الاثنين، 22 نوفمبر 2010

تحقيق «الكتب» النقدي والتاريخي مدخل الى تأويلها

المستقبل، 21/11/2010

حين يجمع بعض قراء «الكتاب»- من غير تعريف أو نسبة- ومفسريه وشارحيه ومؤرخيه المحدثين، في ضوء مصائر معتقديه ومعتقداتهم وأفكارهم وفلسفاتهم وسياساتهم وأحوال عمرانهم، على الاقتصار على «الكتاب» وتناوله في نفسه، يبدو المنهج في نظر شطر من المؤمنين ومن القراء الدارسين قريباً من البداهة. وهو، أي المنهج، يُحمل على عودة محمودة الى الاصل الاول المجرد من زوائد ونوافل أقحمتها عليه، عنوة وعدواناً، اغراض وأهواء لاحقة لا شأن للنص الديني الناصع بها. وعلى هذا، فالنواة الاولى، الثابتة والصحيحة، هي ركن عقل مستقيم لم يستدخله التواء مصالح الملك والسلطان وسرّهما بعد، ولم يحرفه عن حقيقته، وتالياً عن الحقيقة. ويذهب بعض القراء هؤلاء، من المفسرين والشارحين والمؤرخين، الى أن العودة الى الاصل والمرجع في نفسه هو علاج شطط عظيم أدخل «السياسة» وشرورها في «الدين» المطهر والبريء. وهذا المذهب، على معنى المقالة والرأي، يتقاسمه مثقفون مصلحون يلبسون لباس النقد الفكري والثقافي والتاريخي معاً وجميعاً. وبعض مقالاتهم شقت طريقها الى مدارس الفقه والشريعة وحصون المحافظة والتقليد. ويقول طلبة علوم دينية وشرعية في هذه المدارس ان المقالات المجددة تصل بينهم وبين عصر الحداثة بصلة لا يعهدونها ولا يأنسونها في دروس مدرسيهم.
وثمرات هذا الرأي لم تتعدَّ بعد «وعد الازاهير»، على قول الشاعر الفرنسي، ولم تبلغ، في ميزان النقد، ما بلغه ايذان مطالع القرن العشرين المصرية، قبل انقطاعه ونضوبه المفاجئين، على نحو ظهوره المباغت. وقد يعزى الانقطاع الى رد الجواب المهوٍّل والمهدد، والى استجماع علل «وجودية»، عُلق عليها دوام الامة وتماسك كيانها، حُشدت في النقض على موضوع المقالة النقدية المبتدئة، والنقد «حدودي» تعريفاً، وأَبطلت جواز الموضوع في الاساس وأطفأته. وفي الاحوال كلها، ليس الايذان المصري، الفقهي الاجتهادي عن يد محمد عبده والادبي الفقهي اللغوي عن يد طه حسين، هو مرجع المقالة النقدية المعاصرة. فهذه ولدت في ثنايا التأويل، وعلم أصوله، وغلبته على شطر من الدراسات الفلسفية. ويدين التأويل ببعض مطالبه وموضوعاته الى الدراسات التوراتية والانجيلية، وإلى الاعمال النقدية والتاريخية النصية التي تناولت «الكتاب المقدس» في عهديه او جزئيه المفترضين (وهما مفترضان في الدراسات هذه أو بعضها وبمنأى من اعتقاد الدارسين). ولعل انصراف التأويل الى المعنى الكتابي، وحمله علمه على علاقة المعنى بكاتب النص، وصفته وزمنه ومخاطبيه، وعلى صيغ النصوص وتعاقبها وتواردها وتوارثها الآثار أو «الأثر» على قول ابن خلدون في تعريف مطلب علم التاريخ، لعل هذه من القرائن على ملابسة التأويل، ومعاملاته ونظرياته أو فلسفاته، الدراسات الكتابية، التوراتية والانجيلية. وهي من القرائن على صدور التأويل، معاملات وأصولاً، عن هذه الدراسات.
وعلى هذا، فوصل الانقطاع النقدي «العربي» بالتهويل والتهديد الفكريين والاجتماعيين الظرفيين، وهما حقيقة ثقيلة لا تنكر وطأتها، لا يستوفي وحده علل الانقطاع، ولا يلم بعلل «استئناف» المقالات النقدية اليوم، إذا جاز وصف هذه بالاستئناف. فالحق أن موضوع الدراسات الكتابية، التوراتية والانجيلية، فالقرآنية المحدثة، ليس واحداً، ولا يجوز تناولهما (على ما يُرى من بعد) على مثال واحد أو مشترك، ولا حملهما على معنى متقارب. وليس الرجوع من (علم) أصول التأويل الى ارادة فهم «الكتاب» من طريق حمله على نفسه، والنأي به من تفسيره بالسنة ومن مساواته بها، إلا دليلاً على الفرق بين الموضوعين. فاستقرار التأويل أو معظم أصوله وبعض معاملاته، في الثلث الثالث من القرن السابع عشر على يد باروك سبينوزا الهولندي (1670) ثم ريشار سيمون الفرنسي (1678)، كان ثمرة إعماله في الدراسات الكتابية، وولد منها ومن انجازاتها وحلولها بعض المشكلات التي اعترضها. واستقلت أصول التأويل بنفسها، وطرقت مطالب وأبواباً غير كتابية، توراتية وإنجيلية، وابتكرت مناهج تناسب مطالبها وأبوابها الجديدة، قبل أن تلتقي طرقها طرق الدراسات الكتابية مرة ثانية وثالثة ورابعة.
ودليل ثان على الفرق بين الموضوعين هو ترجمة «كريتيك»، أي المنهج الموسوم بـ»كريتيك»، بالمنهج النقدي، على معنى اللفظة السائر، وهو تمييز المعاني وأدائها ومراتبها بعضها من بعض، أو على معنى أقرب الى الاستعمال الفلسفي وهو تعريف دوائر القبول والصحة وتمييزها من دوائر الابطال والرد. والكلام على «كريتيك» في باب الدراسات الكتابية يقصد به التحقيق النصي على أنواعه، المادي النسخي والفقهي اللغوي، والاسلوبي والمصدري، والادبي الفني، الخ. وحين يقال في طباعة عمل أو طبعته أنها محققة، فالمراد أو المعنى أن الناشر، أي متعهد العناية بالنص المنشور والتدقيق به، تولى تحقيق نسبته، وصحة نقله، وتمام النقل وطرقه و»تخريجها» على قول علماء الحديث، وشرح غامضه، وقارن صيغه بصيغ أخرى قريبة سابقة أو معاصرة أو لاحقة، وخمَّن في مصادره أو وثقها، وجلا مبانيه وأجزاءه وروابطها... وهذه تمهد الى تناول المعنى مستوياً على «عرش» لا يُدرك منه، ومن الاستواء عليه، إلا «تلويحاته»، على قول السهروردي. فالتحقيق، على الوجه هذا، هو مقدمات التأويل. وهذه المقدمات لا تعد العدة لسجن المعنى أو إثباته واحداً ومحفوظاً ومحكماً من غير لبس ولا تشابه. واشتراط هذه الشروط يخالف التحقيق وعلله. فالشرط يفترض أصلاً ومبنى ناجزاً وحاضراً كذلك الذي أنكر الغزالي جوازه في رده على «الباطنية» الاسماعيلية وفروعها الامامية وتأويلها الرمزي. ونشأ التحقيق عن خسارة مثل هذا الاصل وعن تقرير استحالته على الانسيين.
[الحرف
وحمل التحقيق النقدي على معارضة معنى، سبق وافترض ناجزاً في مرآة مصائره التاريخية والسياسية المنكرة، بمعنى آخر يجمع فضائل الرسالة والتحول والاستنارة، على ما تأخذ به الافكار النقدية «العربية» المعاصرة - يغفل عن حقيقة نشأة التحقيق والتأويل الكتابيين وتاريخهما عن مترتباتهما المنهجية والفلسفية. ولعل هذا سبب آخر في مراوحة النقد الديني ووقوفه ولزومه التقرير الابتدائي والافتتاحي. وقد يكون هذه السبب، الداخلي، أقوى أثراً في عقم النقد وانقطاعه، وأوفى تعليلاً من تهويل رد الجواب وتهديده، على رغم أثر هذين وعواقبهما.
وصدارة التعليل والفهم الداخليين هي ما يثبته ويقرره صاحب المنعطف التحقيقي والتأويلي في الدراسات الكتابية والتوراتية (والانجيلية)، سبينوزا في كتابه «رسالة في اللاهوت والسياسة» (نقلها حسن حنفي عن الفرنسية الى العربية وقدم لها). والحق أن المنعطف هذا تضافر عليه ثلاثة اجتمعوا في وقت واحد تقريباً، هم لويس مايير («الفلسفة تؤول الكتاب المقدس»، 1666) صديق باروك سبيوزا ومراسله وناشره، وسبينوزا نفسه (1670) وريشار سيمون الفرنسي («التاريخ المحقق للعهد القديم»، 1688). وفرقت الثلاثة مشاربهم ومعتقداتهم، وجمعهم منهجهم الدراسي التحقيقي والتأويلي التاريخي، وركنه تقدم حرف النص المحقق على ما عداه. وأول ما عداه هو التأولي المَثَلي أو البياني القَصَصي الذي غلب على الكنيسة الكاثوليكية وأساقفتها وأحبارها طوال القرون التي سبقت القرن الخامس عشر او نصفه الثاني.
ويرد مؤرخ تناول «الكتاب المقدس» وعهديه على وجه التحقيق، بيار جيبير اليسوعي الفرنسي (باريس، غاليمار، 2010)- حرفياً «الابتكار النقدي للكتاب المقدس، القرن الخامس عشر القرن الثامن عشر»- الانعطاف الذي خرجت به الدراسات الكتابية، التوراتية في المرتبة الاولى، من سكونها التأويلي، عشية الثورة البروتستانتية اللوثرية وقبيلها، الى لورنتزو فالّا، الروماني الايطالي المولود في 1407 (م) بروما والمتوفي بها في 1457. وفالّا كتب، في 1440، مقالة في عهد قسطنطين المنحول، أثبت فيها أن «العهد» هذا، وزُعم أنه يعود الى القرن السابع الميلادي، وهو يستخلف بابوات روما على ولايات الكنيسة او ولايات الامبراطور البيزنطي، منحول من ألفه الى يائه، ولا تستقيم نسبته الى كاتب عاش في القرن السابع، ويقتصر علمه على عصره هذا. وهو من أوائل (أعمال) النقد التاريخي، على معنى تحقيق النسبة. ولا شك في أن التحقيق الكتابي التوراتي احتذى عليه لاحقاً. وباكورة أعمال التحقيق هذا الطعن في نسبة أسفار الشريعة الخمسة الاوائل ( التكوين والخروج والاحبار والعدد وتثنية الاشتراع) من التوراة، وهي «أم» التوراة إذا جازت الاستعارة، الى كاتب واحد هو موسى (بن عمران) النبي.
ولكن لورنتزو فالّا، الطاعن في صدق نسبة العهد القسطنطيني الى أحد خلفاء الامبراطور المتنصر الاول، ليس هو من طعن في صدق نسبة الاسفار الخمسة الى موسى، على منهج قريب من تحقيقه التاريخي. فهو من أبطل أو دعا الى ترك قراء «الكتب»، على ما كان العرب يقولون في غير كتابهم، على معانيها الاربعة المتوارثة منذ الآباء، وقصر القراءة والتأويل على هذا. وآذن بالعودة الى نص الكتاب اليوناني وفيها التوراة «السبعينية» التي نقلها بعض يهود الاسكندرية، في القرن الاول قبل الميلاد، الى لغة الجالية اليهودية في العاصمة الثقافية ومقارنة النص اللاتيني المأذون العائد الى جيروم (القرن الثاني) بالنصوص اليونانية «الاصلية» (وهذه تكشفت عن نصر عبري «أصلي» هو محل مناقشة لم تهدأ ولم تحسم). وأدرج الفقيه اللغوي، واللاهوتي من وجه آخر على حدة، تدقيقه في الفروق بين الكتب المقدسة، في لغتيها «الاصليتين»، في سياقة سعي ديني وروحي في «حقيقة المسيح»، لا تبلغ الا من طريق «الحقيقة اليونانية»، أو في من طريق جلائها في اليونانية، فيما يعود الى الاناجيل الاربعة والى أعمال الرسل. ونبه الدارس الى مكانة اليونانية هذه من بعض «التحريف» الذي أصاب النص اللاتيني المأذون قياساً على «الاصل» اليوناني، وبعض الهنات أو الضعف في العبارة.
وإنكار الكمال على النص المأذون كان جرأة كبيرة. ومهد الطريق الى هذه الجرأة وسوغها استنفاد التأويل المَثَلي أو القَصصي البياني أغراضه غداة تجدد الدراسات اللغوية والادبية في عصر النهضة، الايطالية أولاً. والتأويل القصصي البياني وجه من وجوه «معارف» قوامها العلامات والتوقيعات. فالطبيعة في مرآة هذه المعارف «كتاب» يقرأ «العلماء» حروفه وسطوره وصفحاته في ضوء ارادة معنى خفية وظاهرة. والقول ان الطبيعة، والخليقة عموماً، كتاب ليس (لم يكن) مجازاً ولا استعارة. وعلى نحو ما تقرأ النصوص والكتب وتفهم (العلوم الالهية) على «حروف«، على قول بعض المتصوفة، تفك رسوم الخليقة والحوادث على حروف أو صور كذلك. والانقلاب من مباني معارف او معايير فهم الى مبان ومعايير أخرى مختلفة، فتبدو المعارف السابقة طلاسم تستغلق على الفهم، هذا الانقلاب يعصى التعليل الوافي. ولا تستوفي «القطيعة في أصول المعارف» تعليله. والحق ان إعمال فقه اللغة المقارن في عبارة الاناجيل وكتابتها، على معنى ضيق وعيني، افترض انفكاكها من المعاني الاربعة ودلالاتها التصويرة التعبيرية واستواءهما مستقبلتين بنفسهما، ومدينتين بالمعاني التي تؤديانها الى استوائهما هذا وقيامهما بأود الدلالة على جاري حال اللغة.
فكانت الفروق اللغوية، بين لغتي النص وعبارتيه وفي بعض صيغه، الذريعة الى حمله على التحقيق، والى تناوله في نفسه، إسوة بغيره من النصول، وتوقع جلائه حقيقته من طريق مباشرته على هذا النحو «العاري»، على قول كلود ليفي - ستروس في جماعات الانسيين المثقلين بالعلامات والروايات والقوانين. وأدخل لورنتزو فالا الفروق، وهو لم يطرحها، ولم يقلل شأنها، ولم يدع الى اهمالها، ولم يكن يملك سطوة لا يملكها إلا أهل السلطان الجامع- في بنية النصوص وكيانها، إذا جازت العبارة. فمالت النصوص، والحال هذه، من جهة مصدرها (الالهي) المفترض، وكمالها في نفسها وتعاليها وهما صنو كمال المصدر وتعاليه، الى جهة المخلوق، السامع والفاهم والمدون والناسخ وحافظ المدونات والنسخ ومتناقلها ومتوارثها. والجهة هذه، جهة «الانسان»، على خلاف جهة المصدر المفترض، «نسية» و»ضعيفة»، على قول قرآني ملح ومعرِّض. وهي الموكلة بالحفظ والذكر، وبحملهما، على زعم الانسانوية الغربية. وهذا يغلب كفة الضعف والنسيان والفهم الحاضر المقيم والجائز على ما ليس كفة، ولا تصح فيه المقارنة ولا العلاقة أصلاً، ويجتمع فيه التمام والجبروت والدوام والعقل والضرورة من غير زمن.
[المعرفة القَصصية
وأثبتت طبقات «المحققين» «النقاد» - والطبقة على معنى الوقت - من فالّا الى ريشار سيمون وبينهما غوتنبرغ (صاحب المطبعة) ومارسيل فيتشينو وإيراسموس ولوثر ودانيال بومبرغ وسيباستيان كاستيليون وكالفن ومايسيوس وسكاليجير (صاحب لفظة «التحقيق» على معنى الطبعة المحققة او النقدية) فميرسين (مراسل ديكارت) وجان موران ولوي كابِّل وهيغو غروتيوس وفالتون وايزاك دولابيرير ثم لويس مايير وسبينوزا وريشار سيمون (في احصاء بيار جيبير، موقتاً)، ثبتت طبقات المحققين هذه طوال قرنين ونصف القرن مقدمات التحقيق النقدي العامة والمشتركة والمنهج الذي قامت عليه وافترضته تدريجاً. وعلى هذا، وسع المؤرخ الدليل المعاصر، أي بيار جيبير، القول حين التطرق الى سبينوزا أن الغرض الفلسفي الذي دعا الرجل الى تناول التوراة تناول المحقق، وهو على قول سبينوزا نفسه «تبديد اعتقاد الخرافات» أو المعجزات وانتهاك «سنن الطبيعة»، هذا الغرض لا يطعن في سوية الكاتب المنهجية أو استقامتها. فموضوع «الرسالة في اللاهوت والسياسة» ومدارها هو امتناع بعض اجزاء التوراة من الفهم بواسطة «دليل الفطرة» (أو نور العقل الطبيعي). والحوادث والوقائع (القصص) التوراتية، أي المعجزات، لا تنزل على النظر الطبيعي وميزانه، ولا تعقل من طريقه. ويقضي هذا، بحسب صاحب «الرسالة»، بإخراج معرفة هذه «الاشياء» من النظر الطبيعي، وقصر معرفتها على الكتاب وحده، على نحو ما يجب أن يكون الحاكم في معرفة «الطبيعة، ومصدر هذه المعرفة، «الطبيعة» نفسها (وترتيبها ونظامها).
والمعرفة «القَصصية» ضرب أو نوع من العلم قائم بنفسه ورسومه وعلله. وهو في منزلة متأخرة عن العلم العقلي بالاسباب الطبيعية التي تترتب عليها النتائج ترتباً محكماً ولازماً، على ما يرى سبينوزا في بعض أعماله الاخرى مثل «الرسالة في إصلاح الفهم»، أو في كتابه الجامع والكبير «الاخلاق». ولكن ترتيب المعرفة الحسية والصورية المتخيلة، أي «القَصصية»، على هذا النحو وفي مرتبة أدنى من المعرفة بالبراهين «الهندسية»، لا يدعو، في معرض التحقيق، الى انكارها او إلى نفيها من العقل. وهذا من معاني النقد الوليدة والجديدة. والقياس على المعرفة العقلية والبرهانية يستقيم في ميزان كلي وجامع. وهو يبلغ، إذا بلغ، على شرط تضمينه مراتب المعرفة الدنيا واضطلاعه بتفسيرها. وهذا ما يتصدى سبينوزا له، ويريد استيفاءه ويوجبه. وهو يخلص منه الى أن التوراة هي الدليل الى فهمها، و»تعريف موضوعات ما تتناوله وتتكلم عليه». ويدرك التعريف من طريق متعرجة تقضي باستقائه (التعريف) من مواضع وأخبار متفرقة، يُحمل بعضها على بعض، ويقرن بعضها ببعض، من غير اطراح المعاني الحرفية والعينية المباشرة. والفروق المتأتية من الروايات والنقل والتدوين والنسخ والترجمات- وهذه فشت وتكاثرت على نحو لا سابقة لها مع البروتستانتية والمطبعة وإرادة جعل الكتب في متناول «الحمقى» او العوام السُذج من غير المتأدبين والعلماء ليست حواشي مطرحة ومهملة، بل هي من آثار الزمن، أي التاريخ، في الكتب و»عواديه»، على قول العرب. والتحقيق النقدي يقر بالتاريخ وفعله وملابسته طوايا الكتب وأركان فهمها و»تلقيها» أو قراءتها وتلاوتها وتأويلها.
ودعا هذا «زجَّاج» أمستردام (فهو كانت حرفته جلي زجاج العدسات)، وداعية «الانوار الراديكالية»، أو الجذرية والغالية على قول مؤرخين معاصرين، الى دراسة العبرية، وكتابة موجز في نحوها وصرفها، حرصاً منه على تمييز «رطانة» الترجمات الى اليونانية واللاتينية بالعبرية، على رغمها ورغم المترجمين. فالبيان المحكم والمبنى اللغوي يسبق التوجه على النص بالسؤال عن غموضه و»متشابهاته»، وما أشكل ويشكل على فهم الناس منه ويتباين بل و»يتناقض» (شأن بعض الانساب وتقديم بعض الحوادث أو تأخيرها بحسب راويها أو مدونها). ويرمي التحقيق الناقد الى تناول أسفار الانبياء وكتبهم، وجلاء سيرهم وعاداتهم وسننهم، وأحوال أوقات مبعثهم والقوم الذين بعثوا اليهم وفيهم ومشاغلهم، واللغة التي خاطبوا بها الجمهور. وينبغي تعقب حظ كل كتاب من الشيوع والصيت وإلى من وقع، والوجه الذي فهم عليه، و»الحروف» أو الصيغ التي قرأ عليها وتلي، ورأي من عدّوه في الكتب المقدسة وأدخلوه فيها. ولما جمعت هذه الكتب في كتاب أو مدونة واحدة و»جسم» متصل، لم يكن بد من تناول الجمع هذا وملابساته وإجرائه (والخلافات التي ثارت جراءه وذيولها).
فتحقيق الكتب، اليوم، وفي كل عصر، وتأويلها أو فهمها، هما في صلب ايجابها على الوجه الزمني التاريخي والانسي، والحاكم في تلقيها واستقبالها تالياً في إنشائها «المصحفي» (قياساً على الواقعة الاسلامية). ويعتور كمال التحقيق المنشود ما يحول دون بلوغه. فاللغة العبرية تمتنع على الخالفين من اهل العصور «الامية» او غير النبوية من الاحاطة التامة. وبعض الامتناع مرده الى صيغ التصريف والتمييز والحال، وإلى انتفاء علامات الاعراب والوقف وأحرف العلة. والتاريخ، وهو الذريعة الى المعرفة، مشكل على قدر ما هو لازم ولا غنى عنه. فمطلب الاحاطة بالحوادث كلها محال. وبعض كتب التوراة والاناجيل لم ينقل في لغته الاصلية. فبين النقل وبين «السماع» أو التلقي فجوة تحجز دون فهم الكتب فهماً مستوفياً ومحققاً. وتقود الملاحظات الجوهرية صاحب «الرسالة» الى التسليم بدليل الفطرة والطبع في تناول النقل، شأنه في المسائل الطبيعية والنظر العقلي فيها. (ولا تخفى اصداء المقالة «الاصلاحية» أو البروتستانتية، القوية يومذاك، ولكن سبينوزا يصدر عن ديكارت ومنهجه وطريقته، وأنصار الكنيسة الكاثوليكية السلفيون طعنوا في ديكارتية خصومهم الاصلاحيين من أنصار الكنائس والشيع البروتستانتية الكثيرة والمعاصرة).
ويُبطل هذا، إذا أقرّ وسلّم به، اختصاص القضاء بالنقل والمنقولات، وفي فهمها وتأويلها. وهو اختصاص تنسبه «الكنائس» والاجهزة الى نفسها و»علمها»، وتنفي العوام و»الجاهلين» منه. وإبطال سبينوزا الاختصاص الكنسي والجهازي البيروقراطي هو الوجه «السياسي» من «الرسالة في اللاهوت والسياسة»، ثم من «الرسالة في السياسة» وحدها. ويبلغ الوجه السياسي من طريق التحقيق وموجباته ومعاييره، واستيفاء الموجبات هذه. وتترتب على التحقيق ومعاييره نتائج فلسفية جوهرية لا تزال تتردد في المقالات المعاصرة، ليس أقلها أثراً وتردداً ارتفاع الاصل واحتجابه، وانتصاب الاثر دليلاً أو معلماً من غير الاستقواء بأصل مؤثر ومأثور، وملابسة الحادثة الحاضر المتجدد وإلزامها مستقبليها الفهم عنها من غير ضمان تقليد موروث وراسخ الفهم.
ويرد بيار جيبير، في معرض إثباته جدة حمل سبيننوزا الكتب ليس على تاريخها وحسب بل على تاريخية كيانية، القول السائر والمتواتر أن حوادث التاريخ هي مجلى الخطاب النبوي اليهودي وموضوعه ومطلبه وأن التجسد هو محور المسيحية وعليه مبناها. ويرد ما يخلص من القول هذا الى نفي الجدة والتجديد السبينوزي والسيموني من بعده. فالحمل على تاريخية بنيانية وكيانية يدعو الى الاقرار باستحالة علاج أعراض التاريخية هذه، وهي التشابه والنسبية والتبدل وغيرها مما تدفعه العقائد الجمعية القوية.
[«خسارة» الاصول
ويبني ريشار سيمون على نيف وقرنين من عمل التحقيق والتأويل. وهو لم يقرأ «رسالة» سبينوزا إلا بعد فراغه من تحقيق تاريخه. وردَّ على «الرسالة» في «رسالة في الالهام» (1686)، غداة أعوام على «تحقيقه» هو، و16 عاماً على طباعة «رسالة» سبينوزا، بعد عامين من وفاة صاحبها. ويفترض عمل ريشار سيمون، وهو راهب كاثوليكي، انجاز طبقات المحققين الاوروبيين الذي سبقوه منذ لورنتزو فالّا، وتخللهم بعض «المجان» الفرنسيين في أواخر القرن السادس عشر. فيذهب الى تأخير كتابة الكتب وتدوينها عن أصحابها (الانبياء) الذين تنسب اليهم وتسمى بأسمائهم. فكتابها ومدونوها هم جامعوها المتأخرون وقتاً وزمناً، ومحترفو الكتابة والتدوين، وهم كتبوا ما كتبوه وجمعوا ما جمعوه، في ضوء آثار محفوظة سابقة أشبه بالمصنفات والمراجع، أو الارشيف. ورجح التحقيق أن يكون عُذرا (إسدراس على مايكتب في بعض اللغات الاوروبية)، صاحب «الاسفار التاريخية» أو الاخبارية، آخر الكتاب الجامعين. وقر الرأي عموماً مذ ذاك على أن الكتب المقدسة هي ثمرة «دورات» (انقلابات)، على غرار دورات الاجسام الفلكية وحركاتها، لم تنقطع منذ «نص موسى بالعبرية الى يومنا»، على قول سيمون. ولا يتيسر فهم الكتب حاضراً، وهو حاضر كل جيل من الاجيال أو قرن من القرون، إلا بمعرفة أحوالها وأوقاتها ومحالها وأطوارها. وتقترن الاحوال والاوقات... بالترجمات. فهذه وجه من وجوه أحوال الكتب والنصوص، وصيغة من صيغها «الاصلية»، وذلك على معنى يفقد معه الاصل امتيازه الكينوني، ويستوي اصولاً مستأنفة لا الى غاية او ختام، أو يستوي أثراً عن أصل أو عين (على نحو القول «صار أثراً بعد عين») متخلفً عن اثر، على خلاف سيرة المعاني الدينية واللاهوتية.
وينبه بيار جيبير، وهو الراهب اليسوعي على ما مر القول وتقدم، الى ان ريشار سيمون، الراهب الكاثوليكي، جمع محاماته عن حجية الكتب، أو «سلطانها» وصدوع المؤمنين بمصدرها، الى التزامه منهج التحقيق التاريخي النقدي التزاماً صارماً لا توسط فيه ولا مساومة. والازدواج هذا، وهو ركن «الخروج (الاوروبي) من الديانة والتدين» على قول مارسيل غوشيه، يهوّن جيبير من وطأته. فيكتب أن إعمال قواعد التقصي التاريخي العامة في تحقيق الكتاب تصيب بـ»قدر من النسبية قداسة الكتاب وربانيته، في وقت من الاوقات، على التقليل، وعلى وجه من الوجوه». فالتحقيق موضوعه النقل ومسنده وطرقه. والانبياء، أصحاب الكتب، على هذا هم كتاب أو كتبة. وهم «عمال» (موظفون) في ديوان الكتابة الوطنية في «جمهورية العبريين». ولا يقدح عملهم في حجيتهم «أنبياءَ ملهمين يوحي اليهم روحُ الله». وتتطاول مقالتهم الى ما لحق بالنصوص السابقة من تغيير أو «تحريف» في أثناء نسخهم إياها أو قراءتهم.
ويريد المحقق في مقالته هذه، أي إثباته نبوة متصلة و»متوارثة» او مستأنفة نبياً عن نبي، تقر للمستأنف الخالق بجواز بعض ما جاء به السالف أو السلف، يريد تقييد أثر الاقرار بجمع الكتب جمعاً مركباً أو «ملفوقاً» («وهو أن تضم شُقة الثوب الى أخرى فتخيطهما»، على قول ابن منظور) في مصدريتها أو حجيتها. فالكتب المحفوظة جزء من محفوظات خزانة «الجمهورية»، وهي «موجز»ها. وهذا تعليل التباين في بعض الانساب، والاختلاف في رواية بعض الاخبار، تقديماً وتأخيراً وتعليلاً واضافة افعال الى أصحابها، وتكرار أخبار أخرى. ولا يحط هذا من «ربانية« المصدر أو الوحي. والتحقيق، على وجه الدقة، ليس موضوعه هذه الربانية، وهي ليست شاغله. وإنما شاغله هو صنيع البشر بما أوحي الى بعضهم. وهذا الصنيع يصدق فيه وعليه ما يصدق في عموم صنيعهم. ومن باب هذا الاصل من أصول علم التحقيق، على ما يسميه جيبير، يتصل الاستئناف «النبوي» الى أصحاب التأويل المعاصرين. ويلاحظ ريشار سيمون أن مجمع ترانت الكاثوليكي الاصلاحي، وهو انعقدت دورته الاولى في 1545-1549، بعث مُؤوِّلين جدداً وكثراً على نحو لم تعهده الكثلكة من قبل، على رغم إناطة المجمع التأويل، رداً على البروتستانتية، بمرجع كنسي «مقدس». فما ابتدأه «الكاتب» موسى انتهى، يومها، الى ريشار سيمون، وإلى أشد قرائه سذاجة.
ويلزم عن الحال هذه أن الانسانية أو البشرية، على معنى اعيانها وأفرادها وجماعاتهم ولغاتهم وعمرانهم، هي مستودع «الربانية». ويلحق الوديعة، والحال هذه، ضياع الاصول «الاولى» وتحريف التناقل والنسخ والرواية، والاقتصار على الاثر المتغير، والتأويل المتجدد والمختلف. والتحقيق، وبغيته هي السعي في حقيقة معنى الكتب، هو خادم هذه الحقيقة ومصائرها الزمنية والدنيوية كلها. وحين أراد مؤرخ تحقيق الكتب المقدسة في أواخر القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين، فرانسوا لابلانش، تناول أحوال التحقيق ومآلاته في الوقت هذا، وسم تأريخه بـ»أزمة البداية» (باريس، 2006)، أو الاصل أو المصدر، كناية ربما عن ضياعها أو خسارتها. والشاهد على «الازمة» تعليق دول الاتحاد الاوروبي مسألة أوروبا المسيحية.

ليست هناك تعليقات: