الأحد، 9 مايو 2010

مارسيل غوشيه في عملٍ نواةٍ سبق كتبه المنقولة الى العربية: منعطفات على طريق مجتمعات مرجعها داخلها ولا تمام لتاريخها

المستقبل، 9/5/2010

من غير مقدمات، نُقلت الى العربية في غضون أشهر قليلة ثلاثة كتب كتبها مارسيل غوشيه، هي "الدين في الديموقراطية" (2004) وجزءان من آخر كتبه المتصلة، "ظهور الديموقراطية" أو "نشأتها" بحسب الترجمة الى العربية (2008). وتعود أعمال الكاتب، المؤرخ والفيلسوف على ما يعرَّف، الأولى الى مستهل سبعينات القرن الماضي. وفي الأثناء كتب الباحث، وهو لم يعتل منبراً "فكرياً" على غرار منابر كبار المثقفين الفرنسيين المعروفين داخل فرنسا وخارجها على الخصوص، في تاريخ الديانات واجتماعياتها وإناسياتها، وفي تاريخ "علوم" النفس وعلاجها ومعاني إنشائها السياسية على ركن اللاوعي أو اللاشعور، معاً. وكتب في وجهي الثورة الفرنسية "الكبرى": وجه الحريات ووجه الحقوق، وفعلهما في مصائر السياسة والدولة الأوروبيتين والغربيتين، وبلورتهما مفهومي الدستور والقضاء الدستوري. ومنذ أعوام قليلة تناول الكاتب مسألة التربية والتنشئة والطفولة بعملين مشتركين. ويعالج "ظهور الديموقراطية"، في أربعة أجزاء، انعطاف الشطر الأخير من القرن العشرين في ضوء القرون الأربعة المنصرمة. ومعظم الموضوعات هذه تعود نواة معالجتها الى كتابه "رفع السحر من العالم". وسبق تناوله، في "نوافذ"، في صفحتين: الأولى في 4/10/2009 والثانية في 8/11/2009. وهذه الثالثة والأخيرة.]


آذن تزامن الإصلاح الديني البروتستانتي، وهو أوَّل "الأبَ السماوي" على غيرية لا قياس عليها ولا تشبيه بها، والإقبال على عمارة الخليقة والأرض والاجتماع من غير افتراض نظام مراتب يشد الأدنى الى الأعلى ويوسِّط بينهما جسماً أو سلكاً يتولى الخلاص عن الأفراد، آذن بالتقاء نماء الاجتماع ومنطق ديانة التجسد، وتضافرهما على شبك نتائج الثورة الإقطاعية المبكرة بالأصل الذي تفتقت عنه ديانة التوسط والتجسد، وهو ولاية الدنيا أو الأرض على نفسها، وقيامها بشؤونها وشجونها من غير الاحتكام الى "قانون" سابق أو مثال. وجمع الزمنُ هذا، أو العصر، صبغة المنطق الديني القديمة وأثرها العميق الى ظهور منطق الكفاية ونواته الأولى. وفي إطار عالم مرتبي وهرمي، من أدناه الى أقصاه، لاحت لائحة الأصل أو المبدأ الفردي. فحلت محل الحرب والاستتباع ودونية المرئي منازعُ السلم والتمام والاضطلاع بـ "العالم الممتلئ" سلعاً وبشراً. و "العالم الممتلئ"، بحسب عبارة بيير شوني القوية، هو عالم العدد وكثافة السكان، وما يحتاجه هؤلاء من نتاج زراعي يقيتهم ويسد احتياجاتهم، وما وراء النتاج من شرائط جغرافية وسياسية ومناخية وتقنية مهدت سبله. وثمة توارد بين انبساط "الكتلة المتصلة من البشر" والرسم المجرد لعالم إنسي منكفئ على نفسه وقائم بها، ومستجيب الاحتلال والإشباع، على نحو ما يتصور في التوسط المسيحي.

منعطفا 1300 و1700

وابتدأ هذا نحواً جديداً من التوجه على العالم وموجوداته ومكوناته على هدي من مثال تخطيطي عريض وجامع، من وجه، وآخر نافذ ومحلي، من وجه ثان. وحمل المثالُ على توسيع الأقاليم المعمورة توسيعاً مطرداً، وضبطَ هجرة الجماعات، ودعا هذه الى ترسيخ جذورها في ديراتها، وقرَّب بين ناسها في منازل مكتظة. وبلغ النحو الجديد ذروته حوالى عام 1300 (م). وولد شبكة متصلة وخَلَوية من أجراس الكنائس والحقول المزروعة، ونسيجاً ممتداً من حرث مستصلح ومتقارب نهضت عليه من بعد المباني السياسية المتينة، ودانت له بمتانتها وصلابتها. وتمتع المزارعون المستقلون، على هامش البنية "الخلوية" (على قول روبير فوسييه) الإقليمية والمرتبية والجماعية، بهامش أرسوا عليه دوراً متعاظماً. ووسع صاحب الأرض العائلية الضيقة الانتفاع من تصريف عمله على ما يشاء ويرتأي. وخطا خطوات أولى على طريق تقديم العلاقة بالأشياء (المتاع) على عرى الاجتماع الإنسي، وهو (التقديم) قلبُ المنزع الفردي الاقتصادي المحدث ومناطه. ومنذ تولي ملء العالم بالسكان (النسل) والسلع ("المال" والحرث)، قام تعظيم الموارد على فك استتباع البشر وحلهم من روابطه وقيوده. واجتمع، على نحو مبتكر، وجها التبعية والاستقلال، واختلطت الجميعية الضيعوية بالفردية المتملكة. وصبغ الأمران، الجمع والاختلاط، بصبغتهما الأرياف الأوروبية طوال القرون التالية، وبعض الصبغة هذه لم تتبدد آثاره في علاقات "الأهل" الى اليوم. وكانت المدن صيغة أخرى من صيغ المساومة بين المنزع الفردي والمنزع الجماعي. ونهض السلك أو الصنف علماً على المساومة والاشتراك.
واضطلعت الأنظمة الملكية الوطنية، على المثال الإقليمي والعمراني نفسه، بالولاية على الجسم الإنساني – الاجتماعي. فأعملت السلطان، الساعي في الفتوح والتوسع، في الممالك ودواخلها. وانقلبت من ضم الأقاليم الى التأطير الإداري. وكان سائق السلطان الاشتمال المطرد على أعداد متعاظمة من الرعايا والسكان، وغايته الاستيلاء على "مشارق الأرض ومغاربها" وجمعها في مملكة أو امبراطورية واحدة. فصار دأبه النفاذ الى قلب الجماعة او الأمة التي يسوسها، وتعريفها تعريفاً جامعاً ومانعاً، وحدّها في نفسها. وعلى هذا، أوجب السلطان صدور الجسم السياسي (أو الدولة الملكية الوطنية) عن نفسه، وسوغ السيادة والفعل الإداريين من هذه الطريق، وحَمَلها على مقاصد العناية والرعاية المحتجبتين. وتوسل السلطان الأرضي الى تسويغ نهجه تسويغاً دينياً ولاهوتياً، على حدة من السلطان الكنسي المسكوني، بالقسمة التي أثبتتها الإثنينية الدينية، وأقرت بموجبها بالولاية الدنيوية والإنسية، وبتمام حقها في الانتصاب للتدبير الدنيوي والزمني. واستقوى الملوك بالإقرار هذا، واستظهروا على السلطان الكنسي المسكوني، وعلى نازعه الى العموم، بالاثنينية وباستواء شقيها وأقنوميها على درجة واحدة من الحقيقة. ودعا الاستظهار الملكي والسياسي بالقسمة الاثنينية، وبحقيقة الشطر الدنيوي والناسوتي منها، الى عمارة الأرض الرأسمالية عمارة سبيلها المراكمة المتقشفة والممتنعة من الإنفاق. وحمل، من وجه آخر وملازم، على التدين بديانة الدولة، وتعظيم فرض التضحية بالنفس والدم وبذلهما، وافتداء الأمة بهما.
وعلى منوال الولاية على الإقليم ودائرة المكان، وترسيخ السيطرة على الحيز الطبيعي، سعت المجتمعات الأوروبية في مستهل العصر الحديث، في الولاية على الزمان. فنسبت الاجتماع الى دوام لا ابتداء له ولا ختام أو آخر. ونسبت الدوام نفسه الى ركني الاجتماع، السلطان الذي يلي الأمر وجسم الجماعة (الأمة). وخلصت، على مثال كنسي قام مقام القدوة والخصم معاً، الى ضرب خاص من التقديس لا يقل قوة من القدس الديني الكنسي. فأجسام الشركة السياسية لا تحول ولا تزول، وهي باقية على مر الأجيال وتعاقبِ ولادة الآحاد وموتهم. وتتماسك الأجسام هذه بقوة روحية تشبه قوة الروح في "العالم الآخر" أو "الحياة الأخرى"، وتضاهيها حقيقة. ويتربع في سدة الجسم السياسي "ملك لا يموت" على رغم تعاقب الملوك، وفناء أجسادهم وتحلل هيئاتهم تراباً. فهو، أي الملك، صورة ماثلة عن كيان روحاني وعلوي صوفي يتجدد حلوله المتصل والثابت في أعيان الأشخاص (الملوك)، وفي الأجسام السياسية والإقليمية والإدارية والدول الملكية. ونشأ عن المتخيَّل هذا، وعن تخييله في الذهن والفكر والنفس، سعي دؤوب ركز الكيان الجماعي والمشترك، الغفل والمفترض، في أبنية إدارية وقضائية ومالية وتمثيلية وثقافية. ونيط بالأبنية المرصوصة، العامة والمشتركة (على معنى الغفل)، التمثيل الملموس على دوام كيان الأمة الروحي والمعنوي غير المرئي، على رغم تعاقب الأجيال، عامة وملوكاً. وترتب على ازدواج الهيئة السياسية والاجتماعية، كياناً روحانياً صوفياً ثابتاً وآخر عينياً مادياً وفاسداً، أو عابراً، اقتصارُ السلطة، ومزاولتها ومباشرتها، على التمثيل والوكالة عن الأمة أو الدولة. ويصدق التمثيل (بالإنابة) والوكالة (عن أصيل) في الطاقم السياسي والطاقم الإداري على حد سواء. والاقتراع الانتخابي البيروقراطي الوظيفي يصدران عن اصل واحد. ويقضي الأصل باستحالة تجسد المرجع في عين أو أعيان، وامتناع مثوله وحضوره مثولاً وحضوراً تأمين ويحاط بهما. وعلى هذا فـ "صاحب" السلطان، السياسي والإداري، مهما علا شأنه، إنما هو مندوب الى تصريف السلطان، و "نادبه" المفترض يستحيل عليه مباشرة التصريف بغير واسطة.
فحل الفرق، وهو فرق زمني بين دوام بشري إنسي وبين بقاء رباني لا يمضي، محل المرتبة، وهذه تقضي باستحالة القياس وتنفي عن المرتبة الدنيا جواز المُسكة والقيام بالنفس. وانطوى المرئي والظاهر على علة تمام تحصنه وحده. وعلى حين كانت الصيرورة والتحول صنو الهباء، والعَلَم على التبدد، انقلبت ركن بلوغ البشر، وأفعالهم وصنيعهم، الى هويتهم العميقة والجوهرية. والحق ان الحضارة الغربية وحدها من بين الحضارات الأخرى أرست الهوية الجماعية الثابتة على تبدل الأحوال والأشياء وأقرتها على تعاقب وتجدد مزمنين. ومهد هذا الى إنشاء التاريخ، ورعى استقباله وإنزاله المنزلة التي تبوأها مذذاك. وأفضت المنازع مجتمعة الى انقلاب منطق السلطان ووجوهه جميعاً. فكان تعاظم السلطان السياسي يتوسل بتوسع الأقاليم وامتدادها وضمها، وبإيجاب فرق الحاكم وعلوه الرهيب، وتسليط المراقبة والحسبة على الإنتاج والتجارات والمبادلات. وعلى خلاف هذه المنازع، تولت الدولة الملكية والوطنية تدبير إقليم مستقر الحدود والتخوم ومسحه مساحة دقيقة ومفصلة. وسعت في تطابق مسالك السلطة واتفاقها أو ميلها مع إرادة الرعايا ومشاركة المواطنين، وتحرر المصالح، وانعتاق المبادرة المدنية. فنجم التعاظم عن التقييد والإمساك. وعلى خلاف الظاهر والتوقع المحافظ والعاقل، وَلَدَ لغطُ الجموع، وإشراكُ أهل الضعف والصفَّة في تصريف الأمر، ومصادمة الحقوق المتساوية والمتكافئة بعضها بعضاً، والديموقراطية – ولدت هذه سلطاناً عظيماً وغير مسبوق. وكان السلطان المادي يفترض السلطان السياسي، والسيطرة على البشر تالياً. فأرساه العصر الجديد والحديث على التسلط على الطبيعة، واستبدل المصادرة والاقتطاع بتغيير الأشياء ومسالك صنعها وطرائق الصنع.

امتناع الوساطة والوحدة

وعلى خلاف الوصف السائر والذاهب الى ان هذا كله يندرج في باب "علمنة" السلطة، يدعو التأريخ المديد الى ملاحظة فشو القدس في السياسة أو صبغ هذه بصباغ القدس. ولكن القدس السياسي من نحو أو لون خاص. وهو نجم عن انقطاع من القدس الإكليركي الكهنوتي وخصومة معه. فالكهنوت اضطلع بالتوسط بين الدنيا والآخرة، وقام مقام الوصلة بين الواحدة والأخرى، ومثَّل على قران الاثنتين. ومن جهتها، مثَّلت ملكية "الحق الإلهي" تمثيلاً مشروعاً ومقبولاً على انكفاء مدينة البشر على نفسها، وقيامها بها، وبالأرض عموماً، قياماً لا ينكر. وقام المنزعان الكليان واحدهما بإزاء الآخر، وعلى الضد منه، وكفءاً له ومتمماً. وتفتقت الحال هذه عن سيرة التوجه المسيحي على العالم وتاريخ عمرانه. وحالت حقيقة "الأرض" والعمران الدنيوي دون طلب الإيمان الصحيح، وتجديده وإصلاحه، من طريق بعث البنيان المرتبي الذي تستوي "السماء" في سدته وكرسيه، وتسود وحدته المتماسكة والجامعة من أدنى حلقاته ودرجاته و "أحقرها" الى أعلاها وأسماها. والإقرار بالحياتين معاً، وباستوائهما على مرتبة واحدة في الشرف، سوغ السعي في الخلاص الأبدي من طريق استجابة الولاية الدنيوية، وحمل تبعاتها. وكان هذا أصل عالم المساواة الأول والركن الذي آذن بقلب عالم المراتب والدرجات الهرمي وسلسلته، من داخل. وهو ابتداء الأزمنة الحديثة حقاً، وفاتحة انعطاف تاريخي واجتماعي تطاول الى بنيان التأنس.
فذهبت البروتستانتية الى استحالة الوساطة وامتناعها، وإلى ازدواج دائرة التدين ازدواجاً لا ترجى وحدته، لا من طريق حل دائرة في الأخرى، ولا من طريق ترتيب يغلب مرتبة على مرتبة. وحملت زعم الكنيسة النهوض بالتوسط على الكذب والخداع. والحق ان المجتمعات الأوروبية لم تنتهج كلها النهج البروتستانتي ومنزعه الى تقديس السعي البشري واستفراغه في المنع والمراكمة وعمارة الأرض. فبعض المجتمعات (والدول) الكاثوليكية انخرطت في الحرب على الإصلاح، وناصبت أنصاره ومريديه العداء والقتل الأهليين، على شاكلة فرنسا، من غير ان يفسد انحيازها انسلاخها عن التوسط الكنسي، وانقلابها عليه. وهي التمست الى الازدواج والانفكاك من هيمنة "السماء"، منطق التدين بدين السياسة والدولة. وفي أحوال أخرى، فرعية أو جزئية، تصدعت المراتب وسلسلتها تحت وطأة تمكين ذاتية عقلانية في مقابلة كون مرسل لا إلى غاية أو حد، أو جراء إقبال محموم على عصبية أرضية ودنيوية. وفي الأحوال كلها، كانت البنية التحتية رمزية، والمبنى تديناً بالفعل وعلاقة بالغيب مركوزة في سياقات جماعية مشتركة وفي مذاهب فردية وشخصية. وأشبهت نتائج الثورة الدينية في المجتمعات والدول الأوروبية بعضها بعضاً شبهاً شديداً ومستمراً جراء صدورها عن معين واحد هو ثورة القرنين السادس عشر والسابع عشر الدينية والمذهبية، وركنها الأوغسطينية السياسية.
ومنذ محور (العام) 1700، على وجه التقدير والتقريب، انفكت الى مضامير مستقلة الدوائر التي كانت المسيحية تجمعها وتضويها في بنيان متصل. وأفضى انفكاكها الى استواء الدولة الوطنية والسيدة صورة لازمة عن العمران والاجتماع. ورست المعرفة، ومعها الحق، على أصل ذاتي، وأمست الطبيعة كلها محرثاً تقنياً ومواتاً يحييه سعي البشر وفعلهم. وانتهج العالم الأوروبي طريقاً خالفت طرق المجتمعات والحضارات الأخرى. فركز في قلب الدائرة الإنسانية والاجتماعية ما أولته المجتمعات والحضارات إليه، إلحاقَ هذه الدائرة بخارجها، وعهدت إليه بالقضاء فيها من خارج ومن فوق. وأجرى مصائر البشر على خلاف منطقها السائد من قبل ومن وراء العالم الأوروبي هذا. ولم ينجم عن حل الغيرية (الإلهية)، وإخراجها من علاها، ظهور هوية البشر على حقيقتها، ومثولها من غير خفاء ولا التواء. فاختلاف البشر، ومباينتهم بعضهم من بعض، وتقطعهم، لم تطوَ ولم تزل. وخُبُر الغير خُبُراً ذاتياً لم ينفك وجهاً من الخبر الاناسي. وإذا طوت المجتمعات الغربية، وفيها الأميركية، عهد البنيان الديني، أو الديانة على الوجه البنياني الجامع، فالثقافة الدينية، أو الديانة على الوجه الثقافي، لم تطو. والوجه الذاتي من "التجربة" الدينية لا ينفك حياً وفاعلاً حين تتوارى وظيفتها الاجتماعية.
وما اضطلعت "التجربة" الدينية المديدة بالعبارة عنه، وتولت إنزاله على مبان تقدم القول فيها، لا يزال قائماً وملحاً. وجِدّّة الأزمنة الحديثة ليس معناها ولا مؤداها تبديد المباينة والصفاقة والحجز والفرق. فهذه، وهي أركان الخُبُر الديني أو التجربة الدينية، تعدّت الى داخل الفرد نفسه، وإلى علاقات الأفراد وأواصرهم بعضهم ببعض وقلب اجتماعهم ومعيتهم. وركزُ أس الاجتماع وركنه فيما بين البشر، ورسوه على "بينهم" هذا، لم يجعله في ملكهم ولا طوع يمينهم. وإخراج القضاء في شؤون البشر ومصائرهم من "يد" عليا آل به الى ملابسة ما يقوم البشر به، وما يجيز ذاتاً إنسية وعمراناً اجتماعياً. فشرائط الجواز هي المسألة التي تدور عليها المطارحات والمنازعات والانقسامات. ولا ينبغي ان يؤدي انتقال الغيرية الى "داخل" الذات، وإلى ثنايا الآصرة الاجتماعية والتوجه على الواقع، إلى ذواء المعنى في مباشرة تائهة وطيفية. فالغير في ما هو نفسه، وجداناً وعملاً وسلطاناً، لا ينفك ناظماً وفاعلاً. وهو، على خلاف الغير الديني، متخفف من خارج ومن قدس، ولا يدين به البشر إلا الى انفسهم. وقياساً على تعريف الهوية من طريق نصاب براني وعلوي، يبدو التعريف، الفردي والجماعي والإنسي والجنسي الخ، من داخل أمراً عسيراً. ولا يقل عسراً، بديهة، افتراض "أوامر" و "نواه" لا تستقوي بفوق آخر وناه، ولا تنضبط على صورة مثال ليست غير رسم سعي النفس في نفسها. ففي قلب "المؤمن" فرد يخصص إيمانه ويخصصه إيمانه على نحو ما يخصص خطيئته وقصاصه ودينونته. ومحض ظهور الذات، على وجهها المحدث والفردي، قرينة على الشر والخطيئة، وإدانتهما معاً. فالخطيئة ليست، مذ ذاك، إلا سلطان المخلوق على نفسه وبإزاء خالقه.
وآل منطعف 1700، ونصبه ركن الواحد والاجتماع في ذات النفس، الى منعطف 1800 المولود من الأول. وحمل هذا حقيقةَ الفعل، الفردي والاجتماعي، على الصدور عن شرع فطري لم يرده "صاحبه" ولكنه يلابس طويته وإرادته، وينشئهما. ومجاراة الإرادة الشرع الفطري هي معيار السوية. وانتهاك الإرادة الشرع الفطري هو معيار الانحراف. وعلى هذا، فالانحراف هو مناقضة النفس نفسها وليس خروجها على الحكم السائر وميزانه. وجريرتها، والحال هذه، لا تترتب عليها تبعة ولا مسؤولية. وهذا على منوال نفي الخطيئة عن الفرد الواحد ما دامت الخطيئة واستواء الفرد أمراً أو شيئاً واحداً, فاستبطان الحد، او الوازع، صار مصدر الذات والأصل الذي يوجبها ذاتاً فريدة وعلى حدة. وهو، أي الحد أو الوازع، كان التمثيل على الخارج "السماوي". وأنزل الاستبطانُ الانتهاك منزلة المِزْق الحميم والانحراف عن سوية الباطن، ونفى عنه الحياد عن شرع منزّل والعدول عنه. فلم تبق التبعة أو المسؤولية، على وجوه أو معاني الأخلاق والقانون والطبابة، ولا بقي تعيينها وتشخيصها خارج الفرد السياسي، وبمنأى من استوائه قطب السلطان الديموقراطي. والذات كانت في ملك ذاتها وإرادتها، أي تصورت على هذه الشاكلة طوال حقبة 1700 – 1800، ما دام سندها من غيرها وفوقها، وما دام حضورُها ذاتَها وهويتها الواحدة أثرين خلفهما فيها تناولُ الغير. وقطَّع تحرر الفرد السياسي روابط المرء وأواصره التي كانت تشده الى "جماعاته"، وتوجب تبعاته ومسؤولياته.

الواحد الفرد وسياسته

وما يقتضي التعليل والتفسير هو العلل الخاصة والفريدة التي دعت الواحد وتدعوه الى فعله أو أفعاله. والفعل عَرِي من دعاويه العامة والمشتركة، ومن مسوغ التحام فاعله وصاحبه به. واقتصر على جملة الدواعي الفريدة التي "تصف" الفاعل، وتاريخه الشخصي، وصفاً قريباً ومن داخل. واستتبع هذا حمل داخل الفرد وطويته على التاريخ، شأن الجماعات والأمم من قبل. والفرد المحض، المولود من جملة خصائص وخواص لا تحصى ولا تحصر، هو خلاف الفرد طوع نفسه والمتربع في ملك يمينه. وعلى هذا فبت الواحد فيمن يكون، وإرادته من هو، صارا شأنين ثانويين ولا يعول عليهما في تعليل ما "استوى" عليه استواءً مشكلاً على الدوام. وأمارة الإشكال هي، من وجه آخر مخالف، نسبة حوادث سيرة الواحد كلها، ووقائع هذه السيرة من ألفها إلى يائها، الى صاحبها، وحملها عليه وكأنه علتها والسبب فيها. فالواحد، من غير إرادة أو قصد ومن غير بؤرة جامعة، هو سيرته كلها. و "تُسأل" أصغر واقعة عن نسبها الى صاحب السيرة على نحو ا يرى صاحب السيرة في مرآة الحوادث والوقائع المهشمة. والفرد المحض هو "مفهوم" الترجح المزدوج هذا. واللاوعي، او اللاشعور، هو البؤرة الجامعة المفترضة والغائبة، والعَلَم على حقيقة التعلق بالذات (أي بما هو نفسه، علاقةً وليس جوهراً "نفسياً")، على ما استقرت الحال حوالى العام 1900. ولكن استواء حقيقة التعلق بالذات على ما يخرج من مِلك الإرادة والعلم (الوعي أو الشعور) والقصد، قام قطباً بإزاء قطب سلطان التفكر المتحدر من منعطف 1800، الهيغيلي والفختي. ويتداول القطبان، متلازمين، الذات ورجوعها الى ذاتها، وسعيها في أس أو أصل تعقل من طريقه قيامها بنفسها، وولايتها عليها، من غير دَيْن ولا دين.
وتولت الدولة الحديثة، مع الملكيات الوطنية المطلقة، الرابطة أو اللحمة السياسية، بمنأى من عصبيات التماسك الناشئة عن عرى الدم والأرض والصنف (أو الطائفة الحرفية). وتعهدت "رفع" الجماعة أو الأمة الى الذاتية، وحمل أجزائها أو أبعاضها على كل جامع، يقوم منها مقام اصل الإنشاء وركنه، وهو عقدها أو ميثاقها الذي تستبطنه كله في كيانها. والدولة الحديثة هي سلطة تمثيل، يضطلع "الملك" فيها وبها، من طريق "حق إلهي"، بجمع مادة أرضية هي قيام الجماعة الإنسانية بنفسها، واحتمالها نفسها. وتفترض سيادة الدولة (الدولة "السيدة")، أو مبدأ الولاية السياسية، وحدة غايات السلطان السياسي وعلل الجسم الاجتماعي الذي يتوحده السلطان ويتولى هو السلطان. وينزع السلطان والمجتمع الى شبه واحدهما الآخر. وتنهض مشروعية السلطان على هذا الشبه. ويقود هذا الضرب من المشروعية السلطان الى إنكار موضعه خارج الأمة. وهو ألزم نفسه توحيد الإرادة (الجماعية أو الشعبية) العامة والإنفاذ الملكي توحيداً تاماً ومباشراً. وقامت الثورات الأوروبية، الشعبية والديموقراطية، باسم التوحيد الملكي هذا، وأرادت التمثيل، من غير فصل (بين السلطات) ولا إرجاء زمني، على ذات اجتماعية (وطنية وشعبية) ناجزة وتامة، على ما ذهب إليه جان – جاك روسو.
ورسم الإلزام بتوحيد السلطة والمجتمع وبلوغ حد التباسهما وتجانسهما، أفق السياسة في العصر الحديث. والحق ان الأفق هذا استعار من صورة السياسة السابقة عاملين: الأول هو اتفاق الجزء والكل ومناسبة بعضهما بعضاً مناسبة تامة، والآخر هو اتفاق (كيان) الجماعة وقانونها الأساسي. فما استظهر من قبل بسبق القانون الأساسي، وقام من الجماعة مقام مصدرها وركنها، يستظهر بالحاضر ووقته. وما كان عروة عضوية صار مراداً مقصوداً، ومشاركة مدركة. وترتب على هذا فوت تفكر المجتمع من طريق اصله، وانصرام تعريف السياسة الراشدة والقويمة على وجه تجديد العهد السالف والسنن القديمة واستئنافهما. وقام محل الوجهين الفائتين والمنصرمين اتحاد إرادات تتعهد الإنشاء السياسي والاجتماعي وتتكلفه من طريق فعل مشترك ومؤتلف. ولقاء العهد وتكلفه، وانتصار الواقعة الديموقراطية ترتب على العهد والتكلف، خسر الإنشاء السياسي والاجتماعي ركنه وأصله، وهو وحدة "الإرادة العامة"، سلطاناً ومجتمعاً معاً. وانقسمت الوحدة البدئية المفترضة سلطة إدارية اختصاصها الإنفاد والتدبير، وثانية تشريعية وثالثة قضائية... وخلت فكرة الإرادة العامة من اتفاق الضمائر في إطار عودة الى شرائط الإنشاء الاجتماعي يسوقها القصد الصريح والمتدبِّر.
وإلى خسارة الإنشاء السياسي والاجتماعي وحدة "الإرادة العامة" وخلو هذه من اتفاق الضمائر، أقرت الواقعةُ الديموقراطية المصالحَ الفردية والآراء والاجتهادات على منازعها المتفرقة وتخبطها، وعلى جهلها الأصيل والمشروع بالسبل أو الطرق التي يُنتهى منها الى التماسك والتوارد. وأقرت العقولَ على حال منازَعة مقيمة من غير الدلالة الى مناهج تقضي بالعقول والأفهام الى تشارك دائرة موحدة. وأحلت الآتي، والنزاع إليه وإلى مجهوله، محل اجتماع الأمة وضويها الى حاضر حار وجهير. وعلى هذا، انتهت الواقعة الديموقراطية المتمكنة الى ذاتية بعيدة من الذاتية المقدرة والمنشودة ابتداءً. وعلى خلاف هذه، ارتضت الذاتية الديموقراطية المتمكنة اطراح المعرفة بنفسها وتعقلها وترك السعي الإرادي في نفسها. فليس حضورها نفسها هو ما يوجبها وينشئها، بل فرق ما بينها وبين نفسها، من وجه، وانقسامها الداخلي، من وجه آخر. والمجتمع الديموقراطي يتولاه، ويقوم بتبعات انتظامه وتسييره، داخلُه. ويقوم داخلُه الدنيوي والزمني والمدني محل الغير القدسي الذي كان يُحمل موجب الانتظام والتسيير عليه. والداخل الاجتماعي هذا هو ميزان الأوقات التاريخية المشروعة (او التي تقر الجماعة بانتسابها إليها والتحدر منها)، ومصدر الأبنية التي تسلك اجزاء الجماعة وأبعاضها أجساماً في الجسم الأوسع، ومعيار حكومة الجماعة نفسها.
ويضطلع الآتي، ومنزلته من الزمن هي منزلة المرسل وغير المتناهي من المكان، بدور بنياني في وجوه وظاهرات اجتماعية معاصرة ومتصدرة. فهو العامل الراجح في انتظام الفعل الاجتماعي على وجوهه، وفي منزعه الى إنجاز ما ينجز، وإنتاج ما ينتج على لهو مباين، وخيرٍ من النحو السابق وفوقه (كماً وعدداً). وارتقى الفرق، أو المباينة، بالطفل، الى مكانة رفيعة، وأنزله منزلة عالية. ولعل مرد هذا الى القران المحدث بينه وبين التمثيل على (الفرق) الآتي، والإرهاص بهذا الفرق منذ اليوم، وإنجازه في الغد. ويترتب على هذا فك التعليم والتأهيل من التسليك أو التأديب بآداب موروثة ومعروفة، وإدراجهما (التعليم والتأهيل) في باب تمكين الولد من تدبير موارده الخاصة، واستثمارها في "تحقيق" طاقاته. و "ازمة التربية"، أو "أزمة التعليم"، لازمة معظم المجتمعات الغربية المعاصرة، هي عَرَض من أعراض التوجه على الغد والمستقبل. وفي باب آخر ظاهراً، وقريب فعلاً، تعاظمت الهيئات والأجسام البيروقراطية الى دقائق العلاقات والإجراءات الاجتماعية والمشتركة، وتتولى تسييرها ومراقبتها. والإدارة البيروقراطية العامة قرينة على السلطان السياسي العظيم الذي ينسبه المجتمع الى نفسه، ويوكل الى الأجسام الإدارية والمقننة إنفاذه. وعليه، فالدولة الديموقراطية دولة بيروقراطية، من غير ان يترتب على هذا قهر وإكراه مركزيان. ويصاحب تعاظم ادوار الأجسام البيروقراطية، وتوليها الوصاية على نسيج الأفعال الاجتماعية ودقائقها، حياء إيديولوجي يشفع به نازع الى الإغفال المذهبي أو العقدي.
فتتخلى الدولة الديموقراطية- البيروقراطية عن المعيارية الملزمة آسرة الحاضر في شباك الآتي والعلم المزعوم به، على حسب تعريف الكليانية (التوتاليتارية). وحادي الدولة المتعاظمة الوظائف والتأطير هو المشي في ركاب مجتمع مدني تنزع دوائره الى الانفصال والاستقلال بنفسها والتكاثر. وتناشد الدوائر المنفصلة والمستقلة والمتكاثرة هذه الدولة تمثيلها وليس السيطرة عليها، على خلاف دور الدولة السابق. والتمثيل ينزع الى توارد وظيفي، وإلى تدبر المجتمع نفسه وهو يتولى ولادة نفسه بنفسه، ويعود شطر متعاظم من التمثيل الى الدوائر الإدارية والمكاتب من طريق توسع إجراءات الاستشارة والتحكيم وفيضها عن دور الإنفاذ النظري. ونظير التوسع والتمدد والدوام يتقلص دور الاقتراع، ويختصر الى شعيرة علانية تجهر عمل الإدارة ووكالاتها ومكاتبها وتقره. وهذا قرينة على تمام علمنة التاريخ، وعلى تخفف العلاقة به تالياً من الكهان والسدنة والمضحين. وعلمنة التاريخ لا تؤدي الى الشف عن المستقبل أو الى العلم به. فعلى خلاف التوقع، يتوارى الآتي المتعلمِن وراء الحجب، وينسل من الاستدلال. ويحار البشر في صورة آتيهم حين اقتصر الآتي على فعلهم هم، وعلى صنيعهم. وهذا دليل ضاف على خروج المعاصرين من مناطق التدين بدين البدايات: فامتحان الغيرية انقلب معيار الحرية اللازم بعدما كان رحم التبعية.
ولم تؤد بلورة قطب مدني، وانتصابه في قلب المجتمع، الى إضعاف الدولة، على ما يفترض في معادلة محصلتها صفر، بل أدت الى تقوية الدولة على نحو غير مشهود من قبل. وتضافر منزعا اللبرلة المدنية واضطلاع الدولة وإداراتها بالتمثيل والتحكيم والجمع على تمكين قيام الدائرة الأرضية بنفسها من غير "نهاية" ينتهي إليها هذا القيام. وتولى غلقَ هذه الدائرة على نفسها نصبُ الكيانات الجماعية، مثل التاج والمملكة والجسم السياسي من قبل والدولة والأمة من بعد، أشخاصاً وهويات متشخصة تدوم على رغم تعاقب الآحاد الأحياء المرئيين عليها. فهي لا تمضي وتبقى هي هي تحت الآحاد الأحياء المرئيين. وتنهض البنية السياسية الجديدة هذه على ركن ينفرد التاريخ الغربي الحديث به بين التواريخ السياسية الأخرى، قضى (ويقضي) بفك السلطان من المِلك أو الامتلاك، وبتمييز الشخص من الوظيفة وتعريف الأدوار العامة أو العمومية من طريق التمثيل (الإنابة) والانتداب (التكليف المقيَّد). وإغفال السلطة ترتب على تشخيص الكيان الجماعي، دولة أو أمة. ففرنسا شخص لأنها "باقية على الدهر". وليس هذا فكرة في الزمن أو مقالة فيه، وتترتب عليه مباشرة الديمومة أو الوقت مباشرة إدارية وسياسية على صورة وأبنية ووجوه فعلية. والمباشرة الإدارية والسياسية هذه هي سند الهوية الاجتماعي، وضامن استقرار العالم الذي "يسرح" فيه أولياء الفعل والعمل وأصحابهما. والتغيير هو ثقافة الأولياء هؤلاء، ومطلب أفعالهم وأعمالهم. فانغراس الأفعال والأعمال في أرض ثابتة غير مرئية يرعى تجددها، ويطمئن اصحابها الى خصوبة الوقت، ومراكمته ما يوكل إليه من غير إفضاء المراكمة الى الانحراف عن اركان الكيان الجماعي و "خيانته". ووعي تصور المراكمة على هذا المبنى الاستثمار العظيم (الصناعي والتربوي والإنشائي...)، والتخطيط الى أمد، والتعويل على الآتي. ولا ينفي السعي المحموم في الجديد وغير المسبوق اعتقاد الثابت الذي لا يحول.
والسياسة هي ولية (أو ولي) دوام الكيان الجماعي المشتمل على الأفراد، والمتجسد في الدولة. وبإزاء الدولة تنهض الدائرة "المدنية"، وتضوي هذه، على نحو غير معروف من قبل، علاقات البشر الخاصة بعضهم ببعض، أي تلك التي تنجم عن إرادات المتبادلة والمشتركة وحدها من غير اعتبار إلزامات العروة الاجتماعية العامة وإكراهها. والمبادرات والمبادلات الاقتصادية الكثيرة وغير المتوقعة ترسي السوق على إغفال هو صنو إغفال السلطان الديموقراطي. فتجمع المجتمعات الغربية القلق والتجدد الى استقرار مقيم، على صورة جمعها الدولة الى المجتمع المدني، وحملها الحركة الاجتماعية على حركة الأفراد. والحق ان ثمن أفول التدين هو عسر كون الواحد نفسه. ولعل الجنون والترجح بين العُظام وهذيان الأنا الفريدة والمركزية وبين الذُّهان وامحاء أنوية الأنا، عَرَض من أعراض العسر هذا. وترجح التحليل النفسي بين تمكين الذات وبين إبطالها وإقالتها، عَرَض آخر. ولا فائدة ترجى من علاج أعراض الترجح بأفيون خلاصي وقدسي.

ليست هناك تعليقات: