المستقبل - 30 /1/2011
يبدو، إذن، أن الطائفيين المذهبيين السنّة وشركاءهم الطائفيين المذهبيين الموارنة، وقد انضم اليهم بعض الطائفيين المذهبيين الدروز (مثل مروان حمادة)، فقدوا صوابهم واعتدالهم ووسطيتهم التي انتقلت كلها الى حمى الدستور مع السيد نجيب ميقاتي، وأسلموا قيادهم لغرائز الشارع الطائفية والمذهبية النيرونية والأميركية الفيلتمانية (وبعض اللبنانيين، المزعومين على الارجح، يسمون جيفري فيلتمان، السفير الأميركي السابق في لبنان، «جيف»، على ما لم يفت أمير الجماعة الخمينية المسلحة في أربعينية الحسين بن علي البعلبكية الحاشدة التنويه الانيق والخفي، بعدما علا صوت «الممثلين» الامويين اليزيديين والقتلة بشتم بقية عترة النبي وأهله، وأنحت السياط على رؤوس النساء والبنات وظهورهن، وهن يولولن:» يا أبي! يا حسين!» إمعاناً في الظلم والاذلال).
وعلى خلاف الوطنيين المستقيمين والثابتين واللبنانيين الرسوليين المسالمين والديموقراطيين الاقحاح، ترك المذهبيون العنان لنزعاتهم الثأرية المنحطة، وتقاليدهم المتأصلة منذ 5 شباط 2006، يوم حرقهم مبنى السفارة الهولندية بالاشرفية، على رأسهم سعد الحريري وبيار فرعون وغازي يوسف والطبيبان مجدلاني وحوري، بينما كان اللبنانيون الرسوليون والدستوريون، المسيحيون والشيعة والمير الارسلاني، عشية الحادثة، يتهيأون لتوقيع تفاهمات حضارية فريدة. وهذه التفاهمات العظيمة شقت طريق الانتقام والردة الى حرب صيف 2006 الغادرة (الفيلتمانية)، والى طعن المذهبيين اشرف مقاومة اسلامية وعربية ووطنية ولبنانية وجنوبية وبقاعية وكسروانية ومتنية وبعلية محسنية عالية في الظهر. فحرضوا الأميركيين والصهاينة على خطف جنود إسرائيليين وقتلهم داخل الاراضي المحتلة، وعلى قصف المطارات والمرافئ ومراكز الاتصالات اللبنانية، ودلوا الطائرات الإسرائيلية الى مجسمات «غوغل» والاهداف الحيوية التي ينبغي قصفها، ويستحيل نهبها بواسطة الموازنة وأبوابها الفاسدة وقطع حسابها ومهمتها. وقتلوا جبران التويني. وفتحوا باب المحكمة الدولية، واستدرجوا شهود الزور اليها. وأحرجوا الوزراء الشيعة وأخرجوهم، وحالوا بينهم وبين حيازتهم الثلث المعطل على نحو استرجاعي، حين ألفوا الحكومة، وبل حين اشترطوا الثلث، عداً ونقداً وليس تقسيطاً، في نص المادة الدستورية التي صاغها يومها (في 1990) أستاذ علوم سياسية «وديعة».
واستفزوا شاحنات الرمل، ودواليب «ميشلان» و»بيريللي» المطاطية، في 23 و25 كانون الثاني 2007، فَقَطَعت هذه الطرق، واحترقت، وحاصرت التجار والمسافرين والموظفين والساعين في الرزق، وأودت بالزيادين الجانيين على نفسهما. ولو لم يتول المسودون اليقظون، وقبعاتهم وقمصانهم وسراويلهم، ردع شاحنات الرمل، ودواليب الماركتين المسجلتين الاوروبيتين، لتمددت هذه، وحاصرت الناس، وخنقت الاقتصاد. واجتاحت الاراضي اللبنانية كلها، ودمرت مبنى المجلس النيابي على رغم حراسة رئيس المبنى، وحرصه عليه الحِرص الانساني العميق على «دارته» الطيبة في عين التينة، بحسب صحافي « النهار» المعتمد والمقيم. ولحالت بين النواب وبين الاجتماع الشرعي والدستوري، وأباحت تصريف فؤاد السنيورة الاعمال السوليديرية من غير رقابة استشارية نزيهة غير مناقِصة. ولولا الجرائم الـ14 آذارية والحريرية هذه لما اضطرت الاسلحة الخفيفة ومضادات الدروع الحِرفَية، الى الخروج من غمدها وخدرها المطمئنين في جيوب بيروت الوادعة والحالمة بفلسطين وأولى القبلتين والصحن العمري وجنة غزة، والى مصادرة 10 بنادق وقتل 121 اختصروا، اختصرهم مناضل متهكم وحكيم في سبعة ورآهم قليلين ولا يليقيون بثأر والدي مجيد. ولما حُملت سيارات الدفع الرباعي على ترويع العقال الموحدين عند منعقد الطرق المتسلقة من وراء الباروك وتلك المُصعِدة من سفوح عاليه وجوار الغرب والشحار.
وهذا فتح الطريق الى محجة الدوحة الشريفة وميثاقها الامين والشفاف، وعهودها المتينة، في رعاية الشرق المقنّع والغرب السافر، ومن بعدها الى انتخابات نيابية عقد الانتصار المؤزر فيها للدستوريين المسالمين والوطنيين، والمرجأ 19 شهراً فقط، وذلك، أي الانتصار المرجأ، أحلّ 11 نائباً، هم أقل من عشر اعضاء المجلس، من الشجعان الديموقراطيين والليبراليين وكارهي الحرب الاهلية وغرائزها المذهبية، من عهودهم غير الموثقة والخفيفة. والتحلل الرجعي هذا لا يؤاخذ صاحبه عليه ولا يدان. وحفظ النفس والمنافع يبيح المحظورات. وارتكاب هذه في ختام زيارات ومفاوضات ليلية، قبل أن يبين الخيط الاسود من الخيط الابيض، يطويه انبلاج الصبح، وانفجار الفجر على فضائح المذهبيين، وفسادهم، واختلاسهم 11 مليار دولار لا يغلط مقرر لجنة المال في جمعها وطرحها الشفهيين والارتجاليين على شاشات «الجديد» والـ»أن.بي.أن» و»المنار» والـ»أو.تي.في» مجتمعة. ولا يغلط المقرر في الاعمال الحسابية كلها، على رغم نظرات المذيعات الناقدة، وعلومهن النافذة في شؤون المال والضريبة وأبواب الصرف والجباية والتدوير والامضاء، وفحصهن الوثائق والاصول على الهواء.
ويمتزج الهزل المسرحي المقنَّع والمتجدد والمتمادي منذ نحو أربعين عاماً بجد مأساوي لا يقاس بعدد القتلى والجرحى والمفقودين والمسجونين واللاجئين والمهاجرين ومرضى الاعصاب، فحسب. فضحية المزيج المروع هي الجد نفسه، جد الحياة الفردية والعامة، وجد السياسة، وجد التاريخ. فمن نكد الدنيا على الاحرار وأنصاف الاحرار وأرباعهم وربما أكثر (أي اقل في ميزان الحرية) من اهل الاحزاب والعصبيات والغرضيات اللبنانية، ان يُدعوا دعوة حثيثة، تحت تهديد الاقتتال والقتل والاغتيال والكذب على رؤوس الاشهاد الصحافية والمواقع الالكترونية والاجتماعية والشبكات التلفزيونية، الى تصديق الهزل المسرحي والرتيب هذا، أو الى مناقشته وحمله على محمل الجد. فيُرد، على سبيل المثل، على «حجة جيف» الملهَمة والمفحِمة، شأن حجج صاحبها كلها. أو يُرد على معاقبة أو مُتوالية 5و6 شباط (2006)، النبيهة والكشافة والمستشرفة، على منوال اشارات ذي القيادتين السياسية والعسكرية المظفر. ويُناقَش مدير (دمى) الغاء الطائفية السياسية من طريق اطراح اقتراع المهاجرين، وتخفيض سن الاقتراع الى 18 عاماً أو 16 عاماً او 14 عاماً، وزيادة عدد المجنسين المقيمين في وطنهم الاول والقريب والمترددين على وطنهم الثاني في مواسم الانتخاب. وتُصدَّق أو تُكذَّب دعوى الخارج لتوه من متحف الشمع الباهت والمائع في الوسطية والحوار والتوافق. ويُستفهم عن معنى الانقلاب من لقاء ديموقراطي هو غطاء استزلام غرضي، الى سراب نضال وطني لم يكن يوماً غير تسليم صاغر ولفظي.
فهذه كلها، الرد والمناقشة والتصديق والتكذيب والاستفهام، في مثابة قبول مسرح الظلال القاتمة الذي ارتضينا، أحراراً ونصف أحرار وربع أحرار وقاصرين وعبيداً مطيعين، اعتلاءه منذ نحو 40 عاماً عروبية خانقة وثقيلة.
وعلى هذا، وفي مرآته، قد تبدو حركة التنديد بانقلاب 11 نائباً انتخبوا بشطر راجح من أصوات الاستقلاليين السياديين، على حلفائهم وناخبيهم وعهودهم، طائفية مذهبية، وسنية في المرتبة الاولى. وهي قد تتصور فعلاً في صورة محاكاة متشنجة ويائسة لأعمال وعروض تلامذة الحرس الخميني الرياضية الحالكة والمتقنة. ففي أثناء الاربعين سنة المنصرمة، منذ 1970 على وجه التقريب، انتقلت «الطائفية اللبنانية» - او ما وصم بهذه الوصمة، واقتصر على لبنان وعلى مسيحييه قبل أن يصيب سنته (في لبنان وسوريا وبعض الخليج) ويبرأ منه الشيعة وبعض الموارنة أخيراً - انتقلت من طور الى طور ضعيف الصلة بالاول.
فهي كانت عصبية نخب متنامية تتنافس على الحصص والشطور والمكانات في اطار هوية ملتبسة أو غائمة يعرَّفها التخلي المتبادل عن الانخراط في اقطاب القوة المتقابلة («الغرب» و»الشرق»)، فوق ما يعرفها انتساب وجودي وشعبي محموم وعارم. وانتصر الانتساب، على الشاكلة الوجودية المحمومة، مع «الزحف» العروبي. وهذا غذته الانكسارات امام إسرائيل، والاخفاقات الوطنية الداخلية، السياسية الديموقراطية والاقتصادية والاجتماعية، ولم تغذه انجازات حركات سياسية شعبية متعاظمة. وكانت سوريا، في وسط المشرق، بؤرة الانعطاف العروبي، واستبدال الحركة السياسية الشعبية بهوية متشجنة وفارغة من محتوى ديموقراطي واجتماعي وايجابي، تتولاها حفنة من الضباط الاستخباريين والمذهبيين. وتسترت الهوية القومية الخاوية والعاجزة على استيلاء مذهبي واقلوي متسلط. فكانت الهوية الممتلئة بالثارات والضغائن والخوف حصن الاستيلاء ومسوغه وركنه، في الداخل الوطني والجوار القريب على حد سواء.
فلم يشهد المشرق العربي، وجواره المتصل به، نزاعات مذهبية دامية كتلك التي يشهدها منذ استيلاء الجماعات المذهبية والحزبية والامنية العروبية على بعض دوله واقاليمه. فالجماعات المستولية تحصنت بأجهزة الحكم الامنية والعسكرية والادارية والاعلامية، وبموارد الدولة العامة، وحاربت الجماعات الاهلية المعارضة من موقعها هذا. وهي سعت في كسر الجماعات الاهلية، وفي سحقها وافقارها وعزلها. وكان تجريم «الطائفية»، المنبعثة من أنقاض السياسات القومية والمذهبية المستولية، جزءاً من حربها الفعلية والمدمرة، الايديولوجية والامنية والسياسية والاقتصادية، على الجماعات الاهلية والوطنية الاخرى. وحملت المجتمع كله، باسم الدولة المزعومة والغاصبة، على «حرب وجود»، أفقها الماثل والمخيف استئصال المجتمع، على معنى ازالته عن موقعه المواجه والمعارض والمقيِّد، وإلغاء قوته على المواجهة والمعارضة والتقييد، وضمه مكبلاً ومستكيناً و»مقاوماً» الى جهاز من اجهزة الاستيلاء والقهر.
وعلى هذا، «عُرِّب» لبنان تعريباً ساحقاً قُصد به الطعن المدمر في مسيحييه. وهم هيكل دولته، ونواة مجتمعه، وركن انفصاله النسبي والجزئي عن داخلية اهلية وعصبية مكبلة ومقيَّدة. ومشى التطييف المحموم والقسري في ركاب تعريب مستميت، بينما كانت تستكمل الاجهزة البوليسية والمذهبية القومية سيطرتها على دولها وحركاتها «الوطنية» ومجتمعاتها، وتشد قبضتها عليها. وقضت السيطرة، على المثال الجديد وغير المسبوق، بألا يبقى بين الاجهزة البوليسية والمذهبية المستولية، على العراق وسوريا و»فلسطين» وبعض لبنان، وبين «الصهيونية - الامبريالية» أو صورة العدو المطلق، موضع او محل لكيان وطني او حركة سياسية او جماعة أهلية، أو جماعة رأي. وألزمت هذه جميعاً بالانضواء طوعاً او كرهاً، في الحرب الايديولوجية المشبوبة، والمتخيلة، بين جهاز الاستيلاء المذهبي القومي وبين «الصهيونية - الامبريالية» الاسطورية.
والاستيلاء المفترض على لبنان توجه تآكل قوة جماعاته المسيحية، ومحاصرتها بجبهة متراصة من الجماعات الطائفية والمذهبية الاخرى، وهجرة أجزاء متعاظمة منها وانكفاء جماعات أخرى وتفشي الانقسامات في صفوفها وبروز قيادات هزيلة ومغامرة. وخسرت الجماعات هذه الحرب القومية والايديولوجية الضارية التي شنت عليها، وأخرجتها من الكيان الوطني، ودمغتها بالهجنة والانحراف، واختصرتها في مصالح جماعتها الضيقة والمتقوقعة. واليوم، حل دور السنة في عملية الاستبعاد والتهجين والتطييف والاعدام. فإذا بالحركة السياسية الوطنية العريضة التي نشأت على اغتيال العروبة المذهبية والامنية رفيق الحريري، تُزم وتُقزم وتُعلّب في وكالة من وكالات «القاعدة» وقتلتها وانتحارييها. فتُبدد، في هذه العملية، اختبارات اللبنانيين وتجاربهم في الائتلاف والروابط السياسية والموازنة بين الحقوق وبين القيود، ويُبدد سعيهم في طي ثاراتهم ونازعهم الى ارساء حياة سياسية فاعلة على استقرار وامن يحفظان كراماتهم - يُبدد هذا كله في مكيدة استخباراتية وأمنية تليق بعبقرية مزور نقود ومنتحل صفة واسم ووجه.
ولا ريب في أن «استمرار» 14 آذار - الرجاء الواثق، والرغبة الحية، والوعد بالتغلب على النفس قبل التغلب على الغير، وترك الثارات والضغائن، وتحمل التبعة كاملة عن تاريخ مضطرب ومتنازع - لا ريب في أن الاستمرار هذا هو جوابنا عن الاربعين سنة الثقيلة التي ترزح على الصدور والعقول والالسنة، وينهض الآل والاهل والخالفون علماً أسود عليها
يبدو، إذن، أن الطائفيين المذهبيين السنّة وشركاءهم الطائفيين المذهبيين الموارنة، وقد انضم اليهم بعض الطائفيين المذهبيين الدروز (مثل مروان حمادة)، فقدوا صوابهم واعتدالهم ووسطيتهم التي انتقلت كلها الى حمى الدستور مع السيد نجيب ميقاتي، وأسلموا قيادهم لغرائز الشارع الطائفية والمذهبية النيرونية والأميركية الفيلتمانية (وبعض اللبنانيين، المزعومين على الارجح، يسمون جيفري فيلتمان، السفير الأميركي السابق في لبنان، «جيف»، على ما لم يفت أمير الجماعة الخمينية المسلحة في أربعينية الحسين بن علي البعلبكية الحاشدة التنويه الانيق والخفي، بعدما علا صوت «الممثلين» الامويين اليزيديين والقتلة بشتم بقية عترة النبي وأهله، وأنحت السياط على رؤوس النساء والبنات وظهورهن، وهن يولولن:» يا أبي! يا حسين!» إمعاناً في الظلم والاذلال).
وعلى خلاف الوطنيين المستقيمين والثابتين واللبنانيين الرسوليين المسالمين والديموقراطيين الاقحاح، ترك المذهبيون العنان لنزعاتهم الثأرية المنحطة، وتقاليدهم المتأصلة منذ 5 شباط 2006، يوم حرقهم مبنى السفارة الهولندية بالاشرفية، على رأسهم سعد الحريري وبيار فرعون وغازي يوسف والطبيبان مجدلاني وحوري، بينما كان اللبنانيون الرسوليون والدستوريون، المسيحيون والشيعة والمير الارسلاني، عشية الحادثة، يتهيأون لتوقيع تفاهمات حضارية فريدة. وهذه التفاهمات العظيمة شقت طريق الانتقام والردة الى حرب صيف 2006 الغادرة (الفيلتمانية)، والى طعن المذهبيين اشرف مقاومة اسلامية وعربية ووطنية ولبنانية وجنوبية وبقاعية وكسروانية ومتنية وبعلية محسنية عالية في الظهر. فحرضوا الأميركيين والصهاينة على خطف جنود إسرائيليين وقتلهم داخل الاراضي المحتلة، وعلى قصف المطارات والمرافئ ومراكز الاتصالات اللبنانية، ودلوا الطائرات الإسرائيلية الى مجسمات «غوغل» والاهداف الحيوية التي ينبغي قصفها، ويستحيل نهبها بواسطة الموازنة وأبوابها الفاسدة وقطع حسابها ومهمتها. وقتلوا جبران التويني. وفتحوا باب المحكمة الدولية، واستدرجوا شهود الزور اليها. وأحرجوا الوزراء الشيعة وأخرجوهم، وحالوا بينهم وبين حيازتهم الثلث المعطل على نحو استرجاعي، حين ألفوا الحكومة، وبل حين اشترطوا الثلث، عداً ونقداً وليس تقسيطاً، في نص المادة الدستورية التي صاغها يومها (في 1990) أستاذ علوم سياسية «وديعة».
واستفزوا شاحنات الرمل، ودواليب «ميشلان» و»بيريللي» المطاطية، في 23 و25 كانون الثاني 2007، فَقَطَعت هذه الطرق، واحترقت، وحاصرت التجار والمسافرين والموظفين والساعين في الرزق، وأودت بالزيادين الجانيين على نفسهما. ولو لم يتول المسودون اليقظون، وقبعاتهم وقمصانهم وسراويلهم، ردع شاحنات الرمل، ودواليب الماركتين المسجلتين الاوروبيتين، لتمددت هذه، وحاصرت الناس، وخنقت الاقتصاد. واجتاحت الاراضي اللبنانية كلها، ودمرت مبنى المجلس النيابي على رغم حراسة رئيس المبنى، وحرصه عليه الحِرص الانساني العميق على «دارته» الطيبة في عين التينة، بحسب صحافي « النهار» المعتمد والمقيم. ولحالت بين النواب وبين الاجتماع الشرعي والدستوري، وأباحت تصريف فؤاد السنيورة الاعمال السوليديرية من غير رقابة استشارية نزيهة غير مناقِصة. ولولا الجرائم الـ14 آذارية والحريرية هذه لما اضطرت الاسلحة الخفيفة ومضادات الدروع الحِرفَية، الى الخروج من غمدها وخدرها المطمئنين في جيوب بيروت الوادعة والحالمة بفلسطين وأولى القبلتين والصحن العمري وجنة غزة، والى مصادرة 10 بنادق وقتل 121 اختصروا، اختصرهم مناضل متهكم وحكيم في سبعة ورآهم قليلين ولا يليقيون بثأر والدي مجيد. ولما حُملت سيارات الدفع الرباعي على ترويع العقال الموحدين عند منعقد الطرق المتسلقة من وراء الباروك وتلك المُصعِدة من سفوح عاليه وجوار الغرب والشحار.
وهذا فتح الطريق الى محجة الدوحة الشريفة وميثاقها الامين والشفاف، وعهودها المتينة، في رعاية الشرق المقنّع والغرب السافر، ومن بعدها الى انتخابات نيابية عقد الانتصار المؤزر فيها للدستوريين المسالمين والوطنيين، والمرجأ 19 شهراً فقط، وذلك، أي الانتصار المرجأ، أحلّ 11 نائباً، هم أقل من عشر اعضاء المجلس، من الشجعان الديموقراطيين والليبراليين وكارهي الحرب الاهلية وغرائزها المذهبية، من عهودهم غير الموثقة والخفيفة. والتحلل الرجعي هذا لا يؤاخذ صاحبه عليه ولا يدان. وحفظ النفس والمنافع يبيح المحظورات. وارتكاب هذه في ختام زيارات ومفاوضات ليلية، قبل أن يبين الخيط الاسود من الخيط الابيض، يطويه انبلاج الصبح، وانفجار الفجر على فضائح المذهبيين، وفسادهم، واختلاسهم 11 مليار دولار لا يغلط مقرر لجنة المال في جمعها وطرحها الشفهيين والارتجاليين على شاشات «الجديد» والـ»أن.بي.أن» و»المنار» والـ»أو.تي.في» مجتمعة. ولا يغلط المقرر في الاعمال الحسابية كلها، على رغم نظرات المذيعات الناقدة، وعلومهن النافذة في شؤون المال والضريبة وأبواب الصرف والجباية والتدوير والامضاء، وفحصهن الوثائق والاصول على الهواء.
ويمتزج الهزل المسرحي المقنَّع والمتجدد والمتمادي منذ نحو أربعين عاماً بجد مأساوي لا يقاس بعدد القتلى والجرحى والمفقودين والمسجونين واللاجئين والمهاجرين ومرضى الاعصاب، فحسب. فضحية المزيج المروع هي الجد نفسه، جد الحياة الفردية والعامة، وجد السياسة، وجد التاريخ. فمن نكد الدنيا على الاحرار وأنصاف الاحرار وأرباعهم وربما أكثر (أي اقل في ميزان الحرية) من اهل الاحزاب والعصبيات والغرضيات اللبنانية، ان يُدعوا دعوة حثيثة، تحت تهديد الاقتتال والقتل والاغتيال والكذب على رؤوس الاشهاد الصحافية والمواقع الالكترونية والاجتماعية والشبكات التلفزيونية، الى تصديق الهزل المسرحي والرتيب هذا، أو الى مناقشته وحمله على محمل الجد. فيُرد، على سبيل المثل، على «حجة جيف» الملهَمة والمفحِمة، شأن حجج صاحبها كلها. أو يُرد على معاقبة أو مُتوالية 5و6 شباط (2006)، النبيهة والكشافة والمستشرفة، على منوال اشارات ذي القيادتين السياسية والعسكرية المظفر. ويُناقَش مدير (دمى) الغاء الطائفية السياسية من طريق اطراح اقتراع المهاجرين، وتخفيض سن الاقتراع الى 18 عاماً أو 16 عاماً او 14 عاماً، وزيادة عدد المجنسين المقيمين في وطنهم الاول والقريب والمترددين على وطنهم الثاني في مواسم الانتخاب. وتُصدَّق أو تُكذَّب دعوى الخارج لتوه من متحف الشمع الباهت والمائع في الوسطية والحوار والتوافق. ويُستفهم عن معنى الانقلاب من لقاء ديموقراطي هو غطاء استزلام غرضي، الى سراب نضال وطني لم يكن يوماً غير تسليم صاغر ولفظي.
فهذه كلها، الرد والمناقشة والتصديق والتكذيب والاستفهام، في مثابة قبول مسرح الظلال القاتمة الذي ارتضينا، أحراراً ونصف أحرار وربع أحرار وقاصرين وعبيداً مطيعين، اعتلاءه منذ نحو 40 عاماً عروبية خانقة وثقيلة.
وعلى هذا، وفي مرآته، قد تبدو حركة التنديد بانقلاب 11 نائباً انتخبوا بشطر راجح من أصوات الاستقلاليين السياديين، على حلفائهم وناخبيهم وعهودهم، طائفية مذهبية، وسنية في المرتبة الاولى. وهي قد تتصور فعلاً في صورة محاكاة متشنجة ويائسة لأعمال وعروض تلامذة الحرس الخميني الرياضية الحالكة والمتقنة. ففي أثناء الاربعين سنة المنصرمة، منذ 1970 على وجه التقريب، انتقلت «الطائفية اللبنانية» - او ما وصم بهذه الوصمة، واقتصر على لبنان وعلى مسيحييه قبل أن يصيب سنته (في لبنان وسوريا وبعض الخليج) ويبرأ منه الشيعة وبعض الموارنة أخيراً - انتقلت من طور الى طور ضعيف الصلة بالاول.
فهي كانت عصبية نخب متنامية تتنافس على الحصص والشطور والمكانات في اطار هوية ملتبسة أو غائمة يعرَّفها التخلي المتبادل عن الانخراط في اقطاب القوة المتقابلة («الغرب» و»الشرق»)، فوق ما يعرفها انتساب وجودي وشعبي محموم وعارم. وانتصر الانتساب، على الشاكلة الوجودية المحمومة، مع «الزحف» العروبي. وهذا غذته الانكسارات امام إسرائيل، والاخفاقات الوطنية الداخلية، السياسية الديموقراطية والاقتصادية والاجتماعية، ولم تغذه انجازات حركات سياسية شعبية متعاظمة. وكانت سوريا، في وسط المشرق، بؤرة الانعطاف العروبي، واستبدال الحركة السياسية الشعبية بهوية متشجنة وفارغة من محتوى ديموقراطي واجتماعي وايجابي، تتولاها حفنة من الضباط الاستخباريين والمذهبيين. وتسترت الهوية القومية الخاوية والعاجزة على استيلاء مذهبي واقلوي متسلط. فكانت الهوية الممتلئة بالثارات والضغائن والخوف حصن الاستيلاء ومسوغه وركنه، في الداخل الوطني والجوار القريب على حد سواء.
فلم يشهد المشرق العربي، وجواره المتصل به، نزاعات مذهبية دامية كتلك التي يشهدها منذ استيلاء الجماعات المذهبية والحزبية والامنية العروبية على بعض دوله واقاليمه. فالجماعات المستولية تحصنت بأجهزة الحكم الامنية والعسكرية والادارية والاعلامية، وبموارد الدولة العامة، وحاربت الجماعات الاهلية المعارضة من موقعها هذا. وهي سعت في كسر الجماعات الاهلية، وفي سحقها وافقارها وعزلها. وكان تجريم «الطائفية»، المنبعثة من أنقاض السياسات القومية والمذهبية المستولية، جزءاً من حربها الفعلية والمدمرة، الايديولوجية والامنية والسياسية والاقتصادية، على الجماعات الاهلية والوطنية الاخرى. وحملت المجتمع كله، باسم الدولة المزعومة والغاصبة، على «حرب وجود»، أفقها الماثل والمخيف استئصال المجتمع، على معنى ازالته عن موقعه المواجه والمعارض والمقيِّد، وإلغاء قوته على المواجهة والمعارضة والتقييد، وضمه مكبلاً ومستكيناً و»مقاوماً» الى جهاز من اجهزة الاستيلاء والقهر.
وعلى هذا، «عُرِّب» لبنان تعريباً ساحقاً قُصد به الطعن المدمر في مسيحييه. وهم هيكل دولته، ونواة مجتمعه، وركن انفصاله النسبي والجزئي عن داخلية اهلية وعصبية مكبلة ومقيَّدة. ومشى التطييف المحموم والقسري في ركاب تعريب مستميت، بينما كانت تستكمل الاجهزة البوليسية والمذهبية القومية سيطرتها على دولها وحركاتها «الوطنية» ومجتمعاتها، وتشد قبضتها عليها. وقضت السيطرة، على المثال الجديد وغير المسبوق، بألا يبقى بين الاجهزة البوليسية والمذهبية المستولية، على العراق وسوريا و»فلسطين» وبعض لبنان، وبين «الصهيونية - الامبريالية» أو صورة العدو المطلق، موضع او محل لكيان وطني او حركة سياسية او جماعة أهلية، أو جماعة رأي. وألزمت هذه جميعاً بالانضواء طوعاً او كرهاً، في الحرب الايديولوجية المشبوبة، والمتخيلة، بين جهاز الاستيلاء المذهبي القومي وبين «الصهيونية - الامبريالية» الاسطورية.
والاستيلاء المفترض على لبنان توجه تآكل قوة جماعاته المسيحية، ومحاصرتها بجبهة متراصة من الجماعات الطائفية والمذهبية الاخرى، وهجرة أجزاء متعاظمة منها وانكفاء جماعات أخرى وتفشي الانقسامات في صفوفها وبروز قيادات هزيلة ومغامرة. وخسرت الجماعات هذه الحرب القومية والايديولوجية الضارية التي شنت عليها، وأخرجتها من الكيان الوطني، ودمغتها بالهجنة والانحراف، واختصرتها في مصالح جماعتها الضيقة والمتقوقعة. واليوم، حل دور السنة في عملية الاستبعاد والتهجين والتطييف والاعدام. فإذا بالحركة السياسية الوطنية العريضة التي نشأت على اغتيال العروبة المذهبية والامنية رفيق الحريري، تُزم وتُقزم وتُعلّب في وكالة من وكالات «القاعدة» وقتلتها وانتحارييها. فتُبدد، في هذه العملية، اختبارات اللبنانيين وتجاربهم في الائتلاف والروابط السياسية والموازنة بين الحقوق وبين القيود، ويُبدد سعيهم في طي ثاراتهم ونازعهم الى ارساء حياة سياسية فاعلة على استقرار وامن يحفظان كراماتهم - يُبدد هذا كله في مكيدة استخباراتية وأمنية تليق بعبقرية مزور نقود ومنتحل صفة واسم ووجه.
ولا ريب في أن «استمرار» 14 آذار - الرجاء الواثق، والرغبة الحية، والوعد بالتغلب على النفس قبل التغلب على الغير، وترك الثارات والضغائن، وتحمل التبعة كاملة عن تاريخ مضطرب ومتنازع - لا ريب في أن الاستمرار هذا هو جوابنا عن الاربعين سنة الثقيلة التي ترزح على الصدور والعقول والالسنة، وينهض الآل والاهل والخالفون علماً أسود عليها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق