الحياة 18/8/2010
يخوض «حزب الله» «معركة الصورة (و) معركة الرأي العام»، على قول خطيبه المأذون، بأسلحة ماضية ومجربة. فهو يتهم اسرائيل باغتيال رفيق الحريري قبل خمسة أعوام ونصف العام. ويدخل الاغتيال في باب «مشروع سياسي بدأ بعد العام 2000 وله علاقة بالمنطقة كلها، لبنان وسورية وفلسطين كانوا حلقة من حلقات هذا المشروع السياسي الكبير الذي أدى الى اجتياح بلدان في العراق وأفغانستان (و) أدى الى عمليات اغتيال بحجم اغتيال الرئيس الحريري». ويتخطى الإحصاء اسرائيل الى الولايات المتحدة، بديهة، ويلم بالرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، وبحواشٍ عريضة من السياسات الدولية. وما السياسات الدولية الاّ المسرح الذي يدعو الخطيب الراوي جمهوره المعتاد والمألوف الى الصولة والجولة في جنباته وبين متونه. ويتوسط المسرح «بطلان» يتقاتلان «كأنهما جبلان»، على قول القصص الشعبي القديم، ويطارد واحدهما الآخر براً وجواً وبحراً.
الإجماع «الشعبي»
وتهمة اسرائيل - أمام جمهور لبناني وعربي مسلم - وهي تقاتل (الـ) لبنانيين ويقاتلها (الـ) لبنانيون وتقاتل «عرباً» ويقاتلها عرب على صور القتال الكثيرة والمتشابكة منذ 1967 وقبلها وغداتها، ويُسأل القتال هذا عن كوارث لا تحصى - هذه التهمة رابحة سلفاً، أو ينبغي أن تكون رابحة سلفاً. فالتاريخ الطويل من القتال المرير، وهو تخللته اجتياحات وحملات كبيرة وصغيرة وهجرات قسرية واغتيالات واعتقالات وأعمال خطف ووشايات، هذا التاريخ لا يغص بحادثة مثل اغتيال رفيق الحريري، على رغم عسر ابتلاعها، شرط إحسان المداواة بالمحبة. ولا ينقص الطبيب «المداويا»، على قول مجنون ليلى، الاعتداد بالنفس، ولا الخبرة في مثل الميدان الاستخباري هذا. ومن شمائل توجيه التهمة الى ذراع اسرائيل الاستخبارية والعسكرية وفضائله حضور الرد على المتحفظ أو المشكك أو المتيقن من ثبات التهمة على أذرع استخبارية وسياسية أخرى قريبة أو لصيقة.
وفي أثناء الخطبة الطويلة الأخيرة، وما لا يحصى من الخطب والتصريحات والبيانات، لم يعدم الخطيب، ولا عدم أصحابه إعمال الرد على المتحفظين والمتشككين، والمتيقنين (بثبات التهمة أو رجحانها)، وهو تهمة هؤلاء بموالاة العدو، والميل معه ومواطأته. فقال نائب خطيب الحزب الخميني المسلح، شارحاً خطبة صاحبه قبل يوم واحد: «سينزعج البعض كثيراً... من توجيه التهمة لإسرائيل، هم لا يريدون أن تكون اسرائيل متهمة...». ويغمز الأمين العام نفسه من قناة «البعض» الذي «كان يتعاطى أن الإسرائيلي ليس له نشاط عملياتي على الساحة اللبنانية، وهو غير معني وغير متهم أصلاً بأي عملية اغتيال تجري على الساحة اللبنانية...». ويذهب صاحب الخطبة الى أن المتلكئين في تهمة اسرائيل باغتيال الحريري حابسون ألسنتهم وظنونهم واستدلالهم عن تهمتها بأعمال الاغتيال كلها، وفيها اغتيال علي ديب وغالب عوالي (أو عوالة على ما يكتب موقع «المنار» كذلك). وهذا من قبيل تعميم المنفعة المتوقعة من تجريم التحفظ. وهو يفترض أن لجنة التحقيق الدولي هي، شأن «البعض» المغطي والمتواطئ، في صف المغضين المتواطئين. فيسأل: «هل جاءت لجنة التحقيق الدولي (...) لتسأل محمود رافع (الضالع في قتل الأخوين مجذوب بصيدا في 2006) عن هؤلاء الإسرائيليين الذين كان يدخلهم الى الأراضي اللبنانية... ماذا كانوا يفعلون؟».
وعلى هذا، فإدراج اغتيال رفيق الحريري في سلسلة الاغتيالات الإسرائيلية التي تطاولت الى جنود المنظمة الخمينية المسلحة في لبنان، وبعض جنود منظمات فلسطينية أخرى، يُدخل القتيل في باب معروف اعتاد الإجماع «الشعبي» والرسمي العروبي، أو نبض الشارع العربي على القول السوري الإذاعي والتلفزيوني، التسليم به، والنزول له عن بحث مرهق ومربك في مرتكبين آخرين محتملين، ومعروفين على رؤوس الأشهاد في بعض الأحيان. ويضمن الإدراج في الباب الإسرائيلي رداً ينبغي أن يخرس المتردد المتحفظ، أو يعقل لسانه على أضعف تقدير، ويدعو المتحفظ الى طلب السلامة. وقد يفترض الخطيب وأصحابه ربما أن «تبني» رفيق الحريري قتيلاً وشهيداً، بعد الطعن فيه وعليه وتهمته (سياسياً) حياً وفاعلاً، ينبغي أن يحمله أنصار الحريري على وجوه التكريم، والبراءة من المطاعن السابقة كلها، والإشراك في الصف «الوطني» الواحد. وهي مقدمات ضرورية للعودة الى «العصر الذهبي» والفردوسي الذي أخرج طيُّه القوات السورية ورصدها واستطلاعها من لبنان، وأفقد «المقاومة» وولايتها الوكالة والسند العربيين المرغمين والشجاعين.
ويعول الوكيل الخميني المسلح والأمني، بعد تعويله على قبول تهمة اسرائيل في الشاردة والواردة، على خبرته، وخبرة فريقه الأمنية الطويلة والعريضة. وخطبته الأخيرة (في 9 آب/ أغسطس) تتعمد صوغ الخبرة في ما يشبه أصول المهنة أو الحرفة ومبادئها الأولى العملانية. وأوّل الأصول أصل نفسي. و «التحليل» النفسي، والإلمام بالارتباك والتخبط والهستيريا و «تصدير المشاكل»، من الأمور التي يشغف بها «الكوادر» شغفاً عظيماً. وفي تقديم «المعطيات» يصدر الخطيب المنظَّم سرده برواية «تمكن الإسرائيلي منذ البداية من أن يزرع في أذهان كثيرين (أولهم رفيق الحريري نفسه - الكاتب) وجود مؤامرة وهمية». وهذه المؤامرة تولى أحمد حسين نصرالله، ويعرفه المحقق تعريفه الجامع والمانع «عميل اسرائيلي»، تلفيقها أولاً. وهي تزعم أن عماد مغنية وعلي ديب (أبو حسن سلامة) ينويان قتل رفيق الحريري بعد استدراجه الى زيارة صيدا للتعزية بشقيقته، بهية.
ويروي أمين عام القوم أن «العميل الإسرائيلي (استطاع) أن يزرع هذه التلفيقة وهذه التركيبة». وأين زرع أحمد نصرالله «التلفيقة»؟ هذه يجيب الأمين العام: «هذا شاهد على بدايات التلفيق وإشباع ذهن الرئيس الحريري بهذا الامر». ومعنى هذا أن ذهن الرئيس الحريري، في 1993، «أشبع» بمزاعم عن نية «حزب الله» اغتياله. ودليل المتكلم على «الإشباع» بعد «الزرع» أن غازي كنعان أوقف علي ديب بعنجر، و «طحن عظامه» قبل ارساله الى دمشق، بناء على «إخبار» من رفيق الحريري نقلاً عن جهاز أمنه، نقلاً عن أحمد نصرالله. ويتابع من لا قرابة بينه وبين «العميل»: «بطبيعة الحال لنا أن نفترض أن الرئيس الشهيد لم يبلغ فقط اللواء غازي كنعان، بل أبلغ بقية الأصدقاء في سورية، أبلغ الطاقم المحيط به، له أصدقاء فرنسيون وسعوديون وخليجيون وأوروبيون وآخرون». ويختم صاحبهم برهانه القطعي، بل واليقيني منتصراً: «وهكذا تمكن الإسرائيلي منذ البداية من أن يزرع في أذهان كثيرين وجود مؤامرة وهمية من هذا النوع». وينبغي أن يفهم الجمهور، سامعين، مشاهدين أو قراء، أن الجرثومة الاستخبارية الإسرائيلية انتقلت، من طريق الزرع فالإشباع فالتبليغ فالعدوى الوبائية في «بيئات حاضنة» ملائمة (قصر الإحصاء على الفرنسيين والسعوديين... وترك «آخرون» معلقين)، الى المحققين الدوليين في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. وليست تهمة اليوم المفترضة والمقدرة إلا رجع صدى «البداية» المطمورة في مثاوٍ أربعة: مثوى علي ديب ورفيق الحريري وغازي كنعان وعماد مغنية، الى ملجأ أحمد نصرالله المتواري. وهذا أصل استخباري متين يستعير مثاله من شرح ابن أبي الحديد وتعقبه رؤوس العلل ومصادر الزيغ.
والأصل الاستخباري الثاني ينص عليه الخطيب الخبير على سبيل الذكر أو التذكير: «يجب أن أذكر بأن الاستطلاع الميداني هو خطوة متقدمة تسبق التنفيذ، لأنه بها يستكمل الملف... ويلحقه تأمين الإمكانات وتنفيذ العملية». وينبه الخطيب الى الأصل الاستخباري الثاني في أعقاب «تقرير» يتناول فيليبوس حنا صادر وتقصيه جوار منزل «فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال سليمان»، وأحوال يخت «قائد الجيش اللبناني العماد قهوجي». وعلى هذا فـ «المعلومات (هذه) تنفيذية»، وليست لـ «الفكهنة»، على قول الرجل مسترسلاً. والمقصود بالصفة التنفيذية أن الاستطلاع هو، قطعاً وعن خبرة وعلم، «من أجل التحضير لتنفيذ عملية اغتيال في تلك المنطقة». وفي ضوء عملية أنصارية - لوبية ثبت أن «عملية الاستطلاع (الجوي) المؤدية الى هذا المكان كانت تمهيداً لعملية أمنية». وفي أحوال أخرى لدى الجماعة العتيدة «نماذج عديدة من عمليات استطلاع جوي اسرائيلي كانت تحضر لعمليات اغتيال».
والقاعدة الاستخبارية (أو الأصل) هذه تقبل بل تشترط مرونة تنفيذية زمنية، ولا يجوز التسرع في تأويلها تأويلاًَ وشيكاً: «التصوير ليس معناه أنه بعد يومين أو ثلاثة ستكون العملية، أحياناً قد يستمر هذا الأمر لأشهر وأحياناً قد يستمر لسنوات». واقتضى اغتيال الأخوين محمود ونضال المجذوب «8 سنوات من العمل الدؤوب». والثابت في المهنة والخبرة اللتين يصدر عنهما المحقق والنائب العام والضابط العدلي والقاضي والمنفذ أحياناً(؟)، (وهو الخطيب الجماهيري)، هو الرابط الضروري والطبيعي، على معنى الفيزيائي، بين التقصي وبين القتل، أو بين جمع المعلومات وبين التنفيذ. وهذه «الفكرة» هي عمود القضية الاتهامية. ويصوغها المحامي المرافع في «محكمة» الصورة والرأي العام على شاكلة قياس يحسبه محكماً، أو يريد أن يحسبه الجمهور محكماً. وخلاصة «القياس»: كل جمع معلومات يترتب عليه اغتيال عاجل أم آجل، والاستخبارات الإسرائيلية جمعت معلومات عن رفيق الحريري، فالاستخبارات الإسرائيلية هي من اغتال رفيق الحريري.
ويفصِّل الخطيب (المقتل) عناصر «القياس» تدريجاً. فبعد عامل الوقت، يُدخل التخصيص على الاستعلام والاستطلاع والتصوير، فينبه، في اطار استباق التنفيذ، الى مكانة «المنعطفات»، والى تصويرها «بشكل محدد ومن زوايا متعددة وفي أماكن متعددة» (والجزء الأخير من الجملة غامض أو هو استطراد خطابي). ويستدعي البرهان الخبراء مرتين في فقرة واحدة. ويحتج بخبرة شخصية، موكبية، في معرض اثبات ما يعرفه ركاب السيارات العمومية والبوسطات و «الفانات» جميعاً منذ ركوبهم هذه أو تلك، وهو إبطاء السيارة سيرها عند المنعطفات. ويختم كلامه التعليمي والتربوي، والإشراكي التجريبي والشخصي، بالإسم أو التسمية: «وهذا يسمونه المقتل». وعلى «المنطق» الإسمي نفسه، وهو منطق الأشباه والنظائر، يحشر المحقق العدو في مقتل التحقيق: «لماذا كان (الإسرائيلي) يقوم بتصوير هذه الأماكن، ويقوم بالتركيز عليها في أوقات متعددة ومن زوايا متعددة».
والسلاح الثالث الماضي الذي يعمله أمين عام الجماعة الخمينية المسلحة في الجمهور، وهو مسرح «معركة الصورة والرأي العام» ومناطها وغنيمتها، هو شهوة الحكاية أو القصص. فإلى التعويل على استجابة «الرأي العام» العروبي و «الإسلامي» تحميل «أصل الشر» التبعة عن تناسل الشرور، والى التسلح بالخبرة الاستخبارية العملية والتلويح بها ونصبها «علماً» ضرورياً، يشهر الخطيب المحدث والقاص قصصه وأخباره ومصادره ووثائقه ورواياته. ويوكل إخراجُ المشهد القصصي والتلفزيوني الى أجزاء وثائقية «حية»، بعضها صور جوية وبعضها اعترافات وبعضها تعريفات أو «فيش»، قطع رتابة كلام الفرد أو الواحد. ويغرف الراوي من ذاكرة أرشيف منظمته وتحقيقاتها وتقصيها، وأرشيف القضاء اللبناني المصور، والقصاصات الصحافية، أخباراً وشواهد وأسانيد يخلطها بتأويل مضمر أو معلن، ويحضر هو نفسه بعضها. وينقل «زوايا» المشاهد أو الروايات و «أبطالها»، ويجمعها ويفرقها من «علو» 20 سنة كاملة، ومن «عرش» مخاطِب الرؤساء ومخاطَبهم (ولو كتابة، وهذه تميز حافظ الأسد من ابنه وخالفه). وهو، في هذا كله وغيره وفوق هذا وغيره، مرجع مقاتلين مجاهدين، لصيقين بالأرض وخبيرين بها، ومنكبين على فك ألغاز العدو والتعلم من الاختبارات والمحن والانتصارات، ومتقلبين بين جوانب عالم حدّاه المباشران والماثلان الحياة (القوية) والموت (البطولي).
وهذه المواقع والمحال تتيح لصاحبها، سماحة الأمين العام، كشف الغطاء عن «الأسرار»، سراً سراً، والوعد بأسرار آتية، والتلويح والوعيد بـ «كلام كثير» يهتك الحجب، و «يبقر» العلم، على ما قيل في أحد «أجداد» الخطيب. ويحصل هذا كله على مسمع الجمهور ومرأى منه. فيدخل الجمهور العريض، وهو دوائر الأهل القريبة فالأبعد فالأبعد، «الكساء» العائلي والرحمي، ويُستقبل في ديوان المضرب استقبال أهل الدار، ويشرَك في صناعة الحوادث والانتصارات العظيمة إشراكاً تبدو الانتخابات النيابية والبلدية في ضوئه المتوهج إيماءً تافهاً وأجوف، وتبدو «الديموقراطية» وهيئاتها سعدنة سخيفة. وعلى رغم الوقت الداهم، على الدوام، يتعمد صاحب القوم تعقب التفاصيل، تثبيتاً للحجة، وتقوية للبرهان، وإعلاء للخبرة والعلم. وعلى هذا، يتعقب الخطيب، على مسمع الجمهور وفهمه، طريقين كان يتنقل رفيق الحريري عليهما «أكثر من غيرهما... بين مجلس النواب وقصره»، بمحلة قريطم. ومحطات الطريق الأولى، البحرية، هي السان جورج ومسبح الجامعة الأميركية فالمنارة - الحمام العسكري، فدبيبو ثم مفرق محل وجبات الدجاج الجاهزة (كانتاكي فرايد شيكين) فشارع شاتيلا بحذاء السفارة السعودية والكوليج وبروتستان المفضي الى القصر.
وأما الطريق الثاني فـ «يمر عبر شارع بلس وصولاً الى النادي الرياضي مقابل الحمام العسكري ليكمل من هناك على نفس المسار مع الطريق الأول الى منطقة الحريري وقصر الحريري، (ويلي الوصف تعليق مستفيض على صور جوية لمنعطف المنارة الجديدة وكوع دبيبو). والحق أن «الطريق الثانية» لا تستوفي المقارنة مع الطريق الأولى، لا من قريب ولا من بعيد. فبين مجلس النواب، منطلقاً مفترضاً، أو قصر قريطم منطلقاً مفترضاً آخر، من جهة، وبين شارع بلس بموازاة مباني الجامعة الأميركية وبواباتها (من مرأب المستشفى شرقاً الى مبنى السفارة السعودية القديم والمركز الثقافي الألماني («غوته إنستيتيوت») غرباً، من جهة ثانية، محطات ومراحل كثيرة تبطل المقارنة المفترضة. ولا يسع الموكب، من قريطم، بلوغ بلس، واتجاه سيره إلزامي وواحد من الشرق الى الغرب على خلاف كورنيش المنارة، إلا إذا يمّم الموكب صوب أوتيل البريستول وانعطف شمالاً الى شارع عبدالعزيز وبلغ نهايته قرب بوابة حرم الجامعة الأميركية («ميديكيل غايت» في رطانة قوم الجامعة)، مطلع بلس. والطرق كلها هذه مكتظة بالسيارات والناس في ساعات النهار كلها. وأما بلوغ بلس من ساحة النجمة فيفترض اجتياز باب إدريس الى ستاركو والوادي (القديم) فالهوليداي إن، أو أطلاله الى عين المريسة مروراً بمحطتي الداعوق والديك القديمتين، وليس من طريق كليمنصو، على خلاف «شرح» الخطيب. وأما ما يصفه الخطيب بنبرته الجازمة والواثقة الواحدة فهو دوران الموكب المفترض على نفسه في دائرة حلزونية أو أفعوانية («بركيلية»، على قول المير طلال أرسلان، أحد حلفاء الأمين العام المقربين وأحد زوار «العتبات»، في... رفيق الحريري).
البداية والنهاية
والداعي الى المقارنة هو تشبيه الدقة والخبرة والإلفة، والتسليم لشهوة «العلم» والإحاطة، وتلبية نهم الجمهور الى فك الألغاز وجلاء الأسرار. فحاجة الخطيب الى الاستواء في محل الخبرة الاستقصائية والاستطلاعية والاستخبارية، ماسة وملحّة. وتكثير التفاصيل والدقائق العائدة الى طريق الموكب ومحل الانفجار والاغتيال (وهو طريق منفرج يبلغ انفراجه 150 درجة تقريباً من 180، وعليه فهو ليس منعطفاً ولا كوعاً، وهو وصلة ضعيفة الانحناء أو «بريتييل» ولا تقارن بكوع دبيبو ومنعطفه في العتبه)، تكثير التفاصيل هذه يحرف الانتباه عن «مقتل» التقرير الذي قرأه أمين عام الجماعة الشيعية المسلحة. فالتقرير ينتهي، موقتاً على قول ملقيه وقارئه، الى تناول مسرح الجريمة، بين أطلال السان جورج وأوتيل النورماندي أو «عظم» بنائه وهيكله. ويقتصر التناول على رسم الطريق، والمقارنة المفتعلة والمشبِّهة، وعلى الصور الجوية المنتخبة أو المتاحة اتفاقاً، وغير المؤرخة والطيران الإسرائيلي اليومي (منذ عملية شريط شبعا في خريف عام 2000 وبعد تعليق دام من 24 حزيران (يونيو)، يوم الانسحاب والجلاء، الى غداة العملية).
ويبلغ «التحقيق» في القضية الإسرائيلية مسرح الجريمة في ختام قصص طويل ومتعرج «يثبت» على وجه قاطع ان الاستخبارات الإسرائيلية تتعقب كوادر «المقاومة الإسلامية» (الشيعية الخمينية) وتجزيهم عن عملهم وقتالهم قتلاً واغتيالاً، ما وسع يديها القتل والاغتيال.
يخوض «حزب الله» «معركة الصورة (و) معركة الرأي العام»، على قول خطيبه المأذون، بأسلحة ماضية ومجربة. فهو يتهم اسرائيل باغتيال رفيق الحريري قبل خمسة أعوام ونصف العام. ويدخل الاغتيال في باب «مشروع سياسي بدأ بعد العام 2000 وله علاقة بالمنطقة كلها، لبنان وسورية وفلسطين كانوا حلقة من حلقات هذا المشروع السياسي الكبير الذي أدى الى اجتياح بلدان في العراق وأفغانستان (و) أدى الى عمليات اغتيال بحجم اغتيال الرئيس الحريري». ويتخطى الإحصاء اسرائيل الى الولايات المتحدة، بديهة، ويلم بالرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، وبحواشٍ عريضة من السياسات الدولية. وما السياسات الدولية الاّ المسرح الذي يدعو الخطيب الراوي جمهوره المعتاد والمألوف الى الصولة والجولة في جنباته وبين متونه. ويتوسط المسرح «بطلان» يتقاتلان «كأنهما جبلان»، على قول القصص الشعبي القديم، ويطارد واحدهما الآخر براً وجواً وبحراً.
الإجماع «الشعبي»
وتهمة اسرائيل - أمام جمهور لبناني وعربي مسلم - وهي تقاتل (الـ) لبنانيين ويقاتلها (الـ) لبنانيون وتقاتل «عرباً» ويقاتلها عرب على صور القتال الكثيرة والمتشابكة منذ 1967 وقبلها وغداتها، ويُسأل القتال هذا عن كوارث لا تحصى - هذه التهمة رابحة سلفاً، أو ينبغي أن تكون رابحة سلفاً. فالتاريخ الطويل من القتال المرير، وهو تخللته اجتياحات وحملات كبيرة وصغيرة وهجرات قسرية واغتيالات واعتقالات وأعمال خطف ووشايات، هذا التاريخ لا يغص بحادثة مثل اغتيال رفيق الحريري، على رغم عسر ابتلاعها، شرط إحسان المداواة بالمحبة. ولا ينقص الطبيب «المداويا»، على قول مجنون ليلى، الاعتداد بالنفس، ولا الخبرة في مثل الميدان الاستخباري هذا. ومن شمائل توجيه التهمة الى ذراع اسرائيل الاستخبارية والعسكرية وفضائله حضور الرد على المتحفظ أو المشكك أو المتيقن من ثبات التهمة على أذرع استخبارية وسياسية أخرى قريبة أو لصيقة.
وفي أثناء الخطبة الطويلة الأخيرة، وما لا يحصى من الخطب والتصريحات والبيانات، لم يعدم الخطيب، ولا عدم أصحابه إعمال الرد على المتحفظين والمتشككين، والمتيقنين (بثبات التهمة أو رجحانها)، وهو تهمة هؤلاء بموالاة العدو، والميل معه ومواطأته. فقال نائب خطيب الحزب الخميني المسلح، شارحاً خطبة صاحبه قبل يوم واحد: «سينزعج البعض كثيراً... من توجيه التهمة لإسرائيل، هم لا يريدون أن تكون اسرائيل متهمة...». ويغمز الأمين العام نفسه من قناة «البعض» الذي «كان يتعاطى أن الإسرائيلي ليس له نشاط عملياتي على الساحة اللبنانية، وهو غير معني وغير متهم أصلاً بأي عملية اغتيال تجري على الساحة اللبنانية...». ويذهب صاحب الخطبة الى أن المتلكئين في تهمة اسرائيل باغتيال الحريري حابسون ألسنتهم وظنونهم واستدلالهم عن تهمتها بأعمال الاغتيال كلها، وفيها اغتيال علي ديب وغالب عوالي (أو عوالة على ما يكتب موقع «المنار» كذلك). وهذا من قبيل تعميم المنفعة المتوقعة من تجريم التحفظ. وهو يفترض أن لجنة التحقيق الدولي هي، شأن «البعض» المغطي والمتواطئ، في صف المغضين المتواطئين. فيسأل: «هل جاءت لجنة التحقيق الدولي (...) لتسأل محمود رافع (الضالع في قتل الأخوين مجذوب بصيدا في 2006) عن هؤلاء الإسرائيليين الذين كان يدخلهم الى الأراضي اللبنانية... ماذا كانوا يفعلون؟».
وعلى هذا، فإدراج اغتيال رفيق الحريري في سلسلة الاغتيالات الإسرائيلية التي تطاولت الى جنود المنظمة الخمينية المسلحة في لبنان، وبعض جنود منظمات فلسطينية أخرى، يُدخل القتيل في باب معروف اعتاد الإجماع «الشعبي» والرسمي العروبي، أو نبض الشارع العربي على القول السوري الإذاعي والتلفزيوني، التسليم به، والنزول له عن بحث مرهق ومربك في مرتكبين آخرين محتملين، ومعروفين على رؤوس الأشهاد في بعض الأحيان. ويضمن الإدراج في الباب الإسرائيلي رداً ينبغي أن يخرس المتردد المتحفظ، أو يعقل لسانه على أضعف تقدير، ويدعو المتحفظ الى طلب السلامة. وقد يفترض الخطيب وأصحابه ربما أن «تبني» رفيق الحريري قتيلاً وشهيداً، بعد الطعن فيه وعليه وتهمته (سياسياً) حياً وفاعلاً، ينبغي أن يحمله أنصار الحريري على وجوه التكريم، والبراءة من المطاعن السابقة كلها، والإشراك في الصف «الوطني» الواحد. وهي مقدمات ضرورية للعودة الى «العصر الذهبي» والفردوسي الذي أخرج طيُّه القوات السورية ورصدها واستطلاعها من لبنان، وأفقد «المقاومة» وولايتها الوكالة والسند العربيين المرغمين والشجاعين.
ويعول الوكيل الخميني المسلح والأمني، بعد تعويله على قبول تهمة اسرائيل في الشاردة والواردة، على خبرته، وخبرة فريقه الأمنية الطويلة والعريضة. وخطبته الأخيرة (في 9 آب/ أغسطس) تتعمد صوغ الخبرة في ما يشبه أصول المهنة أو الحرفة ومبادئها الأولى العملانية. وأوّل الأصول أصل نفسي. و «التحليل» النفسي، والإلمام بالارتباك والتخبط والهستيريا و «تصدير المشاكل»، من الأمور التي يشغف بها «الكوادر» شغفاً عظيماً. وفي تقديم «المعطيات» يصدر الخطيب المنظَّم سرده برواية «تمكن الإسرائيلي منذ البداية من أن يزرع في أذهان كثيرين (أولهم رفيق الحريري نفسه - الكاتب) وجود مؤامرة وهمية». وهذه المؤامرة تولى أحمد حسين نصرالله، ويعرفه المحقق تعريفه الجامع والمانع «عميل اسرائيلي»، تلفيقها أولاً. وهي تزعم أن عماد مغنية وعلي ديب (أبو حسن سلامة) ينويان قتل رفيق الحريري بعد استدراجه الى زيارة صيدا للتعزية بشقيقته، بهية.
ويروي أمين عام القوم أن «العميل الإسرائيلي (استطاع) أن يزرع هذه التلفيقة وهذه التركيبة». وأين زرع أحمد نصرالله «التلفيقة»؟ هذه يجيب الأمين العام: «هذا شاهد على بدايات التلفيق وإشباع ذهن الرئيس الحريري بهذا الامر». ومعنى هذا أن ذهن الرئيس الحريري، في 1993، «أشبع» بمزاعم عن نية «حزب الله» اغتياله. ودليل المتكلم على «الإشباع» بعد «الزرع» أن غازي كنعان أوقف علي ديب بعنجر، و «طحن عظامه» قبل ارساله الى دمشق، بناء على «إخبار» من رفيق الحريري نقلاً عن جهاز أمنه، نقلاً عن أحمد نصرالله. ويتابع من لا قرابة بينه وبين «العميل»: «بطبيعة الحال لنا أن نفترض أن الرئيس الشهيد لم يبلغ فقط اللواء غازي كنعان، بل أبلغ بقية الأصدقاء في سورية، أبلغ الطاقم المحيط به، له أصدقاء فرنسيون وسعوديون وخليجيون وأوروبيون وآخرون». ويختم صاحبهم برهانه القطعي، بل واليقيني منتصراً: «وهكذا تمكن الإسرائيلي منذ البداية من أن يزرع في أذهان كثيرين وجود مؤامرة وهمية من هذا النوع». وينبغي أن يفهم الجمهور، سامعين، مشاهدين أو قراء، أن الجرثومة الاستخبارية الإسرائيلية انتقلت، من طريق الزرع فالإشباع فالتبليغ فالعدوى الوبائية في «بيئات حاضنة» ملائمة (قصر الإحصاء على الفرنسيين والسعوديين... وترك «آخرون» معلقين)، الى المحققين الدوليين في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. وليست تهمة اليوم المفترضة والمقدرة إلا رجع صدى «البداية» المطمورة في مثاوٍ أربعة: مثوى علي ديب ورفيق الحريري وغازي كنعان وعماد مغنية، الى ملجأ أحمد نصرالله المتواري. وهذا أصل استخباري متين يستعير مثاله من شرح ابن أبي الحديد وتعقبه رؤوس العلل ومصادر الزيغ.
والأصل الاستخباري الثاني ينص عليه الخطيب الخبير على سبيل الذكر أو التذكير: «يجب أن أذكر بأن الاستطلاع الميداني هو خطوة متقدمة تسبق التنفيذ، لأنه بها يستكمل الملف... ويلحقه تأمين الإمكانات وتنفيذ العملية». وينبه الخطيب الى الأصل الاستخباري الثاني في أعقاب «تقرير» يتناول فيليبوس حنا صادر وتقصيه جوار منزل «فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال سليمان»، وأحوال يخت «قائد الجيش اللبناني العماد قهوجي». وعلى هذا فـ «المعلومات (هذه) تنفيذية»، وليست لـ «الفكهنة»، على قول الرجل مسترسلاً. والمقصود بالصفة التنفيذية أن الاستطلاع هو، قطعاً وعن خبرة وعلم، «من أجل التحضير لتنفيذ عملية اغتيال في تلك المنطقة». وفي ضوء عملية أنصارية - لوبية ثبت أن «عملية الاستطلاع (الجوي) المؤدية الى هذا المكان كانت تمهيداً لعملية أمنية». وفي أحوال أخرى لدى الجماعة العتيدة «نماذج عديدة من عمليات استطلاع جوي اسرائيلي كانت تحضر لعمليات اغتيال».
والقاعدة الاستخبارية (أو الأصل) هذه تقبل بل تشترط مرونة تنفيذية زمنية، ولا يجوز التسرع في تأويلها تأويلاًَ وشيكاً: «التصوير ليس معناه أنه بعد يومين أو ثلاثة ستكون العملية، أحياناً قد يستمر هذا الأمر لأشهر وأحياناً قد يستمر لسنوات». واقتضى اغتيال الأخوين محمود ونضال المجذوب «8 سنوات من العمل الدؤوب». والثابت في المهنة والخبرة اللتين يصدر عنهما المحقق والنائب العام والضابط العدلي والقاضي والمنفذ أحياناً(؟)، (وهو الخطيب الجماهيري)، هو الرابط الضروري والطبيعي، على معنى الفيزيائي، بين التقصي وبين القتل، أو بين جمع المعلومات وبين التنفيذ. وهذه «الفكرة» هي عمود القضية الاتهامية. ويصوغها المحامي المرافع في «محكمة» الصورة والرأي العام على شاكلة قياس يحسبه محكماً، أو يريد أن يحسبه الجمهور محكماً. وخلاصة «القياس»: كل جمع معلومات يترتب عليه اغتيال عاجل أم آجل، والاستخبارات الإسرائيلية جمعت معلومات عن رفيق الحريري، فالاستخبارات الإسرائيلية هي من اغتال رفيق الحريري.
ويفصِّل الخطيب (المقتل) عناصر «القياس» تدريجاً. فبعد عامل الوقت، يُدخل التخصيص على الاستعلام والاستطلاع والتصوير، فينبه، في اطار استباق التنفيذ، الى مكانة «المنعطفات»، والى تصويرها «بشكل محدد ومن زوايا متعددة وفي أماكن متعددة» (والجزء الأخير من الجملة غامض أو هو استطراد خطابي). ويستدعي البرهان الخبراء مرتين في فقرة واحدة. ويحتج بخبرة شخصية، موكبية، في معرض اثبات ما يعرفه ركاب السيارات العمومية والبوسطات و «الفانات» جميعاً منذ ركوبهم هذه أو تلك، وهو إبطاء السيارة سيرها عند المنعطفات. ويختم كلامه التعليمي والتربوي، والإشراكي التجريبي والشخصي، بالإسم أو التسمية: «وهذا يسمونه المقتل». وعلى «المنطق» الإسمي نفسه، وهو منطق الأشباه والنظائر، يحشر المحقق العدو في مقتل التحقيق: «لماذا كان (الإسرائيلي) يقوم بتصوير هذه الأماكن، ويقوم بالتركيز عليها في أوقات متعددة ومن زوايا متعددة».
والسلاح الثالث الماضي الذي يعمله أمين عام الجماعة الخمينية المسلحة في الجمهور، وهو مسرح «معركة الصورة والرأي العام» ومناطها وغنيمتها، هو شهوة الحكاية أو القصص. فإلى التعويل على استجابة «الرأي العام» العروبي و «الإسلامي» تحميل «أصل الشر» التبعة عن تناسل الشرور، والى التسلح بالخبرة الاستخبارية العملية والتلويح بها ونصبها «علماً» ضرورياً، يشهر الخطيب المحدث والقاص قصصه وأخباره ومصادره ووثائقه ورواياته. ويوكل إخراجُ المشهد القصصي والتلفزيوني الى أجزاء وثائقية «حية»، بعضها صور جوية وبعضها اعترافات وبعضها تعريفات أو «فيش»، قطع رتابة كلام الفرد أو الواحد. ويغرف الراوي من ذاكرة أرشيف منظمته وتحقيقاتها وتقصيها، وأرشيف القضاء اللبناني المصور، والقصاصات الصحافية، أخباراً وشواهد وأسانيد يخلطها بتأويل مضمر أو معلن، ويحضر هو نفسه بعضها. وينقل «زوايا» المشاهد أو الروايات و «أبطالها»، ويجمعها ويفرقها من «علو» 20 سنة كاملة، ومن «عرش» مخاطِب الرؤساء ومخاطَبهم (ولو كتابة، وهذه تميز حافظ الأسد من ابنه وخالفه). وهو، في هذا كله وغيره وفوق هذا وغيره، مرجع مقاتلين مجاهدين، لصيقين بالأرض وخبيرين بها، ومنكبين على فك ألغاز العدو والتعلم من الاختبارات والمحن والانتصارات، ومتقلبين بين جوانب عالم حدّاه المباشران والماثلان الحياة (القوية) والموت (البطولي).
وهذه المواقع والمحال تتيح لصاحبها، سماحة الأمين العام، كشف الغطاء عن «الأسرار»، سراً سراً، والوعد بأسرار آتية، والتلويح والوعيد بـ «كلام كثير» يهتك الحجب، و «يبقر» العلم، على ما قيل في أحد «أجداد» الخطيب. ويحصل هذا كله على مسمع الجمهور ومرأى منه. فيدخل الجمهور العريض، وهو دوائر الأهل القريبة فالأبعد فالأبعد، «الكساء» العائلي والرحمي، ويُستقبل في ديوان المضرب استقبال أهل الدار، ويشرَك في صناعة الحوادث والانتصارات العظيمة إشراكاً تبدو الانتخابات النيابية والبلدية في ضوئه المتوهج إيماءً تافهاً وأجوف، وتبدو «الديموقراطية» وهيئاتها سعدنة سخيفة. وعلى رغم الوقت الداهم، على الدوام، يتعمد صاحب القوم تعقب التفاصيل، تثبيتاً للحجة، وتقوية للبرهان، وإعلاء للخبرة والعلم. وعلى هذا، يتعقب الخطيب، على مسمع الجمهور وفهمه، طريقين كان يتنقل رفيق الحريري عليهما «أكثر من غيرهما... بين مجلس النواب وقصره»، بمحلة قريطم. ومحطات الطريق الأولى، البحرية، هي السان جورج ومسبح الجامعة الأميركية فالمنارة - الحمام العسكري، فدبيبو ثم مفرق محل وجبات الدجاج الجاهزة (كانتاكي فرايد شيكين) فشارع شاتيلا بحذاء السفارة السعودية والكوليج وبروتستان المفضي الى القصر.
وأما الطريق الثاني فـ «يمر عبر شارع بلس وصولاً الى النادي الرياضي مقابل الحمام العسكري ليكمل من هناك على نفس المسار مع الطريق الأول الى منطقة الحريري وقصر الحريري، (ويلي الوصف تعليق مستفيض على صور جوية لمنعطف المنارة الجديدة وكوع دبيبو). والحق أن «الطريق الثانية» لا تستوفي المقارنة مع الطريق الأولى، لا من قريب ولا من بعيد. فبين مجلس النواب، منطلقاً مفترضاً، أو قصر قريطم منطلقاً مفترضاً آخر، من جهة، وبين شارع بلس بموازاة مباني الجامعة الأميركية وبواباتها (من مرأب المستشفى شرقاً الى مبنى السفارة السعودية القديم والمركز الثقافي الألماني («غوته إنستيتيوت») غرباً، من جهة ثانية، محطات ومراحل كثيرة تبطل المقارنة المفترضة. ولا يسع الموكب، من قريطم، بلوغ بلس، واتجاه سيره إلزامي وواحد من الشرق الى الغرب على خلاف كورنيش المنارة، إلا إذا يمّم الموكب صوب أوتيل البريستول وانعطف شمالاً الى شارع عبدالعزيز وبلغ نهايته قرب بوابة حرم الجامعة الأميركية («ميديكيل غايت» في رطانة قوم الجامعة)، مطلع بلس. والطرق كلها هذه مكتظة بالسيارات والناس في ساعات النهار كلها. وأما بلوغ بلس من ساحة النجمة فيفترض اجتياز باب إدريس الى ستاركو والوادي (القديم) فالهوليداي إن، أو أطلاله الى عين المريسة مروراً بمحطتي الداعوق والديك القديمتين، وليس من طريق كليمنصو، على خلاف «شرح» الخطيب. وأما ما يصفه الخطيب بنبرته الجازمة والواثقة الواحدة فهو دوران الموكب المفترض على نفسه في دائرة حلزونية أو أفعوانية («بركيلية»، على قول المير طلال أرسلان، أحد حلفاء الأمين العام المقربين وأحد زوار «العتبات»، في... رفيق الحريري).
البداية والنهاية
والداعي الى المقارنة هو تشبيه الدقة والخبرة والإلفة، والتسليم لشهوة «العلم» والإحاطة، وتلبية نهم الجمهور الى فك الألغاز وجلاء الأسرار. فحاجة الخطيب الى الاستواء في محل الخبرة الاستقصائية والاستطلاعية والاستخبارية، ماسة وملحّة. وتكثير التفاصيل والدقائق العائدة الى طريق الموكب ومحل الانفجار والاغتيال (وهو طريق منفرج يبلغ انفراجه 150 درجة تقريباً من 180، وعليه فهو ليس منعطفاً ولا كوعاً، وهو وصلة ضعيفة الانحناء أو «بريتييل» ولا تقارن بكوع دبيبو ومنعطفه في العتبه)، تكثير التفاصيل هذه يحرف الانتباه عن «مقتل» التقرير الذي قرأه أمين عام الجماعة الشيعية المسلحة. فالتقرير ينتهي، موقتاً على قول ملقيه وقارئه، الى تناول مسرح الجريمة، بين أطلال السان جورج وأوتيل النورماندي أو «عظم» بنائه وهيكله. ويقتصر التناول على رسم الطريق، والمقارنة المفتعلة والمشبِّهة، وعلى الصور الجوية المنتخبة أو المتاحة اتفاقاً، وغير المؤرخة والطيران الإسرائيلي اليومي (منذ عملية شريط شبعا في خريف عام 2000 وبعد تعليق دام من 24 حزيران (يونيو)، يوم الانسحاب والجلاء، الى غداة العملية).
ويبلغ «التحقيق» في القضية الإسرائيلية مسرح الجريمة في ختام قصص طويل ومتعرج «يثبت» على وجه قاطع ان الاستخبارات الإسرائيلية تتعقب كوادر «المقاومة الإسلامية» (الشيعية الخمينية) وتجزيهم عن عملهم وقتالهم قتلاً واغتيالاً، ما وسع يديها القتل والاغتيال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق