المستقبل - 17/10/2010
على عتبة إغلاقه بابه على نحو الألف صفحة التي أرخ بها لأوروبا غداة الحرب الثانية («ما بعد الحرب»، 2005 في الإنكليزية و2008 في الفرنسية)، واستبقت مرضه ووفاته (1948- 2010)، يلاحظ طوني جُودْت، المؤرخ البريطاني الأميركي، أن أوروبا نهضت وقامت غداة الحرب العالمية المدمرة على النسيان، أو على ذاكرة تعمدت إغفال أجزاء مهمة وراجحة من الماضي، ليس الماضي القريب النازي والشيوعي، أقلها ثقلاً ودلالة وأثراً. وغداة 1989، وتصدع الأنظمة الشيوعية بأوروبا، أرادت أوروبا تعويض النسيان هذا، فرفعت للتذكر نصباً بل أنصاباً، وشاءت هذه الأنصاب هيئات ومؤسسات تستظلها سياساتها. وعلى نحو ما لم تدم سياسة الإغفال المتعمد، والسكوت عن أعمال الإبادة وانتهاك الدول الحقوق داخل الحدود الوطنية وخارجها والسطو على الأراضي الإقليمية، وقهر إرادات الجماعات والشعوب، فالأرجح ألا تدوم سياسة الذاكرة.
ولا ريب، على قول جُودْت، انه كان على الفرنسيين إثبات نظام فيشي (القومي) والميليشياوي والمتعاون والمتعصب على السامية (واليهود) على ما كان عليه حقيقة، قبل المضي قدماً، وعلى البولنديين النظر في مترتبات نفيهم شطراً من مواطنيهم من رابطتهم الوطنية المشتركة، وترك هذا الشطر سائغاً للقمع والإبادة الفاتحيْن الألمانيين. وابتدأ البولنديون والأسبان منذ وقت قليل مناقشة الحوادث التي أفضت، من طرق متفرقة ومتضافرة، إلى الحرب وملابساتها الأهلية الداخلية، وإلى النظم السياسية التي نجمت عنها. واقتضى «هضم» الألمان أو استيعابهم ماضيهم النازي الثقيل و «الضخم» 60 عاماً كاملة توالى، في أثنائها، الإنكار والإشاحة والتهوين والمناقشة فالإجماع. وانتهت الأعوام هذه إلى الإقرار بالمسؤولية عن هذا الماضي، وإعلانها، وترجمة الإقرار والإعلان إلى مؤسسات سياسية وطنية، ديموقراطية، تحظى بإجماع عريض.
وفي الأحوال الثلاث هذه لم تتولَّ الذاكرةُ الاستعادة والمحاسبة، والإنشاء السياسي، على مقتضى هذه وتلك، بل تولاهما التاريخ على معنى التأريخ وعلى معنى مضي الزمن. وفظاعة الماضي، في صورة حروب أهلية أم في صورة استيلاء وفتوح أم في صورة إبادات، تحمل على الإنكار، وتسوغ رواية صيغ محرفة ومقبولة. والمؤرخ وحده يسعه من طريق إعمال تدينه بدين الوقائع والبراهين والشهود الصارم، على قول جوزيف يروشالمي، مغالبة الإنكار والتحريف. والتاريخ، على خلاف الذاكرة، يقود إلى تبديد السحر والهالات التي تجلل هامات الأنصاب الكبيرة والمقدسة. وعلى هذا، فالتاريخ مربٍ قاس، ولا تطيق الشعوب قسوة دروسه وتربيته في أحوالها كلها، المؤاتي منها وغير المؤاتي. ولا يشك جُودْت، في ختام تاريخه وفي تناوله بعض سياقاته ومنعطفاته البارزة، في اضطلاع المراجعات القاسية والمتناقضة التي تولتها الشعوب الأوروبية بدور حاسم في توحيد القارة الأوروبية. والخلاف بين روسيا، أو معظم الروس حكاماً ومجتمعاً، وبين بقية أوروبا، شرقها ووسطها وغربها، على فحص التاريخ الأوروبي وتقويمه على مثال قول فلاديمير بوتين ان انهيار الاتحاد السوفياتي هو «أعظم مأساة شهدها القرن العشرين» هذا الخلاف هو مثال على حواجز تأريخية عالية وصفيقة تحول دون إنجاز مصالحة وتقريب بين روسيا والأوروبيين. وما قرَّب شعوب أوروبا بعضها من بعض، وجمعها تحت راية اتحادية، تدين شعوب أوروبا بجزء منه إلى قبولها الاضطلاع بالمسؤولية عن الحروب الداخلية والقارية، وعن الانتهاكات والفظائع التي لازمت الحروب هذه.
و «درس» المؤرخ البريطاني الأميركي الراحل هو تخصيص لما ذهب إليه منذ مطالع القرن التاسع عشر الأوروبي بعض من أعملوا عقولهم ومقالاتهم في «علم التاريخ» الجديد، يومها. فتنبهوا إلى ان ما لم يُعقل ويُتدبر من حوادث التواريخ الوطنية الكبيرة «حكمه ان يتكرر»، على قول أحد هؤلاء. وتكراره، أو تكرار سياسات تنزع إلى الاستيلاء والعنف أو إلى التناحر المزمن أو إلى المهادنة المائعة واليائسة، إنما هو ثمرة استرسال مع منازع وميول قوية العلاقة بأحوال الجماعات ودواعيها إلى الفعل، وصوارفها عنه. وهذا الاسترسال هو ربما اسم آخر لسياسة النسيان والتواطؤ عليه.
[سياستا التاريخ والنسيان
وفي بعض ما يؤرخ له جُودْت ويرويه من حوادث ما بعد الحرب الثانية، وغداتها المباشرة، ما يحمل الحوادث الجسيمة على «أقدار»، على ما قال (من كان) بونابرت إلى غوته في إيطاليا. والتدبر والتعقل وسياسة التأريخ والتذكر تبدو، في الرواية والتأريخ هذين، ضعيفة الأثر، على خلاف ما يذهب إليه المؤرخ في خلاصاته العريضة. والترجح بين الرأيين، حمل الحوادث على «أقدار» أو احتساب تدبرها والتأريخ لها عاملاً في مسيرها إلى هذه الجهة أو تلك، يلازم أحوالنا (نحن اللبنانيين والفلسطينيين والعراقيين والسوريين...) وآراءنا وأهواءنا في صبحنا ومسائنا، وفي الأوقات كلها بين هذا وذاك. فـ «الأقدار» تنزل على الناس نزول ما لا راد له، تعريفاً. ولكن ما أراده نابليون، جنرال الثورة الفرنسية يومها وقائد «جيش إيطاليا» الفرنسي والثوري والجماهيري (أو العامي، على وجه الدقة)، بـ «الأقدار» هو صنع قوى اجتماعية وتاريخية لجبة ومرئية وليس صنيع إرادة خفية ومحتجبة.
وقد لا ينجم عن تولي القوى الاجتماعية والتاريخية صنع الحوادث، وإعلان هذه القوى «برامج» ولوائح مطالب ورغبات ومنازع، تبصرٌ بالحوادث ينفض عنها الغموض والتشابه، ويوكلها إلى البصيرة والعقل. ولكن الأمرين، التولي والإعلان، ينتزعان التحري عن علل الحوادث، ومصادرها ومآلاتها، من التكهن فيما لا يُدرك، ولا يبلغه التعليل، ويدعو احتجابه إلى الكهانة و «الكهنة». وعلى هذا، فقد يُنزل التحري عن العلل، والمصادر والمآلات، الحوادث الدنيوية و «العالمية» من الغيب إلى الشاهد، من غير ان يزيدها ذلك وضوحاً وجلاءً. فإرادات القوى الاجتماعية والتاريخية المتنازعة، والمولودة من «الثورة الديموقراطية» والزمنية المدنية على أنحاء ووجوه متفرقة ومختلفة، تتقنع بأقنعة قدرية (أي جبرية في المصطلح الكلامي والتراثي). وهي تنسب أفعالها، الجماعية و «الشعبية» ولو صدرت عن «إمام» قائد وملهم، إلى قصد وفعل إلهيين غيبيين. ولعل هذا يكني عن غموض الأفعال والحوادث التاريخية، على رغم زمنيتها ومدنيتها وعاميتها.
وإفضاء سياسة التأريخ والتذكر، وتدبرها وتعقلها، إلى مفاعيل سياسية وتأريخية كبيرة مثل الإسهام في إنشاء الاتحاد الأوروبي بعد تمهيد الطريق إليه والإقرار بالتبعات عن الانتهاكات الداخلية والإقليمية هو ثمرة «الثورة الديموقراطية» نفسها، ونضوجها وبلورتها هيئات تقر من غير مواربة بالانقسامات والمنازعات وضعف الهويات، على خلاف سياسة النسيان و «أقدارها» العامية والجماعية، «الإلهية»، وفي التاريخ الأوروبي الذي تقصى طوني جُودْت حوادثه ووقائعه بعد الحرب الثانية، وختم تقصيه بتأمله في سياستيه، شواهد كثيرة وقوية على أشباه ترجحنا (نحن اللبنانيين والفلسطينيين...) المزمن وأمثاله.
فالفصل الأول من هذا التاريخ يتناول فيما يتناول، البلدان التي خرجت من الحرب ممزقة ومتناحرة ومتعادية ومزعزعة على نحو لا ترجو معه لا سلماً ولا أمناً أهليين أو إقليميين، وبالأحرى ازدهاراً ورخاء. وسطا ستالين، الشيوعي السوفياتي، على عدد من هذه البلدان، ومعظمها قريب من «البلاد» الروسية وحزامها الإمبراطوري القريب. وبعضها قضى قربه الجغرافي من البلاد الروسية، وتوسطه بين غرب أوروبا وبين وسطها وشرقها، ووقوعه تالياً على طريق صد الاتحاد السوفياتي الغزو الألماني النازي ورده على أعقابه إلى قلب أوروبا الألماني قضى باستيلاء القوات السوفياتية عليه. فأفضت حقبة ما قبل الحرب، ومنازعاتها وخلافاتها، من طريق الحرب وانقلاباتها وانتهاكاتها، إلى حقبة ما بعد الحرب وثاراتها وعدوانها وفرضها الوقائع بالقوة والقهر. وفي غضون نيف و40 سنة، تصورت السياسة في صورة أقدار قاهرة «يقسمها» تاريخ فولاذي هو ثمرة صنع البشر، ومرآة توليهم الصنعَ هذا، وإحاطتهم بأسراره وخفاياه، وإنزالهم إياه من وراء الستر والغيب والكهانة إلى الأرض وصفحتها الجلية والواضحة.
وما صنعه البشر (البلدان والمجتمعات والدول) بعضهم في بعض لا ريب وقع على الضحايا وقوع الغاشية. فـ «التطهير العرقي» فشا في أنحاء ونواح كثيرة من أوروبا، وبلادها الشرقية والجنوبية على وجه الخصوص، وحمل البقية الباقية الضئيلة من اليهود البولنديين على ترك وطنهم في أعقاب مذابح كانت غاشية الحرب الرهيبة على البولنديين جميعاً، يهوداً وغير يهود. وغادر إيطاليون الأراضي اليوغوسلافية، حيث يقيمون منذ قرون، خوفاً من انتقام الصرب والكرواتيين «المتحدين». وهرب مئات الألوف من الأقليات القومية المحلية التي تعاونت على هذا القدر أو ذاك مع الألمان الفاتحين والمحتلين، في أعقاب القوات الألمانية المرتدة والمتراجعة. وكان في الهاربين مجريون من شمال ترانسلفانيا خافوا عودة أراضيهم إلى رومانيا، وأوكرانيون توقعوا انتقام السلطات السوفياتية. وكان نحو مليون بولندي، في أثناء الحرب والاحتلال الألماني، طردوا من أرضهم وبيوتهم في غرب أوكرانيا. وطرد نصف مليون أوكراني إلى الاتحاد السوفياتي.
وفي غضون 6 أشهر، خلت البلاد التي كانت ملتقى طوائف دينية كثيرة ولغات وجماعات أهلية، ومختلطها، من خليطها، وحلتها شعوب متجانسة أو أهلية (من أهل أو «عرق» واحد). فتخففت بلغاريا من 160 ألف تركي، و«أرجعتهم«، وهم ولدوا على أراضيها ويقيمون بها منذ اجيال ويتوالدون ويعملون، إلى تركيا. وبادلت تشيكوسلوفاكيا المجر 120 ألف سلوفاكي كانوا يقيمون بالمجر لقاء 120 ألف مجري يتحدرون من شمال حوض الدانوب ويقيمون بسلوفاكيا. وحل 400 ألف من سكان جنوب يوغوسلافيا محل 600 ألف ألماني وإيطالي كانوا ينزلون شمال البلاد ورحلوا حين انتهت الحرب، وانسحبت القوات الألمانية والإيطالية المحتلة من أراضي يوغوسلافيا. وحمل ملايين الألمان على الرحيل، جماعات، عن أوطانهم اليوغوسلافية والمجرية والتشيكوسلوفاكية والبولندية والبلطيقية والسوفياتية الغربية، والهرب إلى ألمانيا، «عقاباً» شعبياً وحكومياً على تواطئهم مع إخوتهم وبني قومهم وجلدتهم على أهل مواطنهم، وعلى استقوائهم بهم.
وماشت الدول الكبيرة، العظمى، أهواء الشعوب. فجارى البريطانيون رغبة التشيكيين في ترحيل ألمان السوديت، وتابع الروس والأميركيون البريطانيين والتشيكيين على أرادتهم ورغبتهم. وزف الرئيس التشيكوسلوفاكي بشرى حل «المسألة الألمانية في بلاد(ه)» على غرار «المسألة الكردية» أو «مسألة الأقليات الدينية» أو «المسألة الانعزالية» في بلاد غيره حلاً حاسماً، ولم يقل «نهائياً» أو «أخيراً»، «يلغي» المسألة، ويستأصلها «إلى الأبد»، على قول أصحاب الحلول الحاسمة في شرقنا. فطردت الدولة المؤتلفة من شعبين كبيرين، والمتحدرة من إحدى الديموقراطيات القليلة في وسط أوروبا «النمساوية»، 3 ملايين ألماني، في غضون 18 شهراً. ونجم عن الترحيل موت نحو 267 ألف نازح.
والتقى النازحون وهم في طريقهم إلى «وطن أم» هو بؤرة قومية عصبية فاتحة ومستولية وغاصبة، إخوة لهم في القومية المدمرة نازحين من بلدان أخرى قريبة: من المجر (623 ألفاً) ورومانيا (786 ألفاً) ويوغوسلافيا (500 ألفاً) وبولندا (1.3 مليون)، إلى ألمان نازحين من أراضٍ ألمانية شرقية استولت عليها موسكو وضمتها: سيليزيا وبروسيا الشرقية وبوميرانيا الشرقية وبراندبورغ الشرقية. واجتمعت روافد هؤلاء ببولندا، في طريقهم إلى ألمانيا. فأحصي 7 ملايين ألماني لجأوا من الشرق الأوروبي وهم يقصدون محجة الجرمانية، وبؤرتها وقلبها النابض. وأنجز ستالين وعده، أو وعيده الألمان، فرد بروسيا الشرقية إلى العرق السلافي الذي تتحدر الأرض منه، على زعم طاغية عموم الروسيا ومقسِّم مقاديرها ومقادير بلدان الجوار الشقيقة. ولاحظت مراسلة «نيويورك تايمز»، آن أوهير ماكورميك، في تشرين الأول 1946، أن ملابسات النزوح الهائل وغير المسبوق تجعله «جريمة في حق الإنسانية لا ريب في ان التاريخ لن يعدم جزاءها بقصاص فظيع«.
ويخالف طوني جُودْت تفاؤل المراسلة المعاصرة والمعولة على عدالة تاريخية تلقائية تنصف «المظلومين» من «المجرمين». فيلاحظ ان «التاريخ« لم يجز الجريمة بقصاص يكافئها. ولكنه، أي «التاريخ»، فعل خيراً من هذا. فاستقبل «المجتمع الألماني» 13 مليون نازح وطريد، ودمجهم في أبنيته ومرافقه وهيئاته. وكان هؤلاء شطراً من ألمان وغير ألمان، بولنديين ومجريين ورومانيين وأوكرانيين...، تواطأوا مع القوات المستولية وبيروقراطيتها على قتل أعداد غفيرة لا تقل عنهم، من اليهود ومواطنيهم في أوطانهم الكثيرة بين ألمانيا غرباً وغرب روسيا شرقاً والبلقان جنوباً. وعلى خلاف الدمج الألماني، استقبل الاتحاد السوفياتي «عائديه» ومعظمهم من الجنود الأسرى في معسكرات الجيش الألماني، ومن مواطني بلدان مثل جمهوريات البلطيق ضمها ستالين إلى إمبراطوريته، وهم عدوا 5.5 ملايين عائد في إحصاء 1953 استقبلهم بقتل واحد من خمسة منهم، أو بسجنهم في معسكرات الاعتقال والأعمال الشاقة، أو بنفيهم إلى سيبيريا، أو بعزلهم الاجتماعي والسياسي.
[الحرب الأهلية والعالمية
والحق ان أعمال الطرد والترحيل والتهجير والنفي، غداة نهاية المعارك الحربية، كانت من بعض وجوهها الفصل الأخير من حروب أهلية مزقت مجتمعات وسط أوروبا وشرقها غداة الحرب الأولى، وفي أثناء النصف الثاني من ثلاثينات القرن العشرين على وجه الخصوص. وحين أناخ الاحتلال الألماني والإيطالي والروسي بأثقاله على بلدان شرق أوروبا وجنوبها، وهي نهب لحروبها الداخلية، انحاز المحتلون إلى جماعة من الجماعات الأهلية المتقاتلة والمتناحرة، ونفخوا في اقتتالها واحترابها. وكانت ذريعتهم، حين يضطرون إلى إعلان ذريعة، هي تلك التي تتردد أصداؤها في جنبات المشرق العروبي، وتذهب إلى ان الفصل الجديد الإقليمي أو الدولي من الاقتتال ليس إلا تتمة حرب أهلية سابقة ومقيمة. فعندما دخل الألمان بلجيكا، وهي معترك نزاع اهلي بين جماعتي الوالون والفلامند اللغويتين و «العرقيتين»، اخرجوا الفلامند من المعتقلات واستبقوا الوالون.
ومزق الاستقطاب الأهلي، في ختام سنوات الاحتلال والحرب، فرنسا وإيطاليا اللتين تنامت فيهما مقاومة شعبية للاحتلال متأخرة. وفي كلا البلدين كانت مقاومة الاحتلال الألماني والنظامين المتعاونين، القومي المحافظ في فرنسا والفاشي في إيطاليا، وجهاً من الحرب الأهلية فيهما. وتأخر ظهور الحرب الأهلية إلى حين اشتداد ساعد المقاومة الداخلية، ومكافأتها المتعاونين عدداً وقوة. وتعمد الإيطاليون، بعد الحرب، التستر على وجه المقاومة هذا، تبرئة لها من الولوغ في انقسامات وعصبيات ضعيفة النسب والأود السياسيين. وأراد ديغول، الفرنسي، انتشال صورة فرنسا، الواحدة والمتكاتفة في الشدة والضرّاء، من تناحر الفرنسيين وميولهم و «حروبهم» الفئوية المزمنة (بين «الإكليركيين» والعلمانيين المتطرفين، وبين الملكيين «الرجعيين» والجمهوريين الأقحاح، وبين الطبقات القديمة و «الشعب«...).
وتوسلت الكتل الأهلية والقومية في بعض بلدان شرق أوروبا وجنوبها الشرقي بالاحتلال الألماني إلى إرساء كيانات قومية منفصلة ومستقلة. فأعلن السلوفاكيون والكرواتيون «دولتين» على حدة. وبسط ألمان بولندا سيطرتهم على سائر البولنديين مستظهرين بالاحتلال. وانتهز الأوكرانيون الفتح الألماني، وتذرعوا به إلى رفع لواء دولتهم. واقتتل الأنصار الأوكرانيون والأنصار البولنديون بغاليسيا الشرقية (البولندية) وأوكرانيا الغربية في حرب جمعت مناهضة النازية إلى مناهضة الشيوعية السوفياتية. واختلطت الحرب الإيديولوجية بالنزاع الأهلي (القومي والطائفي) وبالحركة الاستقلالية اختلاطاً ضيَّع معانيها جميعاً، وحال بين الأهالي وبين تبين هذه المعاني، على مثالنا «المشرقي» والعروبي السائر والمشهود.
وبلاد البلقان هي المسرح الذي تصورت فيه الحرب العالمية في صورة حرب (حروب) أهلية «ناصعة»، إذا جازت الصفة، وصفيقة المعاني. فقاتل الأنصار الصربيون والكرواتيون والبوسنيون المسلمون والمقدونيون والسلوفينيون الاحتلال الألماني والاحتلال الإيطالي، وانحاز بعض الأقوام إلى الاحتلال المزدوج، وقاتل بعض آخر الشيوعيين المحليين من قومهم ومن الأقوام الأخرى. فقتل أنتي بافليتش، الكرواتي ونصير الألمان وظهيرهم، فوق 200 ألف صربي ومن تطاولت إليهم يده من المسلمين. وقتل أنصار ميخايلوفيتش الملكيون، ومعظمهم من الصرب، الكروات والمسلمين. وانحاز مسلمو البوسنة إلى الألمان طلباً للحماية. وقاتل الشيوعيون، وراء تيتو، قوات ميخايلوفيتش الصربية، في الجبال والشعاب الوعرة، وأفنوهم، و «استولوا» على بلاد محتلة وجريحة، ويفتك الجوع في أهلها، على قول ميلوفان دجيلاس، مساعد تيتو قبل الانفضاض عنه. وانتهت حرب العمال والفلاحين على البورجوازية إلى حروب أهلية في الحروب الأهلية.
وإلى الجنوب، كانت «حرب» اليونان فصولاً من الاجتياح والاحتلال والمقاومة وعمليات التأديب والحرب الأهلية. فاقتتل الشيوعيون والملكيون، غداة «السلم» الدولي، 3 أعوام، 1946- 1949، اقتتالاً شرساً وباهظاً. وكان للقوات البريطانية دور مباشر راجح فيه، وللمساعدة «الأممية» السوفياتية دور فاعل وعبثي في آن: فمصير المقاومة الشيوعية الأهلية عُلقت على إرادة ستالين وحسابه، والإرادة والحساب هذان كانا رهن رأي الطاغية في يوغوسلافيا وحوادثها وفي مصير البلقان فوق ما كانا رهن «إنجاز» المقاومة نفسها. وقادت الحرب الأهلية، وهلي لابست حرباً استقلالية أو حرب تحرير وحرباً اجتماعية وإيديولوجية، قادت الحزب الشيوعي إلى إرهاب القرى، وتدمير طرق المواصلات، وشرذمة الأهالي عصبيات متناحرة، وتقويض المراتب الاجتماعية المحلية وأبنية المراتب وعلاقة بعضها ببعض وعلاقتها جميعاً بالدولة الوطنية.
فانجلت المعمعة العامة، وغاشيتها وعمايتها المظلمة، عن رسم اجتماعي برزت خطوطه تباعاً. ونهضت الجماعات الأهلية المحلية على أنقاض الأقليات القومية التي هُجرت، أو أثخن فيها القتل وكانت الأقليات هذه مصدر الطبقات المتوسطة، والمهن الحرة و «المثقفين» عموماً وحلت محلها. وفي أحيان كثيرة استولت على منازلها وأثاثها ومكاتبها ومحالها. وانقلبت أعمال القتل والتهجير والسطو، في مرآة حقبة ما بعد الحرب واستتباب الأمر «للطبقات» الأهلية الجديدة، أفعالاً وطنية، وسجلاً شريفاً من سجلات المقاومة البطولية. وغالباً ما بعثت القوات السوفياتية المحتلة أصحاب الثارات والعصبيات الأهلية والاجتماعية و «السياسية»، في البلدان التي حررتها من النازية، على الإمعان في ثاراتهم، وتحصيل ما يحسبونه حقوقاً بأيديهم. ودعتهم، مواربة أو صراحة، إلى ازدراء الإجراءات والطرق القانونية. فزكت أعمال التهجير والاحتلال والسطو التي كان الاحتلال الألماني ابتدأها، وتعهد معظمها، وأقرتها. وأشركت، من هذه الطريق، السكان وعموم الأهالي في ما ارتكبه الاحتلال الأول وتابعه عليه الاحتلال الثاني.
[«القضاء» الأمني والبوليسي
وهذا كله، وغيره مثله وشبهه، لم يحل لاحقاً بين الدول الأوروبية، وجماعاتها المستقرة فيها أو المنتشرة في نواحيها المختلطة، وبين الدخول في نظام إقليمي مستقر وقائم على المساواة والاستقلال والحقيقة، وموازنة سياسة النسيان بسياسة التأريخ والتذكر. ولا ريب في أن الأمر اقتضى عقوداً طويلة من إعمال السياسة الثانية في السياسة الأولى. وهو اقتضى، كذلك وعلى الخصوص، دوراً أميركياً، ديبلوماسياً واقتصادياً وعسكرياً، رائداً وراجحاً. ولولا الدور الأميركي هذا في إنهاض ألمانيا، وردها إلى مكانتها في قلب أوروبا ديموقراطية، وفي أَوْرَبَة الإعمار الأوروبي، وتجديد بناء دول القارة وحمايتها ولجم نزاعاتها السياسية لما نهض القطب الأوروبي الغربي وتماسك، ولما وسع مجتمعات وسط أوروبا وشرقها وجنوبها وبعض شمالها المشي على هدي مثال، و «العودة» إلى الحضن الأوروبي الذي سعت موسكو، القيصرية والإمبراطورية والشيوعية معاً، إلى إخراجها منه، ولا تزال تسعى في إضعافه وتصديعه على رغم حاجتها الماسة إليه.
ويلاحظ جُودْت التناظر المقلوب بين الدورين الأميركي والسوفياتي حين يقارن بين مجموع الهبات التي قدمتها الولايات المتحدة إلى أوروبا، في إطار خطة مارشال، وبين قيمة المصادرات والمنهوبات والتعويضات التي فرضها الاتحاد السوفياتي على البلدان المحررة والمستعبدة في آن. فبلغت استثمارات خطة مارشال (1949- 1952) العينية الإنتاجية في مرافق الإنتاج والتبادل الأوروبية، الغربية قسراً بموجب إرادة ستالينية همايونية، 14 مليار دولار. وبلغت قيمة ما جبته موسكو قهراً وتعسفاً، وفرضته على دول شرق أوروبا إما من طريق المصادرة والسطو وإما من طريق معاهدات واتفاقات تفضيلية على نحو فاحش في أعوام ما بعد الحرب إلى موت ستالين (1953)، نحو 14 مليار دولار. وبينما يممت مجتمعات غرب أوروبا، وبعض شمالها وبعض جنوبها، شطر التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المشهودة، دخلت مجتمعات شرق أوروبا، طوال عقود أربعة ونصف العقد، في غيبوبة لم تستفق منها إلا عشية تصدع السجن الروسي السوفياتي وسجانه «الفظ»، على قول الشاعرة اللبنانية.
والحروب المتشابكة والملتبس بعضها ببعض، على شاكلة حروبنا «المشرقية» المعاصرة والمتطاولة، ومترتباتها ونتائجها الاجتماعية والسياسية العميقة والباقية، لم تحجب وحدها وقائع التاريخ، ولم تحل وحدها دون تبين معاني الحوادث المتعاقبة. والاضطلاع بالمسؤوليات عنها، وإرساء المصالحات الوطنية والإقليمية على تبين المعاني والاضطلاع بالمسؤوليات. فأنشأ الاحتلال السوفياتي، المقنع والسافر، جهازاً قضائياً وأمنياً ودعوياً إيديولوجياً معاً، أسهم إسهاماً بالغاً في تحوير معاني الحوادث وتحريفها. ولم يقتصر الجهاز القضائي الأمني والدعوي على التحريف والتضليل الموضعيين، أي في القضايا والأفعال المقصودة مباشرة. فتطاولت آثاره إلى عموم التخاطب بين أهل المجتمعات، وإلى فهمهم بعضهم عن بعض و«كلهم» (المتصدع والمشرذم) عن المجتمعات الأخرى، «العدوة«.
وفي ختام تناوله لأبرز «المحاكمات» القضائية المزورة التي توسلت بها الاستخبارات السوفياتية إلى تزوير الانتخابات النيابية، وتشويه الحياة السياسية، وقتل المعارضين الوطنيين، والتمكين للاستيلاء الروسي وأدواته الحزبية المحلية بالمراوغة والقوة في بلغاريا وبولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا وشرق ألمانيا يرى طوني جُودْت ان أدوار «القضاء» الأمني والبوليسي السوفياتي لا تقل عن سبعة. فالدور الأول لمحاكمات تثير النعرات على «اليهود» و «الغرب» والعملاء «الكلاب» و «المنحطين» و «الحثالة» وهي نعوت سبق إليها «القضاءُ» الشيوعي «القضاءَ» الإيراني وزميله الإقليمي وصحيفة «الوطن» وموقع فيلكا ومحطة المنار وإذاعة النور وعلي عمار وميشال عون ووئام وهاب وناصر قنديل ومصطفى حمدان وجميل السيد... تسويغه من نفسه، وهو مماشاة الغرائز العدوانية، والميل معها. والدور الثاني هو تربية عامة و «شعبية» من طريق التمثيل على قوة السلطة المتعسفة ونفوذها، والدلالة على «المسؤولين» عن إخفاقاتها. وتتولى المحاكمات، ثالثاً، - وتقوم «المعطيات والقرائن» في حالنا مقامها «تعبئة الرأي العام البروليتاري» («الوطني») على الأعداء وذلك من طريق إماطة الستر عن «هوياتهم المستعارة» (على قول روبرت فوغلير، أحد المتهمين التشيكيين).
وأصحاب «الهويات المستعارة» يحمَّلون، رابعاً، اللوم على عثرات القوة المتسلطة. وتنفي المحاكمات الخلافات وجوازَها عن الحكام، خامساً. فالخلاف غير جائز في دوائر السلطة، ولا في المجتمع الذي تسيطر عليه. وما يراه سائر الناس وسوادهم خلافاً، أو رأياً، إنما يتستر على بدعة لا يجوز الاجتهاد فيها، والنقاد هم أعداء، والأخطاء جرائم. وجماع هذا هو «ثقافة الريبة». وتصدر هذه «الثقافة»، سادساً، عن قلق عميق وراسخ الجذور في شعور «شرقي» بالدونية بإزاء الغرب ونفوذه وغوايته وثرائه. ودور المحاكمات هو مداواة القلق، وتحقيق الارتياب، والإدانة المهينة ورد التهمة بأقبح منها. و «تستبق» المحاكمات، على قول خطيب الجماعة الأهلية والأمنية، سابعاً، حرباً لا يشك القاضي الأول، وهو الأمين العام (ستالين)، في حتمها. وهي جزء من الإعداد للحرب، تعبئة وتأليباً وتقسيماً وإرهاباً. فإطار القضاء الأمني والبوليسي هو حرب الجماعة المستولية والفاتحة والحاكمة (وقد تسمي نفسها، «معارضة») على «رعيتها» و«شعبها».
على عتبة إغلاقه بابه على نحو الألف صفحة التي أرخ بها لأوروبا غداة الحرب الثانية («ما بعد الحرب»، 2005 في الإنكليزية و2008 في الفرنسية)، واستبقت مرضه ووفاته (1948- 2010)، يلاحظ طوني جُودْت، المؤرخ البريطاني الأميركي، أن أوروبا نهضت وقامت غداة الحرب العالمية المدمرة على النسيان، أو على ذاكرة تعمدت إغفال أجزاء مهمة وراجحة من الماضي، ليس الماضي القريب النازي والشيوعي، أقلها ثقلاً ودلالة وأثراً. وغداة 1989، وتصدع الأنظمة الشيوعية بأوروبا، أرادت أوروبا تعويض النسيان هذا، فرفعت للتذكر نصباً بل أنصاباً، وشاءت هذه الأنصاب هيئات ومؤسسات تستظلها سياساتها. وعلى نحو ما لم تدم سياسة الإغفال المتعمد، والسكوت عن أعمال الإبادة وانتهاك الدول الحقوق داخل الحدود الوطنية وخارجها والسطو على الأراضي الإقليمية، وقهر إرادات الجماعات والشعوب، فالأرجح ألا تدوم سياسة الذاكرة.
ولا ريب، على قول جُودْت، انه كان على الفرنسيين إثبات نظام فيشي (القومي) والميليشياوي والمتعاون والمتعصب على السامية (واليهود) على ما كان عليه حقيقة، قبل المضي قدماً، وعلى البولنديين النظر في مترتبات نفيهم شطراً من مواطنيهم من رابطتهم الوطنية المشتركة، وترك هذا الشطر سائغاً للقمع والإبادة الفاتحيْن الألمانيين. وابتدأ البولنديون والأسبان منذ وقت قليل مناقشة الحوادث التي أفضت، من طرق متفرقة ومتضافرة، إلى الحرب وملابساتها الأهلية الداخلية، وإلى النظم السياسية التي نجمت عنها. واقتضى «هضم» الألمان أو استيعابهم ماضيهم النازي الثقيل و «الضخم» 60 عاماً كاملة توالى، في أثنائها، الإنكار والإشاحة والتهوين والمناقشة فالإجماع. وانتهت الأعوام هذه إلى الإقرار بالمسؤولية عن هذا الماضي، وإعلانها، وترجمة الإقرار والإعلان إلى مؤسسات سياسية وطنية، ديموقراطية، تحظى بإجماع عريض.
وفي الأحوال الثلاث هذه لم تتولَّ الذاكرةُ الاستعادة والمحاسبة، والإنشاء السياسي، على مقتضى هذه وتلك، بل تولاهما التاريخ على معنى التأريخ وعلى معنى مضي الزمن. وفظاعة الماضي، في صورة حروب أهلية أم في صورة استيلاء وفتوح أم في صورة إبادات، تحمل على الإنكار، وتسوغ رواية صيغ محرفة ومقبولة. والمؤرخ وحده يسعه من طريق إعمال تدينه بدين الوقائع والبراهين والشهود الصارم، على قول جوزيف يروشالمي، مغالبة الإنكار والتحريف. والتاريخ، على خلاف الذاكرة، يقود إلى تبديد السحر والهالات التي تجلل هامات الأنصاب الكبيرة والمقدسة. وعلى هذا، فالتاريخ مربٍ قاس، ولا تطيق الشعوب قسوة دروسه وتربيته في أحوالها كلها، المؤاتي منها وغير المؤاتي. ولا يشك جُودْت، في ختام تاريخه وفي تناوله بعض سياقاته ومنعطفاته البارزة، في اضطلاع المراجعات القاسية والمتناقضة التي تولتها الشعوب الأوروبية بدور حاسم في توحيد القارة الأوروبية. والخلاف بين روسيا، أو معظم الروس حكاماً ومجتمعاً، وبين بقية أوروبا، شرقها ووسطها وغربها، على فحص التاريخ الأوروبي وتقويمه على مثال قول فلاديمير بوتين ان انهيار الاتحاد السوفياتي هو «أعظم مأساة شهدها القرن العشرين» هذا الخلاف هو مثال على حواجز تأريخية عالية وصفيقة تحول دون إنجاز مصالحة وتقريب بين روسيا والأوروبيين. وما قرَّب شعوب أوروبا بعضها من بعض، وجمعها تحت راية اتحادية، تدين شعوب أوروبا بجزء منه إلى قبولها الاضطلاع بالمسؤولية عن الحروب الداخلية والقارية، وعن الانتهاكات والفظائع التي لازمت الحروب هذه.
و «درس» المؤرخ البريطاني الأميركي الراحل هو تخصيص لما ذهب إليه منذ مطالع القرن التاسع عشر الأوروبي بعض من أعملوا عقولهم ومقالاتهم في «علم التاريخ» الجديد، يومها. فتنبهوا إلى ان ما لم يُعقل ويُتدبر من حوادث التواريخ الوطنية الكبيرة «حكمه ان يتكرر»، على قول أحد هؤلاء. وتكراره، أو تكرار سياسات تنزع إلى الاستيلاء والعنف أو إلى التناحر المزمن أو إلى المهادنة المائعة واليائسة، إنما هو ثمرة استرسال مع منازع وميول قوية العلاقة بأحوال الجماعات ودواعيها إلى الفعل، وصوارفها عنه. وهذا الاسترسال هو ربما اسم آخر لسياسة النسيان والتواطؤ عليه.
[سياستا التاريخ والنسيان
وفي بعض ما يؤرخ له جُودْت ويرويه من حوادث ما بعد الحرب الثانية، وغداتها المباشرة، ما يحمل الحوادث الجسيمة على «أقدار»، على ما قال (من كان) بونابرت إلى غوته في إيطاليا. والتدبر والتعقل وسياسة التأريخ والتذكر تبدو، في الرواية والتأريخ هذين، ضعيفة الأثر، على خلاف ما يذهب إليه المؤرخ في خلاصاته العريضة. والترجح بين الرأيين، حمل الحوادث على «أقدار» أو احتساب تدبرها والتأريخ لها عاملاً في مسيرها إلى هذه الجهة أو تلك، يلازم أحوالنا (نحن اللبنانيين والفلسطينيين والعراقيين والسوريين...) وآراءنا وأهواءنا في صبحنا ومسائنا، وفي الأوقات كلها بين هذا وذاك. فـ «الأقدار» تنزل على الناس نزول ما لا راد له، تعريفاً. ولكن ما أراده نابليون، جنرال الثورة الفرنسية يومها وقائد «جيش إيطاليا» الفرنسي والثوري والجماهيري (أو العامي، على وجه الدقة)، بـ «الأقدار» هو صنع قوى اجتماعية وتاريخية لجبة ومرئية وليس صنيع إرادة خفية ومحتجبة.
وقد لا ينجم عن تولي القوى الاجتماعية والتاريخية صنع الحوادث، وإعلان هذه القوى «برامج» ولوائح مطالب ورغبات ومنازع، تبصرٌ بالحوادث ينفض عنها الغموض والتشابه، ويوكلها إلى البصيرة والعقل. ولكن الأمرين، التولي والإعلان، ينتزعان التحري عن علل الحوادث، ومصادرها ومآلاتها، من التكهن فيما لا يُدرك، ولا يبلغه التعليل، ويدعو احتجابه إلى الكهانة و «الكهنة». وعلى هذا، فقد يُنزل التحري عن العلل، والمصادر والمآلات، الحوادث الدنيوية و «العالمية» من الغيب إلى الشاهد، من غير ان يزيدها ذلك وضوحاً وجلاءً. فإرادات القوى الاجتماعية والتاريخية المتنازعة، والمولودة من «الثورة الديموقراطية» والزمنية المدنية على أنحاء ووجوه متفرقة ومختلفة، تتقنع بأقنعة قدرية (أي جبرية في المصطلح الكلامي والتراثي). وهي تنسب أفعالها، الجماعية و «الشعبية» ولو صدرت عن «إمام» قائد وملهم، إلى قصد وفعل إلهيين غيبيين. ولعل هذا يكني عن غموض الأفعال والحوادث التاريخية، على رغم زمنيتها ومدنيتها وعاميتها.
وإفضاء سياسة التأريخ والتذكر، وتدبرها وتعقلها، إلى مفاعيل سياسية وتأريخية كبيرة مثل الإسهام في إنشاء الاتحاد الأوروبي بعد تمهيد الطريق إليه والإقرار بالتبعات عن الانتهاكات الداخلية والإقليمية هو ثمرة «الثورة الديموقراطية» نفسها، ونضوجها وبلورتها هيئات تقر من غير مواربة بالانقسامات والمنازعات وضعف الهويات، على خلاف سياسة النسيان و «أقدارها» العامية والجماعية، «الإلهية»، وفي التاريخ الأوروبي الذي تقصى طوني جُودْت حوادثه ووقائعه بعد الحرب الثانية، وختم تقصيه بتأمله في سياستيه، شواهد كثيرة وقوية على أشباه ترجحنا (نحن اللبنانيين والفلسطينيين...) المزمن وأمثاله.
فالفصل الأول من هذا التاريخ يتناول فيما يتناول، البلدان التي خرجت من الحرب ممزقة ومتناحرة ومتعادية ومزعزعة على نحو لا ترجو معه لا سلماً ولا أمناً أهليين أو إقليميين، وبالأحرى ازدهاراً ورخاء. وسطا ستالين، الشيوعي السوفياتي، على عدد من هذه البلدان، ومعظمها قريب من «البلاد» الروسية وحزامها الإمبراطوري القريب. وبعضها قضى قربه الجغرافي من البلاد الروسية، وتوسطه بين غرب أوروبا وبين وسطها وشرقها، ووقوعه تالياً على طريق صد الاتحاد السوفياتي الغزو الألماني النازي ورده على أعقابه إلى قلب أوروبا الألماني قضى باستيلاء القوات السوفياتية عليه. فأفضت حقبة ما قبل الحرب، ومنازعاتها وخلافاتها، من طريق الحرب وانقلاباتها وانتهاكاتها، إلى حقبة ما بعد الحرب وثاراتها وعدوانها وفرضها الوقائع بالقوة والقهر. وفي غضون نيف و40 سنة، تصورت السياسة في صورة أقدار قاهرة «يقسمها» تاريخ فولاذي هو ثمرة صنع البشر، ومرآة توليهم الصنعَ هذا، وإحاطتهم بأسراره وخفاياه، وإنزالهم إياه من وراء الستر والغيب والكهانة إلى الأرض وصفحتها الجلية والواضحة.
وما صنعه البشر (البلدان والمجتمعات والدول) بعضهم في بعض لا ريب وقع على الضحايا وقوع الغاشية. فـ «التطهير العرقي» فشا في أنحاء ونواح كثيرة من أوروبا، وبلادها الشرقية والجنوبية على وجه الخصوص، وحمل البقية الباقية الضئيلة من اليهود البولنديين على ترك وطنهم في أعقاب مذابح كانت غاشية الحرب الرهيبة على البولنديين جميعاً، يهوداً وغير يهود. وغادر إيطاليون الأراضي اليوغوسلافية، حيث يقيمون منذ قرون، خوفاً من انتقام الصرب والكرواتيين «المتحدين». وهرب مئات الألوف من الأقليات القومية المحلية التي تعاونت على هذا القدر أو ذاك مع الألمان الفاتحين والمحتلين، في أعقاب القوات الألمانية المرتدة والمتراجعة. وكان في الهاربين مجريون من شمال ترانسلفانيا خافوا عودة أراضيهم إلى رومانيا، وأوكرانيون توقعوا انتقام السلطات السوفياتية. وكان نحو مليون بولندي، في أثناء الحرب والاحتلال الألماني، طردوا من أرضهم وبيوتهم في غرب أوكرانيا. وطرد نصف مليون أوكراني إلى الاتحاد السوفياتي.
وفي غضون 6 أشهر، خلت البلاد التي كانت ملتقى طوائف دينية كثيرة ولغات وجماعات أهلية، ومختلطها، من خليطها، وحلتها شعوب متجانسة أو أهلية (من أهل أو «عرق» واحد). فتخففت بلغاريا من 160 ألف تركي، و«أرجعتهم«، وهم ولدوا على أراضيها ويقيمون بها منذ اجيال ويتوالدون ويعملون، إلى تركيا. وبادلت تشيكوسلوفاكيا المجر 120 ألف سلوفاكي كانوا يقيمون بالمجر لقاء 120 ألف مجري يتحدرون من شمال حوض الدانوب ويقيمون بسلوفاكيا. وحل 400 ألف من سكان جنوب يوغوسلافيا محل 600 ألف ألماني وإيطالي كانوا ينزلون شمال البلاد ورحلوا حين انتهت الحرب، وانسحبت القوات الألمانية والإيطالية المحتلة من أراضي يوغوسلافيا. وحمل ملايين الألمان على الرحيل، جماعات، عن أوطانهم اليوغوسلافية والمجرية والتشيكوسلوفاكية والبولندية والبلطيقية والسوفياتية الغربية، والهرب إلى ألمانيا، «عقاباً» شعبياً وحكومياً على تواطئهم مع إخوتهم وبني قومهم وجلدتهم على أهل مواطنهم، وعلى استقوائهم بهم.
وماشت الدول الكبيرة، العظمى، أهواء الشعوب. فجارى البريطانيون رغبة التشيكيين في ترحيل ألمان السوديت، وتابع الروس والأميركيون البريطانيين والتشيكيين على أرادتهم ورغبتهم. وزف الرئيس التشيكوسلوفاكي بشرى حل «المسألة الألمانية في بلاد(ه)» على غرار «المسألة الكردية» أو «مسألة الأقليات الدينية» أو «المسألة الانعزالية» في بلاد غيره حلاً حاسماً، ولم يقل «نهائياً» أو «أخيراً»، «يلغي» المسألة، ويستأصلها «إلى الأبد»، على قول أصحاب الحلول الحاسمة في شرقنا. فطردت الدولة المؤتلفة من شعبين كبيرين، والمتحدرة من إحدى الديموقراطيات القليلة في وسط أوروبا «النمساوية»، 3 ملايين ألماني، في غضون 18 شهراً. ونجم عن الترحيل موت نحو 267 ألف نازح.
والتقى النازحون وهم في طريقهم إلى «وطن أم» هو بؤرة قومية عصبية فاتحة ومستولية وغاصبة، إخوة لهم في القومية المدمرة نازحين من بلدان أخرى قريبة: من المجر (623 ألفاً) ورومانيا (786 ألفاً) ويوغوسلافيا (500 ألفاً) وبولندا (1.3 مليون)، إلى ألمان نازحين من أراضٍ ألمانية شرقية استولت عليها موسكو وضمتها: سيليزيا وبروسيا الشرقية وبوميرانيا الشرقية وبراندبورغ الشرقية. واجتمعت روافد هؤلاء ببولندا، في طريقهم إلى ألمانيا. فأحصي 7 ملايين ألماني لجأوا من الشرق الأوروبي وهم يقصدون محجة الجرمانية، وبؤرتها وقلبها النابض. وأنجز ستالين وعده، أو وعيده الألمان، فرد بروسيا الشرقية إلى العرق السلافي الذي تتحدر الأرض منه، على زعم طاغية عموم الروسيا ومقسِّم مقاديرها ومقادير بلدان الجوار الشقيقة. ولاحظت مراسلة «نيويورك تايمز»، آن أوهير ماكورميك، في تشرين الأول 1946، أن ملابسات النزوح الهائل وغير المسبوق تجعله «جريمة في حق الإنسانية لا ريب في ان التاريخ لن يعدم جزاءها بقصاص فظيع«.
ويخالف طوني جُودْت تفاؤل المراسلة المعاصرة والمعولة على عدالة تاريخية تلقائية تنصف «المظلومين» من «المجرمين». فيلاحظ ان «التاريخ« لم يجز الجريمة بقصاص يكافئها. ولكنه، أي «التاريخ»، فعل خيراً من هذا. فاستقبل «المجتمع الألماني» 13 مليون نازح وطريد، ودمجهم في أبنيته ومرافقه وهيئاته. وكان هؤلاء شطراً من ألمان وغير ألمان، بولنديين ومجريين ورومانيين وأوكرانيين...، تواطأوا مع القوات المستولية وبيروقراطيتها على قتل أعداد غفيرة لا تقل عنهم، من اليهود ومواطنيهم في أوطانهم الكثيرة بين ألمانيا غرباً وغرب روسيا شرقاً والبلقان جنوباً. وعلى خلاف الدمج الألماني، استقبل الاتحاد السوفياتي «عائديه» ومعظمهم من الجنود الأسرى في معسكرات الجيش الألماني، ومن مواطني بلدان مثل جمهوريات البلطيق ضمها ستالين إلى إمبراطوريته، وهم عدوا 5.5 ملايين عائد في إحصاء 1953 استقبلهم بقتل واحد من خمسة منهم، أو بسجنهم في معسكرات الاعتقال والأعمال الشاقة، أو بنفيهم إلى سيبيريا، أو بعزلهم الاجتماعي والسياسي.
[الحرب الأهلية والعالمية
والحق ان أعمال الطرد والترحيل والتهجير والنفي، غداة نهاية المعارك الحربية، كانت من بعض وجوهها الفصل الأخير من حروب أهلية مزقت مجتمعات وسط أوروبا وشرقها غداة الحرب الأولى، وفي أثناء النصف الثاني من ثلاثينات القرن العشرين على وجه الخصوص. وحين أناخ الاحتلال الألماني والإيطالي والروسي بأثقاله على بلدان شرق أوروبا وجنوبها، وهي نهب لحروبها الداخلية، انحاز المحتلون إلى جماعة من الجماعات الأهلية المتقاتلة والمتناحرة، ونفخوا في اقتتالها واحترابها. وكانت ذريعتهم، حين يضطرون إلى إعلان ذريعة، هي تلك التي تتردد أصداؤها في جنبات المشرق العروبي، وتذهب إلى ان الفصل الجديد الإقليمي أو الدولي من الاقتتال ليس إلا تتمة حرب أهلية سابقة ومقيمة. فعندما دخل الألمان بلجيكا، وهي معترك نزاع اهلي بين جماعتي الوالون والفلامند اللغويتين و «العرقيتين»، اخرجوا الفلامند من المعتقلات واستبقوا الوالون.
ومزق الاستقطاب الأهلي، في ختام سنوات الاحتلال والحرب، فرنسا وإيطاليا اللتين تنامت فيهما مقاومة شعبية للاحتلال متأخرة. وفي كلا البلدين كانت مقاومة الاحتلال الألماني والنظامين المتعاونين، القومي المحافظ في فرنسا والفاشي في إيطاليا، وجهاً من الحرب الأهلية فيهما. وتأخر ظهور الحرب الأهلية إلى حين اشتداد ساعد المقاومة الداخلية، ومكافأتها المتعاونين عدداً وقوة. وتعمد الإيطاليون، بعد الحرب، التستر على وجه المقاومة هذا، تبرئة لها من الولوغ في انقسامات وعصبيات ضعيفة النسب والأود السياسيين. وأراد ديغول، الفرنسي، انتشال صورة فرنسا، الواحدة والمتكاتفة في الشدة والضرّاء، من تناحر الفرنسيين وميولهم و «حروبهم» الفئوية المزمنة (بين «الإكليركيين» والعلمانيين المتطرفين، وبين الملكيين «الرجعيين» والجمهوريين الأقحاح، وبين الطبقات القديمة و «الشعب«...).
وتوسلت الكتل الأهلية والقومية في بعض بلدان شرق أوروبا وجنوبها الشرقي بالاحتلال الألماني إلى إرساء كيانات قومية منفصلة ومستقلة. فأعلن السلوفاكيون والكرواتيون «دولتين» على حدة. وبسط ألمان بولندا سيطرتهم على سائر البولنديين مستظهرين بالاحتلال. وانتهز الأوكرانيون الفتح الألماني، وتذرعوا به إلى رفع لواء دولتهم. واقتتل الأنصار الأوكرانيون والأنصار البولنديون بغاليسيا الشرقية (البولندية) وأوكرانيا الغربية في حرب جمعت مناهضة النازية إلى مناهضة الشيوعية السوفياتية. واختلطت الحرب الإيديولوجية بالنزاع الأهلي (القومي والطائفي) وبالحركة الاستقلالية اختلاطاً ضيَّع معانيها جميعاً، وحال بين الأهالي وبين تبين هذه المعاني، على مثالنا «المشرقي» والعروبي السائر والمشهود.
وبلاد البلقان هي المسرح الذي تصورت فيه الحرب العالمية في صورة حرب (حروب) أهلية «ناصعة»، إذا جازت الصفة، وصفيقة المعاني. فقاتل الأنصار الصربيون والكرواتيون والبوسنيون المسلمون والمقدونيون والسلوفينيون الاحتلال الألماني والاحتلال الإيطالي، وانحاز بعض الأقوام إلى الاحتلال المزدوج، وقاتل بعض آخر الشيوعيين المحليين من قومهم ومن الأقوام الأخرى. فقتل أنتي بافليتش، الكرواتي ونصير الألمان وظهيرهم، فوق 200 ألف صربي ومن تطاولت إليهم يده من المسلمين. وقتل أنصار ميخايلوفيتش الملكيون، ومعظمهم من الصرب، الكروات والمسلمين. وانحاز مسلمو البوسنة إلى الألمان طلباً للحماية. وقاتل الشيوعيون، وراء تيتو، قوات ميخايلوفيتش الصربية، في الجبال والشعاب الوعرة، وأفنوهم، و «استولوا» على بلاد محتلة وجريحة، ويفتك الجوع في أهلها، على قول ميلوفان دجيلاس، مساعد تيتو قبل الانفضاض عنه. وانتهت حرب العمال والفلاحين على البورجوازية إلى حروب أهلية في الحروب الأهلية.
وإلى الجنوب، كانت «حرب» اليونان فصولاً من الاجتياح والاحتلال والمقاومة وعمليات التأديب والحرب الأهلية. فاقتتل الشيوعيون والملكيون، غداة «السلم» الدولي، 3 أعوام، 1946- 1949، اقتتالاً شرساً وباهظاً. وكان للقوات البريطانية دور مباشر راجح فيه، وللمساعدة «الأممية» السوفياتية دور فاعل وعبثي في آن: فمصير المقاومة الشيوعية الأهلية عُلقت على إرادة ستالين وحسابه، والإرادة والحساب هذان كانا رهن رأي الطاغية في يوغوسلافيا وحوادثها وفي مصير البلقان فوق ما كانا رهن «إنجاز» المقاومة نفسها. وقادت الحرب الأهلية، وهلي لابست حرباً استقلالية أو حرب تحرير وحرباً اجتماعية وإيديولوجية، قادت الحزب الشيوعي إلى إرهاب القرى، وتدمير طرق المواصلات، وشرذمة الأهالي عصبيات متناحرة، وتقويض المراتب الاجتماعية المحلية وأبنية المراتب وعلاقة بعضها ببعض وعلاقتها جميعاً بالدولة الوطنية.
فانجلت المعمعة العامة، وغاشيتها وعمايتها المظلمة، عن رسم اجتماعي برزت خطوطه تباعاً. ونهضت الجماعات الأهلية المحلية على أنقاض الأقليات القومية التي هُجرت، أو أثخن فيها القتل وكانت الأقليات هذه مصدر الطبقات المتوسطة، والمهن الحرة و «المثقفين» عموماً وحلت محلها. وفي أحيان كثيرة استولت على منازلها وأثاثها ومكاتبها ومحالها. وانقلبت أعمال القتل والتهجير والسطو، في مرآة حقبة ما بعد الحرب واستتباب الأمر «للطبقات» الأهلية الجديدة، أفعالاً وطنية، وسجلاً شريفاً من سجلات المقاومة البطولية. وغالباً ما بعثت القوات السوفياتية المحتلة أصحاب الثارات والعصبيات الأهلية والاجتماعية و «السياسية»، في البلدان التي حررتها من النازية، على الإمعان في ثاراتهم، وتحصيل ما يحسبونه حقوقاً بأيديهم. ودعتهم، مواربة أو صراحة، إلى ازدراء الإجراءات والطرق القانونية. فزكت أعمال التهجير والاحتلال والسطو التي كان الاحتلال الألماني ابتدأها، وتعهد معظمها، وأقرتها. وأشركت، من هذه الطريق، السكان وعموم الأهالي في ما ارتكبه الاحتلال الأول وتابعه عليه الاحتلال الثاني.
[«القضاء» الأمني والبوليسي
وهذا كله، وغيره مثله وشبهه، لم يحل لاحقاً بين الدول الأوروبية، وجماعاتها المستقرة فيها أو المنتشرة في نواحيها المختلطة، وبين الدخول في نظام إقليمي مستقر وقائم على المساواة والاستقلال والحقيقة، وموازنة سياسة النسيان بسياسة التأريخ والتذكر. ولا ريب في أن الأمر اقتضى عقوداً طويلة من إعمال السياسة الثانية في السياسة الأولى. وهو اقتضى، كذلك وعلى الخصوص، دوراً أميركياً، ديبلوماسياً واقتصادياً وعسكرياً، رائداً وراجحاً. ولولا الدور الأميركي هذا في إنهاض ألمانيا، وردها إلى مكانتها في قلب أوروبا ديموقراطية، وفي أَوْرَبَة الإعمار الأوروبي، وتجديد بناء دول القارة وحمايتها ولجم نزاعاتها السياسية لما نهض القطب الأوروبي الغربي وتماسك، ولما وسع مجتمعات وسط أوروبا وشرقها وجنوبها وبعض شمالها المشي على هدي مثال، و «العودة» إلى الحضن الأوروبي الذي سعت موسكو، القيصرية والإمبراطورية والشيوعية معاً، إلى إخراجها منه، ولا تزال تسعى في إضعافه وتصديعه على رغم حاجتها الماسة إليه.
ويلاحظ جُودْت التناظر المقلوب بين الدورين الأميركي والسوفياتي حين يقارن بين مجموع الهبات التي قدمتها الولايات المتحدة إلى أوروبا، في إطار خطة مارشال، وبين قيمة المصادرات والمنهوبات والتعويضات التي فرضها الاتحاد السوفياتي على البلدان المحررة والمستعبدة في آن. فبلغت استثمارات خطة مارشال (1949- 1952) العينية الإنتاجية في مرافق الإنتاج والتبادل الأوروبية، الغربية قسراً بموجب إرادة ستالينية همايونية، 14 مليار دولار. وبلغت قيمة ما جبته موسكو قهراً وتعسفاً، وفرضته على دول شرق أوروبا إما من طريق المصادرة والسطو وإما من طريق معاهدات واتفاقات تفضيلية على نحو فاحش في أعوام ما بعد الحرب إلى موت ستالين (1953)، نحو 14 مليار دولار. وبينما يممت مجتمعات غرب أوروبا، وبعض شمالها وبعض جنوبها، شطر التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المشهودة، دخلت مجتمعات شرق أوروبا، طوال عقود أربعة ونصف العقد، في غيبوبة لم تستفق منها إلا عشية تصدع السجن الروسي السوفياتي وسجانه «الفظ»، على قول الشاعرة اللبنانية.
والحروب المتشابكة والملتبس بعضها ببعض، على شاكلة حروبنا «المشرقية» المعاصرة والمتطاولة، ومترتباتها ونتائجها الاجتماعية والسياسية العميقة والباقية، لم تحجب وحدها وقائع التاريخ، ولم تحل وحدها دون تبين معاني الحوادث المتعاقبة. والاضطلاع بالمسؤوليات عنها، وإرساء المصالحات الوطنية والإقليمية على تبين المعاني والاضطلاع بالمسؤوليات. فأنشأ الاحتلال السوفياتي، المقنع والسافر، جهازاً قضائياً وأمنياً ودعوياً إيديولوجياً معاً، أسهم إسهاماً بالغاً في تحوير معاني الحوادث وتحريفها. ولم يقتصر الجهاز القضائي الأمني والدعوي على التحريف والتضليل الموضعيين، أي في القضايا والأفعال المقصودة مباشرة. فتطاولت آثاره إلى عموم التخاطب بين أهل المجتمعات، وإلى فهمهم بعضهم عن بعض و«كلهم» (المتصدع والمشرذم) عن المجتمعات الأخرى، «العدوة«.
وفي ختام تناوله لأبرز «المحاكمات» القضائية المزورة التي توسلت بها الاستخبارات السوفياتية إلى تزوير الانتخابات النيابية، وتشويه الحياة السياسية، وقتل المعارضين الوطنيين، والتمكين للاستيلاء الروسي وأدواته الحزبية المحلية بالمراوغة والقوة في بلغاريا وبولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا وشرق ألمانيا يرى طوني جُودْت ان أدوار «القضاء» الأمني والبوليسي السوفياتي لا تقل عن سبعة. فالدور الأول لمحاكمات تثير النعرات على «اليهود» و «الغرب» والعملاء «الكلاب» و «المنحطين» و «الحثالة» وهي نعوت سبق إليها «القضاءُ» الشيوعي «القضاءَ» الإيراني وزميله الإقليمي وصحيفة «الوطن» وموقع فيلكا ومحطة المنار وإذاعة النور وعلي عمار وميشال عون ووئام وهاب وناصر قنديل ومصطفى حمدان وجميل السيد... تسويغه من نفسه، وهو مماشاة الغرائز العدوانية، والميل معها. والدور الثاني هو تربية عامة و «شعبية» من طريق التمثيل على قوة السلطة المتعسفة ونفوذها، والدلالة على «المسؤولين» عن إخفاقاتها. وتتولى المحاكمات، ثالثاً، - وتقوم «المعطيات والقرائن» في حالنا مقامها «تعبئة الرأي العام البروليتاري» («الوطني») على الأعداء وذلك من طريق إماطة الستر عن «هوياتهم المستعارة» (على قول روبرت فوغلير، أحد المتهمين التشيكيين).
وأصحاب «الهويات المستعارة» يحمَّلون، رابعاً، اللوم على عثرات القوة المتسلطة. وتنفي المحاكمات الخلافات وجوازَها عن الحكام، خامساً. فالخلاف غير جائز في دوائر السلطة، ولا في المجتمع الذي تسيطر عليه. وما يراه سائر الناس وسوادهم خلافاً، أو رأياً، إنما يتستر على بدعة لا يجوز الاجتهاد فيها، والنقاد هم أعداء، والأخطاء جرائم. وجماع هذا هو «ثقافة الريبة». وتصدر هذه «الثقافة»، سادساً، عن قلق عميق وراسخ الجذور في شعور «شرقي» بالدونية بإزاء الغرب ونفوذه وغوايته وثرائه. ودور المحاكمات هو مداواة القلق، وتحقيق الارتياب، والإدانة المهينة ورد التهمة بأقبح منها. و «تستبق» المحاكمات، على قول خطيب الجماعة الأهلية والأمنية، سابعاً، حرباً لا يشك القاضي الأول، وهو الأمين العام (ستالين)، في حتمها. وهي جزء من الإعداد للحرب، تعبئة وتأليباً وتقسيماً وإرهاباً. فإطار القضاء الأمني والبوليسي هو حرب الجماعة المستولية والفاتحة والحاكمة (وقد تسمي نفسها، «معارضة») على «رعيتها» و«شعبها».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق