الاحد 22/8/2010
يزعم صاحب الفكر الجمهوري المدني الحديث أو المحدث، نيكولو ماكيافيلي، ان الذين يدينون الاضطرابات الناجمة عن منازعات العامة والأشراف في روما الجمهورية، وهي دام عهدها أو نظامها سبعة قرون تامة، ويذمون هذه الاضطرابات ويطعنون في الهيئات السياسية التي تبيحها و "تلدها"، إنما يغفلون عن مؤاتاتها الحرية. فالمنازعة بين الأشراف، أو طبقة الحكام، وبين العامة أو العوام، أو طبقة المحكومين، هي "السبب"، على قول "السكرتير" والديبلوماسي الإيطالي الفلورنسي، في "حرية روما" (أو "الحرية في روما"). ويخلص صاحب "الأمير" – وهو في معرضنا صاحب "المقالات في الفصول العشرة الأولى من تاريخ طيطوس ليفوس"، أو "المطارحات" على ما نقلت الى العربية قبل خمسة عقود – الى قانون يتخطى روما، مثال فن السياسة والإدارة والحرب في عصر النهضة الأوروبية، الى عموم الدول: "في كل دولة من الدول، ثمة وجهان مختلفان، وجه (ييمم إليه) الشعب ووجه (ييمم إليه) الكبراء، والقوانين التي تؤاتي الحرية وترعاها إنما هي وليدة خلاف الوجهين وتقابلهما" (الكتاب الأول، الفقرة الرابعة).
مديح الاضطرابات
ويدعو أحد أوائل نشطاء الفكر (أو "المثقفين"، على المعنى الأوروبي، غداة التجديد والنهضة والإصلاح الديني ونشأة الدول الإقليمية) الدول، وأنظمتها وأهل قوانينها وشرائعها السياسية، إلى توكيل العوام، ومن يمثلونهم وينوبون عنهم، بالوجه الذي يتولى رعاية الحرية وقوانينها. وهو يتحفظ عن توكيل الكبراء والأشراف بالرعاية هذه. فهم يشتهون السلطة، أو السلطان شهوة حادة تحملهم على سحق العامة، أو الشعب، وإلغاء القوانين التي ترعى الحرية وتؤاتيها، بينما تقتصر رغبة العامة، أو هواها السياسي، على "ألا تقهر". ولا يخلص ماكيافيلي من صفتي الهويين السياسيين – رغبة العامة في ألا تقهر، ورغبتها في تحصيل ولايات تخولها التمكين لدورها، ورغبة الكبراء في ملك السلطة وتعظيم ولاياتهم وأعمالهم – الى حسم ميله. فينبغي احتساب دور عامل آخر هو نازع النظام السياسي، إما الى التوسع، شأن روما، وإما إلى تثبيت المُلك وأركانه شأن اسبارطة والبندقية. فالنازع الى التوسع والفتح يدعو الى إشراك العامة في السلطان وثمرات التوسع. ويقتضي هذا الإقرار للعامة بمصالح منفصلة ليست مصالحَ الكبراء، بل تزاحمها وتنافسها.
وتنشأ الاضطرابات عن المزاحمة والمنافسة، على نحو ما تنشأ الفتوح والقوة والفرص السانحة والجديدة. ولكن إرساء هيئة الطعن (او التهمة) في سعي (أحد) الكبراء في الاستيلاء على السلطة، وتوكيل خطباء العامة بتوجيه الطعون، ومحاكمة المتهمين على رؤوس الأشهاد، لجم الكبراء، وحال بينهم وبين التطلع الى الاستيلاء وتجنيد المرتزقة واستدراج المساعدة الأجنبية. ويحمي توجيه الطعون علناً المطعونين من الاغتيال، ومن الشغب والهرجات. ويحمي المدينة، أو الدولة، من ظهور الشيع و "الأحزاب"، أو العصبيات المتناحرة، من الاستعانة بالمدن الأجنبية، وشراء المرتزقة. فقيود الطعن العام والعلني هي قيود "المجتمع المدني"، داخل الدولة، على سلطان الحاكم المتمادي. والحؤول دون اضطلاع المجتمع بتقييد صاحب السلطان، كبيراً مستولياً أو كبراء متعصبين عصبة مسلحة، باعث قوي على انهيار الدولة من طريق الانتصار بقوة أجنبية أو مرتزقين جوالين يبيعون قوتهم العسكرية لقاء أجر، ويستوفون أجراً إضافياً إذا أنسوا ضعفاً من الذين اشتروا خدمتهم، فينهبون المدينة التي استضافتهم، وطلبت مظاهرتهم ومساعدتهم.
محكمة الطعون
والطعن ينبغي ان يكون حراً ومطلقاً من قيد المرتبة، فيجوز الطعن في كبار الأشراف، وقادة الجيوش والفتوح، "من غير خشية ولا احترام". وهؤلاء هم الأقرب الى المطاعن والتهمة. ويفترض الطعن أو يشترط "مواجهات (أو مقابلات) حقيقية وتدقيقاً في العلل والظروف والوقائع تؤدي الى جلاء الحقيقة وأظهارها" (1/8). والطعن هو خلاف الإشاعة المغرضة، والنيل من السمعة والصيت، ونقيض الغيبة و "أكل لحم الأخ الميت"، على ما جاء في التنزيل. والمقارعة على الملأ، في محكمة الطعن، هي دواء الغيبة وكلام السوء والتعريض والغمز. ويخرج جسم الدولة السياسي من الطعن معافى، دين المطعون أم دين الطاعن، على خلاف حاله في الغيبة والغمز واللمز. فعلى الشارع، أو المشرع أو الهيئة التشريعية، إلزام مطلقي ألسنتهم خفية، ومشيعي الإشاعات والأخبار والهمسات، الاحتكامَ الى محكمة الطعون، وأصحاب ادعائها من خطباء العامة.
والأصول الماكيافيلية، الجمهورية المدنية، لا تنشئ "علماً" بالسياسة أو بالسياسيات، على قول قديم. ولم يزعم الرجل الموصوم بأبشع الوصمات، "الماكيافيلية"، ان مقالاته أو مطارحاته ترسي معايير علم أو عمل في باب لا تُبلغ فيه درجة الاجتهاد والرسوخ في العلم (درجة "الدكتوراه" في علوم اللاهوت والقانون الكنسي) ولا ينبغي لأحد أن يتوقع بلوغها، على قول اميرال فرنسي بروتستانتي عاش في النصف الثاني من القرن السادس عشر ولم يدركه ماكيافيلي. ولكن ما أرسته المقالات الماكيافيلية، على أحد وجوه تأويلها الكثيرة والمتنازعة، هو تماسك الغايات والوسائط السياسية، وترتب وسائط ووسائل بعينها على غايات دون غايات. فنشدان الحرية سائقاً أو هوى سياسياً أول أو متصدراً يرتب تقديم قوانين وهيئات ومصالح على أخرى. وتقديم قوانين وهيئات ومصالح "حُرِّية" على خلاف استبدادية، في لغة أوائل القرن العشرين بمصر، يلزم عنه ضرب من السياسات الداخلية والخارجية، على قولنا في لغتنا المعاصرة.
وحدة الدولة المستحيلة
ولا يذهب الفلورنسي الأشهر ربما الى ان المذهب الجمهوري المدني، والجمهورية هي صنو الوطنية والعامية و "دولتهما" معاً، هو الأمثل عموماً. وهو يراه خير المثالات، بعد ان يستخرج عناصره وعوامله من حوادث متفرقة معاصرة وقديمة ويوجب لحمة العناصر والعوامل هذه ويبنيها بناء "صناعياً"، قياساً على احوال إيطاليا المعاصرة، وعلى غايات يفترضها، ولا يرى احتمال بلوغها من غير طريق الجمهورية المدنية. وهذه حال من أحوال تماسك الغايات والوسائط السياسية، وترتب وسائط ووسائل على طلب غايات دون أخرى، على ما سبق الإلماح للتو.
ويدعو هذا صاحب "الأمير" و "المطارحات" و "فن الحرب" و "تاريخ فلورنسا" الى تبديد "مزاعم" في السياسات لا تستقيم السياسة الجمهورية المدنية مع رواجها والإيهام بها أو تصديقها. والزعم الأول والأساس هو تشبيه وحدة الشعب (العامة) والكبراء (الحكام أو السلطان)، وادعاء حقيقة هذه الوحدة. فيذهب الجمهوري المدني الى ان الدولة، والسلطان السياسي والاجتماعي تالياً، تفترض حاكمين ومحكومين، او مسيطرين وصادعين بالسيطرة، على قول ماكس فيبر، أو أولياء أمر ورعية و "ناساً". والسياسة (الأمر) تنهض على القسمة هذه، أو الانقسام هذا. ولا يزعم لأمَ الانقسام، و "مداواته"، وختمه على ما يقال في الجروح، إلا أهلُ السلطان المتمكنون والمحافظون والقاهرون. ولا ينفع في التستر على الانقسام نصبُ السلطان، وموقعه أو محله، "ممثلاً" للشعب، ونائباً عنه، ومكلفاً الدفاع عن مصالحه، على ما زعم الشيوعي الإيطالي انطونيو غرامشي في "امير(ه) الحديث". فالمحلان، محل الحاكم ومحل المحكوم، كائناً من كان شاغلاهما والقائمان بهما، هما على طرفي تقابل (وليس نقيض، على ما يأتي القول) ومنازعة تكوينيين، على قول لاهوتي وغيبي في الإمامة وحكمها وسلطانها.
وعلى هذا، فـ "وحدة" الدولة – أرستقراطية يحكمها الكبراء والأشراف أم بروليتارية يحكمها من لا يملكون شيئاً (على معنى "بروليتاري" الأول) أم بورجوازية تعود الولاية عليها الى اصحاب المصانع والمصارف والتجارات أم دينية ثيوقراطية أسيادها مدبرو روابط الأرض والسماء – هذه "الوحدة" لا تقبل التحقيق ولا الإنجاز، ولا تبلغ غايتها. فهي، في الأحوال كلها، وحدة "رمزية" أو معنوية، ولا تردم الهوة المتجددة بين الحاكم والمحكوم. فالرغبتان اللتان تحدوان أهل السلطان المتربعين في سدة الحكم وسواد الناس المنفيين من الحكم، لا تشتركان في "موضوع" واحد، ولا تسعيان في غاية واحدة. وعلى المثالين المختلفين كتب ماكيافيلي كتابين لا تجمعهما "الدولة" الواحدة: "الأمير"، وهو كتاب في السلطان ومحله، و "المطارحات" أو "المقالات" وهو كتاب في العامة ودخولها المتحفظ في الدولة من باب إرادتها ألا تقهر.
النقض على السياسة
وفي ضوء ركن الانقسام، وصنوه ركن المنازعة، تظهر محاولات التوحيد، الوطني القومي أو الديني الاعتقادي أو الاجتماعي، على حقيقتها. فهي كلها تنزع الى نفي السياسة في حلتها الجمهورية المدنية المحدثة والناشئة عن تقييد أهل "الدولة". وتنزع كلها إلى إبطال قيام السياسة على الانقسام والمنازعة. والنازع المزدوج هذا يسميه بعض المحدثين "نقضاً على السياسة". وليس معنى هذا ان إنكار الهوة بين الحاكم والمحكوم يخالف جوهر السياسة أو ماهيتها الواحدة. فالمذهب الجمهوري المدني لا يُثبت جوهراً ولا ماهية. ولكنه يلاحظ أو يقرر انعطافاً في تاريخ السياسة وصورها ومبانيها. وآية هذا الانعطاف، أو مَعْلمه هو دخول العامة، من غير أهل السلطان والحكم، عاملاً مباشراً في تقييد السلطان، وفي تعريف نمط جديد ومختلف من "التوحيد" السياسي ووحدة الدولة والأمة. و "الثورة الديموقراطية" الأوروبية، وتعود بداياتها الى أوائل القرن السادس عشر الماكيافيلي واللوثري البروتستانتي ولم تبلغ نهاياتها بعد، هي سياقة دخول العامة عاملاً مباشراً ومتعاظم الأثر في تعريف مباني السياسة تعريفاً جديداً. وليست النزعات الكليانية (الشمولية أو التوتاليتارية)، وهي غير الاستبداد التقليدي على صوره وأشكاله القاسية، وغلبتها على النصف الأول من القرن العشرين غداة العولمة الأولى والحرب "الكونية" غير المسبوقة، إلا "أجوبة" معاصرة ومحدثة، عن تداعي "التوحيد" وصوره الاجتماعية والسياسية والقومية والدينية والثقافية.
وتسعى هذه "الأجوبة" في "علاج" الانقسامات المتكاثرة والمتفاقمة الناجمة عن الديموقراطية ونظام معاشها الرأسمالي والسوقي. فهذان، الديموقراطية ونظام المعاش الرأسمالي، ينتجان الانقسام والمنازعة، والعامة تالياً، "إنتاجاً" متعاظماً وعريضاً. فتغلب عوامل التفريق والشرذمة (على) عوامل الوحدة الرمزية والوظيفية. وتصيب غلبتها الجمهور والعامة بالذعر والقلق من تداعي آيات الوحدة (المفترضة) المفقودة والآفلة. وتصيب "الطبقات الحاكمة"، القديمة والجديدة، بالدوار والهلع من خسارة إواليات التوحيد والدمج والسلطة فاعليتها ونفاذها. والحركات الشعبوية والقومية الغالية هي جواب العامة المعاصر والثوري عن غلبة عوامل التفريق والشرذمة والتجريد من معالم الاستدلال على أركان العمران الأليفة. و "اليهودي"، يهودي "بروتوكولات حكماء صهيون" هو مطية هذه العوامل ومناطها. والإمبريالية، الاقتصادية والعسكرية، هي رد "الطبقات الحاكمة" على ضعف إواليات التوحيد والدمج والسلطة التلقائية من طريق السوق. ويُعمِل الجوابان اللذان وَلَدا "الديكتاتورية" الشيوعية و "الديكتاتورية" النازية – على تباينهما وربما استحالة تنميطهما في مثالين أو مثالات معقولة – يُعملان عوامل وموارد متاحة في المجتمعات الممتحنة والمتفرقة.
الولاية والقيادة والمقاومة
ونزعات التسلط تيمم نحو علاج "امراض" التفريق والتجريد ووهن إواليات التوحيد والدمج من طرق الشعبوية والقومية والعصبية الدينية الغالية و "الإمبريالية" المتعسكرة، ولو لم تبلغ، في البلدان المستتبعة والملحقة، "الغاية" الكليانية ومقصدها "الناجز"، واستحال عليها بلوغهما (الغاية والمقصد). وهي تتوسل الى إعمال سلطانها إعمالاً يعود عليها بالجدوى القصوى بواسطة نقض معلن على السياسة الجمهورية المدنية، ومن طريق إنكار مرير على الانقسام والمنازعة. ويقودها منزعها الى إعمال سلطان غاشم وشامل ولا راد له أو عليه في "المجتمع المدني" وجماعاته ومرافقه، الى نفي الانقسام والمنازعة ومواردهما وتظاهراتهما من العمران وطرق المعاش، وبالأحرى من الدولة والسياسة. و "ولاية الفقيه" و "الحزب القائد" و "المقاومة" هي من تظاهرات النقض على السياسة الجمهورية المدنية وصورها في بعض المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة.
فما تسعى هذه الصورة في نفيه نفياً محموماً، وفي اجتثاثه من المجتمعات أو أجزاء المجتمعات التي تتسلط عليها، هو جواز قيام مصالح وأهواء خارج دائرة السلطان وعباءته، وجواز تطرق المنازعة الى علاقة المجتمع بالسلطة أو الولاية أو القيادة. فينبغي، على زعم أهل السلطان وعلى حالهم أو أحوالهم ومزاولتهم سلطانهم، ألا ينكر عليهم أحد، فرداً أو جماعة أو جزءاً من جماعة، جمعهم مصالح "الكبراء" وأصحاب الأمر، ومصالح العامة أو الشعب، في واحد مرصوص. ولا تعليل، على هذا المنطق الفولاذي، للتحفظ أو الإنكار، أو لإثبات مصلحة منفصلة أو هوى منفصل، إلا العداوة والحرب. وإدارة السياسة على (تعريف) الصديق والعدو، على ما جرى صغار مدبجي المقالات السياسية وكبار خطباء الجماهير وقادتها، ومن ورائهما جيش لجب من ضباط الاستخبارات والدعاة و "الكوادر" والمبلّغين والموظفين – إدارة السياسة على جدولة الأصدقاء، وهم الصديق، والأعداء، وهم العدو، جدولين متقابلين تعود الى التقليد اللاهوتي النازي واللينيني – الستاليني هذا. والعودة (في "تعود إلى") ليست نقلاً، ولا اقتباساً خارجياً أو "تأثراً"، بل هي نشأة ونبات في دائرة ومسرح اجتمعت فيهما حوادث تشترك مع الحوادث الأوروبية المعاصرة في سمات متقاربة تقدم إحصاء أبرزها واخطرها.
وعلى هذا، فلا منازعة جائزة، لا سياسية ولا إعلامية ولا اجتماعية ولا ثقافية ولا قضائية ولا فردية شخصية ولا جمالية ذوقية ولا اقتصادية، "في" الدولة أو داخلها، أي داخل السلطة أو داخل المجتمع، ولا انقسام (تالياً أو أولاً) داخلياً. فخط الانقسام يفصل اضطراراً، الدولة الواحدة، دولة "الأمة" أو شطرها الذي يمثل عليها تمثيلاً مستوفياً، من العدو وعنه.
الواحد والعدو
ومصالح المحكومين، أو الرعية والناس، وهي في المرتبة الأولى تقييد القهر والتعسف، والنقض على السلطة المطلقة، والاحتكام إلى العلانية والقوانين، هذه المصالح، "الحُرِّية" هي، في اعتقاد الولي الفقيه والحزب القائد والمقاومة، حرب على الدولة والأمة وعلى وحدتها المادية والقسرية التي يمثِّل عليها الجهاز الحاكم ويجسدها من غير بقية. فتعالج الانقسامات من طريق إيجاب التوحيد المحموم والتسلط "الإمبريالي"، على طريق "ديكاتورية" فظة تترجح ملامحها الكليانية بين ظهور وانكفاء. فيسوغ التعسف المدمر بذريعة مصالح الأمة الاستراتيجية. ويصور العدوان اليومي، والتسلط، والفساد والإفساد، والتعسف، والسطو والخوات، والقتل، والسجن في صورة الحلف القومي. وينكر ان الحال هذه تدعو الى افتراق المصالح داخل البلد الواحد، وإلى قيام جماعة على جماعة دفاعاً عن مصالحها، أو قهراً لجماعة أخرى تنزع الى حماية مصالحها. وتلد الحال هذياناً يدعو الى الضحك المجلجل لولا ولادتها (الحال) وولادته (الهذيان) حياة شوهاء وشمطاء.
ولعل المسرح الإيراني، منذ سنة وبعض السنة على وجه التخصيص، والمسارح الفرعية أو الجزئية في فلسطين ولبنان وجوارهما وفي باكستان وأفغانستان و "قواعد الجهاد" في مواضع كثيرة، على مقادير متفاوتة، هي من ولائد "دولة" من غير انقسام ولا منازعة. وقاد هذا الى سرقة الولاية الإيرانية انتخابات تولت هي الدعوة إليها، ومراقبتها، وفرز مرشحيها وترتيبهم. فانقلبت الولاية على قوانين سنتها. وجهرت من غير خجل توسلها بها الى تشبيه الإجماع. وقتلت من غير تردد، على سبيل المثلة والترهيب، من ولدوا في أحضانها، ولم يعرفوا غيرها إدارة ونظاماً. ونسبت شطراً كبيراً من طاقم حكمها الى "العمالة" والمال الأجنبيين والعدوين. وأخرست بعض أبرز مراجعها وأئمتها. وسخرت إعلامها خادماً صاغراً وذليلاً لمزاعمها وكذبها وتخرصاتها ودعاويها. وأما وكالاتها و "حلفاؤها" وأذرعها الأمنية والتنفيذية والمالية و "الثقافية" هنا وهناك، فحملتها على انشقاق وفرقة ليس بينهما وبين الارتزاق والاستعانة بالأجنبي، على قول ماكيافيلي، فرق. وتترتب عليهما حروب "إيطالية". وتدعى الوكالات المحلية الى خوض الحروب "الإيطالية" هذه على مثال حروب التوحيد والتحرير الوطنيين... والماكيافيليين.
يزعم صاحب الفكر الجمهوري المدني الحديث أو المحدث، نيكولو ماكيافيلي، ان الذين يدينون الاضطرابات الناجمة عن منازعات العامة والأشراف في روما الجمهورية، وهي دام عهدها أو نظامها سبعة قرون تامة، ويذمون هذه الاضطرابات ويطعنون في الهيئات السياسية التي تبيحها و "تلدها"، إنما يغفلون عن مؤاتاتها الحرية. فالمنازعة بين الأشراف، أو طبقة الحكام، وبين العامة أو العوام، أو طبقة المحكومين، هي "السبب"، على قول "السكرتير" والديبلوماسي الإيطالي الفلورنسي، في "حرية روما" (أو "الحرية في روما"). ويخلص صاحب "الأمير" – وهو في معرضنا صاحب "المقالات في الفصول العشرة الأولى من تاريخ طيطوس ليفوس"، أو "المطارحات" على ما نقلت الى العربية قبل خمسة عقود – الى قانون يتخطى روما، مثال فن السياسة والإدارة والحرب في عصر النهضة الأوروبية، الى عموم الدول: "في كل دولة من الدول، ثمة وجهان مختلفان، وجه (ييمم إليه) الشعب ووجه (ييمم إليه) الكبراء، والقوانين التي تؤاتي الحرية وترعاها إنما هي وليدة خلاف الوجهين وتقابلهما" (الكتاب الأول، الفقرة الرابعة).
مديح الاضطرابات
ويدعو أحد أوائل نشطاء الفكر (أو "المثقفين"، على المعنى الأوروبي، غداة التجديد والنهضة والإصلاح الديني ونشأة الدول الإقليمية) الدول، وأنظمتها وأهل قوانينها وشرائعها السياسية، إلى توكيل العوام، ومن يمثلونهم وينوبون عنهم، بالوجه الذي يتولى رعاية الحرية وقوانينها. وهو يتحفظ عن توكيل الكبراء والأشراف بالرعاية هذه. فهم يشتهون السلطة، أو السلطان شهوة حادة تحملهم على سحق العامة، أو الشعب، وإلغاء القوانين التي ترعى الحرية وتؤاتيها، بينما تقتصر رغبة العامة، أو هواها السياسي، على "ألا تقهر". ولا يخلص ماكيافيلي من صفتي الهويين السياسيين – رغبة العامة في ألا تقهر، ورغبتها في تحصيل ولايات تخولها التمكين لدورها، ورغبة الكبراء في ملك السلطة وتعظيم ولاياتهم وأعمالهم – الى حسم ميله. فينبغي احتساب دور عامل آخر هو نازع النظام السياسي، إما الى التوسع، شأن روما، وإما إلى تثبيت المُلك وأركانه شأن اسبارطة والبندقية. فالنازع الى التوسع والفتح يدعو الى إشراك العامة في السلطان وثمرات التوسع. ويقتضي هذا الإقرار للعامة بمصالح منفصلة ليست مصالحَ الكبراء، بل تزاحمها وتنافسها.
وتنشأ الاضطرابات عن المزاحمة والمنافسة، على نحو ما تنشأ الفتوح والقوة والفرص السانحة والجديدة. ولكن إرساء هيئة الطعن (او التهمة) في سعي (أحد) الكبراء في الاستيلاء على السلطة، وتوكيل خطباء العامة بتوجيه الطعون، ومحاكمة المتهمين على رؤوس الأشهاد، لجم الكبراء، وحال بينهم وبين التطلع الى الاستيلاء وتجنيد المرتزقة واستدراج المساعدة الأجنبية. ويحمي توجيه الطعون علناً المطعونين من الاغتيال، ومن الشغب والهرجات. ويحمي المدينة، أو الدولة، من ظهور الشيع و "الأحزاب"، أو العصبيات المتناحرة، من الاستعانة بالمدن الأجنبية، وشراء المرتزقة. فقيود الطعن العام والعلني هي قيود "المجتمع المدني"، داخل الدولة، على سلطان الحاكم المتمادي. والحؤول دون اضطلاع المجتمع بتقييد صاحب السلطان، كبيراً مستولياً أو كبراء متعصبين عصبة مسلحة، باعث قوي على انهيار الدولة من طريق الانتصار بقوة أجنبية أو مرتزقين جوالين يبيعون قوتهم العسكرية لقاء أجر، ويستوفون أجراً إضافياً إذا أنسوا ضعفاً من الذين اشتروا خدمتهم، فينهبون المدينة التي استضافتهم، وطلبت مظاهرتهم ومساعدتهم.
محكمة الطعون
والطعن ينبغي ان يكون حراً ومطلقاً من قيد المرتبة، فيجوز الطعن في كبار الأشراف، وقادة الجيوش والفتوح، "من غير خشية ولا احترام". وهؤلاء هم الأقرب الى المطاعن والتهمة. ويفترض الطعن أو يشترط "مواجهات (أو مقابلات) حقيقية وتدقيقاً في العلل والظروف والوقائع تؤدي الى جلاء الحقيقة وأظهارها" (1/8). والطعن هو خلاف الإشاعة المغرضة، والنيل من السمعة والصيت، ونقيض الغيبة و "أكل لحم الأخ الميت"، على ما جاء في التنزيل. والمقارعة على الملأ، في محكمة الطعن، هي دواء الغيبة وكلام السوء والتعريض والغمز. ويخرج جسم الدولة السياسي من الطعن معافى، دين المطعون أم دين الطاعن، على خلاف حاله في الغيبة والغمز واللمز. فعلى الشارع، أو المشرع أو الهيئة التشريعية، إلزام مطلقي ألسنتهم خفية، ومشيعي الإشاعات والأخبار والهمسات، الاحتكامَ الى محكمة الطعون، وأصحاب ادعائها من خطباء العامة.
والأصول الماكيافيلية، الجمهورية المدنية، لا تنشئ "علماً" بالسياسة أو بالسياسيات، على قول قديم. ولم يزعم الرجل الموصوم بأبشع الوصمات، "الماكيافيلية"، ان مقالاته أو مطارحاته ترسي معايير علم أو عمل في باب لا تُبلغ فيه درجة الاجتهاد والرسوخ في العلم (درجة "الدكتوراه" في علوم اللاهوت والقانون الكنسي) ولا ينبغي لأحد أن يتوقع بلوغها، على قول اميرال فرنسي بروتستانتي عاش في النصف الثاني من القرن السادس عشر ولم يدركه ماكيافيلي. ولكن ما أرسته المقالات الماكيافيلية، على أحد وجوه تأويلها الكثيرة والمتنازعة، هو تماسك الغايات والوسائط السياسية، وترتب وسائط ووسائل بعينها على غايات دون غايات. فنشدان الحرية سائقاً أو هوى سياسياً أول أو متصدراً يرتب تقديم قوانين وهيئات ومصالح على أخرى. وتقديم قوانين وهيئات ومصالح "حُرِّية" على خلاف استبدادية، في لغة أوائل القرن العشرين بمصر، يلزم عنه ضرب من السياسات الداخلية والخارجية، على قولنا في لغتنا المعاصرة.
وحدة الدولة المستحيلة
ولا يذهب الفلورنسي الأشهر ربما الى ان المذهب الجمهوري المدني، والجمهورية هي صنو الوطنية والعامية و "دولتهما" معاً، هو الأمثل عموماً. وهو يراه خير المثالات، بعد ان يستخرج عناصره وعوامله من حوادث متفرقة معاصرة وقديمة ويوجب لحمة العناصر والعوامل هذه ويبنيها بناء "صناعياً"، قياساً على احوال إيطاليا المعاصرة، وعلى غايات يفترضها، ولا يرى احتمال بلوغها من غير طريق الجمهورية المدنية. وهذه حال من أحوال تماسك الغايات والوسائط السياسية، وترتب وسائط ووسائل على طلب غايات دون أخرى، على ما سبق الإلماح للتو.
ويدعو هذا صاحب "الأمير" و "المطارحات" و "فن الحرب" و "تاريخ فلورنسا" الى تبديد "مزاعم" في السياسات لا تستقيم السياسة الجمهورية المدنية مع رواجها والإيهام بها أو تصديقها. والزعم الأول والأساس هو تشبيه وحدة الشعب (العامة) والكبراء (الحكام أو السلطان)، وادعاء حقيقة هذه الوحدة. فيذهب الجمهوري المدني الى ان الدولة، والسلطان السياسي والاجتماعي تالياً، تفترض حاكمين ومحكومين، او مسيطرين وصادعين بالسيطرة، على قول ماكس فيبر، أو أولياء أمر ورعية و "ناساً". والسياسة (الأمر) تنهض على القسمة هذه، أو الانقسام هذا. ولا يزعم لأمَ الانقسام، و "مداواته"، وختمه على ما يقال في الجروح، إلا أهلُ السلطان المتمكنون والمحافظون والقاهرون. ولا ينفع في التستر على الانقسام نصبُ السلطان، وموقعه أو محله، "ممثلاً" للشعب، ونائباً عنه، ومكلفاً الدفاع عن مصالحه، على ما زعم الشيوعي الإيطالي انطونيو غرامشي في "امير(ه) الحديث". فالمحلان، محل الحاكم ومحل المحكوم، كائناً من كان شاغلاهما والقائمان بهما، هما على طرفي تقابل (وليس نقيض، على ما يأتي القول) ومنازعة تكوينيين، على قول لاهوتي وغيبي في الإمامة وحكمها وسلطانها.
وعلى هذا، فـ "وحدة" الدولة – أرستقراطية يحكمها الكبراء والأشراف أم بروليتارية يحكمها من لا يملكون شيئاً (على معنى "بروليتاري" الأول) أم بورجوازية تعود الولاية عليها الى اصحاب المصانع والمصارف والتجارات أم دينية ثيوقراطية أسيادها مدبرو روابط الأرض والسماء – هذه "الوحدة" لا تقبل التحقيق ولا الإنجاز، ولا تبلغ غايتها. فهي، في الأحوال كلها، وحدة "رمزية" أو معنوية، ولا تردم الهوة المتجددة بين الحاكم والمحكوم. فالرغبتان اللتان تحدوان أهل السلطان المتربعين في سدة الحكم وسواد الناس المنفيين من الحكم، لا تشتركان في "موضوع" واحد، ولا تسعيان في غاية واحدة. وعلى المثالين المختلفين كتب ماكيافيلي كتابين لا تجمعهما "الدولة" الواحدة: "الأمير"، وهو كتاب في السلطان ومحله، و "المطارحات" أو "المقالات" وهو كتاب في العامة ودخولها المتحفظ في الدولة من باب إرادتها ألا تقهر.
النقض على السياسة
وفي ضوء ركن الانقسام، وصنوه ركن المنازعة، تظهر محاولات التوحيد، الوطني القومي أو الديني الاعتقادي أو الاجتماعي، على حقيقتها. فهي كلها تنزع الى نفي السياسة في حلتها الجمهورية المدنية المحدثة والناشئة عن تقييد أهل "الدولة". وتنزع كلها إلى إبطال قيام السياسة على الانقسام والمنازعة. والنازع المزدوج هذا يسميه بعض المحدثين "نقضاً على السياسة". وليس معنى هذا ان إنكار الهوة بين الحاكم والمحكوم يخالف جوهر السياسة أو ماهيتها الواحدة. فالمذهب الجمهوري المدني لا يُثبت جوهراً ولا ماهية. ولكنه يلاحظ أو يقرر انعطافاً في تاريخ السياسة وصورها ومبانيها. وآية هذا الانعطاف، أو مَعْلمه هو دخول العامة، من غير أهل السلطان والحكم، عاملاً مباشراً في تقييد السلطان، وفي تعريف نمط جديد ومختلف من "التوحيد" السياسي ووحدة الدولة والأمة. و "الثورة الديموقراطية" الأوروبية، وتعود بداياتها الى أوائل القرن السادس عشر الماكيافيلي واللوثري البروتستانتي ولم تبلغ نهاياتها بعد، هي سياقة دخول العامة عاملاً مباشراً ومتعاظم الأثر في تعريف مباني السياسة تعريفاً جديداً. وليست النزعات الكليانية (الشمولية أو التوتاليتارية)، وهي غير الاستبداد التقليدي على صوره وأشكاله القاسية، وغلبتها على النصف الأول من القرن العشرين غداة العولمة الأولى والحرب "الكونية" غير المسبوقة، إلا "أجوبة" معاصرة ومحدثة، عن تداعي "التوحيد" وصوره الاجتماعية والسياسية والقومية والدينية والثقافية.
وتسعى هذه "الأجوبة" في "علاج" الانقسامات المتكاثرة والمتفاقمة الناجمة عن الديموقراطية ونظام معاشها الرأسمالي والسوقي. فهذان، الديموقراطية ونظام المعاش الرأسمالي، ينتجان الانقسام والمنازعة، والعامة تالياً، "إنتاجاً" متعاظماً وعريضاً. فتغلب عوامل التفريق والشرذمة (على) عوامل الوحدة الرمزية والوظيفية. وتصيب غلبتها الجمهور والعامة بالذعر والقلق من تداعي آيات الوحدة (المفترضة) المفقودة والآفلة. وتصيب "الطبقات الحاكمة"، القديمة والجديدة، بالدوار والهلع من خسارة إواليات التوحيد والدمج والسلطة فاعليتها ونفاذها. والحركات الشعبوية والقومية الغالية هي جواب العامة المعاصر والثوري عن غلبة عوامل التفريق والشرذمة والتجريد من معالم الاستدلال على أركان العمران الأليفة. و "اليهودي"، يهودي "بروتوكولات حكماء صهيون" هو مطية هذه العوامل ومناطها. والإمبريالية، الاقتصادية والعسكرية، هي رد "الطبقات الحاكمة" على ضعف إواليات التوحيد والدمج والسلطة التلقائية من طريق السوق. ويُعمِل الجوابان اللذان وَلَدا "الديكتاتورية" الشيوعية و "الديكتاتورية" النازية – على تباينهما وربما استحالة تنميطهما في مثالين أو مثالات معقولة – يُعملان عوامل وموارد متاحة في المجتمعات الممتحنة والمتفرقة.
الولاية والقيادة والمقاومة
ونزعات التسلط تيمم نحو علاج "امراض" التفريق والتجريد ووهن إواليات التوحيد والدمج من طرق الشعبوية والقومية والعصبية الدينية الغالية و "الإمبريالية" المتعسكرة، ولو لم تبلغ، في البلدان المستتبعة والملحقة، "الغاية" الكليانية ومقصدها "الناجز"، واستحال عليها بلوغهما (الغاية والمقصد). وهي تتوسل الى إعمال سلطانها إعمالاً يعود عليها بالجدوى القصوى بواسطة نقض معلن على السياسة الجمهورية المدنية، ومن طريق إنكار مرير على الانقسام والمنازعة. ويقودها منزعها الى إعمال سلطان غاشم وشامل ولا راد له أو عليه في "المجتمع المدني" وجماعاته ومرافقه، الى نفي الانقسام والمنازعة ومواردهما وتظاهراتهما من العمران وطرق المعاش، وبالأحرى من الدولة والسياسة. و "ولاية الفقيه" و "الحزب القائد" و "المقاومة" هي من تظاهرات النقض على السياسة الجمهورية المدنية وصورها في بعض المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة.
فما تسعى هذه الصورة في نفيه نفياً محموماً، وفي اجتثاثه من المجتمعات أو أجزاء المجتمعات التي تتسلط عليها، هو جواز قيام مصالح وأهواء خارج دائرة السلطان وعباءته، وجواز تطرق المنازعة الى علاقة المجتمع بالسلطة أو الولاية أو القيادة. فينبغي، على زعم أهل السلطان وعلى حالهم أو أحوالهم ومزاولتهم سلطانهم، ألا ينكر عليهم أحد، فرداً أو جماعة أو جزءاً من جماعة، جمعهم مصالح "الكبراء" وأصحاب الأمر، ومصالح العامة أو الشعب، في واحد مرصوص. ولا تعليل، على هذا المنطق الفولاذي، للتحفظ أو الإنكار، أو لإثبات مصلحة منفصلة أو هوى منفصل، إلا العداوة والحرب. وإدارة السياسة على (تعريف) الصديق والعدو، على ما جرى صغار مدبجي المقالات السياسية وكبار خطباء الجماهير وقادتها، ومن ورائهما جيش لجب من ضباط الاستخبارات والدعاة و "الكوادر" والمبلّغين والموظفين – إدارة السياسة على جدولة الأصدقاء، وهم الصديق، والأعداء، وهم العدو، جدولين متقابلين تعود الى التقليد اللاهوتي النازي واللينيني – الستاليني هذا. والعودة (في "تعود إلى") ليست نقلاً، ولا اقتباساً خارجياً أو "تأثراً"، بل هي نشأة ونبات في دائرة ومسرح اجتمعت فيهما حوادث تشترك مع الحوادث الأوروبية المعاصرة في سمات متقاربة تقدم إحصاء أبرزها واخطرها.
وعلى هذا، فلا منازعة جائزة، لا سياسية ولا إعلامية ولا اجتماعية ولا ثقافية ولا قضائية ولا فردية شخصية ولا جمالية ذوقية ولا اقتصادية، "في" الدولة أو داخلها، أي داخل السلطة أو داخل المجتمع، ولا انقسام (تالياً أو أولاً) داخلياً. فخط الانقسام يفصل اضطراراً، الدولة الواحدة، دولة "الأمة" أو شطرها الذي يمثل عليها تمثيلاً مستوفياً، من العدو وعنه.
الواحد والعدو
ومصالح المحكومين، أو الرعية والناس، وهي في المرتبة الأولى تقييد القهر والتعسف، والنقض على السلطة المطلقة، والاحتكام إلى العلانية والقوانين، هذه المصالح، "الحُرِّية" هي، في اعتقاد الولي الفقيه والحزب القائد والمقاومة، حرب على الدولة والأمة وعلى وحدتها المادية والقسرية التي يمثِّل عليها الجهاز الحاكم ويجسدها من غير بقية. فتعالج الانقسامات من طريق إيجاب التوحيد المحموم والتسلط "الإمبريالي"، على طريق "ديكاتورية" فظة تترجح ملامحها الكليانية بين ظهور وانكفاء. فيسوغ التعسف المدمر بذريعة مصالح الأمة الاستراتيجية. ويصور العدوان اليومي، والتسلط، والفساد والإفساد، والتعسف، والسطو والخوات، والقتل، والسجن في صورة الحلف القومي. وينكر ان الحال هذه تدعو الى افتراق المصالح داخل البلد الواحد، وإلى قيام جماعة على جماعة دفاعاً عن مصالحها، أو قهراً لجماعة أخرى تنزع الى حماية مصالحها. وتلد الحال هذياناً يدعو الى الضحك المجلجل لولا ولادتها (الحال) وولادته (الهذيان) حياة شوهاء وشمطاء.
ولعل المسرح الإيراني، منذ سنة وبعض السنة على وجه التخصيص، والمسارح الفرعية أو الجزئية في فلسطين ولبنان وجوارهما وفي باكستان وأفغانستان و "قواعد الجهاد" في مواضع كثيرة، على مقادير متفاوتة، هي من ولائد "دولة" من غير انقسام ولا منازعة. وقاد هذا الى سرقة الولاية الإيرانية انتخابات تولت هي الدعوة إليها، ومراقبتها، وفرز مرشحيها وترتيبهم. فانقلبت الولاية على قوانين سنتها. وجهرت من غير خجل توسلها بها الى تشبيه الإجماع. وقتلت من غير تردد، على سبيل المثلة والترهيب، من ولدوا في أحضانها، ولم يعرفوا غيرها إدارة ونظاماً. ونسبت شطراً كبيراً من طاقم حكمها الى "العمالة" والمال الأجنبيين والعدوين. وأخرست بعض أبرز مراجعها وأئمتها. وسخرت إعلامها خادماً صاغراً وذليلاً لمزاعمها وكذبها وتخرصاتها ودعاويها. وأما وكالاتها و "حلفاؤها" وأذرعها الأمنية والتنفيذية والمالية و "الثقافية" هنا وهناك، فحملتها على انشقاق وفرقة ليس بينهما وبين الارتزاق والاستعانة بالأجنبي، على قول ماكيافيلي، فرق. وتترتب عليهما حروب "إيطالية". وتدعى الوكالات المحلية الى خوض الحروب "الإيطالية" هذه على مثال حروب التوحيد والتحرير الوطنيين... والماكيافيليين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق