المستقبل ، 23/5/2010
يذهب بعض مؤرخي (أو إخباريي) الجماعات اليمنية المعاصرين الى ان انقلاب ايلول 1962 العسكري و«الناصري» على نظام إمامة آل حميد الدين الزيدية الهادوية امتحن الزيديين اليمنيين كلاً وأفراداً، حكماً وعقيدة، جماعة أهلية على حدة من الجماعات اليمنية الأخرى وجماعة يمنية تشارك الجماعات الأخرى دولة واحدة، عامة ومشايخ على معنيي المشيخة القبلي والعلمي المذهبي - امتحنهم امتحاناً عسيراً. فقيام ضباط عاميين، من عامة القبائل، ومختلطين مذهباً، على حكم يستظهر بشروط الإمامة، نسباً وفقهاً ومعتقداً، وخلعهم الحكم المستقر منذ نحو ألف عام متصلة، هز أركان الولاء للسلطة، ورابطة الجماعات الداخلية وأواصر الجماعات بعضها ببعض وكلها بقمة السلطة والأسرة المتربعة بهذه القمة. والحق ان الانقلابيين لم ينقلبوا على «القمة» الحميدية وحدها، وعلى شيخها الإمام الناصر لدين الله أحمد بن يحيى بن حميد الدين وحده. وكان انقلابهم أو قيامهم على أسس الإمامة ومشروعيتها، وعلى الأبنية الاجتماعية التي نهضت عليها ورست الوقت الطويل الذي سبق أواخر 1962. ولعل أحد أقوى الأسس والأبنية الأساس أو البناء العلمائي. فهؤلاء «عشرات منهم» قتلوا و«صفوا»، على قول محمد عايش («مأرب»، 4/11/2007)، واعتقل المئات، والباقون إما راقبتهم أجهزة الحكم الجديد الأمنية والبوليسية أو قيدتهم بإقامة جبرية وألزمتهم الاقتصار على دائرة جغرافية لا يتعدونها في رواحهم ومجيئهم.
[المرتبتان ونشأة الطائفية
وعلماء الزيدية الممتحنون عليهم مبنى علاقة «مجتمع» الزيديين اليمنيين بالسلطة أو الإمامة، وهم عروة الجماعة الداخلية، والوصلة بينها وبين الحكم «المركزي». والزيدية، على نحو ما صاغها علماء معتقدها وآداب اجتماعها معاً، تجمع دوام مجتمعها وعروته الى ولايتها الحكم في البلاد التي ينزلها الزيديون وسيطرتهم على الحكم. ويستدل علماء الزيدية على قوة الجمع والربط هذه بالسابقتين العراقية والإيرانية: فترتب على انهيار الزيدية السياسي، أواخر خلافة بني العباس، اندثارها الملي، بما هي معتقد جماعة من الناس أو ملتهم. وأدى سقوط الزيدية الجيلية والديلمية السياسي بإيران الى انصرام المذهب. وهذا ناجم على الأرجح، عن «اقتصار» المذهب الزيدي على فقه المعاملات دون اركان الإيمان وميتافيزيقاه، على خلاف الإمامية الإثني عشرية. فلا اعتقاد وجوب الإمامة في المتحدرين حصراً من ولدي فاطمة بنت الرسول وابن عمه، الحسن بن علي والحسين بن علي، ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا الخروج على الإمام الظالم، أصول إيمانية «عميقة» أو غيبية. وهي، في الأحوال كلها، لا تسوغ تقية ولا كتماناً يدفع بهما المؤمن المريد غائلة سلطان يخالفه المعتقد والإيمان. وإلى هذا، فاعتقاد هذه الأصول ونظام الاجتماع الأهلي والسياسي الذي يأخذ أو يهتدي بها واحد. فإذا انحل هذا الاجتماع، وهو ينحل إذا خسر أصحابه إمامته أو رئاسته وسلطته، لم يبق ما يدفع به أهل الملة تفرقهم أو ما يقيمون به رابطتهم وعروتهم. فهم أهل ظاهر وعلانية، ولا يدعون علماً بباطن يتناقلونه، أو يتناقله علماؤهم، ويرسي إيمانهم وسلطانهم على معان يحفظونها وتحفظ مُسكتهم «على الدهر«.
ولم تكن الزيدية، جماعة ومعتقداً، طائفية ما استقرت في رأس الحكم والسلطة، وما كفل «الأئمة» الحكام تماسك الجماعة، وضووا إليهم سلك العلماء، وقام هذا منهم مقام الرقيب الملاحظ المعنوي ومقام السند والمسوّغ معاً. فالسلك يتولى، مع الإمام وشرطته، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهو يتعهد الخروج على الحاكم الظالم، ويسلطه على الإمام سيفاً معنوياً مستقلاً يضارع به، نظرياً، رجحان كفة الأداة الحكومية والإدارية والعصبية (الإمامية) على كفة العلماء في ميزان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسلكه (سلكهما). والموازنة والرجحان نظريان حقيقة. فالسلك العلمي، على رغم استظهاره القوي بسلسلة الفقهاء «المجددين» وهو اللقب الذي يلقب به كبير علماء وقته وعصره-، وبمدارسه وأوقافه ومكانة العلماء، وعلمهم المتصل بفقه علي بن زيد من غير عصمة ولا لدنية، ينزل مرتبة ثانية (وليس ثانوية) ومتضافرة من بنية الجماعة الزيدية. فكفة الإمام الحاكم ترجح كفة الشيخ المجدد في حال المنازعة، من غير ان يعني رجحانها إسكات الشيخ. وعلى هذا، وسع مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي (1911 2007)، باسم ولاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنكار إجازة الإمام أحمد بن يحيى بن حميد الدين بث الأغاني (الوطنية) الملحنة من إذاعة صنعاء. ولم يدعه إنكاره أو معارضته الى إخراج آخر حاكم يمني من آل حميد الدين من أئمة الزيدية أو الطعن عليه.
ولكن انهيار الإمامة السياسية، وانتصاب سلطة أو ولاية للحكم من غير سند يدمج عصب الجماعة وهيئتها ومراتبها في معتقدها المتوارث، نجم عنهما أمران متلازمان: الأول خسارة الجماعة يقينها بدوامها وبقائها، في ضوء التجربتين العراقية والإيرانية والمغربية (على قول بعضهم)، واختبارها جواز «موتها» أو اندثارها. والأمر الثاني هو انقلاب لحمتها طائفية، على معنى تقدم المعتقد، ورجاله وعلمائه عاملَ تماسك ولحمة على الإمامة السياسية والنسبية وتتويجها بنيان الجماعة المتضافر والعضوي. والأمر الأول، أي زعزعة اليقين بالدوام واستدخال احتمال الاندثار وجدانَ الجماعة، أدى في الثلث الأول من القرن العشرين، حين أوّلت جماعات من المسلمين، ومثقفون إسلاميون، سيطرة القوى الغربية («المسيحية») الكبرى على معظم العالم الإسلامي على وجه التدمير والتهديد بالإفناء المعنوي أدت الى نشأة إسلام سياسي وحركي حمل «الغرب» والعالم المعاصر كله، على عدو ديني ووجودي تالياً. وحمل علاقة العالمين واحدهما بالآخر على حرب «عالمية» وخلاصية لا نهاية لها إلا بانتصار عالم على آخر، والتسلط عليه وإبادته، إذا قدر له («والغرب» هو محل التهمة أولاً) ذلك. ويترتب على هذا «الرأي» نهج عام يجعل الحرب الشاملة والمعلنة على «الغرب» و «ادواته» المحلية أو الوطنية، أو «مجتمع الحرب» على قول خميني، نظاماً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً أمثل، هو نظام «المقاومة»، على ما تزعم الجماعة الشيعية المسلحة بلبنان. وأداة هذه الحرب هي الجماعة الطائفية. وهي تفترض استقلال الجماعة بنفسها، وقطع روابطها بأبنية الدولة الوطنية، من وجه أول، وتخليص ما تنفرد به الجماعة الأهلية من الجماعات الأخرى، ومما تشترك فيه وإياها في إطار الدولة الوطنية، من وجه ثان. ويفترض قيام الجماعة الطائفية بنفسها انتصاب «دعاة» المذهب الجدد لسيادة أهل المذهب على أركان (قيادية) جديدة. فيتصدى للقيادة سلك مختلف من الدعاة، يجمع اصحابه الفتوة (سناً) والاجتهاد (في الأصول والمقاصد من خارج البنية الفقهية الاعتقادية) والعمل («الجهاد») والقيادة الحزبية المركزية (على خلاف البنية الأهلية المرنة)، معاً.
وفي اثناء العقود الثلاثة التي أعقبت الانقلاب الجمهوري و «العامي» على الإمامة الحميدية، تقلب الزيديون، وجماعاتهم الإقليمية المتفرقة بصعدة والطائف ونجران الى «مهجر» صنعاء، بين مواقف وسياسات ومناهج مختلفة. وبرز تيار علمائي وفقهي، سلكي وفكري، تولى أمرين متضاربين ومتنازعين معاً: الأول هو الحؤول دون تهاوي سلك العلماء الزيديين، ومدارسهم وتعليمهم وتراثهم، وتصدعه تحت وطأة خروج رأس المذهب وبنيانه من قمة السلطة. وتعهد هذا الأمر، وناضل دونه كبير علماء الزيدية مجد الدين المؤيدي، تأليفاً وتدريساً ورعاية للشباب الزيدي المقبل على الدراسة ثم على القضاء والفتوى والتدريس، على مراتبها المتفرقة. وأيد «ثاني» علماء الزيدية، بدر الدين الحوثي، نهج المؤيدي هذا. فقام النهج، في شُعَبه المتضافرة، مقام لحمة الجماعة المؤتلفة، وهي المقصية من السلطة، والمتشرذمة شراذم وجماعات محلية وإقليمية. ووسع الجماعة الزيدية المنقسمة، والمتعرضة لتشعب الوظائف السياسية والاجتماعية داخلها، رص صفوفها والتحلق حول سلكها الطائفي والمذهبي. وافترض تحلقها هذا تمييز زيدية أهلية أو إقليمية، يسميها محمد عايش «مناطقية»، سياسية (على المعنى الأهلي)، من زيدية جامعة، اعتقادية ومذهبية. واقتصار الشرط أو الشق هذا على «المعارضة»، على معنى اعتزال العمل السياسي اليومي وترك الخوض في الخلافات بين كتل الحكم وأشياعها، أسهم في حفظ اللحمة المذهبية لقاء الإقرار بتفرقها الأهلي والسياسي، وفصل الهوية الجماعية من الجسم المتفرق. وكان هذا صدوعاً بنتائج الحرب الأهلية والقبلية والإقليمية التي عصفت باليمن غداة «الثورة السبتمبرية»، وامتثالاً لمترتبات خروج الجسم المذهبي المتماسك من اتحاده بالدولة الإمامية.
[ الخيبة الجمهورية
والأمر الثاني الذي تولاه التيار العلمائي الفقهي هو مراجعة اركان الاعتقاد التي دمجت، الى حين وقوع الانقلاب «الناصري»، لحمة الجماعة الزيدية في الإمامة ونظامها. فلم ينكر علماء الزيدية على الجمهورية حقها المبدئي في الحكم والولاية، ولم يبطلوا الحق هذا، على رغم عسر الرأي، ومناقضته اليقين التاريخي والاختباري بكفالة ولاية الحكم دوام المذهب، وبارتهان الدوام للإمامة السياسية والمرتبية. ورجع الزيديون، او معظم علمائهم، عن اعتقاد الإمامة «ضرورة» وأصلاً. واشترطوا على الحاكم، لقاء الإقرار به وبحكمه وإجراءاته، شرط «العدالة«. وكان مجد الدين المؤيدي غداة نحو 15 عاماً على الانقلاب العسكري والجمهوري، و8 أعوام على انسحاب القوات المصرية من اليمن، واستقرار الجمهورية رأساً ضعيفاً وثابتاً بصنعاء بادر الى كتابة بيان بعضه في «الإمامة وشروطها». وأفتى بجواز استقامة «حكومة» لا يتولاها أو يتصدرها من هم من ذرية حسنية أو حسينية. ولعل فك الزيدية من شرط النسب الإمامي» «ثورة» اعتقادية باعدت الزيدية والزيديين من الإمامية الإثني عشرية، ومن منزعها الإيراني المهدوي، فوق البعد المذهبي والفقهي والتاريخي المزمن والحاد.
وصادف تقريباً، على معنى اتفاق الوقت من غير قطع في سببية الواقعة، صادف صدورُ البيان افتتاح احد شيوخ السلفية اليمنية، مقبل بن هادي الوادعي مدرسة دمّاج بمديرية وادعة القريبة من صعدة. وناظر الوادعي (منذ 1978 1979) في رسائله، وأبرزها «رياض الجنة في الرد على أعداء السنة» و «الطليعة في الرد على غلاة الشيعة»، على قول أحمد محمد الدغشي («الحوثيون/ دراسة منهجية شاملة»، عن المورد للإعلام بقطر والدار العربية للعلوم ببيروت، 2010)، علماء الزيدية في العقيدة. وصادف، مرة أخرى، ابتداء الوادعي مناظرته ومطارحاته وردوده على الزيدية الهادوية انتصار روح الله خميني وتشيعه الإمامي والخلاصي والقومي بإيران.
وحين أعلن علي عبدالله صالح، مع دمج اليمن الجنوبي والاشتراكي في جمهورية يمنية واحدة في 1990، إجراءات سياسية وتنظيمية «تعددية»، على ما وصفت، خرج علماء الزيدية، وأولهم المؤيدي، من اعتكافهمم وتحفظهم. وأقبلوا على العمل السياسي والحزبي العلني. فعمدوا، أعياناً وشباناً ناشطين في صنعاء أولاً وفي بلاد الزيدية من بعدها، الى إنشاء حزب سياسي جماهيري وانتخابي، سموه حزب الحق. وأسس الحزب أو أعلن غداة التوحيد المستعجل، وجمعه شطرين فقيرين ومتباينين، كلاهما عاجز عن استيعاب الآخر وحكمه بالإقناع. وصادف التوحيد أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، كانت حرب الخليج الثانية السبب فيها، أرجعت الى اليمن عشرات الآلاف من العاطلين عن العمل. وأيد العلامة المؤيدي المنزع هذا، وتصدر لائحة أوائل الداعين الى إنشاء الحزب. وحين أخرجت الفكرة الى العمل ترأس الشيخ هيئة الحزب العليا. وأرفق العلماء إنشاء الحزب وإعلانه بفتوى مشتركة، بلورت ما كان المؤيدي دعا إليه في منتصف السبعينات المنصرمة، وذهبت الى طي الإمامة ومثالها واشتراطها في الإمام نسباً الى الحسنين، وارتضت الديموقراطية «مذهباً» سياسياً، ونهج حكم، وسبيلاً الى الحكم.
وخاض الحزب الجديد أول انتخابات عامة، في 1993، ونصب عيني قيادته الفوز بمقاعد محافظة صعدة الستة. وزكى العلماء المرشحين. ونافس هؤلاء مرشحي حزب الرئيس اليمني، المؤتمر الشعبي العام. وفاز من مرشحي حزب الحق الستة اثنان، أحدهما حسين مجد الدين المؤيدي، نجل العلامة البارز. و«انتصار» الحزب الرئاسي في معقل الزيدية المتجددة والمنبعثة تحت لواء العلماء عشية حرب انفصال الجنوب اليمني الأولى، وفي غمرة «هجوم» جهادي على اليمن بدأت طلائعه مع عودة «الأفغان» المحليين الى بلادهم وحملة اغتيالات قادة الجنوب نهض (الانتصار) قرينة على تعرج السياسة الجمهورية والتوائها. فحزب الرئيس، المتربع بصنعاء منذ 1978 والمستقوي على القبائل وأعيانها بالجنوبيين المدنيين و «العلمانيين» المفترضين الى استقوائه الأول بالقوات المسلحة وأجهزة الأمن والإدارة، لم يتجاوز عدد نوابه 121 نائباً من 301 في انتخابات نيسان 1993، وفاز الحزب الاشتراكي الجنوبي بمقاعد الجنوب كلها (58 مقعداً)، وفاز إسلاميو «الإصلاح» بـ 62 مقعداً. فلا عجب إذا «اضطر» صالح الى الفوز في بلاد الأطراف المتنازعة بوسائل تتقنها الأجهزة المستولية منذ وقت طويل على السلطة المركزية. وتمزج الوسائل هذه الاستمالة والترغيب باستعراض القوة والتزوير. واتهم حزب الحق السلطات اليمنية بالتوسل بالأمرين، على ما هو متوقع.
وجاء وقعُ الترغيب والتزوير، جواباً عن انعطاف الجماعة الزيدية الطائفية إلى الإقرار بالجمهورية في سياقة تعبئة وأزمة اجتماعيتين عاميتين عميقتين فاقم عمقهما اشتراك الشباب فيهما اشتراكاً كثيفاً جاء بالغ الضرر السياسي. فـ «الجمهورية» لم تف بوعدها، ولم تستجب توقع «الطائفة» المتغيرة والمنقلبة تدريجاً من غلبة بنية قبلية ومحلية متقطعة، من غير رأس إمامي جامع وتقليدي، الى كنف عروة أهلية وحزبية جامعة يتصدرها سلك العلماء، ويصل الشباب والمتعلمون و «العامة» بين أجزائها وأبعاضها المتفرقة. وحين دعا حزب الحق الى إقامة مخيم بصعدة، سماه مخيم الفتح، وناشد الشباب أولاً قصده، لبى 25 ألفاً دعوة الحزب ومناشدته. ولعل المخيم هذا، وتعبئته الشبابية والأهلية والعامية الجامعة، هو فاتحة نهج جماهيري وطائفي سارت عليه الحركة الحوثية من بعد، ومالت به صوب الإعداد العسكري والإيديولوجي الحاد. ولا ينكر المراقب اللبناني وجه شبه وقياس بين «الحركة» الزيدية وبين «الحركة» الصدرية قبل نحو 25- 30 عاماً. وقد لا يكون الترغيب والتزوير الجمهوريان، واصطناع حزب الرئيس نيابة عن صعدة غير دقيقة ولا مناسبة، الباعث على بلورة جسم أهلي، عامي وفتي ناشط وطائفي. ولكن الترغيب والتزوير والاصطناع اتفقت مع انقلاب الجماعة الزيدية، سياسة واجتماعاً وبنية سكان وحاجات، من حال الى حال. وحصل هذا في وقت سياسي واجتماعي، يمني وإقليمي دولي، راكم التطلعات والتحولات من غير طاقة على استجابتها ومعالجتها من طرق غير طرق المحاصصة، وتأليب الجماعة بعضها على بعض، وقمع الشطر «المتطرف»، وتحكيم الإدارة المحلية في المسائل المتنازعة. ولاحظ محمد عايش (في مقالته في «مأرب») وجهي المشكلة فكتب في الوجه الأول: لم تقتصر «صحوة» المدرسة الزيدية على صعدة وامتدت الى بلاد الزيدية التاريخية، «وهو ما بدا للنظام الحاكم في صنعاء امراً جد خطير» نجم عنه «تفريغ بطيء للعصبية القبلية التي يستند إليها (الحكم) في شرعيته لمصلحة عصبية أخرى هي العصبية المذهبية». ولاحظ على الحكم، في الوجه الثاني، سعيه في «تفادي هذا الخطر... في شكل تغذية رسمية لخلافات داخلية ما لبثت ان شطرت الحراك الزيدي في صعدة الى نصفين: مجد الدين المؤيدي... وبدر الدين الحوثي وجماعة الشباب المؤمن (و) أبنائه...».
[ قوة العصبيات الضعيفة
ولا ريب في اضطلاع سياسة الحكم ورأسه بدور راجح في انعطافات الجماعة (أو الجماعات) الزيدية وتحولاتها. والدور هذا، على وجه منه، دعت الحكم إليه أطوار الحركة الزيدية نفسها، ومنازعاتها ومواردها الداخلية وسعيها في معالجة مشكلاتها الطارئة. فـ «تفريغ» العصبية القبلية، وتبلور عصبية «مذهبية»، أو أهلية مشتركة وجامعة، هما طور جديد من أطوار دينامية مجتمعية عامة. وهي أصابت اليمن وتصيبه على نحو ما أصابت لبنان وتصيبه، على رغم بعد الشقة الاجتماعية والسياسية بين البلدين. ونجمت الدينامية المجتمعية هذه عن استيلاء نخب حديثة، مولودة من اجهزة الدولة وإدارتها ووظائفها، على مراكز الحكم والسلطة. والنخب المستولية هذه ابطلت الموازين العصبية السابقة، وعطلت تحكيمها في الخلافات والعوائد والحصص. وأحلت محل المعايير وقاعد التحكيم الباطلة معايير وقواعد أدت الى استيلاء قمم النخب على حصص كبيرة من «الدولة» وإلى توزيعها توزيعاً مجحفاً وبعيداً من التكافؤ والتناسب. و«حرر» الاستيلاء الجماعات التي كانت الدولة تأتلف منها ومن أحلافها ومنازعاتها، من مكانة طبقاتها الحاكمة أو النافذة، ودالتها الطاغية. وحملت الجماعات على توحيد منازعها و«حركاتها»، وتخطي حواجزها الداخلية، ودمج عامتها وعصبياتها الضعيفة في إطار أهلي مشترك يقوي العامة والعصبيات الضعيفة في وجه العصبيات الغالبة السابقة («الطبقات القديمة»)، وفي وجه الحكام الجدد («الطبقات الجديدة» الإدارية) المستولين على موارد الدولة وأجهزتها، وعلى «حقوق» المركز المعنوية الرمزية والمادية، الوطنية. وورثت الجماعات هذه إرثاً تاريخياً فقهياً أعملته في أبنيتها السياسية والاجتماعية، وفي أحلافها واتصالها كما في عداواتها وحواجزها. وأوَّلت الجماعات إرثها على ضوء حدودها الجغرافية السياسية الجديدة، وتقطيع الحدود أوصالها القديمة، وضوء هجرات شبابها وحركات السكان، ووسائط الاتصال والإعلام، والحوادث السياسية الكبيرة مثل الثورات والحروب التي حفل الشرق الأوسط بها في العقود الأربعة الأخيرة.
فلم يكن مخيم الفتح بصعدة، وهو جمع 25 ألفاً معظمهم من الشبان، واقعة فريدة ومنقطعة، بل كان ابتداء حركة اجتماعية أهلية متعاظمة، عدداً ووظائف، لم تعتم ان نصبت نواة قيادية مركزية واحدة، ثم منقسمة. وإنشاء منظمة الشباب المؤمن بصعدة هو مرآة هذا الطور. واستجاب «الشباب المؤمن» إباحة الدستور الجمهوري التعدد السياسي والثقافي والتعليمي. فحشد من هم في سن الدراسة في مخيمات صيفية إعدادية أو تثقيفية. وأوكل الى مدرسين تدريس مقررات في مواد دينية، مثل الفقه والحديث والتفسير والكلام، وأخرى في مواد «دنيوية» أو عامة مثل الخطابة والمسرح والأناشيد والحوار. وأقبل الجمهور من صعدة، ثم من المحافظات والمدن. وينقل أحمد محمد الدغشي عن تقرير أعده مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (في تموز 2008) ان عدد «الطلاب» في المخيمات بلغ 15 ألفاً الى 18 ألفاً. وانتشرت 67 حلقة تدريس ومدرسة، لم تقتصر على صعدة وتخطتها الى 9 محافظات يمنية، وتخطت اليمن الى مهاجر الخليج مثل قطر، على قول نبيل الصوفي (مقالة في «الحياة»، 3/6/2007). وبلغت حصة صعدة من «المدارس» 24، وحصة عمران 6، وحجة 12، وصنعاء وذمار والمحوية 15، للمحافظة الواحدة 5 مدارس، الى مدرسة واحدة في كل من إب وتعز (بحسب إحصاء أحمد عايض، في إيجاز الدغشي).
وتولى منتدى الشباب المؤمن، وهو غير حزب الحق أو البنية السياسية الانتخابية التي خاضت الجماعة الزيدية الانتخابات النيابية في إطارها، في 1993، تدريس الشباب «العلم الشريف» وفنونه، و«إعداد الداعية الى الله ثقافياً وأخلاقياً وروحياً وسلوكياً بما يمكنه من نشر الوعي والفضيلة» (محمد يحيى سالم عزان، أمين عام «الشباب» الأسبق)، و «تعريف الطالب بإخوانه من الشباب وتمتين أواصر الأخوة الإيمانية». ويوازن الشق الدعوي المذهبي، ومعينه العلم الزيدي الهادوي، شق توحيدي يفترض مشتركاً يدعو الى «ترسيخ الوحدة بين المسلمين» وترك ما «يثير الخلاف ويمزق الأمة»، على قول عزان نفسه. ويبدو المنتدى حركة جماهيرية عريضة راعت، على نحو جلي، بروز كتلة الشباب ورجحان كفتها عدداً ودوراً، واحتسبت انتشارها الجغرافي في الوطن اليمني، وفي المهاجر القريبة، وتولت تجديد مثاقفتها المذهبية الطائفية، عماد هويتها المشتركة. وتنزع الأبواب الثلاثة، السن والانتشار والهوية، الى إحياء نضالي وسجالي قوي ومتماسك. فـ «الشباب المؤمن»، على بعض وجوهه، إنما يثبت لحمة «أهل» و «طائفة» يتهددها، من داخل، أفول دور الأهل الوالدين والأصلاب في تعليم أولادهم وتأهيلهم ونقل مقومات الهوية إليهم اولاً، وانتشار «الأولاد» في المحافظات والمهاجر ثانياً. وتَهدَّدَها، من خارج، إحياء آخر هو الإحياء السلفي القريب، والمستقر بصعدة منذ نيف وعقد من السنين.
ورفدت السلفية المقاتلة، ذات المنشأ الأفغاني، مع عودة المقاتلين العرب، وفيهم شطر يمني وحضرموتي راجح، الى ديارهم سلفية الدعاة والمدرسين المحليين. وتولى «الشبابُ المؤمن» إعداد دعاة من الشبان في مخيمات دراسية ورياضية مشتركة وطويلة (صيفية) رداً على ضعف اللحمة الداخلية، وتداركاً للضعف و «ذباً عن البيضة» الزيدية، على ما كان يقال في شرائط الخلافة، و «الجهاد» دونها. والتنويه بـ «ترسيخ الوحدة بين المسلمين»، على نقيض إثارة الخلاف وتمزيق الأمة، تنديد يكاد لا يكون مضمراً بالنواة الوادعية في قلب «كرسي» الزيدية الهادوية.
والمسألة هذه كانت بمنزلة القلب والركن من الخلاف الذي لم يلبث ان دب في «الشباب المؤمن»، وفرقه، ومكّن لجناحه الحوثي على أجنحة أخرى أضعف تماسكاً وتعصباً. وظهر الخلاف الى العلن حين تحفظ مجد الدين المؤيدي عن بعض مقرر التدريس في دورات المنتدى، وأنكر «مسخ» المقرر، بذريعة «الانفتاح والتجديد»، اصولاً زيدية عامة، وخروجه عنها. وكان تحفظ المرجع، أو أحد المرجعين (والثاني هو بدر الدين الحوثي)، سبباً في تعليق المنتدى إحدى دوراته الصيفية. والأرجح أن أول الخلاف وقع حين ألف احد مؤسسي منتدى الشباب المؤمن، علي احمد الرازحي وهو تتلمذ على الشيخين، رسالة مختصرة في العقيدة الزيدية كانت جزءاً من المقرر الإعدادي. ورأى العلماء، وهم المراجع، في الرسالة تراخياً ورجوعاً عن إثبات حقوق «أهل البيت». وتكني العبارة عن مسألة النسب واشتراطه في الإمامة. والمسألة مدار المناقشات الفقهية والسياسية العريضة والقديمة، والمتجددة مع انهيار الحكم الحميدي، ثم مع استقرار الجمهورية، واخيراً مع «ولاية الفقيه» الخمينية. وحقق تلميذان آخران، محمد عزان وعبدالكريم جدبان، والاثنان من دعاة «الشباب» الأوائل ونواة قيادة المنتدى، كتباً في العقيدة والتاريخ الزيدي. وعمد المحققان، شأن الرازحي قبلهما في رسالته، الى حذف بعض عبارات التنديد والجرح في حق المخالفين القدماء والمحدثين، وفيهم بعض أئمة الفقه الزيدي من غير الهادويين. ومسألة «سب الصحابة»، بحسب العبارة المتعارفة، باب خلاف على طريق «التأليف بين المذاهب» وتوحيد المسلمين، لم ينفك موصداً على رغم محاولات فتحه الحثيثة.
[ التباس «الانفتاح» و «الانكفاء«
وأراد اصحاب المنتدى الأوائل، يتقدمهم محمد عزان، توسيع دائرة المواد الإعدادية والتثقيفية، وتحديث بعضها وتنويعه، وتحريض الشباب على المناقشة والتطرق الى المسائل الخلافية من غير كبت، ولو اقتضى هذا تجديد النظر في مسائل تقليدية وأصولية مثل مسألة علم الأئمة وعصمتهم من الغلط، أو مسألة تأويل بعض آيات التنزيل في الصفات، أو مسألة التفسير والحاجة (أو انتفاء الحاجة) الى علم الكلام أو علم أصول الفقه فيه. وحمل هذا دعاة «الانفتاح» المفترضين الى السعي في تهذيب عبارات الخلاف المذهبي والسياسي، وتقليل شأن النسب في مسألة الولاية والإمامة. والحق ان الأمور والمواقف تختلط في المسائل هذه على نحو يعصى معه على المراقب تخليص الخيوط المتشابكة بعضها من بعض. ومن أحوال الاختلاط، على سبيل التمثيل، ان الشيخ المؤيدي وهو صاحب الدعوة «التاريخية» الى ترك شرط النسب الفاطمي على القائم بالإمامة، وإلى ضرب من الصلح مع الجمهورية، كان من طعن في رخاوة مقرر التدريس في مخيمات «الشباب المؤمن»، وطلب تعليق المخيمات الى حين استيفاء شرط الوضوح المذهبي والتشدد. وينتسب أنصار «الانفتاح» الى تدريس المؤيدي، وإلى «إمامته» العلمية وآرائه في المسألة. وينكر الأنصار هؤلاء على «خصومهم»، ولم يكن هؤلاء وهم ابناء الشيخ الآخر بدر الدين الحوثي خصوماً في النصف الأول من العقد العاشر، ينكرون عليهم انكفاءهم على هوية زيدية صلبة ومتشددة، وتمسكهم بالركن النسبي. ولاحظ، من ناحية أخرى، باحثون ومراقبون ان بيان علماء الزيدية غداة التوحيد اليمني، في 1991، وهو ثبّت مذهب المؤيدي في منتصف السبعينات الى صفة الإمامة الاستدلالية وغير الضرورية هذا البيان خلا من تواقيع كبار علماء صعدة، وفي مقدمهم المؤيدي والحوثي. وعد هذا قرينة على التباس وترجح لم يُخرج منهما إلا بعد وقت. ويزيد الالتباس إبهاماً وغموضاً أن على رأس من صاغوا البيان العتيد ووقعوه أحمم بن محمد الشامي، أمين عام حزب الحق، الحزب السياسي والانتخابي الزيدي، وراعيه ليس غير مجد الدين المؤيدي، وهو رئيس هيئته العليا، على ما مر، ومن زكى ترشح الستة الى الانتخابات في 1993. ويخلص أحمد محمد الدغشي في المسألة الى ان «إشكال غياب أي من رموز الزيدية في صعدة من البيان التاريخي للزيدية مثال تساؤل واستغراب، ومبعث فرضيات يصعب القطع بواحدة منها!» (ص 39- 40 من كتابه «الحوثيون...»).
ولم تخل مناقشة الأصول والأركان هذه من ملابسات ظرفية وجزئية، ووقائع أرخت بظلها على المواقف المتباينة فالمتنازعة. فيُظن في رأي محمد عزان، أحد أوائل «الشباب المؤمن»، في الإمامة عموماً وفي موقعها من التعليل التاريخي والدور الذي اضطلعت به وقد تضطلع به، تقليلاً خفياً وموارباً بعض الشيء. ويحمل بعض المراقبين هذا الرأي على قصد يبيته محمد عزان وأصحابه «الشباب المؤمنون»، هو إضعاف «إمامة» مجد الدين المؤيدي نفسه، بحسب استدلال محمد عايش (في مقالته بـ «مأرب»). ولا يبدد الالتباس لا إجماع «الشباب المؤمن»، وفي قيادته الأولى محمد ابن بدرالدين الحوثي، على تأييد بيان 1991، ولا مشاركتهم في الانتخابات الأولى بعد التوحيد، ولا قولهم جميعاً، شباباً وعلماء، أن «الأمة غدت هي صاحبة الاختيار لحكامها اليوم، من غير تقيد بنسب ولا عرق» على ما جاء في البيان العتيد (ويماشي هذا قاعدة «ولاية الأمة على نفسها» من غير ولي فقيه، على قول الفقيه الإمامي الإثني عشري اللبناني الراحل محمد مهدي شمس الدين). ويتصل الأمر، على وجه مشتبه، بأنساب من يتصدون للكلام في المسائل المتنازعة. ففي مرحلة متأخرة من الخلاف احتج عزان والرازحي وجدبان على المؤيدي، وعزوا رأيه فيهم الى انهم الثلاثة ليسوا هاشميين، ورأيهم في النسب مرده الى عامية نسبهم. ونزع الرأي هذا الى التقليل من شأن الإمامة و «الأئمة» على أنواعهم أم لزم دائرة المسألة الفقهية وعناصرها واستتباعها القول بعصمة الأئمة جماعة وليس أفراداً فلا ريب في ان هذا الرأي رتب على صاحبه موقفاً من السياسة الجمهورية، ومن دولتها ورئاستها، يميل الى التأليف والمهادنة. فيروي محمد عزان ان رئيس الجمهورية («رعاه الله» على قوله في صحيفة «26 سبتمبر» الحكومية) خصص للمنتدى «أربع مئة ألف ريال شهرياً». ويقر عزان بأن المخصص هذا ذهب الى جناحه، صاحب «النظرة الجديدة» والدعوة الى «(فتح) آفاق المنطقة، و (تجديد) فكرها». فهو رد على مجد الدين المؤيدي، وما قاله الشيخ الكبير والمسن فيه وفي أصحابه، ونعيه عليهم «طيشهم»، فقال: «إننا نريد ان نخرج صعدة من حالة العزلة القاتلة التي هي فيها، ونريد ان ننفتح على الآخرين، ونريد ان يعرف الناس ان في الدنيا غيرهم، وأنه يوجد مذاهب أخرى، وأنه يوجد ناس آخرون...».
وهذا الرأي متأخر زمناً، وهو يصح ربما في أحوال الثمانينات، وكان فائتاً في الوقت الذي قيل فيه (آذار 2007، في «26 سبتمبر»، عن أحمد محمد الدغشي) منذ أعوام طويلة، ويتناول بعض العلماء المسنين المحليين. فالحق ان ما كان تجديداً سياسياً واجتماعياً في أوائل العقد العاشر، مثل إنشاء حزب الحق وبيان العلماء الزيدية في الحكم والولاية ونشاط منتدى الشباب المؤمن والترشح الى الانتخابات، عصفت به حوادث العقد المتزاحمة والمتسارعة ومنازعاته، اليمنية والإقليمية الدولية. وتولى جيل خالف من الناشطين والمنظرين معاً التفكير فيه وصوغه في ضوء جلاء القوات السوفياتية عن أفغانستان، والحرب العراقية الإيرانية، وإذكاء «حماس» الانتفاضة الأول بفلسطين، واندلاع العنف الإسلامي في الجزائر، وأطوار ولاية الفقيه الخمينية بإيران، وظهور أعراض التيار «الجهادي» والإرهاب الأولى، وجلاء القوات الإسرائيلية عن لبنان. وتوجت السياقة هذه، غداة 11 ايلول 2001 الحملتان الأميركيتان والأوروبيتان على أفغانستان في تشرين الثاني 2001 والعراق في آذار 2003. وزعزعت حربُ الجنوب والشمال، والمفاوضة الإقليمية على الحدود اليمنية، وجنوح جناح من التيار الإسلامي المحلي الى العنف والتشدد، وتضعضع التحالف الحاكم... زعزعت هذه أركان الدولة اليمنية الجديدة وروابط الجماعات الأهلية بالحكم.
يذهب بعض مؤرخي (أو إخباريي) الجماعات اليمنية المعاصرين الى ان انقلاب ايلول 1962 العسكري و«الناصري» على نظام إمامة آل حميد الدين الزيدية الهادوية امتحن الزيديين اليمنيين كلاً وأفراداً، حكماً وعقيدة، جماعة أهلية على حدة من الجماعات اليمنية الأخرى وجماعة يمنية تشارك الجماعات الأخرى دولة واحدة، عامة ومشايخ على معنيي المشيخة القبلي والعلمي المذهبي - امتحنهم امتحاناً عسيراً. فقيام ضباط عاميين، من عامة القبائل، ومختلطين مذهباً، على حكم يستظهر بشروط الإمامة، نسباً وفقهاً ومعتقداً، وخلعهم الحكم المستقر منذ نحو ألف عام متصلة، هز أركان الولاء للسلطة، ورابطة الجماعات الداخلية وأواصر الجماعات بعضها ببعض وكلها بقمة السلطة والأسرة المتربعة بهذه القمة. والحق ان الانقلابيين لم ينقلبوا على «القمة» الحميدية وحدها، وعلى شيخها الإمام الناصر لدين الله أحمد بن يحيى بن حميد الدين وحده. وكان انقلابهم أو قيامهم على أسس الإمامة ومشروعيتها، وعلى الأبنية الاجتماعية التي نهضت عليها ورست الوقت الطويل الذي سبق أواخر 1962. ولعل أحد أقوى الأسس والأبنية الأساس أو البناء العلمائي. فهؤلاء «عشرات منهم» قتلوا و«صفوا»، على قول محمد عايش («مأرب»، 4/11/2007)، واعتقل المئات، والباقون إما راقبتهم أجهزة الحكم الجديد الأمنية والبوليسية أو قيدتهم بإقامة جبرية وألزمتهم الاقتصار على دائرة جغرافية لا يتعدونها في رواحهم ومجيئهم.
[المرتبتان ونشأة الطائفية
وعلماء الزيدية الممتحنون عليهم مبنى علاقة «مجتمع» الزيديين اليمنيين بالسلطة أو الإمامة، وهم عروة الجماعة الداخلية، والوصلة بينها وبين الحكم «المركزي». والزيدية، على نحو ما صاغها علماء معتقدها وآداب اجتماعها معاً، تجمع دوام مجتمعها وعروته الى ولايتها الحكم في البلاد التي ينزلها الزيديون وسيطرتهم على الحكم. ويستدل علماء الزيدية على قوة الجمع والربط هذه بالسابقتين العراقية والإيرانية: فترتب على انهيار الزيدية السياسي، أواخر خلافة بني العباس، اندثارها الملي، بما هي معتقد جماعة من الناس أو ملتهم. وأدى سقوط الزيدية الجيلية والديلمية السياسي بإيران الى انصرام المذهب. وهذا ناجم على الأرجح، عن «اقتصار» المذهب الزيدي على فقه المعاملات دون اركان الإيمان وميتافيزيقاه، على خلاف الإمامية الإثني عشرية. فلا اعتقاد وجوب الإمامة في المتحدرين حصراً من ولدي فاطمة بنت الرسول وابن عمه، الحسن بن علي والحسين بن علي، ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا الخروج على الإمام الظالم، أصول إيمانية «عميقة» أو غيبية. وهي، في الأحوال كلها، لا تسوغ تقية ولا كتماناً يدفع بهما المؤمن المريد غائلة سلطان يخالفه المعتقد والإيمان. وإلى هذا، فاعتقاد هذه الأصول ونظام الاجتماع الأهلي والسياسي الذي يأخذ أو يهتدي بها واحد. فإذا انحل هذا الاجتماع، وهو ينحل إذا خسر أصحابه إمامته أو رئاسته وسلطته، لم يبق ما يدفع به أهل الملة تفرقهم أو ما يقيمون به رابطتهم وعروتهم. فهم أهل ظاهر وعلانية، ولا يدعون علماً بباطن يتناقلونه، أو يتناقله علماؤهم، ويرسي إيمانهم وسلطانهم على معان يحفظونها وتحفظ مُسكتهم «على الدهر«.
ولم تكن الزيدية، جماعة ومعتقداً، طائفية ما استقرت في رأس الحكم والسلطة، وما كفل «الأئمة» الحكام تماسك الجماعة، وضووا إليهم سلك العلماء، وقام هذا منهم مقام الرقيب الملاحظ المعنوي ومقام السند والمسوّغ معاً. فالسلك يتولى، مع الإمام وشرطته، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهو يتعهد الخروج على الحاكم الظالم، ويسلطه على الإمام سيفاً معنوياً مستقلاً يضارع به، نظرياً، رجحان كفة الأداة الحكومية والإدارية والعصبية (الإمامية) على كفة العلماء في ميزان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسلكه (سلكهما). والموازنة والرجحان نظريان حقيقة. فالسلك العلمي، على رغم استظهاره القوي بسلسلة الفقهاء «المجددين» وهو اللقب الذي يلقب به كبير علماء وقته وعصره-، وبمدارسه وأوقافه ومكانة العلماء، وعلمهم المتصل بفقه علي بن زيد من غير عصمة ولا لدنية، ينزل مرتبة ثانية (وليس ثانوية) ومتضافرة من بنية الجماعة الزيدية. فكفة الإمام الحاكم ترجح كفة الشيخ المجدد في حال المنازعة، من غير ان يعني رجحانها إسكات الشيخ. وعلى هذا، وسع مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي (1911 2007)، باسم ولاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنكار إجازة الإمام أحمد بن يحيى بن حميد الدين بث الأغاني (الوطنية) الملحنة من إذاعة صنعاء. ولم يدعه إنكاره أو معارضته الى إخراج آخر حاكم يمني من آل حميد الدين من أئمة الزيدية أو الطعن عليه.
ولكن انهيار الإمامة السياسية، وانتصاب سلطة أو ولاية للحكم من غير سند يدمج عصب الجماعة وهيئتها ومراتبها في معتقدها المتوارث، نجم عنهما أمران متلازمان: الأول خسارة الجماعة يقينها بدوامها وبقائها، في ضوء التجربتين العراقية والإيرانية والمغربية (على قول بعضهم)، واختبارها جواز «موتها» أو اندثارها. والأمر الثاني هو انقلاب لحمتها طائفية، على معنى تقدم المعتقد، ورجاله وعلمائه عاملَ تماسك ولحمة على الإمامة السياسية والنسبية وتتويجها بنيان الجماعة المتضافر والعضوي. والأمر الأول، أي زعزعة اليقين بالدوام واستدخال احتمال الاندثار وجدانَ الجماعة، أدى في الثلث الأول من القرن العشرين، حين أوّلت جماعات من المسلمين، ومثقفون إسلاميون، سيطرة القوى الغربية («المسيحية») الكبرى على معظم العالم الإسلامي على وجه التدمير والتهديد بالإفناء المعنوي أدت الى نشأة إسلام سياسي وحركي حمل «الغرب» والعالم المعاصر كله، على عدو ديني ووجودي تالياً. وحمل علاقة العالمين واحدهما بالآخر على حرب «عالمية» وخلاصية لا نهاية لها إلا بانتصار عالم على آخر، والتسلط عليه وإبادته، إذا قدر له («والغرب» هو محل التهمة أولاً) ذلك. ويترتب على هذا «الرأي» نهج عام يجعل الحرب الشاملة والمعلنة على «الغرب» و «ادواته» المحلية أو الوطنية، أو «مجتمع الحرب» على قول خميني، نظاماً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً أمثل، هو نظام «المقاومة»، على ما تزعم الجماعة الشيعية المسلحة بلبنان. وأداة هذه الحرب هي الجماعة الطائفية. وهي تفترض استقلال الجماعة بنفسها، وقطع روابطها بأبنية الدولة الوطنية، من وجه أول، وتخليص ما تنفرد به الجماعة الأهلية من الجماعات الأخرى، ومما تشترك فيه وإياها في إطار الدولة الوطنية، من وجه ثان. ويفترض قيام الجماعة الطائفية بنفسها انتصاب «دعاة» المذهب الجدد لسيادة أهل المذهب على أركان (قيادية) جديدة. فيتصدى للقيادة سلك مختلف من الدعاة، يجمع اصحابه الفتوة (سناً) والاجتهاد (في الأصول والمقاصد من خارج البنية الفقهية الاعتقادية) والعمل («الجهاد») والقيادة الحزبية المركزية (على خلاف البنية الأهلية المرنة)، معاً.
وفي اثناء العقود الثلاثة التي أعقبت الانقلاب الجمهوري و «العامي» على الإمامة الحميدية، تقلب الزيديون، وجماعاتهم الإقليمية المتفرقة بصعدة والطائف ونجران الى «مهجر» صنعاء، بين مواقف وسياسات ومناهج مختلفة. وبرز تيار علمائي وفقهي، سلكي وفكري، تولى أمرين متضاربين ومتنازعين معاً: الأول هو الحؤول دون تهاوي سلك العلماء الزيديين، ومدارسهم وتعليمهم وتراثهم، وتصدعه تحت وطأة خروج رأس المذهب وبنيانه من قمة السلطة. وتعهد هذا الأمر، وناضل دونه كبير علماء الزيدية مجد الدين المؤيدي، تأليفاً وتدريساً ورعاية للشباب الزيدي المقبل على الدراسة ثم على القضاء والفتوى والتدريس، على مراتبها المتفرقة. وأيد «ثاني» علماء الزيدية، بدر الدين الحوثي، نهج المؤيدي هذا. فقام النهج، في شُعَبه المتضافرة، مقام لحمة الجماعة المؤتلفة، وهي المقصية من السلطة، والمتشرذمة شراذم وجماعات محلية وإقليمية. ووسع الجماعة الزيدية المنقسمة، والمتعرضة لتشعب الوظائف السياسية والاجتماعية داخلها، رص صفوفها والتحلق حول سلكها الطائفي والمذهبي. وافترض تحلقها هذا تمييز زيدية أهلية أو إقليمية، يسميها محمد عايش «مناطقية»، سياسية (على المعنى الأهلي)، من زيدية جامعة، اعتقادية ومذهبية. واقتصار الشرط أو الشق هذا على «المعارضة»، على معنى اعتزال العمل السياسي اليومي وترك الخوض في الخلافات بين كتل الحكم وأشياعها، أسهم في حفظ اللحمة المذهبية لقاء الإقرار بتفرقها الأهلي والسياسي، وفصل الهوية الجماعية من الجسم المتفرق. وكان هذا صدوعاً بنتائج الحرب الأهلية والقبلية والإقليمية التي عصفت باليمن غداة «الثورة السبتمبرية»، وامتثالاً لمترتبات خروج الجسم المذهبي المتماسك من اتحاده بالدولة الإمامية.
[ الخيبة الجمهورية
والأمر الثاني الذي تولاه التيار العلمائي الفقهي هو مراجعة اركان الاعتقاد التي دمجت، الى حين وقوع الانقلاب «الناصري»، لحمة الجماعة الزيدية في الإمامة ونظامها. فلم ينكر علماء الزيدية على الجمهورية حقها المبدئي في الحكم والولاية، ولم يبطلوا الحق هذا، على رغم عسر الرأي، ومناقضته اليقين التاريخي والاختباري بكفالة ولاية الحكم دوام المذهب، وبارتهان الدوام للإمامة السياسية والمرتبية. ورجع الزيديون، او معظم علمائهم، عن اعتقاد الإمامة «ضرورة» وأصلاً. واشترطوا على الحاكم، لقاء الإقرار به وبحكمه وإجراءاته، شرط «العدالة«. وكان مجد الدين المؤيدي غداة نحو 15 عاماً على الانقلاب العسكري والجمهوري، و8 أعوام على انسحاب القوات المصرية من اليمن، واستقرار الجمهورية رأساً ضعيفاً وثابتاً بصنعاء بادر الى كتابة بيان بعضه في «الإمامة وشروطها». وأفتى بجواز استقامة «حكومة» لا يتولاها أو يتصدرها من هم من ذرية حسنية أو حسينية. ولعل فك الزيدية من شرط النسب الإمامي» «ثورة» اعتقادية باعدت الزيدية والزيديين من الإمامية الإثني عشرية، ومن منزعها الإيراني المهدوي، فوق البعد المذهبي والفقهي والتاريخي المزمن والحاد.
وصادف تقريباً، على معنى اتفاق الوقت من غير قطع في سببية الواقعة، صادف صدورُ البيان افتتاح احد شيوخ السلفية اليمنية، مقبل بن هادي الوادعي مدرسة دمّاج بمديرية وادعة القريبة من صعدة. وناظر الوادعي (منذ 1978 1979) في رسائله، وأبرزها «رياض الجنة في الرد على أعداء السنة» و «الطليعة في الرد على غلاة الشيعة»، على قول أحمد محمد الدغشي («الحوثيون/ دراسة منهجية شاملة»، عن المورد للإعلام بقطر والدار العربية للعلوم ببيروت، 2010)، علماء الزيدية في العقيدة. وصادف، مرة أخرى، ابتداء الوادعي مناظرته ومطارحاته وردوده على الزيدية الهادوية انتصار روح الله خميني وتشيعه الإمامي والخلاصي والقومي بإيران.
وحين أعلن علي عبدالله صالح، مع دمج اليمن الجنوبي والاشتراكي في جمهورية يمنية واحدة في 1990، إجراءات سياسية وتنظيمية «تعددية»، على ما وصفت، خرج علماء الزيدية، وأولهم المؤيدي، من اعتكافهمم وتحفظهم. وأقبلوا على العمل السياسي والحزبي العلني. فعمدوا، أعياناً وشباناً ناشطين في صنعاء أولاً وفي بلاد الزيدية من بعدها، الى إنشاء حزب سياسي جماهيري وانتخابي، سموه حزب الحق. وأسس الحزب أو أعلن غداة التوحيد المستعجل، وجمعه شطرين فقيرين ومتباينين، كلاهما عاجز عن استيعاب الآخر وحكمه بالإقناع. وصادف التوحيد أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، كانت حرب الخليج الثانية السبب فيها، أرجعت الى اليمن عشرات الآلاف من العاطلين عن العمل. وأيد العلامة المؤيدي المنزع هذا، وتصدر لائحة أوائل الداعين الى إنشاء الحزب. وحين أخرجت الفكرة الى العمل ترأس الشيخ هيئة الحزب العليا. وأرفق العلماء إنشاء الحزب وإعلانه بفتوى مشتركة، بلورت ما كان المؤيدي دعا إليه في منتصف السبعينات المنصرمة، وذهبت الى طي الإمامة ومثالها واشتراطها في الإمام نسباً الى الحسنين، وارتضت الديموقراطية «مذهباً» سياسياً، ونهج حكم، وسبيلاً الى الحكم.
وخاض الحزب الجديد أول انتخابات عامة، في 1993، ونصب عيني قيادته الفوز بمقاعد محافظة صعدة الستة. وزكى العلماء المرشحين. ونافس هؤلاء مرشحي حزب الرئيس اليمني، المؤتمر الشعبي العام. وفاز من مرشحي حزب الحق الستة اثنان، أحدهما حسين مجد الدين المؤيدي، نجل العلامة البارز. و«انتصار» الحزب الرئاسي في معقل الزيدية المتجددة والمنبعثة تحت لواء العلماء عشية حرب انفصال الجنوب اليمني الأولى، وفي غمرة «هجوم» جهادي على اليمن بدأت طلائعه مع عودة «الأفغان» المحليين الى بلادهم وحملة اغتيالات قادة الجنوب نهض (الانتصار) قرينة على تعرج السياسة الجمهورية والتوائها. فحزب الرئيس، المتربع بصنعاء منذ 1978 والمستقوي على القبائل وأعيانها بالجنوبيين المدنيين و «العلمانيين» المفترضين الى استقوائه الأول بالقوات المسلحة وأجهزة الأمن والإدارة، لم يتجاوز عدد نوابه 121 نائباً من 301 في انتخابات نيسان 1993، وفاز الحزب الاشتراكي الجنوبي بمقاعد الجنوب كلها (58 مقعداً)، وفاز إسلاميو «الإصلاح» بـ 62 مقعداً. فلا عجب إذا «اضطر» صالح الى الفوز في بلاد الأطراف المتنازعة بوسائل تتقنها الأجهزة المستولية منذ وقت طويل على السلطة المركزية. وتمزج الوسائل هذه الاستمالة والترغيب باستعراض القوة والتزوير. واتهم حزب الحق السلطات اليمنية بالتوسل بالأمرين، على ما هو متوقع.
وجاء وقعُ الترغيب والتزوير، جواباً عن انعطاف الجماعة الزيدية الطائفية إلى الإقرار بالجمهورية في سياقة تعبئة وأزمة اجتماعيتين عاميتين عميقتين فاقم عمقهما اشتراك الشباب فيهما اشتراكاً كثيفاً جاء بالغ الضرر السياسي. فـ «الجمهورية» لم تف بوعدها، ولم تستجب توقع «الطائفة» المتغيرة والمنقلبة تدريجاً من غلبة بنية قبلية ومحلية متقطعة، من غير رأس إمامي جامع وتقليدي، الى كنف عروة أهلية وحزبية جامعة يتصدرها سلك العلماء، ويصل الشباب والمتعلمون و «العامة» بين أجزائها وأبعاضها المتفرقة. وحين دعا حزب الحق الى إقامة مخيم بصعدة، سماه مخيم الفتح، وناشد الشباب أولاً قصده، لبى 25 ألفاً دعوة الحزب ومناشدته. ولعل المخيم هذا، وتعبئته الشبابية والأهلية والعامية الجامعة، هو فاتحة نهج جماهيري وطائفي سارت عليه الحركة الحوثية من بعد، ومالت به صوب الإعداد العسكري والإيديولوجي الحاد. ولا ينكر المراقب اللبناني وجه شبه وقياس بين «الحركة» الزيدية وبين «الحركة» الصدرية قبل نحو 25- 30 عاماً. وقد لا يكون الترغيب والتزوير الجمهوريان، واصطناع حزب الرئيس نيابة عن صعدة غير دقيقة ولا مناسبة، الباعث على بلورة جسم أهلي، عامي وفتي ناشط وطائفي. ولكن الترغيب والتزوير والاصطناع اتفقت مع انقلاب الجماعة الزيدية، سياسة واجتماعاً وبنية سكان وحاجات، من حال الى حال. وحصل هذا في وقت سياسي واجتماعي، يمني وإقليمي دولي، راكم التطلعات والتحولات من غير طاقة على استجابتها ومعالجتها من طرق غير طرق المحاصصة، وتأليب الجماعة بعضها على بعض، وقمع الشطر «المتطرف»، وتحكيم الإدارة المحلية في المسائل المتنازعة. ولاحظ محمد عايش (في مقالته في «مأرب») وجهي المشكلة فكتب في الوجه الأول: لم تقتصر «صحوة» المدرسة الزيدية على صعدة وامتدت الى بلاد الزيدية التاريخية، «وهو ما بدا للنظام الحاكم في صنعاء امراً جد خطير» نجم عنه «تفريغ بطيء للعصبية القبلية التي يستند إليها (الحكم) في شرعيته لمصلحة عصبية أخرى هي العصبية المذهبية». ولاحظ على الحكم، في الوجه الثاني، سعيه في «تفادي هذا الخطر... في شكل تغذية رسمية لخلافات داخلية ما لبثت ان شطرت الحراك الزيدي في صعدة الى نصفين: مجد الدين المؤيدي... وبدر الدين الحوثي وجماعة الشباب المؤمن (و) أبنائه...».
[ قوة العصبيات الضعيفة
ولا ريب في اضطلاع سياسة الحكم ورأسه بدور راجح في انعطافات الجماعة (أو الجماعات) الزيدية وتحولاتها. والدور هذا، على وجه منه، دعت الحكم إليه أطوار الحركة الزيدية نفسها، ومنازعاتها ومواردها الداخلية وسعيها في معالجة مشكلاتها الطارئة. فـ «تفريغ» العصبية القبلية، وتبلور عصبية «مذهبية»، أو أهلية مشتركة وجامعة، هما طور جديد من أطوار دينامية مجتمعية عامة. وهي أصابت اليمن وتصيبه على نحو ما أصابت لبنان وتصيبه، على رغم بعد الشقة الاجتماعية والسياسية بين البلدين. ونجمت الدينامية المجتمعية هذه عن استيلاء نخب حديثة، مولودة من اجهزة الدولة وإدارتها ووظائفها، على مراكز الحكم والسلطة. والنخب المستولية هذه ابطلت الموازين العصبية السابقة، وعطلت تحكيمها في الخلافات والعوائد والحصص. وأحلت محل المعايير وقاعد التحكيم الباطلة معايير وقواعد أدت الى استيلاء قمم النخب على حصص كبيرة من «الدولة» وإلى توزيعها توزيعاً مجحفاً وبعيداً من التكافؤ والتناسب. و«حرر» الاستيلاء الجماعات التي كانت الدولة تأتلف منها ومن أحلافها ومنازعاتها، من مكانة طبقاتها الحاكمة أو النافذة، ودالتها الطاغية. وحملت الجماعات على توحيد منازعها و«حركاتها»، وتخطي حواجزها الداخلية، ودمج عامتها وعصبياتها الضعيفة في إطار أهلي مشترك يقوي العامة والعصبيات الضعيفة في وجه العصبيات الغالبة السابقة («الطبقات القديمة»)، وفي وجه الحكام الجدد («الطبقات الجديدة» الإدارية) المستولين على موارد الدولة وأجهزتها، وعلى «حقوق» المركز المعنوية الرمزية والمادية، الوطنية. وورثت الجماعات هذه إرثاً تاريخياً فقهياً أعملته في أبنيتها السياسية والاجتماعية، وفي أحلافها واتصالها كما في عداواتها وحواجزها. وأوَّلت الجماعات إرثها على ضوء حدودها الجغرافية السياسية الجديدة، وتقطيع الحدود أوصالها القديمة، وضوء هجرات شبابها وحركات السكان، ووسائط الاتصال والإعلام، والحوادث السياسية الكبيرة مثل الثورات والحروب التي حفل الشرق الأوسط بها في العقود الأربعة الأخيرة.
فلم يكن مخيم الفتح بصعدة، وهو جمع 25 ألفاً معظمهم من الشبان، واقعة فريدة ومنقطعة، بل كان ابتداء حركة اجتماعية أهلية متعاظمة، عدداً ووظائف، لم تعتم ان نصبت نواة قيادية مركزية واحدة، ثم منقسمة. وإنشاء منظمة الشباب المؤمن بصعدة هو مرآة هذا الطور. واستجاب «الشباب المؤمن» إباحة الدستور الجمهوري التعدد السياسي والثقافي والتعليمي. فحشد من هم في سن الدراسة في مخيمات صيفية إعدادية أو تثقيفية. وأوكل الى مدرسين تدريس مقررات في مواد دينية، مثل الفقه والحديث والتفسير والكلام، وأخرى في مواد «دنيوية» أو عامة مثل الخطابة والمسرح والأناشيد والحوار. وأقبل الجمهور من صعدة، ثم من المحافظات والمدن. وينقل أحمد محمد الدغشي عن تقرير أعده مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (في تموز 2008) ان عدد «الطلاب» في المخيمات بلغ 15 ألفاً الى 18 ألفاً. وانتشرت 67 حلقة تدريس ومدرسة، لم تقتصر على صعدة وتخطتها الى 9 محافظات يمنية، وتخطت اليمن الى مهاجر الخليج مثل قطر، على قول نبيل الصوفي (مقالة في «الحياة»، 3/6/2007). وبلغت حصة صعدة من «المدارس» 24، وحصة عمران 6، وحجة 12، وصنعاء وذمار والمحوية 15، للمحافظة الواحدة 5 مدارس، الى مدرسة واحدة في كل من إب وتعز (بحسب إحصاء أحمد عايض، في إيجاز الدغشي).
وتولى منتدى الشباب المؤمن، وهو غير حزب الحق أو البنية السياسية الانتخابية التي خاضت الجماعة الزيدية الانتخابات النيابية في إطارها، في 1993، تدريس الشباب «العلم الشريف» وفنونه، و«إعداد الداعية الى الله ثقافياً وأخلاقياً وروحياً وسلوكياً بما يمكنه من نشر الوعي والفضيلة» (محمد يحيى سالم عزان، أمين عام «الشباب» الأسبق)، و «تعريف الطالب بإخوانه من الشباب وتمتين أواصر الأخوة الإيمانية». ويوازن الشق الدعوي المذهبي، ومعينه العلم الزيدي الهادوي، شق توحيدي يفترض مشتركاً يدعو الى «ترسيخ الوحدة بين المسلمين» وترك ما «يثير الخلاف ويمزق الأمة»، على قول عزان نفسه. ويبدو المنتدى حركة جماهيرية عريضة راعت، على نحو جلي، بروز كتلة الشباب ورجحان كفتها عدداً ودوراً، واحتسبت انتشارها الجغرافي في الوطن اليمني، وفي المهاجر القريبة، وتولت تجديد مثاقفتها المذهبية الطائفية، عماد هويتها المشتركة. وتنزع الأبواب الثلاثة، السن والانتشار والهوية، الى إحياء نضالي وسجالي قوي ومتماسك. فـ «الشباب المؤمن»، على بعض وجوهه، إنما يثبت لحمة «أهل» و «طائفة» يتهددها، من داخل، أفول دور الأهل الوالدين والأصلاب في تعليم أولادهم وتأهيلهم ونقل مقومات الهوية إليهم اولاً، وانتشار «الأولاد» في المحافظات والمهاجر ثانياً. وتَهدَّدَها، من خارج، إحياء آخر هو الإحياء السلفي القريب، والمستقر بصعدة منذ نيف وعقد من السنين.
ورفدت السلفية المقاتلة، ذات المنشأ الأفغاني، مع عودة المقاتلين العرب، وفيهم شطر يمني وحضرموتي راجح، الى ديارهم سلفية الدعاة والمدرسين المحليين. وتولى «الشبابُ المؤمن» إعداد دعاة من الشبان في مخيمات دراسية ورياضية مشتركة وطويلة (صيفية) رداً على ضعف اللحمة الداخلية، وتداركاً للضعف و «ذباً عن البيضة» الزيدية، على ما كان يقال في شرائط الخلافة، و «الجهاد» دونها. والتنويه بـ «ترسيخ الوحدة بين المسلمين»، على نقيض إثارة الخلاف وتمزيق الأمة، تنديد يكاد لا يكون مضمراً بالنواة الوادعية في قلب «كرسي» الزيدية الهادوية.
والمسألة هذه كانت بمنزلة القلب والركن من الخلاف الذي لم يلبث ان دب في «الشباب المؤمن»، وفرقه، ومكّن لجناحه الحوثي على أجنحة أخرى أضعف تماسكاً وتعصباً. وظهر الخلاف الى العلن حين تحفظ مجد الدين المؤيدي عن بعض مقرر التدريس في دورات المنتدى، وأنكر «مسخ» المقرر، بذريعة «الانفتاح والتجديد»، اصولاً زيدية عامة، وخروجه عنها. وكان تحفظ المرجع، أو أحد المرجعين (والثاني هو بدر الدين الحوثي)، سبباً في تعليق المنتدى إحدى دوراته الصيفية. والأرجح أن أول الخلاف وقع حين ألف احد مؤسسي منتدى الشباب المؤمن، علي احمد الرازحي وهو تتلمذ على الشيخين، رسالة مختصرة في العقيدة الزيدية كانت جزءاً من المقرر الإعدادي. ورأى العلماء، وهم المراجع، في الرسالة تراخياً ورجوعاً عن إثبات حقوق «أهل البيت». وتكني العبارة عن مسألة النسب واشتراطه في الإمامة. والمسألة مدار المناقشات الفقهية والسياسية العريضة والقديمة، والمتجددة مع انهيار الحكم الحميدي، ثم مع استقرار الجمهورية، واخيراً مع «ولاية الفقيه» الخمينية. وحقق تلميذان آخران، محمد عزان وعبدالكريم جدبان، والاثنان من دعاة «الشباب» الأوائل ونواة قيادة المنتدى، كتباً في العقيدة والتاريخ الزيدي. وعمد المحققان، شأن الرازحي قبلهما في رسالته، الى حذف بعض عبارات التنديد والجرح في حق المخالفين القدماء والمحدثين، وفيهم بعض أئمة الفقه الزيدي من غير الهادويين. ومسألة «سب الصحابة»، بحسب العبارة المتعارفة، باب خلاف على طريق «التأليف بين المذاهب» وتوحيد المسلمين، لم ينفك موصداً على رغم محاولات فتحه الحثيثة.
[ التباس «الانفتاح» و «الانكفاء«
وأراد اصحاب المنتدى الأوائل، يتقدمهم محمد عزان، توسيع دائرة المواد الإعدادية والتثقيفية، وتحديث بعضها وتنويعه، وتحريض الشباب على المناقشة والتطرق الى المسائل الخلافية من غير كبت، ولو اقتضى هذا تجديد النظر في مسائل تقليدية وأصولية مثل مسألة علم الأئمة وعصمتهم من الغلط، أو مسألة تأويل بعض آيات التنزيل في الصفات، أو مسألة التفسير والحاجة (أو انتفاء الحاجة) الى علم الكلام أو علم أصول الفقه فيه. وحمل هذا دعاة «الانفتاح» المفترضين الى السعي في تهذيب عبارات الخلاف المذهبي والسياسي، وتقليل شأن النسب في مسألة الولاية والإمامة. والحق ان الأمور والمواقف تختلط في المسائل هذه على نحو يعصى معه على المراقب تخليص الخيوط المتشابكة بعضها من بعض. ومن أحوال الاختلاط، على سبيل التمثيل، ان الشيخ المؤيدي وهو صاحب الدعوة «التاريخية» الى ترك شرط النسب الفاطمي على القائم بالإمامة، وإلى ضرب من الصلح مع الجمهورية، كان من طعن في رخاوة مقرر التدريس في مخيمات «الشباب المؤمن»، وطلب تعليق المخيمات الى حين استيفاء شرط الوضوح المذهبي والتشدد. وينتسب أنصار «الانفتاح» الى تدريس المؤيدي، وإلى «إمامته» العلمية وآرائه في المسألة. وينكر الأنصار هؤلاء على «خصومهم»، ولم يكن هؤلاء وهم ابناء الشيخ الآخر بدر الدين الحوثي خصوماً في النصف الأول من العقد العاشر، ينكرون عليهم انكفاءهم على هوية زيدية صلبة ومتشددة، وتمسكهم بالركن النسبي. ولاحظ، من ناحية أخرى، باحثون ومراقبون ان بيان علماء الزيدية غداة التوحيد اليمني، في 1991، وهو ثبّت مذهب المؤيدي في منتصف السبعينات الى صفة الإمامة الاستدلالية وغير الضرورية هذا البيان خلا من تواقيع كبار علماء صعدة، وفي مقدمهم المؤيدي والحوثي. وعد هذا قرينة على التباس وترجح لم يُخرج منهما إلا بعد وقت. ويزيد الالتباس إبهاماً وغموضاً أن على رأس من صاغوا البيان العتيد ووقعوه أحمم بن محمد الشامي، أمين عام حزب الحق، الحزب السياسي والانتخابي الزيدي، وراعيه ليس غير مجد الدين المؤيدي، وهو رئيس هيئته العليا، على ما مر، ومن زكى ترشح الستة الى الانتخابات في 1993. ويخلص أحمد محمد الدغشي في المسألة الى ان «إشكال غياب أي من رموز الزيدية في صعدة من البيان التاريخي للزيدية مثال تساؤل واستغراب، ومبعث فرضيات يصعب القطع بواحدة منها!» (ص 39- 40 من كتابه «الحوثيون...»).
ولم تخل مناقشة الأصول والأركان هذه من ملابسات ظرفية وجزئية، ووقائع أرخت بظلها على المواقف المتباينة فالمتنازعة. فيُظن في رأي محمد عزان، أحد أوائل «الشباب المؤمن»، في الإمامة عموماً وفي موقعها من التعليل التاريخي والدور الذي اضطلعت به وقد تضطلع به، تقليلاً خفياً وموارباً بعض الشيء. ويحمل بعض المراقبين هذا الرأي على قصد يبيته محمد عزان وأصحابه «الشباب المؤمنون»، هو إضعاف «إمامة» مجد الدين المؤيدي نفسه، بحسب استدلال محمد عايش (في مقالته بـ «مأرب»). ولا يبدد الالتباس لا إجماع «الشباب المؤمن»، وفي قيادته الأولى محمد ابن بدرالدين الحوثي، على تأييد بيان 1991، ولا مشاركتهم في الانتخابات الأولى بعد التوحيد، ولا قولهم جميعاً، شباباً وعلماء، أن «الأمة غدت هي صاحبة الاختيار لحكامها اليوم، من غير تقيد بنسب ولا عرق» على ما جاء في البيان العتيد (ويماشي هذا قاعدة «ولاية الأمة على نفسها» من غير ولي فقيه، على قول الفقيه الإمامي الإثني عشري اللبناني الراحل محمد مهدي شمس الدين). ويتصل الأمر، على وجه مشتبه، بأنساب من يتصدون للكلام في المسائل المتنازعة. ففي مرحلة متأخرة من الخلاف احتج عزان والرازحي وجدبان على المؤيدي، وعزوا رأيه فيهم الى انهم الثلاثة ليسوا هاشميين، ورأيهم في النسب مرده الى عامية نسبهم. ونزع الرأي هذا الى التقليل من شأن الإمامة و «الأئمة» على أنواعهم أم لزم دائرة المسألة الفقهية وعناصرها واستتباعها القول بعصمة الأئمة جماعة وليس أفراداً فلا ريب في ان هذا الرأي رتب على صاحبه موقفاً من السياسة الجمهورية، ومن دولتها ورئاستها، يميل الى التأليف والمهادنة. فيروي محمد عزان ان رئيس الجمهورية («رعاه الله» على قوله في صحيفة «26 سبتمبر» الحكومية) خصص للمنتدى «أربع مئة ألف ريال شهرياً». ويقر عزان بأن المخصص هذا ذهب الى جناحه، صاحب «النظرة الجديدة» والدعوة الى «(فتح) آفاق المنطقة، و (تجديد) فكرها». فهو رد على مجد الدين المؤيدي، وما قاله الشيخ الكبير والمسن فيه وفي أصحابه، ونعيه عليهم «طيشهم»، فقال: «إننا نريد ان نخرج صعدة من حالة العزلة القاتلة التي هي فيها، ونريد ان ننفتح على الآخرين، ونريد ان يعرف الناس ان في الدنيا غيرهم، وأنه يوجد مذاهب أخرى، وأنه يوجد ناس آخرون...».
وهذا الرأي متأخر زمناً، وهو يصح ربما في أحوال الثمانينات، وكان فائتاً في الوقت الذي قيل فيه (آذار 2007، في «26 سبتمبر»، عن أحمد محمد الدغشي) منذ أعوام طويلة، ويتناول بعض العلماء المسنين المحليين. فالحق ان ما كان تجديداً سياسياً واجتماعياً في أوائل العقد العاشر، مثل إنشاء حزب الحق وبيان العلماء الزيدية في الحكم والولاية ونشاط منتدى الشباب المؤمن والترشح الى الانتخابات، عصفت به حوادث العقد المتزاحمة والمتسارعة ومنازعاته، اليمنية والإقليمية الدولية. وتولى جيل خالف من الناشطين والمنظرين معاً التفكير فيه وصوغه في ضوء جلاء القوات السوفياتية عن أفغانستان، والحرب العراقية الإيرانية، وإذكاء «حماس» الانتفاضة الأول بفلسطين، واندلاع العنف الإسلامي في الجزائر، وأطوار ولاية الفقيه الخمينية بإيران، وظهور أعراض التيار «الجهادي» والإرهاب الأولى، وجلاء القوات الإسرائيلية عن لبنان. وتوجت السياقة هذه، غداة 11 ايلول 2001 الحملتان الأميركيتان والأوروبيتان على أفغانستان في تشرين الثاني 2001 والعراق في آذار 2003. وزعزعت حربُ الجنوب والشمال، والمفاوضة الإقليمية على الحدود اليمنية، وجنوح جناح من التيار الإسلامي المحلي الى العنف والتشدد، وتضعضع التحالف الحاكم... زعزعت هذه أركان الدولة اليمنية الجديدة وروابط الجماعات الأهلية بالحكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق