5/5/2010
جددت جريمتا القتل اللتان ارتكبتا بكترمايا، إحدى بلدات إقليم الخروب (الشوف من جبل لبنان)، في 28 نيسان (ابريل) و29 منه، معضلة أهلية لبنانية، وعربية، حادة ومزمنة، هي معضلة علاقة الأهل بالدولة. وإجمال الجريمتين المختلفتين اختلافاً عميقاً في باب واحد يغفل الفرق بينهما، وينحاز الى مرتكبي الجريمة الثانية «رداً» على الأولى وانتصافاً من فاعلها - المفترض على ما يجب القول الى حين التلفظ بحكم قضائي مبرم ومعلل. ويسهم الإجمال، بهذه الحال، في الاشتباه الأهلي المعضل. فالجريمة الأولى، على ما علم منها، فردية، ارتكبها واحد فرد، هو محمد سليم مسلم. والقاتل المفترض رجل مصري (39 عاماً على قول والده) يقيم بالبلدة الشوفية اللبنانية مع والدته (المصرية)، المتزوجة زيجة ثانية رجلاً لبنانياً من كترمايا، ومقيماً في البلدة بجوار أسرة الضحايا الأربع، يوسف أبو مرعي (78 عاماً) وزوجته كوثر (79 عاماً) وبنتي ابنتهما، آمنة الرواس (9 أعوام) وزينة الرواس (7 أعوام)، المولودتين لرنا يوسف أبو مرعي، المدرّسة، ومحمد مصطفى الرواس، طليقها المهاجر الى بلد من بلدان الخليج منذ سنتين. وقتل العامل المصري، والنازل البلدة منذ أشهر قليلة من طريق أمه، ضحاياه وجيرانه «انتقاماً» وعدواناً. والداعي الى القتل المروِّع هذا يتصل، من طريق أو أخرى، بمحمد سليم مسلم ونوازعه وغرائزه وميوله. وراج في أعقاب القتل وشيوع الخبر في البلدة، أن محمد سليم مسلم كان فاراً ومتوارياً، ألجأته الى الفرار شبهة اعتداء جنسي ارتكبه أو حاول في حق واحدة من نساء البلدة. فما ان عرفت الجريمة – وكانت رنا يوسف أبو مرعي، ام البنتين القتيلتين وبنت الزوجين القتيلين أول من دخل البيت ورأى الهول الفظيع الذي خلفه القاتل – حتى سعى الشرطيون في أثر محمد، والقوا عليه الشبهة وربما التهمة. وحامت شبهة «مبدئية»، في أثناء لحظات، على طليق المرأة وأم الطفلتين، على ما يحصل في أحوال الطلاق المدمر.
القتل مرتين
وأما جريمة القتل الأخرى فكانت ثأراً من القاتل المفترض، واقتصاصاً منه. وقتل القاتل المصري مرتين أو في وقتين: الأول حين اقتاد شرطة المفرزة القضائية والأدلة الجنائية ودرك مخفر البلدة ومخفر شحيم (كرسي القضاء) القاتل المفترض الى مسرح الجريمة، فرآه أحد الأهالي وأفشى الخبر في الأهل والأقارب والجيران فهاجموا الشرطيين والدركيين، وانتهوا الى محمد فضربوه وجرحوه جروحاً ثخينة. والوقت الثاني حين علم الأهل والأقارب والجيران ان طريدهم الذي خلصه حراسه وفريق التحقيق من القتل نقله هؤلاء الى مستشفى قريب، ببلدة سبلين، فهجموا على المستشفى، وأخرجوا منه «رجلهم» وقتلوه ذبحاً هناك، وأوثقوا جثته الى سيارة، وجابوا المنطقة بالجثة العارية وجروها على الأرض، وبلغوا بها ساحة كترمايا غير بعيد من مكان الجريمة، على مقربة من مسجد البلدة، فعلقوا جثة القتيل مشنوقاً وعارياً إلا من كساء عورة الى عمود كهرباء (الى «آرمة» معدنية لطبيب وجراح غدد محلي متخرج من فرنسا مثبتة الى عمود الكهرباء). وعلى هذا، فالقتل الثاني، على خلاف الأول، بادر إليه بعض أهل كترمايا جماعة أو جميعاً. فاقتصوا من القاتل المفترض لتوّهم وتو الجريمة، وجَزُوه بمقتلته، وبضحاياه العزل، ذبحاً وعرياً فاضحاً وتعزيراً وسحلاً وجراً وشنقاً. واستبقوا تحقيق الشرطة، والتحقيق القضائي، والمحاكمة الطويلة، ومرافعات الادعاء والدفاع، واقتصوا بأيديهم من قاتل لم يشكّوا، ولا يشكون في ارتكابه القتل الذريع، واستضعافه مسنين قاربا الثمانين وولدين لم يبلغا العاشرة، وربما في أشياء أُخر يريدون طيها.
وحين تحفظ قادة سلك أمني، هم رؤساء قوى الأمن الداخلي، عن القتل الثأري، وانتزاع القاتل من أيدي التحقيق القضائي والأمني، وعن مباشرة الانتقام والتمثيل عنوة وانتهاك جثة الجاني القتيل، وأعلنوا عزمهم على معاقبة المقصرين من رجال جهازهم، وملاحقة المشتركين في قتل القاتل و «منظمي» القتل – رد بعض وجوه أهل كترمايا على الشق الثاني من التهديد، فقالوا انهم لا يقبلون ملاحقة أحد منهم، ولن «يسمحوا» بالملاحقة والمحاسبة، على زعم رئيس بلدية البلدة. وسكت أقرب نواب الدائرة الانتخابية إليها، أي نائبا إقليم الخروب السنيان. وأحدهما عضو في كتلة نواب المستقبل، وهي كتلة رئيس الوزراء سعد الحريري، والثاني عضو في كتلة اللقاء الديموقراطي، وهي كتلة النائب الدرزي وليد جنبلاط. والبيان الذي ندد بالجريمتين، واستنكر طريقة «الاقتصاص من الجاني»، وأعلن «رفض» الانتقام، وقعه الحزب التقدمي الاشتراكي، ولم توقعه الكتلة النيابية «الجنبلاطية» المختلطة.
وتعاقب على إبداء الرأي في الحادثة المزدوجة، وفي شطرها الثاني على وجه الخصوص، الوزراء «المعنيون» وقمم الإدارات الأمنية. وترجحت بيانات الوزراء ورجال الأمن بين الثناء على النفس و «الدولة» وبين الإقرار بالتقصير و «النقد الذاتي» وابتداء التحقيق في الثغر التي نفذ منها قتلة القاتل. فثمة أمنيون يظن انهم أفشوا موعد الكشف على موقع الجريمة، ونقل الجاني إليه. وثمة من ارتكب «خطأ جسيماً في سوء تقدير الموقف الميداني ولعدم توفير الحماية اللازمة والكافية للمشتبه فيه»، على قول رأس الأمن الداخلي. وأثنى رجال الدولة على سرعة رصد رجال الأمن الجاني المظنون، «في أقل من 24 ساعة»ن على قول وزير الداخلية. وتذرع الوزير بالسرعة، وهي قرينة على الكفاءة وعلى رعاية «غضب الأهالي ووجعهم» وحمل همومهم وحقهم في عدالة قوية وحاسمة، الى معاتبة الأهالي على «استيفا(ئهم) الحق بغير الطرق القضائية... و (استسهالهم) إحقاق العدالة بهذه الصورة». وقدم الوزير لملاحظته على انتهاج طريق العدالة الأهلية والثأرية والتطاول على القضاء والحق العام والاعتداء على ذراعه، بالإقرار بـ «(شناعة) الجريمة» وإبداء «تفهمه» الغضب والوجع اللذين عصفا بـ «ذوي الضحايا».
وأحجم وزير الداخلية عن جهر رأي قاطع وحاسم في «قضاء» الأهل الثأري والتمثيلي، ومباشرتهم المحاكمة أو الحكومة بأنفسهم ومن تلقائهم. فتحفظه عن الغضب والوجع، وعما قادا الأهالي إليه، وشفعه التحفظ بالتفهم، لا يحملانه على الإدانة المواربة إلا قياساً على اضطلاع القضاء بمهماته. وهذه المهمات هي «كشف ملابسات الجريمة» و «(إجراء) التحقيقات بإشراف القضاء» و «إحقاق العدالة». وتختصر عدالة الأهل مهمات القضاء الى غاية عاجلة هي «إحقاق العدالة» على الظن ومن غير إرجاء يقتضيه إثبات لا تشوبه شائبة من شك. فينكر الوزير على الأهل الغاضبين والموجوعين اختصار الطريق الى عدالة آتية ومحقَّقة تستجيب رغبتهم المفترضة فيها، أي في العدالة، ولكن من طريق القضاء والتزام معاييره. وعلى هذا، فالأهل ملومون على خروجهم على القضاء، واستعجالهم ما كانوا محصليه وبالغيه بواسطة القضاء ويده الأمنية، لو تحلوا ببعض الصبر وتجملوا به. وهم ليسوا ملومين (وهذا تأويل من الكاتب) على طلبهم الثأر وشفاء غليلهم المحموم الى مكافأة الجريمة المروعة – والعدوان الضاري على الفتاتين والشيخين الضعفاء والقاصرين عن المدافعة – ببربرية مثلها وعدلها.
... والغايتان
ويريد وزير الداخلية، ورجل الدولة بهذه الحال، الإغضاء عن ان غاية عدالة الأهل المباشرة، والمنكرة على الجاني الرهيب شبهة إنسية (أو إنسانية) تتوجه عليها عدالة القضاء بإجراءاتها الشكلية الصارمة، ليست غاية عدالة القضاء والحق. وهي نقيضها وخلافها على بعض الأوجه. فعدالة الأهل متوحشة، على معنى الصفة الحرفي، أي هي تخرج المعتدي ومنتهك حياة أمثاله وأهله من الاجتماع الإنسي، المتأنس والمتمدن، وتلفظه الى عراء خارج وحشي وحيواني. ولا ريب في ان تابعية محمد سليم مسلم المصرية، وإقامته بالبلدة من طريق امرأة هي امه «يسّرتا» على «ذوي الضحايا» قتله على هذا النحو، وحالتا بينهم وبين احتساب رد أهلي. فذُبح ذبح البهيمة التي حاكاها فعله (وكان القاتل المفترض قضَّاباً لحاماً في مسلخ البلدة أو الناحية وقتل ضحاياه بسكين هي بعض عدة عمله)، وجُرَّ جر الماشية النافقة الى المزبلة أو إلى المحرقة. وأبيح، وهو ميت وأشوه ولحم من غير بدن، لمُثلة جماعية انتهكت بقية إنسيته المبطلة والمنفية. وحين علق الأهل «العادلون» الذبيح الأشوه، والمعفر بالتراب والإسفلت والحجار والشوك، تذكروا حقوق البدن الإنسي فستروا عورته. وهم عفّوا عن خصيه. وحق بدن القاتل في الستر هو حق (أنظار) المتفرجين في العفة. و «العمل» الذي تتولاه الجماعة الهائجة، على هذا النحو، يقطع أواصر الجاني المفترض بالاجتماع الإنسي، ويلفظه منه لفظاً جسدياً ورمزياً (معنوياً) متشنجاً وراعفاً. ويبسط اللفظ على الملأ السلطان العظيم الذي تباشره الجماعة على آحادها و «أجزائها». فهو (اللفظ) يعكس آية الإدخال والدمج والضوي، ويقلبها رأساً على عقب، ويذكر بما تضمره هذه، أي آية الإدخال، من شروط كثيرة، وبما يفترضه التأنيس من ضبط. فالقتل يجدد سلطان الجماعة، ويستعرضه في «احتفال» يتطاول الى اركان السلطان هذا. ويستبق هذا كله تأنيس القضاء المجرمَ، بالغاً ما بلغت جريمته من الفظاعة والوضاعة. فالقضاء يؤنس من يحاكم حين يكلمه ويخاطبه ويسأله عن اسمه وسنه وإقامته ومهنته، إلخ.. وعن صحة ارتكابه ما ارتكبه، وداعيه إليه. ويفترض هذا، وغيره مثله، «تحت» بهيمية القاتل ووراءها، نواة إنسية جامعة يتحدر منها أفراده من غير استثناء.
ويدفع المجتمع، من طريق هذا الإقرار، ترتيبه ناسه وأهله على مراتب جوهرية أو «وجودية» متفاوتة. فمثل هذا الترتيب يُحل نفي بعض «الأهل» – أي من يأهلون ويقيمون أو صادفت ولادتهم وإقامتهم بمكان – من الرابطة المشتركة والأولى التي يترتب عليها تقييد السلطان المطلق والاستعمال المحض، والحط الى درك الآلة أو البهيمة، والقتل المرسل والعشوائي. وتحريم هذه، أي النفي من الرابطة المشتركة وتقييد السلطان المحض...، يتفادى انتشار القتل الذريع في الجماعات وداخلها وضرب الناس وجوه بعض بالسيف، على ما كان العرب يكنون على حروب الأهل وتناسل العنف والثارات. وعُدَّت حرمة النفس من القتل، والنهي عنه، أصلاً عاماً، وقيدت الإباحة بشروط. والتمس التعويض من القتل من سبل تحفظ الحياة، ولو جانية وعادية، تفادياً لعدوى القتل وطاعونه، على حسب تشبيه «أوديبوس ملكاً». وإخراج القصاص من ايدي الأهل والجماعة الأهلية، وقصره على هيئة ليست من الأهل، ولا تميل ميلهم ولا تخالطهم ولا تلابسهم، يتحاشى الغرق في دوامة رد الدم على الدم، و «عدالة» الردود، على معنى مساواتها الواحدة الأخرى لا إلى حد غير حد التفاني او الإفناء المتبادل، على قول نظرية الردع النووي الهوبسية.
فـ «رفع» الاقتصاص من القاتل الـــى راعي المصلحة العامة، وحصن الناس والأهل من الإفناء المتبادل، يلغي مساواة الدمين، دم القتيل الأول ودم القتيل الثاني ثأراً للأول. فولي دم القتيل، إذ وجدت دولة ولم يعدم قضاء، ليس أهله أو عاقلته (دائرة الأقرباء القبليين أو الأهليين الذين ينتدبهم العرف الى الأخذ بالحق وإلى احتمال «الثمن» أو الغرم)، وإنما هو الحق العام، أو المدعي العام التمييزي في هــرمنا القضائي. ويتولى الحق العام، باسم عمومية غير أهلية، القصاص (وهو مرادف الحياة التي للناس «لو يعلمون») على وجه لجم العنف، وإطفاء إشعاله الثارات في النفوس. ويقتضي «رفع» الاقتصاص من عنف الأهل المحمومين الى برد العدالة المجردة من الأهواء والميل حمل الجاني المفترض على إنسان تام شرائط الإنسية السوية من عقل وإرادة ومشاعر... وهو يُقاضى على شرط المسؤولية عما فعل. وإذا لم يقاض على هذا الشرط جاء نفيه من الأهلية الاجتماعية، ومن الحياة كلها في النظم التي تلحظ الإعدام، متعسفاً وداعياً لدوام العنف. والمحاكمة، من بابها الى محرابها، عنصرها، أو هواؤها الذي تتنفسه وماؤها الذي تسبح فيه، هو اللغة وكلام العلانية العامة والمشتركة. ويُخرج كلام العلانية الى الملأ وينشر على رؤوس الأشهاد «أخباراً» تطويها الأسر والعائلات في ثنايا مظلمة ومعتمة، وتُكره من قد يستقوي بنشرها على الصمت. والظاهر البربري قد يتستر بهياجه وثورته على خطة باردة تحتسب قطع الكلام جزءاً من استراتيجية ثقافية وأخلاقية وسياسية متماسكة. وهذا كذلك وجه من وجوه القيام على الدولة والخروج عليها.
والقصاص لا يمحو الجريمة، ولا يحيي ضحيتها بديهة، وليس كفء الجناية أو الجريمة على وجه مادي. ويذهب كثر الى ان الإعدام لا يردع عن الارتكاب، وموت القتلة لا يقوم مقام العظة او الدرس او الصارف عن المثل، على ما يشهد إحصاء مقارن بين المجتمعات التي تقضي قوانينها به وبين تلك التي ألغته. ولعل ما يحسمه القصاص على أنواعه ودرجاته، ويبطله من أساسه، هو جواز الجريمة أو جواز تسويغها والاحتجاج لها، والتذرع بذرائع ترسيها على «علة» تحمل الجاني قبل غيره على قبولها. فيتولى القضاء، بهذه الحال، إنكار «العلة» المزعومة، ودحض عليتها أو سببيتها ورد منطقها. وينبغي ان يكون من يتولى هذا غير مغرض، ولا صاحب مصلحة أو ميل. ويفترض احتجاج القاضي، شأن احتجاج المدعي العام ومحامي الدفاع والاتهام، الفهم فيمن يقاضى، وأن يكون هو وعاقلته ومن لف لفه وفي طبقته، «ذا حجى». وإذا قصّر القضاء وجهازه المعقد عن إبطال حجج الجاني وإطفائها المعنوي و «الأدبي»، وعن البرهان على شططها واعتلالها في ميزان المظنون أو المتهم الجاني، فهذا قد ينهض قرينة على ضعف ضبط القضاء، على ما كان يقال في بعض رواة الأخبار وأهل اللغة. فمحل الإبطال والضبط هو النفوس، وإبطال وضبط لا يطاولان النفوس ناقصان.
عدالة الأهل
وعلى رغم سكوت «الأهل» عن الرد على منكري اقتصاصهم من القاتل المفترض، استبق فعلُهم ردهم، و «قال» احتجاجهم المتوقع. وحجة الأهل، في مرآة فعلهم وعملهم، أن عدالة الأهل أبعد غوراً و «أعمـــق» من عدالة الدولة. والأهل وحدهم فـي مستطاعهم مكافأة «عمق» الجريمة، والفهـم عنها فهماً دقيقاً، وإدراك ما تبطنه مــــن مقدمـــــات وتستتبعه من نتائج. وهم وحدهم يسعهم الرد على الانتهاك المروع لأركان الاجتماع والتأنس والتمدن والضيافة وصرمها بنظير يخاله الأهل مساوياً ورادعاً. ويريد الأهل من تجنب مثول المعتدي عليهم جميعاً بين يدي الدولة، وعلانيتها الثرثارة، خنق قيل وقال يرمي الفتنة في صفوفهم، ويشق عصبيتهم المجتمعة على «عدوهم». فعلى خلاف ما ذهب إليه وزير الداخلية، المحامي والحقوقي، لا تسعى الجماعة الأهلية، البلدية في الحال هذه، وعدالة القضاء في غاية واحدة، بل هما تسعيان في غايتين مختلفتين. واختلاف الغايتين يستتبع، أو يفترض اختلافاً حاداً في الوسائل، إذا جاز تمييز الوسائل من الغاية أو الغاية من الوسائل.
ويدرج خروج جماعة كترمايا الأهلية على الدولة واقعة القتل المزدوجة في «ثقافة» اجتماعية وسياسية وعدلية عربية عريضة ومتجددة. وتجهر الواقعة المزدوجة (ولم نتناول منها إلا شقها الثاني المتاح) منازعة الجماعة الأهلية – المؤتلفة من عائلات «عشائرية» وإقامة بلدية واعتقاد مشترك وأحلاف وخلافات على مراتب – الدولة، وإداراتها ومنطقها الاجتماعي والقانوني أو الحقوقي المضمر، على السلطة. والسلطة التي تنازع الجماعةُ الأهلية الدولةَ عليها هي تلك التي انتزعتها الدولة، «دولة العدالة» وليس دولة السلطان السياسي والحربي والمالي، من الأمراء والأشراف المحليين ومحاكمهم المتفرقة المراجع، وأوكلت بها «سلطة» تعلو قوى الواقع كلها، وفيها قوة الدولة والحكام. وإذا كان «مثال» الدولة، الحديثة والديموقراطية المدنية، حسم المنازعة، فأخرج من أيدي الجماعات الأهلية السلاح («حق» الدماء) والقانون والجباية و (الانتقال على) الطرق والأمن تالياً، فالحق أن المثال لم يحسم المنازعة في المجتمعات العربية. فنسيج معظمها جماعات أهلية وعصبية، ودولها عصبيات متغلبة، بواسطة أجهزة الدولة المحدثة في أحيان كثيرة، تنازع عصبيات أخرى. ولحمة هذه أهلية، على المعنى المتقدم. وعوامل اللحمة هي ما تخالف به الجماعة الأهلية الجماعات الأخرى، ويضوي تماسكَها الرجراج، وتدفع به تفتتها الداخلي بوجه صوغ الروابط واللحمات والخلافات ومعنى السلطة ومواردها على أركان أخرى غير أركان العصبيات الأهلية ومعاييرها ودوائرها.
ومثلت الحروب الملبننة – منذ دبيبها في الأوصال اللبنانية المتصلة بالأوصال العربية، من طرق شتى ليست «الطريق» الفلسطينية و «طريق» «الداخلية السورية» أضيقها ولا أضعفها – على المنازعة العاصفة هذه. وآذنت الحروب، تحت اللواء العروبي والفلسطيني العام والمجرد وغير المعين، بتداعي مباني السلطة أو أدواتها ذات الصفة الأهلية الضعيفة والضيقة. وتوسلت الجماعات الأهلية والوطنية (المحلية) المتغلبة باللواء العروبي – الفلسطيني، وهو على حاله من العموم القومي والتجريد، الى تسييس سلطتها، وصبغها بصباغ الدولة السياسية، والتحرر الوطني، والمصالح القومية الجامعة ومناهضة الامبريالية والصهيونية. وتماسكت، تحت القناع السياسي القاهر والمزعوم، عصبيات أهلية كانت خالدة الى تقاليد رتيبة، وثارت عصبيات أخرى نفخ فيها أفق الدولة الوطنية القريب وأفق السلطنة أو الامبراطورية الإقليمية (العربية) الأبعد، والاستيلاء على أجهزة القوة فيها عنفواناً محموماً. فلم يكد عُشْر السبعين من القرن العشرين يمضي، غداة 1967، حتى انفجرت النزاعات الأهلية في الأردن ومصر ولبنان وسورية والعراق وبلدان أخرى، الى فلسطين نفسها. وكثرة عوامل الانفجار وموادها لا تحجب انبعاث العصبيات الأهلية، وإذكاءها بعضها بعضاً من طريق النزاع على السلطة الوطنية، وعلى «سلطة» إقليمية نافذة في الجماعات الأهلية المتفرقة، وتمتطي المطية الفلسطينية. وسعت الطواقم الحاكمة في البلدان هذه، وفي جوار إقليمي يتوسع، في الجمع بين لحمة الجماعة الأهلية الأقرب وتسليطها على «عصب» الدولة المحكومة وبين الانخراط في القضية القومية الأعرض والمفترضة قضية سياسية ودولية.
الازدواج
وكان نصيب لبنان – من طريق عروبة مسلميه، والجماعات الفلسطينية المقيمة، والجوار السوري المضطرب والنزاعات العربية المحتدمة، ومن طريق رجحان الكفة المسيحية في دولة ومجتمع من غير عصبية أهلية قوية ومن غير غلبة – من النزاعات والاضطرابات، ولا يزال نصيبه منها عريضاً. ففي اثناء اليومين اللذين شهدا المقتلة بكترمايا وتتمتها، في 28 و29 نيسان، لفظت محكمة أمن الدولة المصرية العليا حكمها في قضية خلية «حزب الله» الأمنية الاستخبارية والمسلحة بمصر. ويتصدر القضية لبنانيان شيعيان تسترا بأوراق ثبوتية تنسبهما الى الطائفة السنية، وهما حصّلا الأوراق من طرق مشروعة ومزورة معاً. فالحزب العتيد استدخل الأجهزة الإدارية، والعسكرية والأمنية والتقنية والتعليمية، على نحو ما استدخل أهل كترمايا سلك التحقيق القضائي. وحصلت المقتلة قبل نحو اسبوع من ذكرى 7 أيار (مايو) 2008 الثانية. واستبق اجتياح الجماعة الخمينية المسلحة انحاء كثيرة من لبنان، وشل إدارات الدولة إما استدخالاً وإما ترهيباً، تعليق القضاء في البلدة الشوفية والنقض عليه، و «اجتياح» الأهل الأدلة والآثار والدواعي المحتملة، وتجديد الأهل لحمتهم تحت لواء عدالة «طبيعية» وقريبة من مصادر الاجتماع. وكان اللبنانيون، وفيهم الشوفيون، يخوضون غمار انتخابات بلدية واختيارية سوّغت، على زعم «الأحزاب السياسية»، وهي قناع الجماعات الأهلية على باب السلطة الوطنية، تقديم «العائلات»، وروابطها ومراتبها وحزازاتها، على روابط ومراتب وحزازات أهلية أوسع دائرة، وأعقد ترتيباً.
وفي وقت حصول الجريمتين كان تقرير الأمين العام للأمم المتحدة في القرار 1559، والقرار عنوان انضباط لبنان ودولته بمعايير المجتمع الدولي وعلاقات الدول السيدة بعضها ببعض، يثير لغطاً داخلياً (وسورياً) لا ينفك منه إجراء واحد من الإجراءات الديبلوماسية في عالم تهيمن على علاقاته وديبلوماسيته مسألة الإرهاب ومصادره وطرقاته وتسلحه وتمويله. ويدور اللغط المحموم على فصل داخل أهلي متنازع ومنقسم عن خارج يحاول لجم العنف والتضييق على تصديره في الشبكات «القومية» والمذهبية والإقليمية. وخَلَفَ تقريرُ بان كي مون (تيري رود – لارسن) زيارة وفد أمني أميركي الى بعض الممرات الحدودية والمرافئ، وقبلها اتفاقاً أميركياً – لبنانياً على هبة الى وزارة الاتصالات. وحشرت حادثة ضئيلة في محلة جبلية تطل على البقاع الشرقي الشمالي في الصراع الإقليمي والكوني. وفي غير بلد عربي، كان مصر (الخلية الأمنية) أم الإمارات (صرف لبنانيين مهاجرين) أم الكويت اليوم، والحبل على الغارب، يؤخذ لبنانيون خمينيون بجريرة ازدواج الولاء والهوية والتستر بالهوية الوطنية على أفعال أهلية.
وازودواج الجماعات الأهلية - وهو ليس وقفاً على شيعة لبنان على رغم بلوغه على أيدي كتلتهم ذروة لا سابقة لها – يتصل بفصول السيطرة السورية والإيرانية، وقبلها الفلسطينية، على لبنان وفلسطين، ومن طريقهما على النظام الفوضوي العربي. وتترجح السيطرة على «الدول» الوطنية بين حد عروبي – فلسطيني عام ومجرد وبين حد أهلي وعصبي ضيق، وتجمع الحدين في «مقاومة» وجودية مطلقة. والعناصر الثلاثة هي جزء من آلة حرب تشنها بعض الجماعات الأهلية على الجماعات الأخرى المنافسة، وعلى دول تحكم بعضَها وتحول دون تبلور هيئاتها. وصوغ الذريعة الفلسطينية على النحو الذي صاغتها عليه «الدولة» الصدامية بالعراق والأسدية بسورية والحرسية بإيران، والحركة الفلسطينية المسلحة قبلها، ليس امراً ثانوياً، على ما تنبه واقعة كترمايا. فالمعنى الفلسطيني، على الصورة المتداولة برواية «المقاومة»، هو الأقرب إلى صورة الجماعة الأهلية وأركانها المهددة. وعلى المثال نفسه، يستدعي الثأر للجماعة الأهلية فعلاً لا يسبر «عمقه»، ويختصر العلاقة الاجتماعية في حق الدماء وفروعه، ويوقظ بربرية مدمرة تغفو على حدود الجماعات
جددت جريمتا القتل اللتان ارتكبتا بكترمايا، إحدى بلدات إقليم الخروب (الشوف من جبل لبنان)، في 28 نيسان (ابريل) و29 منه، معضلة أهلية لبنانية، وعربية، حادة ومزمنة، هي معضلة علاقة الأهل بالدولة. وإجمال الجريمتين المختلفتين اختلافاً عميقاً في باب واحد يغفل الفرق بينهما، وينحاز الى مرتكبي الجريمة الثانية «رداً» على الأولى وانتصافاً من فاعلها - المفترض على ما يجب القول الى حين التلفظ بحكم قضائي مبرم ومعلل. ويسهم الإجمال، بهذه الحال، في الاشتباه الأهلي المعضل. فالجريمة الأولى، على ما علم منها، فردية، ارتكبها واحد فرد، هو محمد سليم مسلم. والقاتل المفترض رجل مصري (39 عاماً على قول والده) يقيم بالبلدة الشوفية اللبنانية مع والدته (المصرية)، المتزوجة زيجة ثانية رجلاً لبنانياً من كترمايا، ومقيماً في البلدة بجوار أسرة الضحايا الأربع، يوسف أبو مرعي (78 عاماً) وزوجته كوثر (79 عاماً) وبنتي ابنتهما، آمنة الرواس (9 أعوام) وزينة الرواس (7 أعوام)، المولودتين لرنا يوسف أبو مرعي، المدرّسة، ومحمد مصطفى الرواس، طليقها المهاجر الى بلد من بلدان الخليج منذ سنتين. وقتل العامل المصري، والنازل البلدة منذ أشهر قليلة من طريق أمه، ضحاياه وجيرانه «انتقاماً» وعدواناً. والداعي الى القتل المروِّع هذا يتصل، من طريق أو أخرى، بمحمد سليم مسلم ونوازعه وغرائزه وميوله. وراج في أعقاب القتل وشيوع الخبر في البلدة، أن محمد سليم مسلم كان فاراً ومتوارياً، ألجأته الى الفرار شبهة اعتداء جنسي ارتكبه أو حاول في حق واحدة من نساء البلدة. فما ان عرفت الجريمة – وكانت رنا يوسف أبو مرعي، ام البنتين القتيلتين وبنت الزوجين القتيلين أول من دخل البيت ورأى الهول الفظيع الذي خلفه القاتل – حتى سعى الشرطيون في أثر محمد، والقوا عليه الشبهة وربما التهمة. وحامت شبهة «مبدئية»، في أثناء لحظات، على طليق المرأة وأم الطفلتين، على ما يحصل في أحوال الطلاق المدمر.
القتل مرتين
وأما جريمة القتل الأخرى فكانت ثأراً من القاتل المفترض، واقتصاصاً منه. وقتل القاتل المصري مرتين أو في وقتين: الأول حين اقتاد شرطة المفرزة القضائية والأدلة الجنائية ودرك مخفر البلدة ومخفر شحيم (كرسي القضاء) القاتل المفترض الى مسرح الجريمة، فرآه أحد الأهالي وأفشى الخبر في الأهل والأقارب والجيران فهاجموا الشرطيين والدركيين، وانتهوا الى محمد فضربوه وجرحوه جروحاً ثخينة. والوقت الثاني حين علم الأهل والأقارب والجيران ان طريدهم الذي خلصه حراسه وفريق التحقيق من القتل نقله هؤلاء الى مستشفى قريب، ببلدة سبلين، فهجموا على المستشفى، وأخرجوا منه «رجلهم» وقتلوه ذبحاً هناك، وأوثقوا جثته الى سيارة، وجابوا المنطقة بالجثة العارية وجروها على الأرض، وبلغوا بها ساحة كترمايا غير بعيد من مكان الجريمة، على مقربة من مسجد البلدة، فعلقوا جثة القتيل مشنوقاً وعارياً إلا من كساء عورة الى عمود كهرباء (الى «آرمة» معدنية لطبيب وجراح غدد محلي متخرج من فرنسا مثبتة الى عمود الكهرباء). وعلى هذا، فالقتل الثاني، على خلاف الأول، بادر إليه بعض أهل كترمايا جماعة أو جميعاً. فاقتصوا من القاتل المفترض لتوّهم وتو الجريمة، وجَزُوه بمقتلته، وبضحاياه العزل، ذبحاً وعرياً فاضحاً وتعزيراً وسحلاً وجراً وشنقاً. واستبقوا تحقيق الشرطة، والتحقيق القضائي، والمحاكمة الطويلة، ومرافعات الادعاء والدفاع، واقتصوا بأيديهم من قاتل لم يشكّوا، ولا يشكون في ارتكابه القتل الذريع، واستضعافه مسنين قاربا الثمانين وولدين لم يبلغا العاشرة، وربما في أشياء أُخر يريدون طيها.
وحين تحفظ قادة سلك أمني، هم رؤساء قوى الأمن الداخلي، عن القتل الثأري، وانتزاع القاتل من أيدي التحقيق القضائي والأمني، وعن مباشرة الانتقام والتمثيل عنوة وانتهاك جثة الجاني القتيل، وأعلنوا عزمهم على معاقبة المقصرين من رجال جهازهم، وملاحقة المشتركين في قتل القاتل و «منظمي» القتل – رد بعض وجوه أهل كترمايا على الشق الثاني من التهديد، فقالوا انهم لا يقبلون ملاحقة أحد منهم، ولن «يسمحوا» بالملاحقة والمحاسبة، على زعم رئيس بلدية البلدة. وسكت أقرب نواب الدائرة الانتخابية إليها، أي نائبا إقليم الخروب السنيان. وأحدهما عضو في كتلة نواب المستقبل، وهي كتلة رئيس الوزراء سعد الحريري، والثاني عضو في كتلة اللقاء الديموقراطي، وهي كتلة النائب الدرزي وليد جنبلاط. والبيان الذي ندد بالجريمتين، واستنكر طريقة «الاقتصاص من الجاني»، وأعلن «رفض» الانتقام، وقعه الحزب التقدمي الاشتراكي، ولم توقعه الكتلة النيابية «الجنبلاطية» المختلطة.
وتعاقب على إبداء الرأي في الحادثة المزدوجة، وفي شطرها الثاني على وجه الخصوص، الوزراء «المعنيون» وقمم الإدارات الأمنية. وترجحت بيانات الوزراء ورجال الأمن بين الثناء على النفس و «الدولة» وبين الإقرار بالتقصير و «النقد الذاتي» وابتداء التحقيق في الثغر التي نفذ منها قتلة القاتل. فثمة أمنيون يظن انهم أفشوا موعد الكشف على موقع الجريمة، ونقل الجاني إليه. وثمة من ارتكب «خطأ جسيماً في سوء تقدير الموقف الميداني ولعدم توفير الحماية اللازمة والكافية للمشتبه فيه»، على قول رأس الأمن الداخلي. وأثنى رجال الدولة على سرعة رصد رجال الأمن الجاني المظنون، «في أقل من 24 ساعة»ن على قول وزير الداخلية. وتذرع الوزير بالسرعة، وهي قرينة على الكفاءة وعلى رعاية «غضب الأهالي ووجعهم» وحمل همومهم وحقهم في عدالة قوية وحاسمة، الى معاتبة الأهالي على «استيفا(ئهم) الحق بغير الطرق القضائية... و (استسهالهم) إحقاق العدالة بهذه الصورة». وقدم الوزير لملاحظته على انتهاج طريق العدالة الأهلية والثأرية والتطاول على القضاء والحق العام والاعتداء على ذراعه، بالإقرار بـ «(شناعة) الجريمة» وإبداء «تفهمه» الغضب والوجع اللذين عصفا بـ «ذوي الضحايا».
وأحجم وزير الداخلية عن جهر رأي قاطع وحاسم في «قضاء» الأهل الثأري والتمثيلي، ومباشرتهم المحاكمة أو الحكومة بأنفسهم ومن تلقائهم. فتحفظه عن الغضب والوجع، وعما قادا الأهالي إليه، وشفعه التحفظ بالتفهم، لا يحملانه على الإدانة المواربة إلا قياساً على اضطلاع القضاء بمهماته. وهذه المهمات هي «كشف ملابسات الجريمة» و «(إجراء) التحقيقات بإشراف القضاء» و «إحقاق العدالة». وتختصر عدالة الأهل مهمات القضاء الى غاية عاجلة هي «إحقاق العدالة» على الظن ومن غير إرجاء يقتضيه إثبات لا تشوبه شائبة من شك. فينكر الوزير على الأهل الغاضبين والموجوعين اختصار الطريق الى عدالة آتية ومحقَّقة تستجيب رغبتهم المفترضة فيها، أي في العدالة، ولكن من طريق القضاء والتزام معاييره. وعلى هذا، فالأهل ملومون على خروجهم على القضاء، واستعجالهم ما كانوا محصليه وبالغيه بواسطة القضاء ويده الأمنية، لو تحلوا ببعض الصبر وتجملوا به. وهم ليسوا ملومين (وهذا تأويل من الكاتب) على طلبهم الثأر وشفاء غليلهم المحموم الى مكافأة الجريمة المروعة – والعدوان الضاري على الفتاتين والشيخين الضعفاء والقاصرين عن المدافعة – ببربرية مثلها وعدلها.
... والغايتان
ويريد وزير الداخلية، ورجل الدولة بهذه الحال، الإغضاء عن ان غاية عدالة الأهل المباشرة، والمنكرة على الجاني الرهيب شبهة إنسية (أو إنسانية) تتوجه عليها عدالة القضاء بإجراءاتها الشكلية الصارمة، ليست غاية عدالة القضاء والحق. وهي نقيضها وخلافها على بعض الأوجه. فعدالة الأهل متوحشة، على معنى الصفة الحرفي، أي هي تخرج المعتدي ومنتهك حياة أمثاله وأهله من الاجتماع الإنسي، المتأنس والمتمدن، وتلفظه الى عراء خارج وحشي وحيواني. ولا ريب في ان تابعية محمد سليم مسلم المصرية، وإقامته بالبلدة من طريق امرأة هي امه «يسّرتا» على «ذوي الضحايا» قتله على هذا النحو، وحالتا بينهم وبين احتساب رد أهلي. فذُبح ذبح البهيمة التي حاكاها فعله (وكان القاتل المفترض قضَّاباً لحاماً في مسلخ البلدة أو الناحية وقتل ضحاياه بسكين هي بعض عدة عمله)، وجُرَّ جر الماشية النافقة الى المزبلة أو إلى المحرقة. وأبيح، وهو ميت وأشوه ولحم من غير بدن، لمُثلة جماعية انتهكت بقية إنسيته المبطلة والمنفية. وحين علق الأهل «العادلون» الذبيح الأشوه، والمعفر بالتراب والإسفلت والحجار والشوك، تذكروا حقوق البدن الإنسي فستروا عورته. وهم عفّوا عن خصيه. وحق بدن القاتل في الستر هو حق (أنظار) المتفرجين في العفة. و «العمل» الذي تتولاه الجماعة الهائجة، على هذا النحو، يقطع أواصر الجاني المفترض بالاجتماع الإنسي، ويلفظه منه لفظاً جسدياً ورمزياً (معنوياً) متشنجاً وراعفاً. ويبسط اللفظ على الملأ السلطان العظيم الذي تباشره الجماعة على آحادها و «أجزائها». فهو (اللفظ) يعكس آية الإدخال والدمج والضوي، ويقلبها رأساً على عقب، ويذكر بما تضمره هذه، أي آية الإدخال، من شروط كثيرة، وبما يفترضه التأنيس من ضبط. فالقتل يجدد سلطان الجماعة، ويستعرضه في «احتفال» يتطاول الى اركان السلطان هذا. ويستبق هذا كله تأنيس القضاء المجرمَ، بالغاً ما بلغت جريمته من الفظاعة والوضاعة. فالقضاء يؤنس من يحاكم حين يكلمه ويخاطبه ويسأله عن اسمه وسنه وإقامته ومهنته، إلخ.. وعن صحة ارتكابه ما ارتكبه، وداعيه إليه. ويفترض هذا، وغيره مثله، «تحت» بهيمية القاتل ووراءها، نواة إنسية جامعة يتحدر منها أفراده من غير استثناء.
ويدفع المجتمع، من طريق هذا الإقرار، ترتيبه ناسه وأهله على مراتب جوهرية أو «وجودية» متفاوتة. فمثل هذا الترتيب يُحل نفي بعض «الأهل» – أي من يأهلون ويقيمون أو صادفت ولادتهم وإقامتهم بمكان – من الرابطة المشتركة والأولى التي يترتب عليها تقييد السلطان المطلق والاستعمال المحض، والحط الى درك الآلة أو البهيمة، والقتل المرسل والعشوائي. وتحريم هذه، أي النفي من الرابطة المشتركة وتقييد السلطان المحض...، يتفادى انتشار القتل الذريع في الجماعات وداخلها وضرب الناس وجوه بعض بالسيف، على ما كان العرب يكنون على حروب الأهل وتناسل العنف والثارات. وعُدَّت حرمة النفس من القتل، والنهي عنه، أصلاً عاماً، وقيدت الإباحة بشروط. والتمس التعويض من القتل من سبل تحفظ الحياة، ولو جانية وعادية، تفادياً لعدوى القتل وطاعونه، على حسب تشبيه «أوديبوس ملكاً». وإخراج القصاص من ايدي الأهل والجماعة الأهلية، وقصره على هيئة ليست من الأهل، ولا تميل ميلهم ولا تخالطهم ولا تلابسهم، يتحاشى الغرق في دوامة رد الدم على الدم، و «عدالة» الردود، على معنى مساواتها الواحدة الأخرى لا إلى حد غير حد التفاني او الإفناء المتبادل، على قول نظرية الردع النووي الهوبسية.
فـ «رفع» الاقتصاص من القاتل الـــى راعي المصلحة العامة، وحصن الناس والأهل من الإفناء المتبادل، يلغي مساواة الدمين، دم القتيل الأول ودم القتيل الثاني ثأراً للأول. فولي دم القتيل، إذ وجدت دولة ولم يعدم قضاء، ليس أهله أو عاقلته (دائرة الأقرباء القبليين أو الأهليين الذين ينتدبهم العرف الى الأخذ بالحق وإلى احتمال «الثمن» أو الغرم)، وإنما هو الحق العام، أو المدعي العام التمييزي في هــرمنا القضائي. ويتولى الحق العام، باسم عمومية غير أهلية، القصاص (وهو مرادف الحياة التي للناس «لو يعلمون») على وجه لجم العنف، وإطفاء إشعاله الثارات في النفوس. ويقتضي «رفع» الاقتصاص من عنف الأهل المحمومين الى برد العدالة المجردة من الأهواء والميل حمل الجاني المفترض على إنسان تام شرائط الإنسية السوية من عقل وإرادة ومشاعر... وهو يُقاضى على شرط المسؤولية عما فعل. وإذا لم يقاض على هذا الشرط جاء نفيه من الأهلية الاجتماعية، ومن الحياة كلها في النظم التي تلحظ الإعدام، متعسفاً وداعياً لدوام العنف. والمحاكمة، من بابها الى محرابها، عنصرها، أو هواؤها الذي تتنفسه وماؤها الذي تسبح فيه، هو اللغة وكلام العلانية العامة والمشتركة. ويُخرج كلام العلانية الى الملأ وينشر على رؤوس الأشهاد «أخباراً» تطويها الأسر والعائلات في ثنايا مظلمة ومعتمة، وتُكره من قد يستقوي بنشرها على الصمت. والظاهر البربري قد يتستر بهياجه وثورته على خطة باردة تحتسب قطع الكلام جزءاً من استراتيجية ثقافية وأخلاقية وسياسية متماسكة. وهذا كذلك وجه من وجوه القيام على الدولة والخروج عليها.
والقصاص لا يمحو الجريمة، ولا يحيي ضحيتها بديهة، وليس كفء الجناية أو الجريمة على وجه مادي. ويذهب كثر الى ان الإعدام لا يردع عن الارتكاب، وموت القتلة لا يقوم مقام العظة او الدرس او الصارف عن المثل، على ما يشهد إحصاء مقارن بين المجتمعات التي تقضي قوانينها به وبين تلك التي ألغته. ولعل ما يحسمه القصاص على أنواعه ودرجاته، ويبطله من أساسه، هو جواز الجريمة أو جواز تسويغها والاحتجاج لها، والتذرع بذرائع ترسيها على «علة» تحمل الجاني قبل غيره على قبولها. فيتولى القضاء، بهذه الحال، إنكار «العلة» المزعومة، ودحض عليتها أو سببيتها ورد منطقها. وينبغي ان يكون من يتولى هذا غير مغرض، ولا صاحب مصلحة أو ميل. ويفترض احتجاج القاضي، شأن احتجاج المدعي العام ومحامي الدفاع والاتهام، الفهم فيمن يقاضى، وأن يكون هو وعاقلته ومن لف لفه وفي طبقته، «ذا حجى». وإذا قصّر القضاء وجهازه المعقد عن إبطال حجج الجاني وإطفائها المعنوي و «الأدبي»، وعن البرهان على شططها واعتلالها في ميزان المظنون أو المتهم الجاني، فهذا قد ينهض قرينة على ضعف ضبط القضاء، على ما كان يقال في بعض رواة الأخبار وأهل اللغة. فمحل الإبطال والضبط هو النفوس، وإبطال وضبط لا يطاولان النفوس ناقصان.
عدالة الأهل
وعلى رغم سكوت «الأهل» عن الرد على منكري اقتصاصهم من القاتل المفترض، استبق فعلُهم ردهم، و «قال» احتجاجهم المتوقع. وحجة الأهل، في مرآة فعلهم وعملهم، أن عدالة الأهل أبعد غوراً و «أعمـــق» من عدالة الدولة. والأهل وحدهم فـي مستطاعهم مكافأة «عمق» الجريمة، والفهـم عنها فهماً دقيقاً، وإدراك ما تبطنه مــــن مقدمـــــات وتستتبعه من نتائج. وهم وحدهم يسعهم الرد على الانتهاك المروع لأركان الاجتماع والتأنس والتمدن والضيافة وصرمها بنظير يخاله الأهل مساوياً ورادعاً. ويريد الأهل من تجنب مثول المعتدي عليهم جميعاً بين يدي الدولة، وعلانيتها الثرثارة، خنق قيل وقال يرمي الفتنة في صفوفهم، ويشق عصبيتهم المجتمعة على «عدوهم». فعلى خلاف ما ذهب إليه وزير الداخلية، المحامي والحقوقي، لا تسعى الجماعة الأهلية، البلدية في الحال هذه، وعدالة القضاء في غاية واحدة، بل هما تسعيان في غايتين مختلفتين. واختلاف الغايتين يستتبع، أو يفترض اختلافاً حاداً في الوسائل، إذا جاز تمييز الوسائل من الغاية أو الغاية من الوسائل.
ويدرج خروج جماعة كترمايا الأهلية على الدولة واقعة القتل المزدوجة في «ثقافة» اجتماعية وسياسية وعدلية عربية عريضة ومتجددة. وتجهر الواقعة المزدوجة (ولم نتناول منها إلا شقها الثاني المتاح) منازعة الجماعة الأهلية – المؤتلفة من عائلات «عشائرية» وإقامة بلدية واعتقاد مشترك وأحلاف وخلافات على مراتب – الدولة، وإداراتها ومنطقها الاجتماعي والقانوني أو الحقوقي المضمر، على السلطة. والسلطة التي تنازع الجماعةُ الأهلية الدولةَ عليها هي تلك التي انتزعتها الدولة، «دولة العدالة» وليس دولة السلطان السياسي والحربي والمالي، من الأمراء والأشراف المحليين ومحاكمهم المتفرقة المراجع، وأوكلت بها «سلطة» تعلو قوى الواقع كلها، وفيها قوة الدولة والحكام. وإذا كان «مثال» الدولة، الحديثة والديموقراطية المدنية، حسم المنازعة، فأخرج من أيدي الجماعات الأهلية السلاح («حق» الدماء) والقانون والجباية و (الانتقال على) الطرق والأمن تالياً، فالحق أن المثال لم يحسم المنازعة في المجتمعات العربية. فنسيج معظمها جماعات أهلية وعصبية، ودولها عصبيات متغلبة، بواسطة أجهزة الدولة المحدثة في أحيان كثيرة، تنازع عصبيات أخرى. ولحمة هذه أهلية، على المعنى المتقدم. وعوامل اللحمة هي ما تخالف به الجماعة الأهلية الجماعات الأخرى، ويضوي تماسكَها الرجراج، وتدفع به تفتتها الداخلي بوجه صوغ الروابط واللحمات والخلافات ومعنى السلطة ومواردها على أركان أخرى غير أركان العصبيات الأهلية ومعاييرها ودوائرها.
ومثلت الحروب الملبننة – منذ دبيبها في الأوصال اللبنانية المتصلة بالأوصال العربية، من طرق شتى ليست «الطريق» الفلسطينية و «طريق» «الداخلية السورية» أضيقها ولا أضعفها – على المنازعة العاصفة هذه. وآذنت الحروب، تحت اللواء العروبي والفلسطيني العام والمجرد وغير المعين، بتداعي مباني السلطة أو أدواتها ذات الصفة الأهلية الضعيفة والضيقة. وتوسلت الجماعات الأهلية والوطنية (المحلية) المتغلبة باللواء العروبي – الفلسطيني، وهو على حاله من العموم القومي والتجريد، الى تسييس سلطتها، وصبغها بصباغ الدولة السياسية، والتحرر الوطني، والمصالح القومية الجامعة ومناهضة الامبريالية والصهيونية. وتماسكت، تحت القناع السياسي القاهر والمزعوم، عصبيات أهلية كانت خالدة الى تقاليد رتيبة، وثارت عصبيات أخرى نفخ فيها أفق الدولة الوطنية القريب وأفق السلطنة أو الامبراطورية الإقليمية (العربية) الأبعد، والاستيلاء على أجهزة القوة فيها عنفواناً محموماً. فلم يكد عُشْر السبعين من القرن العشرين يمضي، غداة 1967، حتى انفجرت النزاعات الأهلية في الأردن ومصر ولبنان وسورية والعراق وبلدان أخرى، الى فلسطين نفسها. وكثرة عوامل الانفجار وموادها لا تحجب انبعاث العصبيات الأهلية، وإذكاءها بعضها بعضاً من طريق النزاع على السلطة الوطنية، وعلى «سلطة» إقليمية نافذة في الجماعات الأهلية المتفرقة، وتمتطي المطية الفلسطينية. وسعت الطواقم الحاكمة في البلدان هذه، وفي جوار إقليمي يتوسع، في الجمع بين لحمة الجماعة الأهلية الأقرب وتسليطها على «عصب» الدولة المحكومة وبين الانخراط في القضية القومية الأعرض والمفترضة قضية سياسية ودولية.
الازدواج
وكان نصيب لبنان – من طريق عروبة مسلميه، والجماعات الفلسطينية المقيمة، والجوار السوري المضطرب والنزاعات العربية المحتدمة، ومن طريق رجحان الكفة المسيحية في دولة ومجتمع من غير عصبية أهلية قوية ومن غير غلبة – من النزاعات والاضطرابات، ولا يزال نصيبه منها عريضاً. ففي اثناء اليومين اللذين شهدا المقتلة بكترمايا وتتمتها، في 28 و29 نيسان، لفظت محكمة أمن الدولة المصرية العليا حكمها في قضية خلية «حزب الله» الأمنية الاستخبارية والمسلحة بمصر. ويتصدر القضية لبنانيان شيعيان تسترا بأوراق ثبوتية تنسبهما الى الطائفة السنية، وهما حصّلا الأوراق من طرق مشروعة ومزورة معاً. فالحزب العتيد استدخل الأجهزة الإدارية، والعسكرية والأمنية والتقنية والتعليمية، على نحو ما استدخل أهل كترمايا سلك التحقيق القضائي. وحصلت المقتلة قبل نحو اسبوع من ذكرى 7 أيار (مايو) 2008 الثانية. واستبق اجتياح الجماعة الخمينية المسلحة انحاء كثيرة من لبنان، وشل إدارات الدولة إما استدخالاً وإما ترهيباً، تعليق القضاء في البلدة الشوفية والنقض عليه، و «اجتياح» الأهل الأدلة والآثار والدواعي المحتملة، وتجديد الأهل لحمتهم تحت لواء عدالة «طبيعية» وقريبة من مصادر الاجتماع. وكان اللبنانيون، وفيهم الشوفيون، يخوضون غمار انتخابات بلدية واختيارية سوّغت، على زعم «الأحزاب السياسية»، وهي قناع الجماعات الأهلية على باب السلطة الوطنية، تقديم «العائلات»، وروابطها ومراتبها وحزازاتها، على روابط ومراتب وحزازات أهلية أوسع دائرة، وأعقد ترتيباً.
وفي وقت حصول الجريمتين كان تقرير الأمين العام للأمم المتحدة في القرار 1559، والقرار عنوان انضباط لبنان ودولته بمعايير المجتمع الدولي وعلاقات الدول السيدة بعضها ببعض، يثير لغطاً داخلياً (وسورياً) لا ينفك منه إجراء واحد من الإجراءات الديبلوماسية في عالم تهيمن على علاقاته وديبلوماسيته مسألة الإرهاب ومصادره وطرقاته وتسلحه وتمويله. ويدور اللغط المحموم على فصل داخل أهلي متنازع ومنقسم عن خارج يحاول لجم العنف والتضييق على تصديره في الشبكات «القومية» والمذهبية والإقليمية. وخَلَفَ تقريرُ بان كي مون (تيري رود – لارسن) زيارة وفد أمني أميركي الى بعض الممرات الحدودية والمرافئ، وقبلها اتفاقاً أميركياً – لبنانياً على هبة الى وزارة الاتصالات. وحشرت حادثة ضئيلة في محلة جبلية تطل على البقاع الشرقي الشمالي في الصراع الإقليمي والكوني. وفي غير بلد عربي، كان مصر (الخلية الأمنية) أم الإمارات (صرف لبنانيين مهاجرين) أم الكويت اليوم، والحبل على الغارب، يؤخذ لبنانيون خمينيون بجريرة ازدواج الولاء والهوية والتستر بالهوية الوطنية على أفعال أهلية.
وازودواج الجماعات الأهلية - وهو ليس وقفاً على شيعة لبنان على رغم بلوغه على أيدي كتلتهم ذروة لا سابقة لها – يتصل بفصول السيطرة السورية والإيرانية، وقبلها الفلسطينية، على لبنان وفلسطين، ومن طريقهما على النظام الفوضوي العربي. وتترجح السيطرة على «الدول» الوطنية بين حد عروبي – فلسطيني عام ومجرد وبين حد أهلي وعصبي ضيق، وتجمع الحدين في «مقاومة» وجودية مطلقة. والعناصر الثلاثة هي جزء من آلة حرب تشنها بعض الجماعات الأهلية على الجماعات الأخرى المنافسة، وعلى دول تحكم بعضَها وتحول دون تبلور هيئاتها. وصوغ الذريعة الفلسطينية على النحو الذي صاغتها عليه «الدولة» الصدامية بالعراق والأسدية بسورية والحرسية بإيران، والحركة الفلسطينية المسلحة قبلها، ليس امراً ثانوياً، على ما تنبه واقعة كترمايا. فالمعنى الفلسطيني، على الصورة المتداولة برواية «المقاومة»، هو الأقرب إلى صورة الجماعة الأهلية وأركانها المهددة. وعلى المثال نفسه، يستدعي الثأر للجماعة الأهلية فعلاً لا يسبر «عمقه»، ويختصر العلاقة الاجتماعية في حق الدماء وفروعه، ويوقظ بربرية مدمرة تغفو على حدود الجماعات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق