الجمعة، 5 نوفمبر 2010

الجيوش الأهلية وبيوت المال والقضية القومية المركزية... تقوّض الدولة الوطنية و«تبربر» مجتمعها

المستقبل - ا31/10/2010
يفتتن أهل القلم والصحافة، وهم في الحالين واحد، بنعي الدولة (اللبنانية، من غير تردد ولا شك)، وزف بشائر تلاشيها وتقلصها وانقباضها الى «المواطنين». ويتوقعون ربما أن يهلل المواطنون المفترضون للخبر إما بإطلاق النار وقطع الطرق غير الآمنة، وإما بالدعوة الى ولائم تبدد فيها ثروات اقتضى جمعها أعواماً سماناً مصدر سمنتها تعاظم أسعار مواد أولية وخامات وتخمة مدخرات وصناديق في مهاجر قريبة أو بعيدة، أو في حواضر تنهض الى بسط سلطانها، ويدها، على مقلدي سننها ومعتقداتها والمائلين مع أهوائها و«برامجها». ويقيس أهل القلم والصحافة والرأي والتحليل ولو اقتصر هذا على نقل تقطيب حاجب أو ترديد تهديد، صِدقَ خبرهم في ميزان لا يخطئ هو إثبات الجماعات الخاصة، أو الأهلية، حقوقها: في التسلح، والسيطرة على ديراتها بسلاحها ورجالها، والتحكيم في خلافات الأهل بأعرافها و«قوانينها»، والامتناع من الجباية العامة ما وسعها، والانتحاء بمواصلاتها واتصالاتها ناحية على حدة، وإنشاء الأحلاف والعداوات على ما يحلو لها. وهذا، وغيره مثله، لا يستقر ولا يدوم ما لم تحصنه الجماعات الخاصة أو الأهلية بنسب معنوي (أو أدبي) ودموي مستقل، وبـ«ذاكرة» تصلها وتصل خبرها بمبتدأ صلة دقيقة ووثيقة لا تتسع لفرق قليل يتسلل منه خبر منحول أو شاهد زور. و«الشاهد» الأجنبي، ومن ليس ابن عم هو أجنبي على قول الجازية في «تغريبة بني هلال»، لا شك على الدوام أنه كاذب ومدخول ويحاذي الجنون، على مذهب عقلاء القوم وحكمائهم.
[حد الحدود
وإذا وقع قارئ صحيفة عربية على أخبار معظمها مرويٌّ عن وكالات أجنبية، نسباً وذرية وعرقاً طبعاً ولغة وبلاداً وديناً وهوى، قرأ أخباراً كاذبة، أو يفترض فيها الكذب، ولاحظ إجماعها على التعلق بالدولة، أو بتلاشيها وتقلصها وانقباضها. والأمران، المصدر الأجنبي وافتراض الدولة (والقياس عليها)، هما سبب قوي وراجح في توقع الكذب. فالأمين العام للأمم المتحدة، الكوري الجنوبي بان كي - مون، يحصي تقريره الثاني عشر في مصير القرار 1559 الذي مهد لجلاء القوات السورية عن لبنان وندد بدور قيادتها السياسية في قسر اللبنانيين على «اختيار» رئيس لا يريدونه وذكر ببنود اتفاق الطائف ونصه على حل الجماعات العسكرية والأمنية والأهلية... - يحصي ما أنجز من مواد القرار العتيد وما لم ينجز. وفي الباب الأخير ينبه أمين عام الهيئة الدولية الى أن حدود الدولة اللبنانية على الجهة السورية، وهي جنوبية وشرقية وشمالية، لا تزال مبهمة، ويعوزها الرسم الواضح. فلا يعرف اللبنانيون، وهم يقاتلون في سبيل استعادة بعض أراضيهم المحتلة، أيَّ أرض يحررونها تعود إليهم، وإلى دولتهم في حدودها الدولية، وأي أرض يقاتلون في سبيل تحريرها وتعود، حرة، الى جارهم العربي القريب والمتخفف من أعباء استعادة أرضه، على أصناف الأعباء الكثيرة (ولعل أثقلها الانقسام الداخلي على شن الحرب على العدو المحتل، وامتحان القوة الوطنية على احتمال مثل هذه الحرب. والأحمال الثقيلة هذه ينعم بها اللبنانيون).
والمنازعة على الحدود ورسمها تتصل بالحق في التصرف بالأراضي التي تحف الحدود. ففي بعض وديان البقاع الشرقي، وهي من الأراضي المتنازعة، «منشآت شبه عسكرية... أقامتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة وفتح الانتفاضة»، وينزلها مقاتلو المنظمتين، ويتصرفون فيها على هواهم. ويزعم الأمين العام أن المنشآت، وهي قواعد عسكرية، تزيد الأراضي الحدودية «تشعباً» و«تجزيئاً»، وتتحدى «سيطرة القوات المسلحة اللبنانية على الحدود»، وتعرقل ترسيم الحدود. ويلاحظ أن المنظمتين الفلسطينيتين العسكريتين والأمنيتين تشدهما «صلات إقليمية» الى سوريا. فيدعو سوريا، بديهة، الى «المساعدة» على حل المسألة. ولا ريب في أن الحدود البرية السائبة، من غير «إدارة» ولا «سيطرة» في لغة الهيئة الدولية، شأن المال السائب في المثل الأهلي أو الشعبي، تدعو الى «الحرام» وتحض على ارتكابه. وحرام السيادة («احتكار استخدام القوة في أنحاء البلد»، ومباشرة الحكومة الوطنية «السلطة الحصرية» على الأنحاء هذه وسكانها) المنتهك كثير: احتلال إسرائيل الجزء الشمالي من بلدة الغجر المختلطة (اللبنانية السورية) وأرضاً شمال الخط الأزرق، وطلعات الطيران الإسرائيلي وجوبه الأجواء اللبنانية، وبث إسرائيل شبكات التجسس في الأراضي اللبنانية والاتصالات والأجهزة وبعض المرافق.
والحرام الذي تنتهكه إسرائيل، شأن بعض الحرام الحدودي، خارجي، إذا صحت العبارة. وهو في متناول تشخيص وتعيين مرئيين وملموسين. والحرام الذي ينتهكه الداخل، وأشباه الداخل الملتبسة التباساً حميماً بخارج مقحَم على الداخل بالإكراه حيناً وبالاستمالة والانعطاف الرحمي أحياناً، هذا الحرام يدعو إليه شيوعُ السائب. فثمة «ميليشيات مسلحة لبنانية وغير لبنانية» يسكت التقرير عن تسميتها ثم يسميها. وثمة «حوادث مسلحة» لا ريب أنها من فعل «الميليشيات المسلحة» إياها، ويجيزها بلوغ السلاح المسلحين المنظمين في جيوش أهلية وخاصة هي الميليشيات العتيدة. ويدعو الأمين العام الى التسمية حادثةٌ هي «الأخطر»، جرت الى الاقتتال بالسلاح الثقيل، في منطقة برج أبو حيدر الآهلة بالسكان، «حزب الله» و«الأحباش»، على ما يسميهم التقرير. ويعطف التقرير الحادثة المعروفة والمشهودة على (إطلاق) النار والانفجارات في «وادي البقاع الشرقي» ومنظماته الفلسطينية المسلحة والحميمة العلاقة الإقليمية القريبة. ويعطفها على «أجزاء الأرض الحدودية»، اللبنانية السورية، السائبة والوعرة، وعلى «نقل الأسلحة غير المشروع عبر الحدود البرية» المشتركة وغير المعلمة ولا المرسومة.
واستعملت بعض المنظمات الأهلية والعسكرية اللبنانية سلاحها الأهلي والمهرَّب «عبر الحدود البرية» السائبة في منع القوة الموقتة للأمم المتحدة («اليونيفيل») من «الحركة الحرة في منطقة عملياتها»، جنوب نهر الليطاني «وبعض الحوادث كان خطيراً ويبدو، في جوهره، مصمماً ومتعمداً». والحوادث تترتب على وجود الجيوش الأهلية (وهذه، جنوب الليطاني، جيش أهلي واحد) ودوامها «خارج سيطرة الحكومة» وتفوّق قوتها ومواردها على «قدرات القوات المسلحة اللبنانية»، وعلى تسلحها من طريق التهريب، وضعف «تعاون الدول المجاورة» وإحجامها عن ترسيم الحدود. وينفرد الجيش الأهلي بـ«استراتيجية ردعية» ترمي الى ردع القوة العسكرية الإسرائيلية، على ما لا يخصص التقرير قصداً، على قدر ما ترمي الى ردع القوات المسلحة اللبنانية (الجيش) والجماعات الأهلية والسياسية الوطنية الأخرى والأرجح أن السكوت عن التخصيص مرده إلى حدّيْ الردع الداخليين هذين ويتواطأ الجيش الأهلي في شأنه الردعي مع «دول» مجاورة هي دولة واحدة، ومع دولة أخرى زار رئيسها محمود أحمدي نجاد قرىً من الجنوب تمثيلاً على «دعمه القوي» الحزب الأهلي المسلح.
ويتوسل الجيش الأهلي الى غرضه بـ«التكتم» على موارده، وبتعظيم «ترسانته»، معاً. والأمران يقتضيان منافسة «الحكومة» على ولاء المواطنين، والتغلب عليها، وشل جيشها، والحؤول دون التزامها عهودها الخارجية والداخلية، والتواطؤ مع الجوار عليها من وراء ظهرها. وفي السياق المسلح والأهلي نفسه أدى التكهن في قرار المحكمة الخاصة بلبنان المتوقع في قتلة رفيق الحريري المفترضين، أدى الى تعاظم «التوتر الداخلي»، وتردي «المناخ السياسي». وتضافرت زيارة الرئيس الإيراني، وآراؤه في «جبهة الشعوب» و«تغيير المعادلة في المنطقة» و«اقتلاع إسرائيل» وشق المحكمة الخاصة بلبنان اللبنانيين، على تفاقم التوتر والتردي.
[السيطرة الحصرية
والشطر الأخير من رصد التقرير الأممي أعراض الانقسام، والخروج على الدولة، لا يصرح به التقرير بل يكني عنه كناية من طريق سوق الحادثة وروايتها في أعقاب الحادثة السابقة. فتجيء رواية الحادثة اللاحقة، وهي زيارة أحمدي نجاد بعض قرى الجنوب وإعلانه آراءه، مجيء مصدق الحادثة السابقة، وهي الخلاف على المحكمة، وسندها ورافد حصادها المسموم. وعلى رغم هذا، أي إحصاء أعمال العنف وآلاته والأحوال الباعثة على الأعمال وتخزين الآلات، ينيط الأمين العام بـ«العملية السياسية في قيادة لبنانية» وفروعها هي اجتماعات الحوار الوطني ومناقشتها استراتيجية الدفاع الوطني وسلاح الميليشيات، وعمل حكومة الوحدة الوطنية اللبنانية، والتزامات الزعماء اللبنانيين في الدوحة، والحوار الوطني، والتقارب اللبناني السوري، والقمة الثلاثية، والانتخابات البلدية علاج «قيام الميليشيات خارج سيطرة الدولة وتهديدها «تطلعات لبنان الديموقراطية والسلام الأهلي(...) وسيادة لبنان واستقلاله السياسي(...) واحتكار الحكومة استخدام القوة المشروعة».
ولا يعدو تقرير الأمين العام للأمم المتحدة، و«كاتبه» مراقب إنفاذ قرار مجلس الأمن 1559، التذييل الظرفي والنسج التفصيلي على نواة التعريف الأوروبي «الحديث» للدولة. فذهب الألماني نوربرت إلياس، في كتابه «دينامية الغرب» (1939)، على خطى مواطنه ماكس فيبر، الى أن «سمة ما يسمى مجتمعاً حديثاً في غرب أوروبا على وجه التخصيص، هو مرتبة عالية وواضحة من الحصرية». فتُنتزع آلات الحرب والقتال من أيدي الأفراد والجماعات الأهلية أو الخاصة («الرعية»)، وتوقف على السلطة المركزية. وتقصر كذلك جباية الضرائب على المداخيل والممتلكات على «سلطة المجتمع». وتستعمل الموارد المالية المجتمعة من صناديق الحكم المركزي في الحفاظ على الاحتكار العسكري والأمني. وهذا بدوره يضمن الاحتكار المالي الضريبي. فالاحتكاران متلازمان، ولا يقوم واحدهما من دون الآخر، وهما وجهان من موقع حصري أو احتكاري واحد. وغاية الدينامية التاريخية هذه، أو السيرورة التاريخية، هي «تمكين جهاز سيطرة متماسك، على رغم فروقه واختصاصاته، من ضمان فاعلية الحصرية العسكرية والمالية وإرسائها على صورة هيئة أو مؤسسة ثابتة». فإذا استتب الأمر للجهاز هذا، تركت النزاعات والخلافات السياسية والاجتماعية السعي في إبطال حصرية السيطرة، وقصدت المسالك المفضية الى جهاز الحصرية الإداري، وإلى توزيع منافعه وأعماله واقتسامها.
ويفترض التعريف الغربي والحديث، وهو في الأثناء نصب ميزاناً عاماً أو أممياً حاكماً في هيئات دولية مثل منظمة الأمم المتحدة ومجلس أمنها وأمانتها العامة، شروطاً ومقدمات يصدم بسطها أو توضيحها مضمرات الثقافة أو الذهنية السياسية الشائعة في مجتمعاتنا (العربية، على معنى اللغة، وعلى معنى الأبنية الاجتماعية والسياسية الأهلية والعصبية). ومن شروط التعريف ومقدماته أن الدولة (الوطنية) جهاز سيطرة، وليست أسرة أو عشيرة أو أهلاً. ورأس الجهاز حاكم مسلحٌ وجابٍ وليس أباً يلم الأبناء والأحفاد تحت جناحيه. والجهاز الحاكم بلغ مكانته ومرتبته بعد منازعة أصحاب السلطان القوي من هم أضعف منهم، وأقل حيلة، على أسباب القوة وهي سببان أو مصدران أو موردان: السلاح والمال. ولم تبلغ المكانة المهيمنة من طريق الاستمالة و«التراضي». وهي لم تبلغ، ولم تستقر من غير منازع، إلا بعد أن استقل جهاز الهيمنة عن أصحاب السلطان المتغلبين أنفسهم، وجعلهم، هم وأولادهم وأحفادهم، أسوة بالمغلوبين في المنازعة على وظائفه وعوائده، وفي تداول هذه وتلك.
فما قدر المتغلبون على انتزاع السلاح من خصومهم، وحصره في أنفسهم وأقربائهم وأهل مذهبهم وحلفائهم، وقدروا على الاستحواذ على الجبايات وصرفها الى منافعهم ومصالح أنسبائهم وأصهارهم ومحازبيهم ما قدروا على الأمرين وهم محافظون على روابطهم الأهلية العصبية والخاصة ويستقوون بها، لم ينشأ جهاز سيطرة واحد، ولم يمتنع المغلوبون من القيام على جهاز السيطرة الأهلي والفئوي ومن إبطال حصريته. ولم يقصروا معارضتهم ومنازعتهم على المسالك الى جهاز السيطرة الحصرية. وأدى ذلك الى تسلحهم وقتالهم، وإلى جبايتهم المال من «بيته» الشرعي، أو من خزائن «الأنصار». واستوى المتغلبون الموقتون والمغلوبون الموقتون، في ميزان الدولة ومشروعيتها، واحداً. فالجماعتان أهل. ولا يقدح في أهليتهما تربع بعض الأهل في قمة السلطة، المسلحة والمالية، بعد إضعافه منازعيه، ومصادرتهم على موارد القوة المادية والمعنوية، على ما يسعى قوميو الأهل ومتدينوهم ومذهبيوهم.
ويقتضي إرساء السيطرة وجهازِها العام والمشترك (غير الأهلي ولا الفئوي)، أي إرساء الدولة على مثالها الغربي والحديث، انتزاع دواعي العنف الأهلي والخاص من طريق الاستحواذ الحصري على آلاته وسلاحه، من طريق إرساء حصرية السلطة على جهاز أو مؤسسات وهيئات مشرَّعة المداخل على الجماعات المتنازعة والمتفرقة. والاقتصار على احتكار آلات العنف، والتربع في قمة جهاز القمع والقهر والمصادرة المغلق في وجه الجماعات المتنازعة وأفرادها، يفضيان الى تغذية العنف، ويبطلان مشروعية السيطرة ويرسيانها على ميزان قوى قائم وظرفي.
[التمدين والتهذيب
والحق أن للسيطرة على العنف الخاص والأهلي وإطفاء مصادره وجهين، ليس إنشاء جهاز السيطرة الحصري أولهما وقتاً وزمناً، على زعم نوربرت إلياس. فالفصل الأول، أو المرحلة الأولى من إطفاء مصادر العنف الخاص والأهلي، وذلك قبل «جمع» السلاح من الأفراد والجماعات الأهلية وحظر تسليحها وتعبئتها المسلحين في جيوش خاصة تمولها بيوتُ مال وصناديق متفرقة، الفصل الأول هو ما يسميه إلياس «تمدْين العادات والسنن»، أو حملها على المدنية. وهذا، التمدين أو الحمل على المدنية، سيرورة طويلة يبتدئ الباحث الألماني بها الوجه الأول، الاجتماعي النفسي، من التأريخ للدولة (والتأريخ السياسي والجهازي هو موضوع «دينامية الغرب»، وهو الوجه الثاني). فالدولة، على المعنى الغربي والحديث السائد والمراد في المقالات المعاصرة، هذه الدولة لا تستقر على المعنى هذا، وعلى الأدوار المترتبة عليه والمنوطة به، إلا إذا تولت، وتولى «مجتمعها» قبلها، تهذيب عاداته وسننه. فكبت أفرادُه فورة مشاعرهم وميولهم التلقائية و«الفطرية»، المتخلفة عن سنن اجتماع عصبي يميل مع الجماعة، ويتوق الى الذوبان فيها ويقدم كتلتها المرصوصة على رغبات الأفراد وحريتهم وإرادتهم واستقلالهم بأنفسهم وقيامهم بها.
وسبيل التمدين، على مثاله الغربي، هو تفريق الأفراد والآحاد، وفرط لحماتهم العصبية الجامعة والموروثة من قراباتهم الدموية والنسبية («الآباد والأجداد» في وثيقة الجماعة الأهلية المسلحة)، ومن جوارهم وإقامتهم و«دين آبائهم». وسبيل التمدين هذا هو سبيل أو سيرورة إنشائهم افراداً، وعلى صورة أفرادٍ آحادٍ، أو «ذرات» (تُفترض) منفصلة، وينجم اجتماعها الى غيرها من الأفراد الآحاد عن عقد حر وإرادي (يفضي، في نهاية المطاف، الى تعريف الأمة السياسية بـ«استفتاء كل يوم»، على قول إرنست رينان الفرنسي). وسيرورة التمدين تتولى تفتيت الجماعات المتماسكة بالقرابة الدموية والمصاهرة والإقامة والحيازة والعداوة والعملُ والمعتقد، وبهوية تدمج العوامل هذه كلها في رواية تصل مطلع «نشيد الخلود» و«قصيدته» بختامها، على قول محمد مهدي الجواهري في رثاء الحسين بن علي. وينبه تأريخ نوربرت إلياس الاجتماعي والنفسي الى أن الهوية الوطنية الجامعة والمشتركة، أو لحمة المواطنين في دولة وطنية (دولة أمة)، ليست تتويجاً مباشراً لهويات أهلية قرابية ومحلية واعتقادية مذهبية، نسميها «طائفية» استعجالاً واختصاراً - ، وإنما هي ثمرة مركبة تلي انفراط لحمة الجماعات، وتصدع هذه وتذررها «ذرات» أو أفراداً «راشدين» يحكمون في الأمور برأيهم وفهمهم وعقلهم. ويزيد تأريخ إلياس النفسي والاجتماعي: ويحكمون في العادات والسنن والأفعال بـ«أجسادهم» المنفصلة، وبرغباتها وميولها التي تأدبوا بأدب كبتها وقهرها ومراقبة انفعالاتها الظاهرة ولجم عنفها التلقائي.
وفي ضوء التأريخ النفسي الاجتماعي هذا، وتنبيهه على شرط انفراد الجماعات الأهلية وتذررها أفراداً «قبل» استواء اللحمة الوطنية المشتركة لحمة جامعة، تبدو مراثي اللبنانيين و«العرب» العروبية والمتسلطة في اندثار الرابطة الوطنية أو «القومية» في لبنان والعراق والأردن وإيران «الحركة الخضراء»... مراوغة واحتيالاً. فأصحاب المراثي يصدرون في مراثيهم عن جماعاتهم العصبية، وميولهم وأهوائهم «الفطرية» وتخلقهم بأخلاق جماعاتهم وتطبعهم بطباعها. وتدعوهم هذه، الجماعات العصبية وميولها وأهواؤها، الى التسلح المستقل، المادي والمعنوي (التسلح بالهوية الأهلية المنفصلة)، وإلى شهر السلاح على هيئات الدولة ومرافقها وإداراتها، وعلى الجماعات الأهلية والوطنية الأخرى. وتقاتل الجماعات الأهلية المسلحة الأعداء المحتلين وهم عدو واحد على زعمها قتالاً عصبياً وأهلياً تقصره على نفسها وعلى «نظائرها» ولاءً ولحمات عصبية، وتقصي عنه الجماعات الأخرى. وذلك بإعمال العنف والقتل والاغتيال والترهيب والمصادرة (على ما يشهد تاريخ علاقة «المقاومة الإسلامية» بـ»المقاومة الوطنية اللبنانية» وبـ«أمل»، ويشهد تاريخ علاقة «القاعدة» العراقية بالجماعات المسلحة المحلية، وتاريخ علاقة الجماعة الحوثية اليمنية بـ«الشباب المؤمن»...) في الجماعات المنافسة على «التحرير» وعلى الحكم معاً، وعلى التحرير سبيلاً الى الحكم والسلطة معاً، ومن غير اقتسام.
وحين يستوقف اقتتال «حزب الله» و«الأحباش» («المشاريعيين») بالسلاح الثقيل في ديرة أو ميدان برج أبي حيدر وفروعه وامتداداته الأبعد فالأبعد: البسطة الفوقا والنويري والمصيطبة ورأس النبع وبربور والمزرعة والبربير الى الطريق الجديدة والمخيمات الفلسطينية القريبة أمين عام الأمم المتحدة بان كي - مون فهو يقيم بل يوجب رابطاً وثيقاً بين حرب الجيوش الأهلية المسلحة والأمنية على العدو المحتل وبين منازعات الأفراد (الخلاف على موقف سيارة، على ما قيل) و«المنظمات» المتعصبة (أهل الشيعة وأهل السنة، أهل بيروت وأهل «الجنوب»، الأصليون والطارئون...). وتنكر الجيوش الأهلية المسلحة والأمنية الرابط هذا، وتنفيه، وتندد بمن يوجبه أو يقيمه.
فذهب بيان «حزب الله» ورده في 20 تشرين الأول على تقرير بان كي - مون وتيري رود لارسن الى أن التقرير يغفل عن أن «الحزب»، أي الجيش الأهلي، هو «منذ زمن بعيد، في صلب المعادلة السياسية اللبنانية من خلال وجوده في البرلمان وفي الحكومة». وعلى هذا، فالحزب الأهلي المسلح هو «من» الدولة («المعادلة السياسية» في الرطانة السائرة)، ويباشر «الحق في المقاومة» بوكالته عن «اللبنانيين»، وعن «الحكومة» (وهذه تكني عن الدولة، المصطلح المستبعد وغير المستحب والممتنع على كتاب «الأمة القلقة» وألسنتها). وإذا نبه أمين عام الهيئة الدولية الى تلازم قتال العدو، حين تتولاه جماعة عصبية مسلحة، واقتتال الجماعات الأهلية الوطنية أو اللبنانية (والعراقية والفلسطينية والسورية والأردنية...)، لم يشك أصحاب البيان في صفة التنبيه «الكيانية الصهيونية». ولا شكوا تالياً في انحيازه الى «الكيان الصهيوني» على «أسطول الحرية» والأسرى الفلسطينيين، في معتقلات الاحتلال الصهيوني، وتواطئه على «حصار» أكثر من مليون ونصف مليون مواطن فلسطيني محاصرين في غزة «حتى الموت جوعاً» ومليون ونصف مليون مواطن فلسطيني «آخرين مهددين بالطرد من أرض آبائهم وأجدادهم في الأراضي المحتلة عام 1948 من خلال السعي لإقرار مبدأ يهودية الدولة الصهيونية العنصرية»...
ويقتضي التسليم بمكانة السلاح الأهلي والخاص أو صفته السياسية والوطنية، والقومية والإسلامية استتباعاً، إما الإغضاء عن المنازعات الأهلية والفردية التي يجر إليها السلاح هذا والمنافسة على عوائده وريوعه، وإما احتساب المنازعات وضحاياها في كلفة «مقاومة» الاستكبار والاستعمار والغرب وشياطينه و«ثقافته التلمودية» على ما كان يُقال. والحق أن التخيير بين الإفضاء وبين الاحتساب نظري وصوري. فالجمع بين الرأيين والتنقل بين الرأي والرأي متاحان. والالتجاء الى ساحات «المظالم« العربية والإسلامية، وافتراضها ساحة واحدة ومتصلة، على كثرة الدول والجماعات (الشعوب) الوطنية التي تتولاها، والاحتجاج بها على الطعن الدولي والأممي في العنف الأهلي الناجم عن التسلح العصبي هذه كلها (الالتجاء...) توسع نطاق العنف والقتال والاقتتال الى أطراف قصية هي أطراف الأمة القومية أو الدينية المفترضة. وغالباً ما يحصى غزو الجيوش الأميركية والغربية العراق، بعد أفغانستان، وتهديد إيران النووية، في مسح ميدان المعركة العريض والمترامي.
[السلطنة
ولما كانت الجيوش الأهلية والعصبية تقاتل عدواً واحداً أو مشتركاً، معظمه مقنع بأقنعة وطنية وأهلية منافسة، وذلك في ميدان متصل المسارح والساحات ويتستر العدو على اتصاله ووحدته، ترتب على هذا تكاثر بواعث العنف، ودواعي انتهاك التمدين. ويلاحظ صاحب «دينامية الغرب» أن اتساع ميدان المنافسة بين الجيوش الأهلية والخاصة يؤدي الى تأخير الحسم وبروز جهاز السيطرة الحصري والمشترك. وكان فريدريش انغلز لاحظ أن الحروب في نطاق امبراطوري مركب، على شاكلة الامبراطورية الجرمانية المقدسة (امبراطورية شارلمان وخالفيه)، وكثير البؤر الأهلية، هذه الحرب تصرف العنف الى الخارج، وتحول دون إعماله في تصديع الأبنية الأهلية، وفرط مُسكاتها ولحماتها، والتمهيد لاتصال الأجزاء الوطنية في دولة تنهض على مواطنين وليس على رعية أو رعايا، ولا على «حكومة وحدة وطنية» تقوم على حق النقض، أو برلمان يتولى رئيسه تعطيله وشله والإزراء به، أو على «معادلة سياسية» يتربص بها الاجتياح المسلح. ولا يزال سراب «المثال» الألماني، شأن سراب «المثال» الروسي والسوفياتي، يداعب مخيلة قيادات عربية و«غزاة» وشاهات وخانات غير عرب.
واستقوى التسلح الأهلي، وشقُّ جهاز السيطرة الحصري الوطني والضعيف، بتجدد المسألة الفلسطينية في 1967، وخروج المنظمات الفلسطينية المسلحة من مخيمات اللجوء، وخوضها المنازعات السياسية والأهلية الوطنية والمحلية في صف المعارضات. فعزز الأمران، التسلح وانقسام جهاز السيطرة، النزعات والحركات الأهلية، العصبية والعامية («الشعبية» أو الجماهيرية)، من وجه أول. وحملا الكتل والحركات الأهلية، من وجه ثان لازَمَ الوجهَ الأول، على الانخراط في سياق عروبي سلطاني أو امبراطوري. وقدم السياق الصراع الإقليمي و«القومي» المفترض، وخليطه المتشابك والمُعَمّي، وإطاره على أطر المنازعات الوطنية، وعلى إواليات تعريفها وسوسها.
ونفخ تقديمُ الصراع الإقليمي على المنازعات الوطنية في المنافسة المختلطة والمتشابكة على قيادة السياق العروبي السلطاني. وأجج السياق العروبي السلطاني المنازعات الأهلية المسلحة في الدول، وبين الدول، وأدخلها في صلب الحروب والخلافات الإقليمية، وسوغ سوسها وتدبيرها على المثال الأهلي المسلح. وهو مثال يعول على الاستدخال واصطناع الموالي وتسليحهم والرشوة و«قلب الجبهات» وتعليق الحسم وابتذال القضايا الكبيرة (مثل «العلمانية»). وهذه عوامل نكوص عن تمدين العادات والسنن وعن تهذيبها. ولعل نصب «المسألة الفلسطينية» على رأس المسائل السياسية الأخرى كلها، وعلى صورتها الصوفية الجامعة والمنفلتة من التعيين، إنجاز بارز من إنجازات البنية السلطانية وإنشائها السياسة «العربية» على مثال اللبننة وقبلها الأردنة والفلسطنة وبعدها العرقنة وغيرها... على ما قيل في بعض الأوقات ويُقال.
فاستقرت في معاملات المجتمعات اليومية رسوم عنف أو قسر أهلي وخاص تنتهك حصرية عنف السلطة المشروع. وإذا كان تعلق «حرب» برج أبو حيدر بين «جيش» «حزب الله» وبين «جيش» «الأحباش» بتسلح الجماعات المذهبية وأدوارها الإقليمية، واضحاً وملموساً، على ما نبه تقرير أمين عام الأمم المتحدة الدوري في القرار 1559، فأصداء التسلح الأهلي وتردداته اليومية، ونتائج منازعاته الدولة على إنفاذ «قوانين» المسلحين وإراداتهم، لا تحصى. فيوم إذاعة تقرير بان كي - مون ( 18 تشرين الأول، صحف 19)، روى تقرير أمني، فيما روى، أن دورية قوى أمن داخلي أرادت إزالة خيمة قرميد استحدثها أحدهم (ح.ع.) عنوة ببئر حسن لم تجزها البلدية، وينتفع منها الرجل. فتجمع «عشرات الأشخاص»، وأحاطوا الدورية، وحالوا بينها وبين إنفاذها مهمتها، واضطروها الى الانسحاب. وتشبه هذه الواقعة عشرات الوقائع الأخرى. وأدى تواترها وشمولها دوائر كثيرة من المعاملات مثل الكهرباء («التعليق» أو السرقة) والمياه والبناء «على أراضي الغير» عنوة والتعدي على الأملاك العامة وإقامة مواقف سيارات خاصة وبيع بضائع وسلع مهربة أو منحولة وإقامة مرافئ خاصة...، إلى «تخطيط» مدني عشوائي صبغ إنشاء المدينة بصبغته وصبغة كتله الأهلية. واضطلع التواتر هذا بدور راجح في تجديد القيام على قوى الأمن والجيش: غداة 1982 1983، وطوال سنوات الاضطراب التالية و«حروب» «أمل» و«حزب الله» الفلسطينية والأهلية، ثم في 2002 (على رفيق الحريري) وغداة حرب صيف 2006 مباشرة... وسبق هذه الفصول كلها إجلاء الجماعات المسيحية النازلة في ظواهر بيروت وبين سفوح الجبل وبينها، وحملها على الهجرة والهرب والالتجاء إلى كتلها الكبيرة.
ويروي خبر آخر، في اليوم نفسه، أن رئيس مصلحة تسجيل السيارات بالتكليف ألغى امتحانات رخص السَّوْق (أو السواقة) في عاليه والأوزاعي وجونيه، وحصرها بالدكوانة. ودعا الموظف الإداري والأمني الى قراره هذا تولي بعض فروع المصلحة إعفاء ثلثي المتقدمين الى رخص السوق من الفحص والامتحان العمليين، وتيسير الفحص الإلكتروني عليهم. وعلى هذا، تستبيح اللجنة الترخيص بسوق السيارات لمن لم يتدربوا، ولم يؤهلوا. والاستباحة تستجيب رغبات مكاتب تعليم السوق وأصحابها. وهؤلاء يضمنون سلفاً لطالبي الرخصة، لقاء مبلغ «مقطوع»، الرخصة الموعودة. وإذا عمدت مصلحة تسجيل السيارات الى التزام شروط الترخيص، ندد أصحاب مكاتب «التعليم» بقطع المصلحة أرزاقهم، واعتصموا دفاعاً عن خبزهم. ولا يبعد ان يقطعوا الطرق تحت لواء حقهم «الشرعي» في الخبز، وأن يتبرع أهلهم المسلحون برد قوى الأمن على أعقابها، وتذكيرها بالشاي الذي أشرَبَه ضابط إحدى الثكن الحدودية، غداة وقف الأعمال القتالية في آب 2006، ضباطاً إسرائيليين (يفترض أن «المقاومة» هزمتهم ومنعتهم من وطء ذرة واحدة من تراب الجنوب...).
وتعطيل إجراءات السلامة العامة وهي قد تفضي في حال سير السيارات الى القتل الذريع على الطرق، وتفضي في حال البناء من غير ترخيص الى انهيار الأبنية على ساكنيها بالقوة الأهلية المسلحة، يطلق العنان للتسلح، ويبيح للمسلحين تحصيل أسباب كسب و«جباية» خاصة أو ريعية. وذلك من وجوه تعطل المساواة بين المواطنين، وتقدم بعضهم على بعض، وتدعو ضعفاءهم الى الالتحاق بأقويائهم، والانخراط في صفوف أتباعهم وأنصارهم، والتكسب من مالهم ومرافقهم وبيوت «عطائهم»، والقتال في جيوشهم الخاصة. ولا يسع جهاز سيطرة حصري، يلجم المنافسة داخله ويقيدها بقواعد عامة، الاستواء والتماسك. والدعوة المشهورة والقديمة: «اعملوا دولة قبل أن تطالبونا بالانضمام إليها»، هي ثمرة شيوع الجيوش الأهلية والخاصة وشرط دوامها.

ليست هناك تعليقات: