الخميس، 10 فبراير 2011

من كراهية الأميركان إلى إسقاط الطغيان؟

المستقبل - 6 /2/ 2011
بعد ساعات قليلة من اعلان الرئيس المصري (السابق قريباً، على الارجح) تعيين رئيس جهاز الاستخبارات العامة، وزير خارجية الظل، اللواء عمر سليمان نائباً له، هتف متظاهرون فيما كانوا يهتفون:» لا مبارك ولا سليمان احنا كرهنا الاميركان). وبدا الشعار هذا ناشزاً. ففي أثناء الايام الاربعة المنصرمة، 25 كانون الثاني 29 منه، لم يخرج إلى العلن، لا كلاماً ولا قولاً ولا صورة أو هيروغليفاً أو رمزاً، ما يدل على رأي في سياسات مبارك و»نظامه» الخارجية والاقليمية. وتتصدر السياسات الخارجية والاقليمية المصرية قضايا كبيرة وراجحة، مثل الميل والحلف الاميركيين، ومعاهدة السلام مع الدولة العبرية، إلى توجه الاقتصاد المصري شطر مجموعات احتكارية تنسب إلى «ليبرالية» السوق الحرة الغربية، وهي على نقيض منها.
وفي ضوء السياسة الناصرية والنظام الناصري اللذين يتحدر عهد حسني مبارك الطويل من جهازهما وطاقمهما، يبدو إغفال المسائل السياسية الخارجية والاقليمية، وفي القلب منها السيطرة الخارجية (الاستعمار) والمسألة الفلسطينية «القومية»، غريباً ومستهجناً، ويدعو إلى السؤال والفحص. وكان حرص السياسة والنظام الناصريين، في العقدين تقريباً اللذين تولى في أثنائهما زعيم الانقلاب السلطة مباشرة ووحده، على ربط نهجه واجراءاته ببعد اقليمي (قومي) ودولي، و»شعبي» جماهيري، ظاهراً.
والحرص هذا كان وجهاً طاغياً من أوجه المناهج الناصرية، وموضوعاتها السياسية، من مساندة العمليات «الفدائية» الفلسطينية الاولى بغزة ومفاوضات شراء السلاح «التشيكي» وإنشاء كتلة عدم الانحياز بباندونغ إلى حضانة حركة التحرر الوطني الجزائرية وتأميم قناة السويس والتحريض على الاستعمار البريطاني في الجزيرة العربية ومحاربة حلف بغداد والوحدة المصرية السورية وتمويل السد العالي وبناء الاتحاد الاشتراكي على مثال سوفياتي غداة التأميمات على المثال نفسه وحرب 1967 في ختام هذا المطاف. فهذه الاجراءات والسياسات أُخرجت إخراجاً جماهيرياً «شعبياً، وقومياً عروبياً، مناهضاً للاستعمار والامبريالية والرأسمالية والليبرالية والديموقراطية. وجمعت هذه كلها في باب واحد أو مشترك. ولما أراد أنور السادات تقويم نتائج «الاعمال» الناصرية في ختام عقدين من الزمن، عَزَل مبادراته وانعطافاته الكبيرة، وهي حرب تشرين الاول 1973 والانفتاح الاقتصادي (1976) ومعاهدة كامب دايفيد (1979)، عن الركنين الناصريين، الاقليمي والعروبي (المناهض للغرب) والجماهيري الشعبوي والاجتماعي، وأبقى من المناهج الناصرية على الاستبداد بالسلطة، والنهج الاستفتائي المباشر والقومي. ومضى على اضعاف الوسائط السياسية والاجتماعية، الحزبية و»الجمعية» بين أجهزة الدولة وبين المجتمع، ولجم الحياة العامة والمشتركة وحرياتها الحيوية والفاعلة. فكان وارث الاساليب الناصرية في الحكم والادارة، من غير مضامينها التعبوية والاعتقادية الايمانية، ووعودها التوسعية العروبية والامبراطورية و»رسالتها» الباهرة والمحفزة.
وطوال 3 عقود رمادية، وسع الرئيس المصري الثالث (في ستين عاماً) رعاية «العزلة» السياسية والانكفاء على داخل «عام» خاو ومتسلط، وعلى مجتمع ضعيف الموارد والاود والحراك. وأدى تربع جماعة قليلة من المقاومين والوكلاء وأهل البطانة والحاشية في قمة الهرم الاجتماعي الشاهقة إلى استقطاب حاد. وغذى الخواء والتسلط السياسيان والاعلاميان الاستقطاب الاجتماعي، وفاقم عوراته. فولدت العقود الثلاثة المباركية طبقة اجتماعية حاكمة ومالكة، واستوت في سدة السلطة الاقتصادية من غير مخاض سياسي واجتماعي وثقافي، نظير حيازتها. فهي تدين برئاستها ومكانتها الاقتصاديتين إلى الجهاز المتسلط والفوقي الموروث من المداميك الناصرية، جيشاً وأمناً حصينين ولجبين، وحزباً كرتونياً، وادارات قاصرة ومترهلة، وانتخابات صورية، واعلاماً منصاعاً ومتملقاً وكذاباً.
ولجأت إلى حضن الحركة الاخوانية الملتبسة والمتداعية والحركة هي من مصادر الناصرية ومناهجها السياسية والايديولوجية جماعات الظل المعارضة. فحال الدولة المصرية في عهد حسني مبارك، وفسادها «الغربي» وخلو وفاضها من السياسة والدَّالة، بدت مسوغاً مقنعاً لعلل المعارضة الاخوانية اللصيقة بالآداب والاطر الاجتماعية والشعبية المحلية وبالمعايير الاخلاقية المحافظة أو الشكلية، والموازية لجسور الجماعات و»مواصلاتها» وعلاقاتها الاسلامية الداخلية والاقليمية والعالمية.
وما عدا الاخوانيين، وربما بقايا الناصريين، بدا أن جماعات المعارضة المصرية المتفرقة تتحاشى منذ بعض الوقت، غداة حرب غزة، على وجه التقدير، وإعلان محمد البرادعي انخراطه المتحفظ في السياسة الداخلية من بابها الرئاسي الدستوري، الخوض في المسائل الاقليمية والاستراتيجية «الكبيرة»، والانحياز إلى آراء حاسمة فيها. ورجح الميل هذا انخراط الشباب المصري، ومعظمه ولد في عهد الرئيس «الناصري» العسكري الثالث، في لون من السياسة التواصلية والافقية «الاجتماعية» انقطع من الاطر الناصرية المنصرمة، وهو لم يشهدها. وكان أهل هذا الجيل من الشباب طلَّقوها وأداروا الظهر لها. ورجح التحاشي هذا، من باب آخر، استقرار الدور المصري الاستراتيجي والجغرافي السياسي، على موازنات سالبة أو وقائية «معتدلة» (بإزاء الاسلام السياسي، وإيران النووية وأذرعتها، وبإزاء بعض الخليج الدعاوي والمتهور، وبعض النزعات الاميركية الطائشة...). وذلك على نحو ثقيل ومقيِّد لا يحمل على المبادرة.
ولا ريب في أن هذه العلل لا تستوفي دواعي انصراف الحركة الديموقراطية المصرية اليوم، غداة الحركة الديموقراطية التونسية مباشرة، إلى معالجة القضية السياسية الداخلية، وتقديمها على المسائل الاقليمية والاستراتيجية. فمصر، دولةً ومجتمعاً، تجمع في كتلتها وبنيتها وموقعها القاري وتاريخها، وجهي الامة المتماسكة والمفصل الاقليمي والدولي. وترجيح السياسات «الناصرية» وجه المفصل الاقليمي والدولي على وجه الامة الداخلي، في ذروة الحرب الباردة وإبان طي الامبراطوريات الاستعمارية وصرمها وفي سياق الصراعات العربية الاسرائيلية المتناسلة، هذا الترجيح أنسى بلدان الشرقين الادنى والاوسط، وربما أنسى المصريين أنفسهم، مكانة وجه الامة المصرية الداخلي والسياسي. وصرف الانتباه والاهواء عن معنى حكم الامة نفسها وتدبير المجتمع شؤونه الكثيرة والمتنازعة، من طريق هيئات ومرافق وإدارات ومنظمات معقدة، ولا مثال مستقراً ومعلوماً لعلاقات بعضها ببعض.
فكان الاقرب إلى متناول المتظاهرين المصريين الانقياد إلى مألوف لغوي رتيب ومكرر وقريب المتناول، والهتاف:» لا مبارك ولا سليمان احنا كرهنا الاميركان»، على ما تقدم. فكراهة أو كراهية «الاميركان» تبدد وصف المنازعات الداخلية، وتشخيص الخلافات الحقيقية والضاربة جذورها في كثرة الجماعات، وتباين المصالح والميول، وعسر العبارة عنها والتأليف بينها. والكراهية هذه تختصر التعقيد السياسي والاجتماعي والثقافي في اعتقاد وهوى ثابتين، يوهمان بأدوار جغرافية سياسية تبدو فاعلة وعظيمة في ميزان القتل والقتال. وهو ميزان ذو شأن. وعلى رغم قوة استدراج «كراهية الاميركان»، عاد المتظاهرون عن صيغة الهتاف، وعدلوا عنها في اليوم التالي (الاحد 30/1) إلى «لا مبارك ولا سليمان- يسقط يسقط الطغيان«.
فحل اسقاط الطغيان محل كراهية الاميركان. وصياغة البرنامج على هذا النحو، في ضوء أطوار الحركات السياسية العربية والشرق أوسطية في نصف العقد الاخير، قد يكون مرآة انعطاف سياسي وثقافي عميق يتطاول إلى أركان الحركات هذه واختباراتها. في حالة المسألة السياسية في عصر الديموقراطية العالمي والمتفاوت، وفي اطار الدولة الوطنية الغالب، إلى مناهضة مراكز قوى السيطرة الخارجية و»نهبها» الثابت والمؤبد، يبررها أمران: التنازع على المحل الاول في اطار ثنائي واحد أو فرعي (الشرق السوفياتي والغرب الاطلسي أو الغرب الديموقراطي والمروق الارهابي، أو الشرق الاوسط الاسلامي والشرق الاوسط الاميركي...)، واستتباع الطبقات الحاكمة جماعاتها الاهلية ومجتمعاتها وتجنيدها في حروب «تحرر» لا نهاية لها من القطب العالمي المسيطر.
ودعا الامران الدول الكبرى، الديموقراطية، إلى اهمال المسألة السياسية، ودعا الانظمة الحاكمة ومعظم مجتمعاتها إلى مسايرة هذا الاهمال ومماشاته. والاهمال والمسايرة وجهان يتصل واحدهما بالآخر، ويسوغ واحدهما الاخر. ولعل البرهان الاقوى على هذا هو مزاعم علي لاريجاني، رئيس مجلس الشورى الايراني، و»رفيقه» احمد خاتمي، خطيب الجمعة في مسجد طهران وأحد رؤوس المحافظة الحرسية الخمينية، ووكالتهما الحزب اللهية في لبنان. فهؤلاء يدارون انصراف المصريين، بعد اللبنانيين والتونسيين والايرانيين «الخضر»، إلى معالجة المسألة السياسية الداخلية، ومعنى حكم الامة والمجتمع نفسهما ومدافعتهما الطغيان والاستبداد العرفيين والاستثنائيين (وما يستجران من فساد وانحلال ومهانة وفقر وركود)، يدارون هذا بإلحاق الحركة المصرية والحركة التونسية ذيلاً بإيران الخمينية.
فـ»ثورة الاحرار» في تونس ومصر لا تستحق صفتها على لسان رجال يتربعون في سلطة تحميها خناجر الحرس الثوري والباسدارن وقمعهم الحركة الخضراء، واغتيالات سجن إيفين وكهريزاك، واعدامات مدعي عام طهران الثوري وأموال الريع والخمس المسروقة - إلا لقيامها على «الديكتاتورية العميلة». وأما الديكتاتورية المذهبية العنصرية «تديناً» وقومية، فبراء من العمالة. فالديكتاتورية العنصرية تضع نفسها في موقع المنافسة على زعامة الشرق الاوسط «الاسلامي» وإرهابه. وبراءتها من العمالة، المفترضة، تبرئها حكماً، على زعم لاريجاني وخاتمي الخطيب وأنصارهما المحلَّفين والمتعاقدين، من الديكتاتورية.
والحق ان هذا قريب من الرقية والحماية من السحر. فما يحمل حراس السجن الايراني «العظيم» على مديح الحركتين الديموقراطيتين الطريتين قيامهما على عتبة ذكرى انتصار الثورة الاسلامية في ايران (وهي) ثورة عظيمة ربما لم تحدث مثلها خلال القرون الاخيرة»، على قول علي لاريجاني. ومعنى هذا ان الاتفاقات التنجيمية اللاريجانية والخامنئية، أي مصادفة التوقيت، هي قرينة (على قول الوكيل المحلف في لبنان) بل بيِّنة مفحمة على قرابة الحركتين التونسية والمصرية بنظام القمع والقهر في ايران ولبنان. ويستمد كلام التنجيم الحرسي والباسيجي بعض المعقولية والاحتمال من ثقل الاخوانيين في الميزان السياسي المصري، وهم نظير طغيان السلطة في المجتمع ورد جزء من المجتمع المكبل و المنكفئ على الاستبداد والتعسف.
ويلتقي التعويل الايراني مع التخوف الاسرائيلي. والرأيان يشتركان في وزن الحركة المصرية في ميزان «ناصري» أو اقليمي قومي، وفي إرادة اغفال المسألة السياسية ، أي مسألة الطغيان. وتتصدى الحركة الناشئة للمسألة السياسية الديموقراطية في سياق عربي وشرق أوسطي عريض تعود بداياته إلى انتخاب محمد خاتمي رئيساً على ايران «الاسلامية» في 1997، وانشقاق حزب «العدالة والتنمية» عن حزب أربكان المحافظ، وإلى انتشار الاندية المستقلة في السنة الاولى من عهد الاسد الثاني، وقيام اللبنانيين على سياسة «التعريب» والحزب اللهية الاسدية في 2004 2005، وعودة الايرانيين في 2009 إلى الانتفاض على طغيان الحرسيين والباسيج و»الآيات». وتوج التونسيون، ويتوج المصريون، موقتاً حلقات السلسلة الذهبية والكريمة هذه. ويحارب «كارهو الاميركان» الساعين في «إسقاط الطغيان» بواسطة السلاح الناصري التقليدي، أي تقديم الموقع من النزاع الثنائي الدولي المفترض، على رغم فوته وانصرامه، على موجبات حكم الامة والمجتمع نفسهما بنفسهما، على رغم الحاحه.

ليست هناك تعليقات: