في أوائل شباط (فبراير) 2008 بدأ وفدان مفاوضان، عراقي وأميركي، مناقشة اتفاق امني وعسكري يخلف قرارات الأمم المتحدة التي يرجع إليها الطرفان، منذ غداة نيسان (ابريل) 2004، وسقوط نظام صدام حسين ودولته، في تنظيم علاقاتهما تنظيماً قانونياً. وكان مقدراً ان تنتهي المحادثات هذه في تموز (يوليو) المنصرم. فتنتهي الهيئات الدستورية العراقية، من المجلس السياسي للأمن الوطني الى مجلس الوزراء والنواب، بعدها من مناقشته وإقراره في اثناء الصيف، قبل ختام السنة، أولاً، وقبل اقتراع الأميركيين على الرئيس الأميركي الـ44، ثانياً. وختام 2008 هو موعد انقضاء صلاحية القرارات الدولية في شأن العراق المحتل وإدارته. فينبغي، على رأي الائتلاف (في قيادة الأميركيين)، أن تثمر الأعوام الأربعة المنصرمة، وأن يثمر خصوصاً العام ونصف العام المنقضيان منذ زيادة عديد القوات الأميركية من نحو 140 ألفاً الى 165 ألفاً، حالاً عراقية داخلية، سياسية وأمنية، تبرر الدعوى الرئاسية الأميركية بأن جزءاً من "مهمة" الحرب أُنجز. وآية الإنجاز القوية والواضحة تولي الدولة العراقية، وقواتها الذاتية، شطراً متعاظماً من أمن مواطنيها وأراضيها في 12 محافظة من 18 في جهات العراق كلها، وتولي الدولة نفسها المفاوضة على أمن العراق الإقليمي. والوجه الثاني من الإنجاز توكيل الدولة العراقية، السيدة والمستقلة شطراً من الأمنين، الداخلي والخارجي، الى الائتلاف، أي ألى القوات والديبلوماسية الأميركية معاً.
المعنى المزدوج
ولا يخفى أن بلورة الاتفاق العراقي – الأميركي، على وجهه الأمني الداخلي وعلى وجهه العسكري الإقليمي، قبل الانتخابات الأميركية في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) الوشيك وقبل 31 كانون الأول (ديسمبر)، يقدم للسياسة الأميركية، البوشية في الأثناء، إقراراً، عراقياً وعربياً وإقليمياً، بإنجاز قد يكون متأخراً بعض الشيء، وباهظاً من غير شك، ولكنه لا ينكر. فهو قرينة على حسم سياسي وطني من الانتخابات والهيئات والأجهزة والإدارات التي مرت. ومعنى الاتفاق ان بؤرة الإرهاب العراقية أخمدت تقريباً على رغم تضافر انهيار "الدولة" تحت وطأة الغزو الأميركي، وتجدد العصبيات الأهلية والمذهبية، واقتتال القوى والقيادات السياسية المحلية، وضلوع قوى إقليمية كثيرة في تيسير انتقال الجماعات "الجهادية" وتسليحها ورعاية الجماعات والقيادات البعثية والقبلية المناوئة، على رغم تضافرها على إشعال البؤرة هذه والنفخ فيها. ومعنى الاتفاق كذلك، وهو يكمل المعنى الأول، تكذيب التكهنات القريبة من اليقين بأن العراق مقبرة الامبراطورية الأميركية، وأن "المشروع" الأميركي طوي الى غير رجعة، وخلى محله لشرق أوسط "إسلامي" تتربع إيران الخمينية والنجادية في قمته، وتتولى إدارته بواسطة "جيوش الحرية" التي تنشئها وتمولها وترسم لها نهجها السياسي والعسكري الأمني، وتتقاسم النفوذ فيه مع القوى الإقليمية التي تفيء الى جناحها وظلها. ويتصل المعنى المزدوج بقضايا ومعارك إقليمية كثيرة. فلا يترك قضية إقليمية، أو وجهاً إقليمياً لقضية وطنية أو محلية، فلسطينية أم لبنانية واستطراداً سورية وأردنية وخليجية ومصرية وتركية وإيرانية بديهة، من غير ان يؤثر فيه على مقدار أو آخر.
وتصدرت السياسة الإيرانية، وغاياتها وخططها، محاولات عرقلة الاتفاق الأمني العراقي – الأميركي. ففي سياق الحوادث والنزاعات المتعاقبة منذ الاحتلال الأميركي العراق، وأفغانستان قبل العراق، على أقرب تقدير، يحول نهوض دولة عراقية متماسكة الى الغرب من ايران، تحجز بينها وبين جوارها العربي – الإسلامي القريب والمختلف، يحول بين ايران وبين بسط نفوذها على مجموعة من الكيانات والأبنية الأهلية والسياسية الضعيفة اللحمة والمتباعدة. ولا شك في ان انبعاث التماسك العراقي في رعاية أميركية يقوض المطامح الإيرانية الإقليمية، ويتهدد السيطرة الخمينية على إيران نفسها، ويحرمها المدى الريادي الذي تحتاج إليه المهمة أو الرسالة التاريخية التي تنسبها القيادة الخمينية والإمامية الى نفسها، وتسوغ سيطرتها على الإيرانيين، والشيعة العرب وغير العرب، بها. وتملك السياسة الإيرانية في العراق أدوات كثيرة تخولها التأثير في قرارات الدولة والجماعات والقوى التي تشدها الى إيران، طاقماً حاكماً وأجهزة وهيئات أهلية، روابط متفاوتة القوة. ويملك حليفها السوري أدوات أخرى.
وبينما كانت المفاوضة على الاتفاق الأمني تخطو خطواتها الأولى، في موازاة خطة بترايوس وأوديرنو وطلائع بعض النجاح "غير المستقر"، وغير بعيد من المفاوضات بين ايران وبين دول مجلس الأمن ومعها ألمانيا (5+2)، أخرج مقتدى الصدر، المتخفي في إيران، والمنازع على القيادة الشيعية العراقية، مسألة الاتفاق من الظل الذي كان يلفها الى العلن. فعزم على دعوة "تياره" و "جيشه" و "كوادره" ببغداد ومدن الجنوب الى تظاهر "مليوني" في 9 نيسان (ابريل) 2008، اليوم الرمزي والملتبس، وإلى اعتصام عام، تنديداً بالاتفاق المزمع. وتذرع الى دعوته هذه، وإلى نقل مسألة الاتفاق الأمني، وجدولة انسحاب "الائتلاف" وقواته الأميركية، الى قلب النزاع السياسي العراقي والمسألة العراقية عموماً، برفض أميركي سابق ومعلن تعيين تاريخ انسحاب يتفق عليه بمعزل من الأحوال الميدانية، واختبار متانتها. والحجة الصدرية الثانية هي حوادث انتهاك القوات الأميركية المتكررة والكثيرة أمن المدنيين العراقيين، وإيقاع القوات هذه والشركات الأمنية المتعاقدة معها عشرات القتلى في صفوف الأهالي. والحجتان متينتان وقويتان، وتتوسلان بمشاعر عامة العراقيين وشكواهم الأليمة والطويلة من الفوضى التي عمت البلاد منذ حصار صدام حسين ثم سقوطه، وانقلاب العراق ميدان "جهاد" مشرع الأبواب، ومسرح اقتتال أهلي وإقليمي.
وتولى مقتدى الصدر قيادة التنديد بالمفاوضة على اتفاق أمني وعسكري، هو أقرب الى المعاهدة منه الى الاتفاق الظرفي والجزئي، في منعطف سياسي، عراقي وإقليمي، حاسم. ففي مطلع 2008، كان انقلاب العشائر السنية على "القاعدة" يتمخض عن نتائجه الأولى وغير الثابتة. وكان على القوات الأميركية حمل حكومة نوري المالكي، وقيادات الشرطة المحلية والمحافظين، ومعظمهم من الشيعة، على قبول مقاتلي "مجالس الصحوات" في عداد القوات العراقية الوطنية او الرسمية. واقتضى ذلك تحصين الجيش العراقي وقوى الأمن الوطنية والمحلية، وبعض الإدارات المحلية، من اختراق الجماعات الشيعية الحزبية والمسلحة لها. واقتضى كذلك مكافحة الاختراق. فكان مقتدى الصدر، ومن معه ووراءه في العراق وفي الجوارين الشرقي والغربي، يسابق إجماعاً أهلياً على معارضة القوات الأميركية، إن لم يكن على قتالها.
وعلى مثال سياسي وأهلي عربي شائع، أراد زعيم التيار الصدري وقائد "جيش المهدي" تصدر معركة إجلاء الأميركيين عن العراق، والتربع في رأس "الدولة" العراقية وحده، وقتال الجماعات السياسية والأهلية الأخرى والمنافسة، وإقصاءها عن مراتبها ودوائرها ومصالحها المشروعة وغير المشروعة، والتشكيك في دالّة الهيئات الدينية والمدنية، وفي تمثيلها اجزاء من مجتمع متناثر ومتصدع. فشن "جيش المهدي" عمليات مسلحة على قوات الأمن والجيش والإدارات التي تأتمر بأمر خصمه الأول "المجلس الإسلامي الأعلى" (الحكيم)، المهيمن على الجنوب. ولم تسلم المرجعية، وعلى رأسها علي السيستاني، من الهجوم المادي والمعنوي. فانفجرت اشتباكات دامية في نيسان، موعد التظاهر "المليوني" المقدر، بالنجف والكوفة وضواحيهما. وتحالف على "جيش" الصدر، المتهور والأرعن، خصومه كلهم على ما يبدو. فقتلوا مئات من أنصاره المعلنين، ومن احتياطه "السماوي". فهزم "التيار"، وخسر معركة أساء الإعداد لها، على عادة عرف بها، وصارت اختصاصاً دامياً. فألغيت التظاهرة، وخسر "التيار"، في الأثناء، شطراً كبيراً ربما من الجناح "القومي" السني. ففقد سنداً قوياً لمعركته الوطنية، وتحريضه على الاحتلال الأجنبي باسم عراق "عربي" واحد، بينما كان يحوم على ايران الخامنئية والنجادية طيف ضربة عسكرية استباقية تقوض بعض مقومات البرنامج النووي، المدني والعسكري, جميعاً.
طاقم سياسي متهافت
والحق ان مقتدى الصدر، وإيران وسورية معه ومن ورائه، كان يقاتل الاحتلال وقواته، من جهته، ويقاتل القوى والجماعات المتحالفة مع الاحتلال على بناء مرافق إدارة أمنية وخدمية ومدنية، من جهة ثانية، بينما يشترك وأجزاء من القوى والجماعات الشيعية المتحالفة مع الاحتلال في عمليات قتل وعدوان واغتيال مذهبية محلية، ويستدخل المرافق الرسمية في هذا السبيل. ويسطو "التيار" على الموارد المحلية، وعلى حرمات الناس وهيئاتهم الأهلية، و "حرياتهم" حيث قدر. وهذا ليس شأن "تيار" الصدر المتواري و "جيشه" وحدهما. فالقوى الأخرى ليست أقوى تماسكاً من "التيار" و "الجيش". ولكنها، على خلافهما، تعول في سبيل تثبيت مواقعها ونفوذها، وضمان حصتها من عوائد السلطة، وتقوية ولاء مواليها، على استدخالها المرافق والمراتب والهيئات، وحماية إقطاعاتها المحلية والأهلية بواسطة المرافق هذه، ونفوذها فيها. وهي تجاري مناهضة الأميركيين طبعاً. وبعض محازبيها ضالعون في مقاتلتهم. ولكن قياداتها تدرك، من وجه آخر، ان السياسة والقوات الأميركية وحدها ضمان "وحدة" العراق الإقليمية والسياسية، والقوى القادرة على حماية دولة وطنية آتية من تناهش الأطراف الإقليميين، والعصبيات الأهلية الداخلية، الجماعات العراقية وولاءاتها الرجراجة.
ونهج الجماعات والأحزاب العراقية هذا يتحدر من ملابسات القضاء على سلطة صدام حسين، وسياق "تحرير" العراقيين من النظام الصدامي الحسيني. فارتضت الجماعات والأحزاب هذه، وفي مقدمها المجلس الإسلامي الأعلى ("الثورة الإسلامية" سابقاً) وحزبا الدعوة والفضيلة – وكلها أحزاب شيعية ناشطة ومقاتلة وسرية ومنقسمة، وبينها وبين طهران الخمينية روابط تترجح بين الحلف وبين الجفاء – حكم العراق "هدية" من الاحتلال وقواتها، من غير إسهام عسكري أو سياسي فاعل، ومن غير تورط في مساندة صريحة ومشروطة ومعللة. ولعل الثغرة الواسعة في حال القوى والأحزاب هذه، أو موطن ضعفها، هي تهافتها الداخلي، وائتلافها من شراذم وعصائب وشطور، ومن مصالح وميول من العسير تماسكها على طاقم ونهج وبرنامج لا غنى عنها لقيام دولة وطنية ودوامها. وأقامت وقتاً طويلاً، ما لا يقل عن 3 أعوام، قبل ان تبادر بعض الشيء الى الانخراط في عملية سياسية تمهد لاستلام مقاليد السلطة، عن بعض جدارة وشجاعة. وتقتضي هاتان الإقرار بثقل الإرث الصدامي الحسيني، و "الدولة" القومية الاستبدادية عموماً (ويصح هذا في الدولة المذهبية والفقهية)، وباستحالة نهوض القوى الذاتية والأهلية، المشرذمة والمستتبعة، وباستحالة نهوض القوى الذاتية والأهلية، المشرذمة والمستتبعة، ببناء الدولة، من بسط الأمن وتوفير الخدمات الى الاضطلاع بمهمات السيادة الجامعة في الداخل والخارج.
وكانت المفاوضة على الاتفاق الأمني اختباراً للطاقم الناشئ. وظهر تدريجاً ان كسر شوكة القوة الأهلية والعسكرية الصدرية – وعلى نحو مفاجئ وملغز خلص الصدر من هزيمته الى إعلان مهادنة القوات الأميركية وتعليق قتاله إياها، والتزامه التعليق عموماً في العلن والسر – لم يحرر القوى الأخرى من ارتهان داخلي وإقليمي، قومي وإسلامي، مقيد وثقيل. فانتهجت في مفاوضتها نهجاً مسوفاً يبدو انه انطلى على المفاوضين الأميركيين الى أواخر آب وأوائل أيلول (سبتمبر). وفي الأثناء، قوى الاقتراع على قانون النفط، ثم إقرار قانون مجالس المحافظات وانتخاباتها (في 24 ايلول)، في أعقاب خطو القوات العراقية العسكرية والأمنية خطوات على طريق المهنية والانضباط والوطنية المتوازنة، قوت هذه مشروعية المفاوضين العراقيين والسلطة التي انتدبتهم، ويعود إليها، مجلساً سياسياً وطنياً وحكومة وبرلماناً، النظر في المعاهدة وإقرارها.
ولا ريب في أن نوري المالكي، رئيس الوزارة، ورأس الائتلاف الشيعي النيابي (82 نائباً من 275)، يدرك تبعات المسألة. وهو يدرك ان التسويف والمماطلة في إقرار الاتفاق يماشيان في المقام الأول، رغبة أحمدي نجاد وبشار الأسد في الظهور مظهر "الناخبين" في الانتخابات الرئاسية الأميركية، والمؤثرين في إخفاق المرشح الجمهوري، وفي فوز المرشح الديموقراطي حامل لواء "محاسبة" السياسة الخارجية البوشية في الشرق الأوسط. ومن وجه آخر، قد لا يكون أدنى مرتبة من الأول، يخرج الاتفاق علاقة العراق بالأمم المتحدة من الرعاية والوصاية الدوليتين. وتخرج العراق ودولته تالياً، من قصورهما السياسي الدولي. وعراق راشد دولياً، وسنده مشروعية داخلية تنزع الى التكامل، يعطي معاهدة ثنائية ودولية مع المحتل قوة ومشروعية سياسيتين وحقوقيتين تكذبان تكذيباً بليغاً مزاعم الجوار "القومي – الإسلامي" في جدارته وحده بالقيادة الإقليمية، وفي "انهيار المشروع الأميركي وإفلاسه". ويحاول الجوار "القومي – الإسلامي" (وهو قومي – قومي في نهاية المطاف) إرجاء إبرام المعاهدة، فيلوح بتمديد ولاية الأمم المتحدة على العراق، ودولته الفتية، على ما ذهب إليه عمار عبدالعزيز الحكيم (في 27 تشرين الأول). وكان علي الدباغ، الناطق باسم الحكومة، استبق الاحتمال هذا، في 15 من الشهر الجاري نفسه.
وجلي ان دوام الوصاية الدولية يضعف المتعاقدين، الأميركي والعراقي. ويمنح المعارضة العراقية الصدرية، والوصيين الإقليميين، الإيراني والسوري، فرصة الطعن في رشد الحكومة العراقية الداخلي والدولي، وفي دور الاحتلال واضطلاعه بقيادة الدولة العراقية، أمناً وتشريعاً وإدارة، الى الرشد هذا، وإلى الأمان المنشود. وبعض المشكلة مصدره خوف الحكومة، ومعظم القوى السياسية المؤتلفة فيها (على تفاوت في ما بينها)، من الاعتداد بمشروعيتها، وبما أنجزته أو أُنجز في مواكبتها واستجابتها. فسعى المالكي في تحميل النجف، والسيستاني في المرتبة الأولى، المسؤولية عن إقرار مسودة الاتفاق. فزار رئيس الحكومة المرجع (في 11 تشرين الأول)، ونوه بحصول المفاوض العراقي على "تنازلات كبيرة" أميركية. وذاع ان الأميركيين وافقوا على جدول انسحاب مرن من المدن المتبقية (حده منتصف 2009)، ومن الأراضي العراقية (نهاية 2011). وأقروا بالولاية القضائية العراقية على أفعال الجنود الأميركيين الجنائية، خارج العمليات القتالية والثكن العسكرية. ولكن علي السيستاني رد المسؤولية على "الشعب وممثليه"، ودعا العراقيين ونوابهم الى تحمل التبعة عن عمل هو في صميم صلاحيات الدولة الراشدة.
العراق الإقليمي
وفي ما يشبه المواكبة لسلطة الدولة، تقاطرت الزيارات الديبلوماسية والسياسية العربية الى بغداد. وتوالى فتح السفارات، أو الإعلان عن العزم على فتحها، وتقديم السفراء أوراق اعتمادهم الى وزير الخارجية ورئيس الجمهورية، هوشيار زيباري وجلال الطالباني، في غضون أسبوعين أو ثلاثة من تشرين الأول. ولم يكن السفير السوري آخر السفراء، إذا كان عبدالله الثاني الأردني أول الزائرين المأذونين. وليس التقاطر العربي، الخليجي والمصري، بينما تدعو طهران السياسيين العراقيين، مسؤولين رسميين ومنشقين عن أحزابهم (أبرزهم ربما رئيس الوزراء السابق، الجعفري، ومنافس المالكي على قيادة حزب الدعوة، من خارج الحزب منذ بعض الوقت) الى رفض الاتفاق اتفاقاً ولا مصادفة.
وتصدى بعض الزوار، في أثناء زياراتهم، وقبلها أو بعدها، لمسائل استراتيجية شائكة، تتصل بدور العراق الإقليمي في الخليج، وعلى ضفتيه. فاقترح وزير الخارجية البحريني (خالد بن أحمد آل خليفة) إنشاء منظمة إقليمية عريضة تجمع الدول العربية الى إسرائيل وتركيا وإيران. ويخرج الاقتراح على القواسم المشتركة العربية خروجاً صريحاً، وإلى إجابة وزير الخارجية الإيراني، بالرفض طبعاً، تجند، في البحرين، ناطقون باسم "الأخوان"، وكتلة الوفاق البرلمانية الشيعية، والقوميين العرب، للتنديد برأي وزير الخارجية. وذهب اثنان من ثلاثة نقاد الى التحصن بالسياسة الإيرانية، ورأيها في المسألة.
ولم تثن الملاحظات على الاقتراح الوزير البحريني، بعد نيف وأسبوعين من إدلائه برأيه الإقليمي (في أول تشرين الأول ثم في 18 منه، في أثناء زيارة بغداد)، على "تأطير" خليجي لرأيه. فذهب ببغداد الى ان العراق "يشكل امتداداً طبيعياً لدول مجلس (التعاون الخليجي)". وعلى خلاف التصريح الأول، الفضفاض والبعيد، يلوح الرأي الثاني، في خضم مناقشة مسودة الاتفاق الأمني والعسكري، بخطة سياسية لا يسع إيران، ولا أنصارها العرب، إنكارها. فـ "الامتداد الطبيعي" يمهد لانخراط سياسي ومؤسسي. وانخراط العراق، بعد دخوله في "مِلك" غالبية سكانه الشيعية، في الدائرة الإقليمية الخليجية، العربية والسنية، لا يعدم معنى استراتيجياً عربياً، وقطبياً، نظير القطبية الإيرانية على ضفة الخليج الأخرى. وتحجز الكتلة الجديدة، إذا استوت وتماسكت، بين القطب الإيراني وبين الخطوط الخلفية المشرقية التي تسلل اليها، منذ 1979 – 1980، من طريق الرئيس السوري حافظ الأسد وبعض المنظمات الفلسطينية وشيعة لبنان، وانقلبت خطوط التسلل جادات عريضة منذ انهيار صدام حسين، والعملية الأميركية في البوكمال، في 26 الشهر الجاري، "تعليم" لإحدى الجادات هذه. واستئناف الوزير البحريني اقتراحه الأول، الخيالي، باقتراح إقليمي فرعي، يثبت القدم العراقية في كتلة الخليج الغربية، على أن تستوفي شروطاً داخلية لا تستوفى من غير طريق التعاون الأميركي، وعلى أن تخرج من الفلك الإيراني والمذهبي وقيديه، الداخلي والدولي، على قيام الدولة العراقية وعلى سيادتها.
وحملت دعوة النجف نوري المالكي، وربما المجلس الإسلامي الأعلى وحزبي الدعوة والفضيلة، الى الاضطلاع بمسؤوليات الدولة، حملته (هو وأصحابه) على الإحجام عما دعت اليه، وهو الشجاعة والصراحة السياسيتان. فتعلل بـ "غموض" بعض بنود الاتفاق الى إرجاء بته. وفي باب التمثيل على الغموض لم يذكر جدولة الانسحاب النهائي، ولا القواعد العسكرية المزمعة، ولا حدود الولاية القضائية، بل اقتصر على مسألة المرجع في اقتضاء "الظروف على الأرض" الانسحاب من المدن أو أرجائه. فسأل: "من يحدد الظروف؟". وهذا ضعيف. فمن ادعى قبل أيام قليلة، أنه انتزع "تنازلات كبيرة" من الأميركيين انما ينذر بذرائع صغيرة وطفيفة.
ويكرر عباس البياتي أحد نواب "الائتلاف" البارزين، للمرة الثالثة لائحة التحفظات وبنودها الخمسة (وهي كانت سبعة ثم ستة في غضون 10 أيام)، فيحصي: الدقة في جدولة الانسحاب، والحصانة القضائية ("تضعنا في هواجس"، على سبيل الدقة!)، وتفتيش البريد الداخل والخارج، والتردد الى المنشآت والمعسكرات الأميركية، ومطابقة النصين العربي والإنكليزي واحدهما الآخر. وترى نرمين عثمان، وزيرة البيئة، أن بنوداً في الاتفاق "تنتهك الدستور العراقي". وهي تقصد، على غرار البياتي، الحقوق المدنية والحريات التي يضمنها الدستور العراقي، على مثال أنغلو – ساكسوني عريق، مثل الحق في سرية المراسلات (على خلاف تفتيش الأميركيين البريد)، وحرية التنقل، واضطلاع الدولة بمراقبة أراضيها الإقليمية كلها (على خلاف انكفاء المعسكرات الأميركية و "استقلالها")، والمساواة القانونية والقضائية (على خلاف المحاكم الخاصة).
وتستظهر الملاحظات هذه بمعايير حقوقية ودستورية عالية، وأمينة على روح التشريع والمواطنية. ولكنها تغفل عن أمر واحد هو ان العراق لا يزال في خضم حرب قاسية ومتشابكة تتغذى من انقسامات الداخل، ومصالح الجوار المتضاربة ورياحه العاصفة، ومن قصور القوى السياسية عن بلورة صورة دولة جامعة ومركبة. والمقاتلون في الحروب هذه، من الداخل والجوار والخارج، وفيهم الحكام والنواب والقادة العسكريون والأمنيون، لا يتقيدون أضعف التقيد وأقله بقواعد الحرب والقتل، ولا بالأحكام العرفية.
وتفترض الملاحظات "الدستورية" انهم مواطنون ورعون وأتقياء، يترفعون عن ارتكاب الأذية العارضة. فبريدهم انما هو لبث الأشواق، وطلب الوصل، وتبديد غيوم الخلاف، وليس (بعضه) لنقل المتفجرات، وتهريب الأموال والناس والسلع. وتنقلهم يُفترض للنزهة، وزيارة المعالم الطبيعية والتاريخية وعتباتها. وهذا أشبه بالمطالبة الإيرانية والسورية والحزب اللهية والحماسية بـ "قواعد اشتباك" تقيد العدو أو قوات الفصل والسلام الدولية، ورده المحتمل، بسلامة المهاجم وأمنه. ولكنها لا تقيد المهاجم المعتدي، والمستبيح أمن العراقيين واللبنانيين والفلسطينيين والسوريين والإيرانيين وحقوقهم، وأرواحهم ودماءهم، من غير رادع. وهو المنطق الذي حكم رد الجيش الشيعي المسلح في لبنان على قرار الحكومة اللبنانية في 5 أيار (مايو) المنصرم الإشراف على شبكة اتصالات الحزب الخميني، ولا يزال يحكم سياسة الحزب والجيش الخمينيين، وهو حكم استيلاء "حماس" على غزة بذريعة حماية "المقاومة" والصواريخ.
الحرب غير المتكافئة
فالجماعات الأهلية و "دولها" التي تخوض على الأهالي، والمواطنين والأبنية السياسية والحقوقية، وعلى الاحتلال والقوى الدولية عموماً ومعاً، أنشأت في الدول العربية، وبعض الدول الإقليمية، نظامها الإقليمي، رداً على العلاقات الإقليمية القائمة. وحين يخطب مقتدى الصدر الجموع التي دعاها الى التظاهر، وجمعها في "مدينته" أي في أحيائها وطرقاتها وبيوتها فهي "تتظاهر" حيث تقيم وتعلم (في 18 الجاري)، فيقول: تخلت الحكومة عن مسؤولياتها، وسكت العلماء والمراجع عن الفتوى في الاتفاقية، فعلى "الشعوب" إطاعة ربها وضميرها و "التعبير عن صوتها" والتظاهر (على ما تفعل). ويدخل الخطيب المتواري الاتفاق المزمع في سبحة "الاتفاقيات المشؤومة التي ختمت جبين الإنسانية" العربية. ويحصي منها اثنتين: كمب ديفيد و "سايكس – بيكو". والاثنتان لا قياس بينهما، فالأولى عقدها المصريون مع عدو حاربوه وحاربهم، وقايضوا انسحابه من أراضيهم المحتلة، سلماً واعترافاً و "عزلة" وطنية على قياس إمكاناتهم ومواردهم وحاجاتهم. والثانية عقدتها قوتان كبيرتان ومستعمرتان تقاسمتا بموجبها النفوذ في بلدان احتسبت في أسلاب سلطنة آفلة.
والحق أن ما يجمع الحالين هو الرد "الإسلامي" السياسي و "الجهادي" عليهما. فقتل "الجهاد" المصري، "الإخواني"، الرئيس المصري، واحتفلت طهران الخمينية بالقاتل. ولا يزال الشارع الذي يحمل اسم الإسلامبولي بطهران علماً على حضانة طهران هذا الصنف من "الحقوق" السياسية، وعلى إسهامها في "النظام" الإقليمي المولود منها. ولا يزال الانقلاب على اتفاق المفاوضين البريطاني والفرنسي في العاصمة الفرنسية (في 1916)، واقراره دولة لبنانية "مسيحية"، لا يزال الانقلاب هذا حادي السياسات السورية، ومزاعمها في قيادة محو آثار الاستعمار. وانضمت السياسة الإيرانية "الجهادية" الى السياسات "القومية" والعروبية هذه. وعلى المثال نفسه يحتذي "النظام" الإقليمي "الإسلامي (المذهبي) – القومي"، وهو مركب دول وأجهزة وجماعات أهلية وحركات أمنية وعسكرية، في العراق.
المعنى المزدوج
ولا يخفى أن بلورة الاتفاق العراقي – الأميركي، على وجهه الأمني الداخلي وعلى وجهه العسكري الإقليمي، قبل الانتخابات الأميركية في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) الوشيك وقبل 31 كانون الأول (ديسمبر)، يقدم للسياسة الأميركية، البوشية في الأثناء، إقراراً، عراقياً وعربياً وإقليمياً، بإنجاز قد يكون متأخراً بعض الشيء، وباهظاً من غير شك، ولكنه لا ينكر. فهو قرينة على حسم سياسي وطني من الانتخابات والهيئات والأجهزة والإدارات التي مرت. ومعنى الاتفاق ان بؤرة الإرهاب العراقية أخمدت تقريباً على رغم تضافر انهيار "الدولة" تحت وطأة الغزو الأميركي، وتجدد العصبيات الأهلية والمذهبية، واقتتال القوى والقيادات السياسية المحلية، وضلوع قوى إقليمية كثيرة في تيسير انتقال الجماعات "الجهادية" وتسليحها ورعاية الجماعات والقيادات البعثية والقبلية المناوئة، على رغم تضافرها على إشعال البؤرة هذه والنفخ فيها. ومعنى الاتفاق كذلك، وهو يكمل المعنى الأول، تكذيب التكهنات القريبة من اليقين بأن العراق مقبرة الامبراطورية الأميركية، وأن "المشروع" الأميركي طوي الى غير رجعة، وخلى محله لشرق أوسط "إسلامي" تتربع إيران الخمينية والنجادية في قمته، وتتولى إدارته بواسطة "جيوش الحرية" التي تنشئها وتمولها وترسم لها نهجها السياسي والعسكري الأمني، وتتقاسم النفوذ فيه مع القوى الإقليمية التي تفيء الى جناحها وظلها. ويتصل المعنى المزدوج بقضايا ومعارك إقليمية كثيرة. فلا يترك قضية إقليمية، أو وجهاً إقليمياً لقضية وطنية أو محلية، فلسطينية أم لبنانية واستطراداً سورية وأردنية وخليجية ومصرية وتركية وإيرانية بديهة، من غير ان يؤثر فيه على مقدار أو آخر.
وتصدرت السياسة الإيرانية، وغاياتها وخططها، محاولات عرقلة الاتفاق الأمني العراقي – الأميركي. ففي سياق الحوادث والنزاعات المتعاقبة منذ الاحتلال الأميركي العراق، وأفغانستان قبل العراق، على أقرب تقدير، يحول نهوض دولة عراقية متماسكة الى الغرب من ايران، تحجز بينها وبين جوارها العربي – الإسلامي القريب والمختلف، يحول بين ايران وبين بسط نفوذها على مجموعة من الكيانات والأبنية الأهلية والسياسية الضعيفة اللحمة والمتباعدة. ولا شك في ان انبعاث التماسك العراقي في رعاية أميركية يقوض المطامح الإيرانية الإقليمية، ويتهدد السيطرة الخمينية على إيران نفسها، ويحرمها المدى الريادي الذي تحتاج إليه المهمة أو الرسالة التاريخية التي تنسبها القيادة الخمينية والإمامية الى نفسها، وتسوغ سيطرتها على الإيرانيين، والشيعة العرب وغير العرب، بها. وتملك السياسة الإيرانية في العراق أدوات كثيرة تخولها التأثير في قرارات الدولة والجماعات والقوى التي تشدها الى إيران، طاقماً حاكماً وأجهزة وهيئات أهلية، روابط متفاوتة القوة. ويملك حليفها السوري أدوات أخرى.
وبينما كانت المفاوضة على الاتفاق الأمني تخطو خطواتها الأولى، في موازاة خطة بترايوس وأوديرنو وطلائع بعض النجاح "غير المستقر"، وغير بعيد من المفاوضات بين ايران وبين دول مجلس الأمن ومعها ألمانيا (5+2)، أخرج مقتدى الصدر، المتخفي في إيران، والمنازع على القيادة الشيعية العراقية، مسألة الاتفاق من الظل الذي كان يلفها الى العلن. فعزم على دعوة "تياره" و "جيشه" و "كوادره" ببغداد ومدن الجنوب الى تظاهر "مليوني" في 9 نيسان (ابريل) 2008، اليوم الرمزي والملتبس، وإلى اعتصام عام، تنديداً بالاتفاق المزمع. وتذرع الى دعوته هذه، وإلى نقل مسألة الاتفاق الأمني، وجدولة انسحاب "الائتلاف" وقواته الأميركية، الى قلب النزاع السياسي العراقي والمسألة العراقية عموماً، برفض أميركي سابق ومعلن تعيين تاريخ انسحاب يتفق عليه بمعزل من الأحوال الميدانية، واختبار متانتها. والحجة الصدرية الثانية هي حوادث انتهاك القوات الأميركية المتكررة والكثيرة أمن المدنيين العراقيين، وإيقاع القوات هذه والشركات الأمنية المتعاقدة معها عشرات القتلى في صفوف الأهالي. والحجتان متينتان وقويتان، وتتوسلان بمشاعر عامة العراقيين وشكواهم الأليمة والطويلة من الفوضى التي عمت البلاد منذ حصار صدام حسين ثم سقوطه، وانقلاب العراق ميدان "جهاد" مشرع الأبواب، ومسرح اقتتال أهلي وإقليمي.
وتولى مقتدى الصدر قيادة التنديد بالمفاوضة على اتفاق أمني وعسكري، هو أقرب الى المعاهدة منه الى الاتفاق الظرفي والجزئي، في منعطف سياسي، عراقي وإقليمي، حاسم. ففي مطلع 2008، كان انقلاب العشائر السنية على "القاعدة" يتمخض عن نتائجه الأولى وغير الثابتة. وكان على القوات الأميركية حمل حكومة نوري المالكي، وقيادات الشرطة المحلية والمحافظين، ومعظمهم من الشيعة، على قبول مقاتلي "مجالس الصحوات" في عداد القوات العراقية الوطنية او الرسمية. واقتضى ذلك تحصين الجيش العراقي وقوى الأمن الوطنية والمحلية، وبعض الإدارات المحلية، من اختراق الجماعات الشيعية الحزبية والمسلحة لها. واقتضى كذلك مكافحة الاختراق. فكان مقتدى الصدر، ومن معه ووراءه في العراق وفي الجوارين الشرقي والغربي، يسابق إجماعاً أهلياً على معارضة القوات الأميركية، إن لم يكن على قتالها.
وعلى مثال سياسي وأهلي عربي شائع، أراد زعيم التيار الصدري وقائد "جيش المهدي" تصدر معركة إجلاء الأميركيين عن العراق، والتربع في رأس "الدولة" العراقية وحده، وقتال الجماعات السياسية والأهلية الأخرى والمنافسة، وإقصاءها عن مراتبها ودوائرها ومصالحها المشروعة وغير المشروعة، والتشكيك في دالّة الهيئات الدينية والمدنية، وفي تمثيلها اجزاء من مجتمع متناثر ومتصدع. فشن "جيش المهدي" عمليات مسلحة على قوات الأمن والجيش والإدارات التي تأتمر بأمر خصمه الأول "المجلس الإسلامي الأعلى" (الحكيم)، المهيمن على الجنوب. ولم تسلم المرجعية، وعلى رأسها علي السيستاني، من الهجوم المادي والمعنوي. فانفجرت اشتباكات دامية في نيسان، موعد التظاهر "المليوني" المقدر، بالنجف والكوفة وضواحيهما. وتحالف على "جيش" الصدر، المتهور والأرعن، خصومه كلهم على ما يبدو. فقتلوا مئات من أنصاره المعلنين، ومن احتياطه "السماوي". فهزم "التيار"، وخسر معركة أساء الإعداد لها، على عادة عرف بها، وصارت اختصاصاً دامياً. فألغيت التظاهرة، وخسر "التيار"، في الأثناء، شطراً كبيراً ربما من الجناح "القومي" السني. ففقد سنداً قوياً لمعركته الوطنية، وتحريضه على الاحتلال الأجنبي باسم عراق "عربي" واحد، بينما كان يحوم على ايران الخامنئية والنجادية طيف ضربة عسكرية استباقية تقوض بعض مقومات البرنامج النووي، المدني والعسكري, جميعاً.
طاقم سياسي متهافت
والحق ان مقتدى الصدر، وإيران وسورية معه ومن ورائه، كان يقاتل الاحتلال وقواته، من جهته، ويقاتل القوى والجماعات المتحالفة مع الاحتلال على بناء مرافق إدارة أمنية وخدمية ومدنية، من جهة ثانية، بينما يشترك وأجزاء من القوى والجماعات الشيعية المتحالفة مع الاحتلال في عمليات قتل وعدوان واغتيال مذهبية محلية، ويستدخل المرافق الرسمية في هذا السبيل. ويسطو "التيار" على الموارد المحلية، وعلى حرمات الناس وهيئاتهم الأهلية، و "حرياتهم" حيث قدر. وهذا ليس شأن "تيار" الصدر المتواري و "جيشه" وحدهما. فالقوى الأخرى ليست أقوى تماسكاً من "التيار" و "الجيش". ولكنها، على خلافهما، تعول في سبيل تثبيت مواقعها ونفوذها، وضمان حصتها من عوائد السلطة، وتقوية ولاء مواليها، على استدخالها المرافق والمراتب والهيئات، وحماية إقطاعاتها المحلية والأهلية بواسطة المرافق هذه، ونفوذها فيها. وهي تجاري مناهضة الأميركيين طبعاً. وبعض محازبيها ضالعون في مقاتلتهم. ولكن قياداتها تدرك، من وجه آخر، ان السياسة والقوات الأميركية وحدها ضمان "وحدة" العراق الإقليمية والسياسية، والقوى القادرة على حماية دولة وطنية آتية من تناهش الأطراف الإقليميين، والعصبيات الأهلية الداخلية، الجماعات العراقية وولاءاتها الرجراجة.
ونهج الجماعات والأحزاب العراقية هذا يتحدر من ملابسات القضاء على سلطة صدام حسين، وسياق "تحرير" العراقيين من النظام الصدامي الحسيني. فارتضت الجماعات والأحزاب هذه، وفي مقدمها المجلس الإسلامي الأعلى ("الثورة الإسلامية" سابقاً) وحزبا الدعوة والفضيلة – وكلها أحزاب شيعية ناشطة ومقاتلة وسرية ومنقسمة، وبينها وبين طهران الخمينية روابط تترجح بين الحلف وبين الجفاء – حكم العراق "هدية" من الاحتلال وقواتها، من غير إسهام عسكري أو سياسي فاعل، ومن غير تورط في مساندة صريحة ومشروطة ومعللة. ولعل الثغرة الواسعة في حال القوى والأحزاب هذه، أو موطن ضعفها، هي تهافتها الداخلي، وائتلافها من شراذم وعصائب وشطور، ومن مصالح وميول من العسير تماسكها على طاقم ونهج وبرنامج لا غنى عنها لقيام دولة وطنية ودوامها. وأقامت وقتاً طويلاً، ما لا يقل عن 3 أعوام، قبل ان تبادر بعض الشيء الى الانخراط في عملية سياسية تمهد لاستلام مقاليد السلطة، عن بعض جدارة وشجاعة. وتقتضي هاتان الإقرار بثقل الإرث الصدامي الحسيني، و "الدولة" القومية الاستبدادية عموماً (ويصح هذا في الدولة المذهبية والفقهية)، وباستحالة نهوض القوى الذاتية والأهلية، المشرذمة والمستتبعة، وباستحالة نهوض القوى الذاتية والأهلية، المشرذمة والمستتبعة، ببناء الدولة، من بسط الأمن وتوفير الخدمات الى الاضطلاع بمهمات السيادة الجامعة في الداخل والخارج.
وكانت المفاوضة على الاتفاق الأمني اختباراً للطاقم الناشئ. وظهر تدريجاً ان كسر شوكة القوة الأهلية والعسكرية الصدرية – وعلى نحو مفاجئ وملغز خلص الصدر من هزيمته الى إعلان مهادنة القوات الأميركية وتعليق قتاله إياها، والتزامه التعليق عموماً في العلن والسر – لم يحرر القوى الأخرى من ارتهان داخلي وإقليمي، قومي وإسلامي، مقيد وثقيل. فانتهجت في مفاوضتها نهجاً مسوفاً يبدو انه انطلى على المفاوضين الأميركيين الى أواخر آب وأوائل أيلول (سبتمبر). وفي الأثناء، قوى الاقتراع على قانون النفط، ثم إقرار قانون مجالس المحافظات وانتخاباتها (في 24 ايلول)، في أعقاب خطو القوات العراقية العسكرية والأمنية خطوات على طريق المهنية والانضباط والوطنية المتوازنة، قوت هذه مشروعية المفاوضين العراقيين والسلطة التي انتدبتهم، ويعود إليها، مجلساً سياسياً وطنياً وحكومة وبرلماناً، النظر في المعاهدة وإقرارها.
ولا ريب في أن نوري المالكي، رئيس الوزارة، ورأس الائتلاف الشيعي النيابي (82 نائباً من 275)، يدرك تبعات المسألة. وهو يدرك ان التسويف والمماطلة في إقرار الاتفاق يماشيان في المقام الأول، رغبة أحمدي نجاد وبشار الأسد في الظهور مظهر "الناخبين" في الانتخابات الرئاسية الأميركية، والمؤثرين في إخفاق المرشح الجمهوري، وفي فوز المرشح الديموقراطي حامل لواء "محاسبة" السياسة الخارجية البوشية في الشرق الأوسط. ومن وجه آخر، قد لا يكون أدنى مرتبة من الأول، يخرج الاتفاق علاقة العراق بالأمم المتحدة من الرعاية والوصاية الدوليتين. وتخرج العراق ودولته تالياً، من قصورهما السياسي الدولي. وعراق راشد دولياً، وسنده مشروعية داخلية تنزع الى التكامل، يعطي معاهدة ثنائية ودولية مع المحتل قوة ومشروعية سياسيتين وحقوقيتين تكذبان تكذيباً بليغاً مزاعم الجوار "القومي – الإسلامي" في جدارته وحده بالقيادة الإقليمية، وفي "انهيار المشروع الأميركي وإفلاسه". ويحاول الجوار "القومي – الإسلامي" (وهو قومي – قومي في نهاية المطاف) إرجاء إبرام المعاهدة، فيلوح بتمديد ولاية الأمم المتحدة على العراق، ودولته الفتية، على ما ذهب إليه عمار عبدالعزيز الحكيم (في 27 تشرين الأول). وكان علي الدباغ، الناطق باسم الحكومة، استبق الاحتمال هذا، في 15 من الشهر الجاري نفسه.
وجلي ان دوام الوصاية الدولية يضعف المتعاقدين، الأميركي والعراقي. ويمنح المعارضة العراقية الصدرية، والوصيين الإقليميين، الإيراني والسوري، فرصة الطعن في رشد الحكومة العراقية الداخلي والدولي، وفي دور الاحتلال واضطلاعه بقيادة الدولة العراقية، أمناً وتشريعاً وإدارة، الى الرشد هذا، وإلى الأمان المنشود. وبعض المشكلة مصدره خوف الحكومة، ومعظم القوى السياسية المؤتلفة فيها (على تفاوت في ما بينها)، من الاعتداد بمشروعيتها، وبما أنجزته أو أُنجز في مواكبتها واستجابتها. فسعى المالكي في تحميل النجف، والسيستاني في المرتبة الأولى، المسؤولية عن إقرار مسودة الاتفاق. فزار رئيس الحكومة المرجع (في 11 تشرين الأول)، ونوه بحصول المفاوض العراقي على "تنازلات كبيرة" أميركية. وذاع ان الأميركيين وافقوا على جدول انسحاب مرن من المدن المتبقية (حده منتصف 2009)، ومن الأراضي العراقية (نهاية 2011). وأقروا بالولاية القضائية العراقية على أفعال الجنود الأميركيين الجنائية، خارج العمليات القتالية والثكن العسكرية. ولكن علي السيستاني رد المسؤولية على "الشعب وممثليه"، ودعا العراقيين ونوابهم الى تحمل التبعة عن عمل هو في صميم صلاحيات الدولة الراشدة.
العراق الإقليمي
وفي ما يشبه المواكبة لسلطة الدولة، تقاطرت الزيارات الديبلوماسية والسياسية العربية الى بغداد. وتوالى فتح السفارات، أو الإعلان عن العزم على فتحها، وتقديم السفراء أوراق اعتمادهم الى وزير الخارجية ورئيس الجمهورية، هوشيار زيباري وجلال الطالباني، في غضون أسبوعين أو ثلاثة من تشرين الأول. ولم يكن السفير السوري آخر السفراء، إذا كان عبدالله الثاني الأردني أول الزائرين المأذونين. وليس التقاطر العربي، الخليجي والمصري، بينما تدعو طهران السياسيين العراقيين، مسؤولين رسميين ومنشقين عن أحزابهم (أبرزهم ربما رئيس الوزراء السابق، الجعفري، ومنافس المالكي على قيادة حزب الدعوة، من خارج الحزب منذ بعض الوقت) الى رفض الاتفاق اتفاقاً ولا مصادفة.
وتصدى بعض الزوار، في أثناء زياراتهم، وقبلها أو بعدها، لمسائل استراتيجية شائكة، تتصل بدور العراق الإقليمي في الخليج، وعلى ضفتيه. فاقترح وزير الخارجية البحريني (خالد بن أحمد آل خليفة) إنشاء منظمة إقليمية عريضة تجمع الدول العربية الى إسرائيل وتركيا وإيران. ويخرج الاقتراح على القواسم المشتركة العربية خروجاً صريحاً، وإلى إجابة وزير الخارجية الإيراني، بالرفض طبعاً، تجند، في البحرين، ناطقون باسم "الأخوان"، وكتلة الوفاق البرلمانية الشيعية، والقوميين العرب، للتنديد برأي وزير الخارجية. وذهب اثنان من ثلاثة نقاد الى التحصن بالسياسة الإيرانية، ورأيها في المسألة.
ولم تثن الملاحظات على الاقتراح الوزير البحريني، بعد نيف وأسبوعين من إدلائه برأيه الإقليمي (في أول تشرين الأول ثم في 18 منه، في أثناء زيارة بغداد)، على "تأطير" خليجي لرأيه. فذهب ببغداد الى ان العراق "يشكل امتداداً طبيعياً لدول مجلس (التعاون الخليجي)". وعلى خلاف التصريح الأول، الفضفاض والبعيد، يلوح الرأي الثاني، في خضم مناقشة مسودة الاتفاق الأمني والعسكري، بخطة سياسية لا يسع إيران، ولا أنصارها العرب، إنكارها. فـ "الامتداد الطبيعي" يمهد لانخراط سياسي ومؤسسي. وانخراط العراق، بعد دخوله في "مِلك" غالبية سكانه الشيعية، في الدائرة الإقليمية الخليجية، العربية والسنية، لا يعدم معنى استراتيجياً عربياً، وقطبياً، نظير القطبية الإيرانية على ضفة الخليج الأخرى. وتحجز الكتلة الجديدة، إذا استوت وتماسكت، بين القطب الإيراني وبين الخطوط الخلفية المشرقية التي تسلل اليها، منذ 1979 – 1980، من طريق الرئيس السوري حافظ الأسد وبعض المنظمات الفلسطينية وشيعة لبنان، وانقلبت خطوط التسلل جادات عريضة منذ انهيار صدام حسين، والعملية الأميركية في البوكمال، في 26 الشهر الجاري، "تعليم" لإحدى الجادات هذه. واستئناف الوزير البحريني اقتراحه الأول، الخيالي، باقتراح إقليمي فرعي، يثبت القدم العراقية في كتلة الخليج الغربية، على أن تستوفي شروطاً داخلية لا تستوفى من غير طريق التعاون الأميركي، وعلى أن تخرج من الفلك الإيراني والمذهبي وقيديه، الداخلي والدولي، على قيام الدولة العراقية وعلى سيادتها.
وحملت دعوة النجف نوري المالكي، وربما المجلس الإسلامي الأعلى وحزبي الدعوة والفضيلة، الى الاضطلاع بمسؤوليات الدولة، حملته (هو وأصحابه) على الإحجام عما دعت اليه، وهو الشجاعة والصراحة السياسيتان. فتعلل بـ "غموض" بعض بنود الاتفاق الى إرجاء بته. وفي باب التمثيل على الغموض لم يذكر جدولة الانسحاب النهائي، ولا القواعد العسكرية المزمعة، ولا حدود الولاية القضائية، بل اقتصر على مسألة المرجع في اقتضاء "الظروف على الأرض" الانسحاب من المدن أو أرجائه. فسأل: "من يحدد الظروف؟". وهذا ضعيف. فمن ادعى قبل أيام قليلة، أنه انتزع "تنازلات كبيرة" من الأميركيين انما ينذر بذرائع صغيرة وطفيفة.
ويكرر عباس البياتي أحد نواب "الائتلاف" البارزين، للمرة الثالثة لائحة التحفظات وبنودها الخمسة (وهي كانت سبعة ثم ستة في غضون 10 أيام)، فيحصي: الدقة في جدولة الانسحاب، والحصانة القضائية ("تضعنا في هواجس"، على سبيل الدقة!)، وتفتيش البريد الداخل والخارج، والتردد الى المنشآت والمعسكرات الأميركية، ومطابقة النصين العربي والإنكليزي واحدهما الآخر. وترى نرمين عثمان، وزيرة البيئة، أن بنوداً في الاتفاق "تنتهك الدستور العراقي". وهي تقصد، على غرار البياتي، الحقوق المدنية والحريات التي يضمنها الدستور العراقي، على مثال أنغلو – ساكسوني عريق، مثل الحق في سرية المراسلات (على خلاف تفتيش الأميركيين البريد)، وحرية التنقل، واضطلاع الدولة بمراقبة أراضيها الإقليمية كلها (على خلاف انكفاء المعسكرات الأميركية و "استقلالها")، والمساواة القانونية والقضائية (على خلاف المحاكم الخاصة).
وتستظهر الملاحظات هذه بمعايير حقوقية ودستورية عالية، وأمينة على روح التشريع والمواطنية. ولكنها تغفل عن أمر واحد هو ان العراق لا يزال في خضم حرب قاسية ومتشابكة تتغذى من انقسامات الداخل، ومصالح الجوار المتضاربة ورياحه العاصفة، ومن قصور القوى السياسية عن بلورة صورة دولة جامعة ومركبة. والمقاتلون في الحروب هذه، من الداخل والجوار والخارج، وفيهم الحكام والنواب والقادة العسكريون والأمنيون، لا يتقيدون أضعف التقيد وأقله بقواعد الحرب والقتل، ولا بالأحكام العرفية.
وتفترض الملاحظات "الدستورية" انهم مواطنون ورعون وأتقياء، يترفعون عن ارتكاب الأذية العارضة. فبريدهم انما هو لبث الأشواق، وطلب الوصل، وتبديد غيوم الخلاف، وليس (بعضه) لنقل المتفجرات، وتهريب الأموال والناس والسلع. وتنقلهم يُفترض للنزهة، وزيارة المعالم الطبيعية والتاريخية وعتباتها. وهذا أشبه بالمطالبة الإيرانية والسورية والحزب اللهية والحماسية بـ "قواعد اشتباك" تقيد العدو أو قوات الفصل والسلام الدولية، ورده المحتمل، بسلامة المهاجم وأمنه. ولكنها لا تقيد المهاجم المعتدي، والمستبيح أمن العراقيين واللبنانيين والفلسطينيين والسوريين والإيرانيين وحقوقهم، وأرواحهم ودماءهم، من غير رادع. وهو المنطق الذي حكم رد الجيش الشيعي المسلح في لبنان على قرار الحكومة اللبنانية في 5 أيار (مايو) المنصرم الإشراف على شبكة اتصالات الحزب الخميني، ولا يزال يحكم سياسة الحزب والجيش الخمينيين، وهو حكم استيلاء "حماس" على غزة بذريعة حماية "المقاومة" والصواريخ.
الحرب غير المتكافئة
فالجماعات الأهلية و "دولها" التي تخوض على الأهالي، والمواطنين والأبنية السياسية والحقوقية، وعلى الاحتلال والقوى الدولية عموماً ومعاً، أنشأت في الدول العربية، وبعض الدول الإقليمية، نظامها الإقليمي، رداً على العلاقات الإقليمية القائمة. وحين يخطب مقتدى الصدر الجموع التي دعاها الى التظاهر، وجمعها في "مدينته" أي في أحيائها وطرقاتها وبيوتها فهي "تتظاهر" حيث تقيم وتعلم (في 18 الجاري)، فيقول: تخلت الحكومة عن مسؤولياتها، وسكت العلماء والمراجع عن الفتوى في الاتفاقية، فعلى "الشعوب" إطاعة ربها وضميرها و "التعبير عن صوتها" والتظاهر (على ما تفعل). ويدخل الخطيب المتواري الاتفاق المزمع في سبحة "الاتفاقيات المشؤومة التي ختمت جبين الإنسانية" العربية. ويحصي منها اثنتين: كمب ديفيد و "سايكس – بيكو". والاثنتان لا قياس بينهما، فالأولى عقدها المصريون مع عدو حاربوه وحاربهم، وقايضوا انسحابه من أراضيهم المحتلة، سلماً واعترافاً و "عزلة" وطنية على قياس إمكاناتهم ومواردهم وحاجاتهم. والثانية عقدتها قوتان كبيرتان ومستعمرتان تقاسمتا بموجبها النفوذ في بلدان احتسبت في أسلاب سلطنة آفلة.
والحق أن ما يجمع الحالين هو الرد "الإسلامي" السياسي و "الجهادي" عليهما. فقتل "الجهاد" المصري، "الإخواني"، الرئيس المصري، واحتفلت طهران الخمينية بالقاتل. ولا يزال الشارع الذي يحمل اسم الإسلامبولي بطهران علماً على حضانة طهران هذا الصنف من "الحقوق" السياسية، وعلى إسهامها في "النظام" الإقليمي المولود منها. ولا يزال الانقلاب على اتفاق المفاوضين البريطاني والفرنسي في العاصمة الفرنسية (في 1916)، واقراره دولة لبنانية "مسيحية"، لا يزال الانقلاب هذا حادي السياسات السورية، ومزاعمها في قيادة محو آثار الاستعمار. وانضمت السياسة الإيرانية "الجهادية" الى السياسات "القومية" والعروبية هذه. وعلى المثال نفسه يحتذي "النظام" الإقليمي "الإسلامي (المذهبي) – القومي"، وهو مركب دول وأجهزة وجماعات أهلية وحركات أمنية وعسكرية، في العراق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق