينة.
وغلبّت هذه الهجنة المنظمات، المسلحة حالياً أو سابقاً، وأولتها مكان الصدارة، وألحقت بها الأجزاء الأهلية التقليدية وأرجعتها إلى مكانة ثانوية، واستوعبت جزءاً من الفئات أو الطبقات المتوسطة الجديدة (المهن الحرة، الخدمات، التجارة المتوسطة، المكاتب، المراتب الادارية والتنظيمية...) من غير أن تتيح لها بلورة أجسامها السياسية المستقلة والحاملة لمصالحها وهمومها وأشكال علاقاتها وثقافتها، وألحقتها بها سياسياً وثقافياً.
ورمى الاصطناع والافتعال الكبير الذي فبركته العروبة السياسية اللبنانيين في دوامة أو في لجة الحياة السياسية المتخيلة من ألفها إلى يائها. ومرتكز هذا التخييل هو جسم "حزب الله" الذي رُفع نصباً لمقاومة إسرائيل والغرب عموماً (رغم أن إسرائيل ليست الغرب، والغرب ليس إسرائيل، على خلاف الزعم القومي العروبي والإسلامي). ولم يتماسك هذا التخييل إلا بمجموعة من الافتراضات والمزاعم، التي ذهبت إلى أن "المقاومة" هي صلب الكيان الوطني، وأن الأعمال العسكرية هي لب السياسة ومادتها، وأن العمليات الأمنية في هذا البلد المجاور أو ذاك البلد البعيد، نهج مشروع، ولو أدى إلى شرذمة المجتمعات المعنية، وانتهاك دولها وقوانينها وروابط أهلها.

* كيف تنظر اليوم إلى تلك التجربة اللبنانية (14 آذار)، التي يصفها البعض بأنها كانت مقدمة "الربيع العربي" أو أنها "فرصة مهدورة"؟

- منذ بداياته، التكتل الذي حمل اسم 14 آذار وولد من تظاهرة ذاك اليوم، اتسم برخاوة بنيوية طاولت الكتل الجزئية، ومحاور تكتلها، كما طاولت العلاقات بين الكتل. من الأمور التي استوقفت كثراً وأنا منهم، منذ بدايات التكتل ونشأته، احتفاظ الكتل الجزئية باستقلاليتها التنظيمية والسياسية والانتخابية والفكرية. وهذا الاستقلال نهض على قواعد أهلية واجتماعية وإقليمية مختلفة ومتفرقة. وبدا أن هناك نوعاً من صمَم تجاه أي رغبة أو مطالبة بشبك الجماعات ومنظماتها وأماكنها وخططها ومناهجها. من ناحية أخرى ينبغي القول ان هذه الكيانات الأهلية تكوّنت في الاعوام الأربعين السابقة، أي تلك التي شهدت أعوام طويلة منها حروباً وعداوات ومصالح متشابكة أو منقطعة وإقصاءات واغتيالات... وسعي العروبة السياسية السورية والخمينية في تصديع الأجسام السياسية، وانتزاع جذورها من تربة جماعاتها وأرض هذه الجماعات ومرجعيتها، حجّر أو جمّد الأجسام السياسية على شكليتها، وعلى صوريتها، وعلى دورانها على نفسها وتغذيها من هذا الدوران..
طبعاً، وولادة حركة 14 آذار (وليس الكتلة المؤتلفة أو المجتمعة من الكتل الجزئية)، هذه الحركة هي غير تنظيماتها، ولكنها، على قدر كبير، مرتبطة بتنظيماتها، لم تملك ولم يتح لها لا الوقت ولا الفرص، لأن تكسب ديناميتها، وأن تنشأ منها بنى سياسية في مستطاعها أن تفرض على الأطر والتيارات والكتل السياسية السابقة منطقاً ومعايير بدأت تتلمسها. ولم تنجح في الوقت القليل المتاح لها - قبل الانتخابات وقبل تشكل 14 آذار الكتلة - في تكوين ملامحها الخاصة. فعاد النبيذ الجديد إلى الانسكاب في الأقداح أو القوالب القديمة.
وهذه الحركة ليست هي مقدمة لـ"الربيع العربي"، على رغم اشتراكها مع حركات الربيع العربي في التلقائية العامية والقيام على انسلاخ السلطة أو الأنظمة عن حركة مجتمعاتها، ولا هي "فرصة مهدورة"، لأن ما صنعته لا أظن أنه ذهب هدراً، وهو باق في متناول محاولات قادمة، إذا استأنفت هذه الحركات تاريخاً انقطع مع سحق الربيع العربي وحركاته ووأده.

* نشهد اليوم تفككاً واسعاً لـ"الدولة الوطنية"، خصوصاً في المشرق العربي. وإذا كان فشل مشروع "الدولة الوطنية" مديداً وتاريخياً، ما هو المستجد برأيك الذي جعل الفشل انفجارياً إلى هذا الحد؟

- أرى أن موضوع "الدولة الوطنية" العربية هو محل غموض واشتباه حادّين. الدولة الوطنية، ومثالها، هي خلاف السلطنة، الصغيرة أو الكبيرة. الدولة الوطنية تنشأ ونشأت عملياً عن تصدي قوة سياسية، اجتماعية، وعسكرية واقتصادية، إلى تحطيم كيانات عصبية ومحلية أضعف من هذه القوة المتصدية. في صياغة خلدونية لهذه السيرورة، يجوز القول أن تغلّب عصبية قوية على عصبيات أضعف، شرط إرسائه (التغلب) على كيان دولة، لاحقاً وطنية، هو ذوبان عصبية الدولة القوية في كيان عام ومشترك، ينتقل من امتصاص موارد العصبيات الأضعف واحتكارها العنف وآلاته، ووضعها في تصرف رؤساء العصبية القوية وجماعتها، إلى توزيع عام وغير متعسف لهذه الموارد. 
والمرحلتان المتلازمتان دامتا في المثالات الأوروبية، قروناً أربعة أو خمسة على الأقل. وأدى التلازم إلى معادلة عسيرة مضطردة تقتضي مبادلة العنف الذي أدى في المرحلة الأولى إلى تدمير الروابط العصبية الضعيفة والجزئية والملحقة، بدمجٍ تفقد معه عصبية الدولة الغالبة انفصالها العصبي وخاصها الأهلي، وذلك لقاء انقياد أهل الجماعات المُدَمَّرة الروابط العصبية الداخلية، إلى قانون عام ومشترك.
وهذه العملية الطويلة والمتشابكة تفترض عدداً كبيراً من الشروط غير المضمونة النتائج (على خلاف "قوانين" نديم البيطار في الوحدات القومية)، لعل أبرزها هو صوغ مفهوم عملي ومؤسسي عن فكرة "صاحب الحق" (Sujet de droit). وصاحب الحق ليس من يسري عليه القانون، فالقانون هو من صلاحية الدولة والحاكم، على رغم أن الحاكم والدولة يسري عليهما القانون العام، تماماً كما يسري على العامة أو "الرعية". والقانون يكتسب صفته من التزامه معايير أصولية ومبدئية، إذا خرج عنها فقد إلزامه وعموميته، وانتهى إلى هوى لا يقيد غير صاحبه.
أما الحق (ويُجمَع على حقوق)، فمصدره هو مَن ليسوا في موقع السلطة والافراد والجماعات الذين يُلزمون السلطة بمراعاة حقوقهم ويتولون الدفاع عن هذه الحقوق وفرضها، في إطار علاقات سياسية، سمتها الأولى هي "مشروعية النزاع". فلا حق إلا بالإقرار باختلاف الجماعات وكثرتها، ومنها يأتلف الجسم السياسي، وتدور العلاقة السياسية الدستورية في الدولة (الوطنية) على محور النزاع.
وعلى خلاف هذا الوصف التاريخي لنشأة مثال الدولة الوطنية، تنزع الآراء والأفكار العربية، المتداولة والسائرة، إلى حمل الدولة الوطنية على رغبات طيبة، وعلى انبعاث الروح القومية الواحدة، وتجدد النسغ التاريخي السابق والمفترض حياً وهاجعاً. ومثل هذه الآراء تعمى عن أحوال الدولة الوطنية المولودة من تاريخ وظروف وإرادات ونزاعات. ولعل هذا الأمر هو السبب في فقر الأفكار السياسية التي تتناول مسألة الدولة، ودورانها في حلقات مفرغة. وأرى أن معضلة أنظمة الاحتكار العصبي العربية هي في تناقض داخلي مدمِّر. فالعصبية المستولية على الدولة يستحيل عليها، ما احتفظت بغلبتها لنفسها وعلى صفتها (العلوية، السنّية، الشيعية، العربية العرقية، القبلية، الخ.)، دمج العصبيات المغلوبة في كيان دولتها. فالاستيلاء العلَوي، على هذه الصفة، ينفخ في العصبيات المغلوبة الأخرى، ويدعو أهلها إلى الاجتماع على عصبيتهم الذاوية أحياناً. ولا خروج من هذا الدور الذي يدور إلا برضوخ العصبية الغالبة أو المستولية لانقراضها وأفولها وذوبانها في كيان سياسي وطني يعود على العصبيات المغلوبة من قبل بامتيازات القانون وبامتيازات صاحب الحق الفرد وأصحاب "الحقوق الذاتية".
ويقود الاستيلاء العصبي، على رغم اصطناعه في أحيان كثيرة ولاء بعض نخب العصبيات الأخرى (على شاكلة عبد الحليم خدام، ومحمود الزعبي وفاروق الشرع وعلي مملوك اليوم) إلى انقسام العصبيات انقساماً حادّاً وقاطعاً، يجمع في قطبٍ أول المستولين وحلقة المقربين والمنتفعين، وفي القطب الآخر الجماعات المغلوبة أو الضعيفة أو المستضعفة. ويتستر هذا الانقسام، الذي يقبل استثناءات جزئية كثيرة ومركّبة، على نزاعات أهلية واجتماعية ومصلحية وثقافية كثيرة، تغذي الفرق القاطع بين الغالب وبين المغلوبين، بين مسيطر وبين منقادين وخاضعين. ويحول الانقسام على هذا النحو دون سيرورة دمج وطنية أو "قومية". ومن ناحية ثانية، يقود الاستيلاء العصبي إلى بناء "دولة" على رسم السلطنة أو الامبراطورية (الكلمة الكبيرة قد تعني إمارة تافهة في ناحية مقفرة من نواحي البادية أو الجبل).
وهذه "السلطنة" تضوي جماعات وأهالي ونواحي وديرات وقطائع.. كثيرة أو قليلة، تربط بعضها ببعض علاقات ولاء وأحلاف، شرطها الأكيد هو ألّا تفقد هذه الجماعات قوامها العصبي الداخلي، وألّا يلتحق أفرادها وآحادها، على صفتهم الفردية، بكيانات أوسع أو بكيان غالب. والحق أن هذا لا يخلّ بالعقد السلطاني، فهو يسري على تماسك العصبية الغالبة سريانه على العصبيات المغلوبة. فمن مصلحة العصبية الغالبة ألّا تتماسك بمنطق الأفراد الإرادي والحرّ، لأن هذا الضرب من التماسك لا يُؤمَن معه انفراط عقدها، والتحاق أفرادها بمصالح مشتركة أخرى تُفقِد أهل القوة موارد قوتهم.
وإذا عددنا هذه العناصر الثلاثة، وجُمعت في ما يشبه منظومة، وامتُحنت هذه المنظومة في حوادث مشهودة في السنوات الماضية، لبدا ربما أن الوحدات الخاوية التي أمسكت بمقاليد المجتمعات العربية المشرقية، استنزفت طاقتها على تخييل أحوال سياسية واجتماعية مترابطة ومؤتلفة. على سبيل المثال: امتحن انهيار الاتحاد السوفياتي والكيانات السياسية المصطنعة التي وحّدتها قسراً حركات التحرر الوطني، في النصف الثاني من القرن العشرين، (امتحن) هذا الانهيار نظامَ الدولة الحزبي (الدولة - الحزب) والاحتكاري، الريعي والرعوي، المركزي، حين خسر هذا النظام مثاله المتخيَل والمتوهَم، وافتقر إلى مدده الاستثماري والتقني وخبرائه، مدده التسويغي والتاريخي (الأيديولوجي). فتكشفت الخسارة عن هوّات فاغرة تفصل أهل القوة عن أهل الضعف، والميسورين عن المعوزين، والعاملين عن البطّالين، وأهل الريف عن أهل المدينة، والمتعلمين عن الأميين، والمتماسكين عن المتساقطين... وفي وسط الانفراط هذا تربعت القضايا الكبيرة: الوحدة القومية، القضية الفلسطينية، النظام الإقليمي، التكامل الاقتصادي- السياسي، التنمية، دولة الرعاية، التوازن الاستراتيجي، المقاومة... تربعت في خوائها العاري، وظهر وراء الدعاوى الضخمة هزال وإدقاع يدعوان إلى الشفقة والتعاسة.
وفي قلب هذه المعمعة، انتصبت معضلة أخرى مدمِّرة، هي معضلة الحركات الاسلامية والجهادية. فالفرق الشاسع بين أفق هذه الحركات المُدّعى، وهو عريض عرض تاريخ الإسلام الامبراطوري وفتوحاته المترامية وموارده الهائلة وانفراده بالسلطان في قلب العالم القديم طوال قرون، وبين أحوال هذه الحركات الفعلية، يدعو الفرق أصحاب الحركات الجهادية الإسلامية إلى ملئه أو رتقه بعنف واستماتة يشبِّهان القوة واحتمال الخروج من حال الضعف التي تتخبط فيها هذه الحركات، ويتخبط فيها أصحابها. وحين يحصّل بعض هذه الحركات قدراً من القوة، شأن "داعش" أو "النصرة" أو شأن غيرها من الحركات الجهادية (بوكو حرام، أنصار بيت المقدس، أنصار الشريعة، حركة الشباب..) وبعض الجماعات الإخوانية، جمحت إلى أقاصي العنف الذي تمتلك بعض أدواته أو عوامله. وهذا على خلاف الجماعات الضعيفة والقليلة في ابتداء أمرها. وأظن أن التقاء أو انعقاد هذين العاملين، الأول خسارة الأنظمة الاستبدادية لحمتها المؤسسية ودورها وقوامها التماسك ظاهراً، والثاني بروز تيارات الجهاد الإسلامي وانتشارها وانتشار مقاتليها ومجاهديها في المجتمعات المشرقية، بعد اختبارها الأفغاني والجزائري والعراقي- انعقادهما إذن أفضى إلى تزامن انهيار مجتمعات هذه الدول الاستبدادية وتوسل الجماعات المغلوبة بإسلام جهادي أسير تناقضاته، إلى جموح العنف والاقتتال الأهليين، وانفلاتهما من كل عقال. فبلغ العنف مثالاً مجرداً ومنعتقاً من أي مضمون معنوي واجتماعي محدد، ما استهوى متساقطين كثراً من أبنية اجتماعية متداعية ومتصدعة. وهذه حال أعداد كبيرة من المتطوعين الغربيين في صفوف الحركات الجهادية، وهي حال من جمعتهم الخمينية الإيرانية في منظمات وشراذم قريبة من جيوش المرتزقين. وعلى هذا المثال، نشأ "حزب الله" اللبناني، وتنشأ اليوم المنظمات الشيعية العراقية المسلحة.

(يتبع في جزء ثان وأخير)
 http://www.almodon.com/culture/917000ac-212a-4afe-8538-69c25309c56c#sthash.zzKkdAbS.dpuf

ليست هناك تعليقات: