المستقبل ، 8/8/2010
على نحو احتفال الباحثين والمثقفين، والهيئات الصحافية والإعلامية، بالحوادث التاريخية والمنعطفات البارزة، الوطنية والدولية، فتُخَص هذه بالدراسات والتواريخ والسير والروايات الجديدة أو المتجددة، يحتفي كتّاب ونقّاد ودارسون بأعمال فنية كانت منعطفات في مضاميرها وميادينها. ويصادف، في صيف 2010، انقضاء 70 عاماً على حوادث حصلت أو وقعت في صيف 1940، وهو صيف العام الأول من الحرب العالمية الثانية. فعشية الصيف، خرج الجنرال الفرنسي، ونائب وزير الدفاع، شارل ديغول من بلده المحتل، ولجأ الى الجارة البريطانية القريبة. وغداة بلوغه الأرض البريطانية الحرة، في 18 حزيران، أذاع من الـ»بي بي سي» النداء المعروف والمشهور، من بعد أو لاحقاً، والمضاف الى يوم إذاعته. وحيَّت بلوغ النداء، أو «النفير» بحسب ترجمة عربية أخرى، عامه السبعين أعمال كثيرة ربما تعد بالعشرات، صدر معظمها بالفرنسية، وكتب بعضها مؤرخون بريطانيون، واحد منهم من اصل موريسي.
[السينما الناطقة... على مضض
وفي الصيف نفسه، أو الخريف على وجه الدقة (في 15 تشرين الأول بنيويورك)، عرض شارلي شابلن، السينمائي البريطاني واللاجئ الى الولايات المتحدة، فيلمه «الديكتاتور (الكبير)» أو «الأكبر». وأراد جان ناربوني، الناقد السينمائي الفرنسي، وأحد الذين تعاقبوا على رئاسة تحرير الدورية النقدية «لي كايي دو سينما» («دفاتر السينما»)، إحياء العرض. فكتب «... لماذا الحلاقون؟ ملاحظات راهنة على (الديكتاتور)». والمقارنة بين الحادثة التاريخية الديغولية، وهي «والدة» حوادث كثيرة لاحقة، وبين الواقعة الفنية السينمائية، لم تتعدَّ الاتفاق و(بعض) المعنى الى الوقع والأثر. فاقتصر الاحتفاء، إذا جاز الكلام على قصور وهو يجوز على سبيل التجريد، على الكتاب الفريد. ولكن الكتاب الفريد يقتفي أثر عشرات من الأعمال السابقة. والواقعة الفنية، أو العمل السينمائي، لا ينفك أثره يتجدد وينبعث، إما من طريق مشاهدة الشريط وتوزيعه وبثه وتحميله، وإما من طريق الكناية به عن أحوال الديكتاتورية في العالم المعاصر.
ولعل الوجه الثاني هو الغالب على تردد (أي ترديد، طبعاً) أصداء أول شريط «ناطق» صنعه، متأخراً، من يسميه جان جينيه، في «الأسير العاشق» (كتابه «الفلسطيني»)، «المهرج الصغير»، وهو تناوله في «مراسم الدفن» بالاسم. ودخل شابلن السينما الناطقة، غداة عقد وبعض العقد على شيوعها وفشوها في أعمال أقرانه المعاصرين، على مضض. فهو، المهرج فعلاً وحقيقة، رأى ان الكلام إذا غلب على الصورة، وعلى أداء الممثلين وحركاتهم وسكناتهم، أبطل ما يختص به الفن السابع، وهو مزيج العبارة الجسدية وتوقيعها الموسيقي. وكان دخوله من باب الواقعة السياسية الاجتماعية والفنية التقنية الأبرز في القرن العشرين «الفظيع»، أي باب الديكتاتوريات الجماهيرية و«الكليانية»، على ما سماها، مبكراً، بينيتو موسوليني، (الديكتاتور الإيطالي المسمى في «الديكتاتور» بنزينو نابالوني (ويخص الشريط زيارته التاريخية الى برلين في 1936 بفقرة بارزة).
فالطاغية الحديث أو المحدث، على خلاف الطاغية التقليدي من الصنف الشكسبيري الذي يمثل عليه ريتشارد الثالث، على ما رأى ألكسندر سولجنتسين ونوه، هذا الطاغية مسرح طغيانه هو ملأ الأشهاد ورؤوسها، وعلانية الراديو (الإذاعة) المترامية قبل الشاشة التلفزيونية العملاقة المنصوبة في الساحات العامة والمجمعات والسرادق والملاعب. ويختال الطاغية الجماهيري، حاكماً مستبداً أو خطيباً «معارضاً»، صورة وصوتاً، على الخشبات الإذاعية المترامية البث «الحي» و«على الهواء». فالمذياع، ومكبر الصوت، وآلة التصوير، و«استديو» التصوير، والتسجيل على الأشرطة والأفلام هي مباني الخطابة الجماهيرية والشعبية المعاصرة، التقنية والفنية. فلا مناص للطاغية المعاصر والمحدث من ترك قصوره وسراديبه وملاجئه الكثيرة والمبثوثة في نواحي السلطنة أو الجمهورية، المعروفة والمستترة، الى «علانية» منبر الخطابة أو «المؤتمر الصحافي»، قناع منبر الخطابة المنفردة في معظم الأوقات. وذلك لأن سلطان الطاغية المحدث، في العصر الديموقراطي المتربع في سدة المجتمعات الطرفية والنائية على رغم تطرفها وبعدها، يباشره صاحبه على الجماهير المتكتلة في «جسم كبير» (حسين الموسوي النبي شيتي) ماثل و«ذائب» (محمد باقر الصدر النجفي) بواسطة تقنيات البث والتجسيد والتكثير والمحاكاة والنسخ.
فلاحظ مراقبون، بعضهم حديد النظر والملاحظة، أن الأطوار التقنية والاجتماعية الجديدة المولودة من إنتاج رأسمالي صناعي قاعدته دائرته إنتاجاً وتوزيعاً، الأرض المعمورة كلها، ومن دور الدولة التنظيمي والتعبوي العريض والفاعل على ما اختبرته الحرب العالمية الأولى القريبة يومها تمخضت عن ثلاثة. الأول، رجل الصناعة، مهندس الإنتاج الجماهيري وخطوطه الصارمة، وبائع السلع الكمالية الى جمهور متعاظم الاتساع، على مثال هنري فورد وظله تشارلز تايلور. والثاني الزعيم والقائد الجماهيري كذلك، متخطي الهيئات والمؤسسات الوسيطة والانتخابية الى «تجسيد« الشعب والأمة من غير وسائط أو حواجز، ومثاله بينيتو موسوليني و«تلميذه» في وقت أول، أدولف هتلر، وعدد لا يحصى من صغار الدوتشه والفوهرر وخطباء التظاهرات الحية والجموع. والثالث هو الممثل السينمائي «الشعبي»، و«معبود الجماهير» على ما قيل في امثال رودولف فالنتينو أو في جين هارلو، «البلاتينية» التي اقتدت بها مارلين مونرو، أو في غريتا غاربو، «المتألهة» من غير انتساب (على معنى «بردة» البوصيري)، وفي «شارلو» قبل هؤلاء وربما بعدهم. والثلاثة جماهيريون وشعبيون على وجوه متفرقة. وتدين الوجوه هذه كلها الى الصناعة المتحررة من القيود التقنية والمحلية العائلية والوطنية القومية بسماتها المشتركة: «إنتاجها» من غير حدود كمية وعددية وتوزيعها على النحو نفسه، وتسويتها أو صناعتها على مثال أو أنموذج واحد ومشترك تكرره نسخ لا تحصى، وعلانيتها العامة، على معنى استعراضها على العموم و«العوام» واحتساب الاستعراض عاملاً بارزاً ونافذاً في الظاهرة.
وفي «الديكتاتور» (الأكبر أو الأعظم) بعض آثار هذه الوقائع والأحوال. وروى شارلي شابلن نفسه، في سيرته أنه حمل شارب (شاربي) الديكتاتور النازي والألماني على سرقة مشهودة ومحققة. فالشارب الأسود الخارج من داخل المنخرين، والمنفرج الزاويتين السفليين فوق الشفة العليا على شاكلة المكنسة (وهو شبه تناوله رسامو الكاريكاتور وقلبوه على وجوهه المحتملة كلها وأطنبوا في تقليبه)، هذا الشارب عرف به الممثل الذائع الصيت منذ بداياته التي سبقت بدايات هتلر المغمور الى أواخر العشرينات. وعشية استيلاء النازيين على المستشارية (وهو استيلاء على رغم الانتخابات التي أولت الهتلريين غالبية نسبية، في 1931) زار شابلن برلين. فاستقبله الألمان استقبالاً حافلاً. ونددت الصحافة النازية بالاستقبال الجماهيري، والنازيون يومها ستة ملايين ناخب و107 نائب (وكانوا 7 نواب في دورة 1928)، وأوَّلته على وجه مقارنة بين الديكتاتور «الصاعد» والواعد وبين مهرج مضحك. فنددت بالممثل الأشهر مقدار ما نددت بالألمان وغفلتهم وعماهم. وأنصار الطغاة لا يطيقون، قديماً وحديثاً، وفي بقاع الأرض كلها، مقارنة مؤلَّهيهم بالمهرجين، ولا تصدي السينما أو المسرح والقوالين الى المتألهين المقدسين بالمحاكاة الساخرة والضاحكة. ولم يفت «الشبه» صحيفة الحزب الاشتراكي الديموقراطي أو رسام كاريكاتورها، على ما يروي جان ناربوني، فرسم هذا غوبلز، وزير دعاوة هتلر لاحقاً ومحرضه الصحافي والإذاعي والسنيمائي الأول، معتلياً منبراً يعلو جمهوراً من الحزبيين الأنصار يحيي خطيبه الناري الإذاعي بتحية الذراع المرفوعة، وإلى جنب الخطيب صورة «شارلو»، وتحت الرسم «شرحه»، وفيه ان الممثل الزائر لم يبهر أهل برلين ولم يدهشهم، فهم اعتادوا على «أشباهه».
[نفي الشبه
والمدخل الى الشريط أو مقدمته تنبيه يزعم ان «كل شبه بين الديكتاتور هاينكيل وبين المزين اليهودي اتفاق خالص، ويلاحظ ناربوني، ويدعو قارئ «... لماذا الحلاقون؟» الى ملاحظة سخرية الملاحظة المموِّهة والمموَّهة. فالعادة جرت على التنبيه الى بطلان دلالة الشبه بين حوادث الشريط، أو القصة والرواية، وبين «الواقع» أو الوقائع. ولم يسبق، على الأرجح، أن دعي المشاهدون أو القراء الى الانصراف عن تأويل شبه قريب أو بعيد بين موضوعين كلاهما متخيل، وكلاهما جزء من الشريط نفسه أو الرواية نفسها. ويقوي السخرية، أو المفارقة، الشبه «التاريخي» والمشهور والمشهود بين الطاغية النازي وبين الممثل البريطاني المنشأ، وما تراواه الناس، وسار فيهم، من ان هتلر، يوم كان داعية مبتدئاً يتنقل بين مقاصف ميونيخ وحاناتها ساعياً في دور شعبي أو جماهيري، إنما اختار الشارب على شاكلة المكنسة المنفرجة تيمناً بشارب الممثل والمهرج الذائع الصورة. وعندما انتبه الجمهور الى الشبه وعم الانتباه، ضاق الطاغية به، أي بالشبه وبإثباته، وبكنايته المتعاظمة عن المستشار «العظيم»، والمقارنة بينه وبين المهرج العبقري الذي نسبته الدعاية النازية المضللة إلى اليهودية وأحجم هو عن نفيها.
ونفيُ الشبه، في التنبيه التمهيدي، ينهض على مفارقة داخلية تلابس الحوادث التي يرويها الشريط. فالدَّوْران، دور الديكتاتور النازي هاينكيل ودور المزين (وليس الحلاق) اليهودي الغفل الاسم، يؤديهما معاً شارلي شابلن من غير فرق الهيئتين أو الصورتين الخارجيتين. والمزين اليهودي في الشريط الشابليني هو سليل أدوار «شارلو» الصامتة في الأشرطة السابقة التي وسمها الممثل والمخرج باسم بطله المشتق من اسمه، تشارلز بيرس شابلن. وعلى نحو ما هو أول «بطل» ناطق في أول شريط من هذا الصنف في أعمال المشخص الكبير الذي وسم معظم الأشرطة السابقة بلقبه السينمائي، هو كذلك آخر «شارلو» من صنفه وطرزه أداءً وقيافة، من غير الاسم المعروف والذائع.
والوجه الثاني من المفارقة الداخلية هو قيام الشبه بين الدورين من حبكة الشريط أو حكايته مقام «المحرك»، على قول الكاتب الناقد. ففي الشطر الأخير من الشريط يُرى الديكتاتور في رحلة صيد ببلاد تغمرها المياه. وبينما يصوب الرجل المخيف، وحوله حاشيته الرمادية والسمراء، بندقية الصيد على بطة ثقيلة الطيران، ويطلق النار على الطريدة، ترديه الطلقة المنفجرة الى الخلف، وترميه في الماء. ويحجبه وقوعه في الماء وضآلته التافهة عن أصحابه وحاشيته. ويصادف، في أثناء بحث الحاشية عن سيدها، مرور المزين اليهودي، الشبيه والمختلف، غير بعيد من مسرح الصيد. فيتراكض أهل الحاشية، ويحوطون من يحسبونه سيدهم و«أميرهم» ويحفونه. وحين يخرج الديكتاتور من الماء، ويريد استعادة محلة ومكانته، ينكره أصحابه، ويسخرون به، ويغلظون معاملته. ويقوم المزين اليهودي خطيباً في الناس شأن الديكتاتور المفوه شكلاً وظاهراً وعلى خلافه مضموناً (الدعوة الى أخوة الناس) وإخراجاً (من غير ميكروفونات) وجمهوراً (البشر الأسوياء محل الأعيان والآلات) وأثراً (التأمل والحلم وإدارة الوجوه صوب السماء الفسيحة عوض الهتاف بالتلبية والسلام بالأذرع)-، يدعوه الى الخطابة شبهه بالديكتاتور.
وعلى هذا، فإنكار الشبه بين دوري شابلن، وهو بمنزلة واسطة الحبكة أو محركها، مسألة حاسمة ومحورية. ويعزو ناربوني الإنكار، على وجه أول، الى إسناد الفيلم الدورين الى تاريخين متباينين ومختلفين. فالحلاق اليهودي الألماني يتناوله الشريط، في مقدمته، حين خروجه من المستشفى. وهو قضى 20 عاماً، منذ 1918، ختام الحرب الأولى التي قاتل في اثنائها، فاقداً ذاكرته. ويعود من المستشفى الى حانوته أو دكانه في حارة اليهود (أو «الغيتو«) ليس ليلفي بلداً جنح الى التسلط والمحافظة والعصبية القومية وحسب بل ليجد نفسه في بلد غريب لا يتعرفه، هو الخارج من نسيانه وصفحات تاريخه «البيض»، على ما سمى بعض الروس حوادث تاريخهم السود، الستالينية واللينينة قبلها. فعالما هاينكيل الديكتاتور والمزين تباعدهما الواحد من الآخر غربة ليس بعدها ما يشتركان فيه، على رغم أنهما «في» ألمانيا واحدة مفترضة. وهي حال المجتمعات التي تستولي على دولها ثورات «إيديولوجية». والمرة الفريدة التي يحضر فيها الدَّوْران معاً ليست من صنف المماراة، أو حضور الواحد المرئي بإزاء الآخر «في» المرآة، بل هي من صنف السمع.
فبينما يتنزه المزين في طرقات الحارة الهادئة منذ ايام قليلة، وهي ايام «تهدئة» ينزل عنها الحزب المستولي والمسلح والمبتز، في انتظار رد إيبشتاين المصرفي اليهودي على طلب قرض تقدم هاينكيل به، في صحبة خطيبته حنة، يدوي صوت هاينكيل في مذياع منصوب على تخوم الحارة ومصوب عليها. وينفجر الصوت المدوي باللعنات والتهديد والوعيد، فيتلوى جسم المزين خوفاً وقفزاً الى أمام وإلى وراء، ويتلمس الهرب لا يعرف الى اين يلجأ أو أي جهة يقصد. ويشبه الجسد المرتجف الميكروفونات الملتوية تحت وقع الخطابة الديكتاتورية نفسها في مشاهد أخرى، تعالج الآلة المصنوعة من معدن على شاكلة معالجتها الجسم البشري (وشبه الجسم الحي بالآلة مصدر إضحاك مجرّب). ويعلل جان ناربوني تعمد شابلن خفاء الدورين واحدهما عن الآخر وعليه بما يسميه «حرب إبادة سينمائية». فلا يحضر أحد الاثنين إلا حين يغيب «شبيهه». ولا ريب في ان وقوع «الحرب» بين الديكتاتور النازي، والآري العنصري، وبين اليهودي الخارج من الحرب فالمستشفى فالحارة، لأمر حاد الدلالة تتردد فيه، وفي تناوله السينمائي، أصداء «ليلة الكريستال» التي أباح فيها النازي الأول شطراً من الألمان العزل لعدوان أهل القوة النازيين.
ويدين هاينكيل، ومن ورائه الديكتاتور النازي، ببعض كيانه وهويته المُعلَمة والفارقة (الشارب الأشهر) الى ضرب من «السرقة الوجودية» أو «السطو الوجودي»، على قول أحد كبار نقاد السينما في النصف الأول من القرن الماضي، أندريه بازان. وتنتهي السرقة بالسارق، على مثال تقمص الولد الإنسي هويته من طريق انتخابه سمة «أبوية» يرسي عليها رسم صورته المتماسك والمجرد، تنتهي به الى نصبها أخص خاصِّه، وأقرب هذا الخاص الى نفسه وألصقه بها. فهاجس الديكتاتور الأول، وذريعة الخطيب المفوّه والساحر الى دمج الجمهور وآحاده في كتلة عصبية صماء، ومسلِّمة منقادة، هو تمام صورته وتماسكها، ورسوخه المادي والمعنوي فيها في الأوقات والظروف كلها. فينبغي ان يكون الزعيم «المهيب»، على قول صدام حسين، نظير نفسه على الدوام، وكفواً لها من غير نقصان أو ثلم. والأشباه الذين «يكثِّرون» جسد الديكتاتور يتولون حماية فرادته ويحصنون هويته وسلطانه ويخرجونهما من متناول العدو. وشرائط الزعامة الديكتاتورية والخطابية، تمامَ صورةٍ ورسوخاً فيها ومكافأة نفس (من غير دخاله «دخيل» ولا هجنة أو توليد أو حادث)، هي نفسها أركان العنصرية والعصبية الدموية والنسبية والاعتقادية.
وعلى الضد من هاينكيل، وكتلته الخطابية والإيمائية المرصوصة والظاهرة، تفصل المزين اليهودي عن نفسه وتوسع شقتها هذه النفس لجةُ العشرين عاماً التي التهمته وفجوتها الفاغرة، وغاشيةُ نسيانه المديد. ويهيم المزين على وجهه في عالم غريب انقلب على أركانه، مشرداً «أساسياً» من غير مرسى ولا ميناء، و«راقصاً» يتعالى عن الإثبات والتعيين. وعلى هذا، فالمزين ليس شبيه هاينكيل بل هو قرينه، على المعنى السحري، أو «ثانيه» على قول قيس بن الملوح في سحر ليلى وإصابتها به المولهين بها أو «مجانينها». وينتهي الأمر بالقرين، في القصص الشعبي، الى الاستحواذ على صاحبه والتهامه والنقض عليه. والخطبة التي تختم الشريط، ويلقيها المزين على وقع موسيقى أوبرا فاغنر («النازي» المزعوم)، «هولينغرين» ابن بيرسيغال فارس الكأس المقدسة، تبدد خطب القائد السياسي المسلح والناري وتذروها. فهي قرين الخطابة الهاينكلية، الهتلرية، وتصدر عن الفرق الذي يصدر عنه المزين، وعن الشقة بينه وبين نفسه، وليس عن الهوية المحمومة و«التامة» التي يصدر عنها الخطيب القائد والسينمائي (التلفزيوني والإذاعي).
[الخطبتان
فنفي الشبه بين الطاغية الخطيب وبين المزين ليس تفصيلاً جزئياً، بل هو مبنى روائي وصوري يقوم من الشريط بمنزلة الركن. وخطبة هاينكيل، وهي تتوسط الشريط، وجه من وجوه المقارنة التي تنتهي إلى النقض و«السطو»، على ما مر القول، من طريق الفرق والمعارضة (على المعنى البلاغي). ويرى المشاهد، في اثناء الخطبة، صفحة وجه هاينكيل، الى يساره وزير حربه، هيرينغ، وإلى يمينه وزير الداخلية، غاربيتش. وعلى المنبر «غابة» من الميكروفونات. ويخاطب الرجل جمهوراً غير مرئي، يهلل منتشياً بكلام الخطيب. ووراء الخطيب يجلس أعيان النظام النازي على مقاعد ومدرجات. ويخطب شابلن (هاينكيل) خطبته الطويلة بين يدي جهازين تقنيين مرئيين: جهاز الميكروفونات وجهاز تصوير المشهد الذي يصوره الشريط من خارج، ويحيله موضوعاً. ويرعى الجهازان التمام والامتلاء اللذين يزعمهما القادة الزعماء والخطباء السياسيون والعاميون لأنفسهم، وتجلوهما التقنية الفوتوغرافية والإذاعية الجماهيرية على الوجه الجديد والنافذ المعروف والمجرَّب.
وتلزم الصورةُ السينمائية في اثناء الخطبة المحورية، استقبالَ صفحة الخطيب، أو وجهه. وتَقطع الصفحة ثلاث مرات. فيُرى هاينكيل من ظهره وهو يستقبل جمهور أنصاره، ويدير ظهره الى آلة التصوير. وتتخلل مشهد الصفحة المتصل إيماءات الزعيم الخطابية المتغيرة، وإيحاءاته الكثيرة والمتناسلة، فيأتلف منها الاستعراض الهتلري. وبينما يلقي الخطيب خطبته، ويعلو صوته وينخفض، وتنحرف النبرة فجأة وتنعطف على غير توقع من الطبقة الحادة الى الصفير فالطبقة الحارة والعريضة، فلا يشك المستمع المشاهد في ارتجال الخطيب خطبته وفي خطابته تحت وقع ما يُلهم و«يوحى» إليه تنقل الترجمة الى الإنكليزية، بصوت خال من الانفعال، ما يقوله الخطيب المنفعل والملهم. والنص الإنكليزي هو ترجمة أمينة وسابقة لخطبة ناجزة شبَّه الخطيب الماهر ارتجالها وولادتها عفو خاطره وإلهامه ووحيه. والبث «الحي»، أو «على الهواء»، الى الأداء المعقد والمركب، خداع مشهدي أتقن الخطيب فن إخراجه، على المعنى المسرحي والسينمائي الذي راج مذ ذاك، ويتعاظم رواجه في مجتمعات الفرجة، على ما سميت وتسمى قبل العولمة وفي اثنائها.
وتستعيد أجزاء الخطبة لازمات الدعاوة النازية في الأعوام التي سبقت الحرب الثانية، وأتى الانفجار مصدقاً لها (للازمات الدعاوة والخطابة النازيتين) على ما هي حال الديكتاتوريات عموماً، واستدراجها الحروب ورميها «الأعداء» بالإعداد للحرب وتبييتها. ويصرف الخطيب الملهم الجزء الأول من خطبته المفهرسة، ولو من غير ورقة، الى التذكير بعهد ماض غلب عليه الذل والضعف، وطوته الحركة الثورية الى غير رجعة، وإلى ألف عام هي عمر الرايخ الثالث الموعود. وهذه المقدمة الملحمية توجزها الترجمة بجملة باهتة تعارض تومانيا (ألمانيا) الراكعة بتومانيا الناهضة والواقفة. وتعزو الخطبة المترنحة ضعف الأمة وهزائمها الى الديموقراطية والحريات العامة وحرية القول والتعبير. وتتدفق كلمات مبهمة تطفو منها وتبلغ السمع لفظة «الرائحة الكريهة»، والفعل الذي ينشرها. ويصل الخطيب الجزء هذا بامتداح تفوق الأمة «الجديدة» العسكري في الجو والبر والبحر. ويتوقع خوفَ الأعداء وانهيارهم بعد محاولة يائسة أخيرة يحشدون فيها قواهم، ويهاجمون تومانيا، ويختبرون صمودها.
ويدعو الخطيب الجمهور الحاشد الى الصمود والتضحية. ويتلفظ هاينكيل بلفظة «تضحية» بوضوح، على خلاف سيل الألفاظ المبهمة والغامضة. وحين تسمع الكلمة، يعمد الى شد حزامه. ويحاكي هيرينغ، وزير الحرب، حركة زعيمه ومرشده (ومعنى «فوهرر»، لقب هتلر، هو المرشد)، فتحول سمنته، وبطنه المنتفخة، دون بلوغ الحركة غايتها. ويميل الخطيب الى مساعده، ويداعبه ويسميه «العروس (اللعبة) الصغيرة»، ثم «بسمارك»، مستشار الرايخ الثاني وموحد ألمانيا في الربع الثالث من القرن التاسع عشر من طريق حروب وفتوح مظفرة لا يزال عرب (وفرس وترك) كثر يتخذونها إماماً أو مثالاً. ويمزج الجزء الثالث والأخير من الخطبة الكلام المتقطع والغاضب والصاخب بحركات عصبية قصيرة ومتعاقبة على غير نظام. وتطفو ألفاظ لا رابط ظاهراً بينها تتصدرها «العقاب» وأوروبا وفرنسا وفنلندا وروسيا، من غير الولايات المتحدة، و«الحرب الخاطفة». ويوجز المترجم خاتمة الخطاب بالقول ان هاينكيل يرجو السلام لبقية العالم. فيحقق ملاحظة كلاوس مان، الكاتب وابن توماس مان، على إفساد الديكتاتورية الجماهيرية والثورية لغة المخاطبة، وانتهاك معاني كلماتها وتحويرها الى خلافها: فالسلام يكني عن الحرب، على قول جورج أورويل في «1984»، غداة الحرب.
و»الديكتاتور» يسحق الطاغية والمجرم الألماني، وزميله الإيطالي حاكم باكتيريا، على ما يسمي حليف ألمانيا (تومانيا) وقطب المحور الآخر، سخرية وهزءاً وضحكاً. فعظمة جرائمهم، على معنى هول الدمار والقتل المتخلفين عن استبدادهم وحروبهم وقتالهم وقتلهم، لا تجعلهم مجرمين كباراً، على قول بريخت. فهم مرتكبو جرائم عظيمة، ومقيمون على صغارهم وتفاهتهم وإنسيتهم الضئيلة، على ما تشهد أجزاء كثيرة من فيلم شابلن.
ونظير خطبة هاينكيل تنهض خطبة المزين اليهودي. والخطيب، هذه المرة، عاري الوجه، قريب من عدسة التصوير، من غير ميكروفونات، ووراء الوجه القريب سحب لا تحجب، في البعيد، رسمَ كاتدرائية. وتطل من الوجه العاري، وهو عار من ألاعيب وجه هاينكيل وقسماته، دهشة الحلاق وخشيته وتردده. وخطبته تستجيب إلحاح قيادة أركان تومانيا التي التبست عليها هوية الرجل. ويتكلم الخطيب، الذي لا يشبه الخطيب الأول المفوه والمسلح والفاتح، بصوت خافت ومستوٍ ومخنوق. فيقول إنه لا يود أن يكون فرعوناً أو سلطاناً، وجل ما يريده هو مساعدة كل الناس، مسيحيين ويهوداً وسوداً وبيضاً، وسعه. ويلاحظ ناربوني أنها المرة الوحيدة التي يتلفظ فيها غير نازي، في الشريط، بلفظة «يهودي». والتطرق الى السود صدى صناعة الفيلم في الولايات المتحدة.
ويتناول شابلن مسألة التقنية، وتقدمها المطرد، وتفريقها الناس وشرذمتهم. وبينما يتماسك الصوت، تقيم النظرة على ترجحها، وإحجامها عن قصد شيء بعينه، وتبعد صورةُ الخطيب، وتُرى الميكروفونات فيسمع صوت يملأ الشاشة، ويتوجه الى «ملايين الناس في أرجاء العالم»، وفيهم حنة الهاربة وعائلتها الى اوستيرليش (النمسا محورة). ويدعو الخطيب المرتجل الناس الى الرجاء، ويتوقع انقضاء الكراهية، وعودة السلطة المغتصبة الى الشعب. ويخاطب الجنود بصوت جهير ينبههم الى أنهم «بشر»، وعليهم «الكفاح في سبيل الحرية». وتقرن حركة الصورة، «ترافلينغ» أمامي خفيف، خطبة الحلاق بخطبة الديكتاتور المسلح على وجه الرد والنقض والفرق. وتتبدد آلات التسجيل والإذاعة. وينظر الخطيب الى المشاهدين. وتتردد في الخطبة السياسية الواضحة كلمات مثل الوحدة مقرونة بالكفاح. ويخيم على الصورة، في الدقائق الأخيرة من الخطبة ومن الشريط معاً، عالم سماوي يسوده الابتهال. وتفارق الحماسة الخطيب المرهق، وغير المصدق تهوره، فيُمرر أصابعه في شعر رأسه. ويقصر كلامه على حنة وحدها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق