المستقبل - الاحد 17 نيسان 2011
دخلت الجماعات والمجتمعات العربية المشرقية عهد الدولة الوطنية، أو صورتها وبنيانها، واستقرت أو اضطربت على شاكلة كيانات سياسية ومثالها، من باب "الثورة السلبية" (على ما تقدم القول في مقالين سبقا في "نوافذ المستقبل"، 9/1 و23/1/2011). وتلازم الدخول، استقراراً واضطراباً، مع تقطيع أوصال بعض الجماعات الكبيرة، النَّسَبية (الأحلاف القبلية الكبيرة) والقومية (والقوم الكردي مثالها) والطائفية المذهبية (مثل الروم الأرثوذكس والمَلَكيين والدروز والشيعة الإمامية الإثني عشرية، وقبل هؤلاء وأولئك أهل السُّنة). فحُملت الجماعات العريضة والمنتشرة في عدد من الولايات وبعضها نازل على الحدود الجديدة بينها وقد انقلبت حواجز بين الدول، وبعضها الآخر نازل في أنحاء متفرقة من الولايات السابقة حُملت الجماعات الأهلية هذه على انقطاع بعضها من بعض. وهي كانت الى الأمس القريب قوية العلاقة، أو العلائق والأواصر، تروح وتجيء في حمى السلطنة الواحدة وولاياتها المتصلة، وديراتها المستقلة. والحق ان الاستقلال والاتصال نجما عن غلبة الجماعات على ديراتها وبلادها ونواحيها، وتدبيرها (أهالي) الديرات والبلاد والنواحي بموجب أعرافها وسننها وتقاليدها الغالبة. ولم ينجم الاستقلال والاتصال عن شراكة سياسية، ولا عن التزامات إدارية أو مصالح قضت بتسوير دوائر الإمَامة والإقامة، ورفع "المسالح" والحصون على طول خطوط الدوائر المرسومة والمعروفة.
[الملة المتصلة والواحدة
فقطعت الحدود السيادية الجديدة، والكيانات السياسية والإدارية الوليدة، أواصر وروابط الجماعات الأهلية والأقوام. وخلفت في نخبها القديمة والناشئة المولودة من الإصلاحات والإدارات والتجارات والمواصلات على وجه الخصوص، جروحاً وندوباً كان لها الأثر العميق في "سياسيات" الجماعات والنخب معاً. فالإدارة السلطانية العثمانية ساست الجماعات الأهلية المتفرقة، من قبائل أو عشائر وأهل مذاهب وملل دينية وأقوام (أو قوميات)، بسياسة سلطانية أو امبراطورية مشتركة تقريباً أقرت لها بروابطها وأواصرها، وبوحدتها وانفصالها، وأوكلت الى هيئاتها وأسلاكها ومراتبها الخاصة الولاية الداخلية عليها، ورعاية دوامها على سننها وأعرافها وتقاليدها والتحكيم في منازعاتها. ولقاء الولاية والرعاية الداخليتين اضطلعت الهيئات والأسلاك والمراتب، بنواحي السلطنة القريبة أو البعيدة، بأداء فروض الولاء والطاعة للسلطنة، سلطاناً ووالياً ومتصرفاً، الى آخر مراتب السلطنة الإدارية والسياسية المحلية. فتخللت الولاءات النَّسَبية والمذهبية والقومية الكيانات والأبنية الإدارية والجغرافية (البلدانية) والاجتماعية (البوادي/ الأرياف، البوادي/ المدن، الأرياف/ المدن).
فكان الدروز، على سبيل المثل، في الشوف ووادي التيم والجولان وحوران، وهذه نواح انضوت من بعد في أربعة كيانات سياسية وتقاسمتها ولايات متقلبة العدد (وإمارة ومتصرفية وإمارتان) ومختلفة العرض، كانوا في الأثناء "أمة" واحدة أو ملة متآصرة ومتكاتفة على اختلاف بلادها ومنازلها وجيرانها. وترتبت على الآصرة الملية والأهلية القوية والمقيمة، على رغم تفرق البلاد والإدارة والجوار، نتائج ذات شأن بالغ. فكانت الجماعة المذهبية والنَّسَبية، والوجهان متضافران، واحدة في نزاعاتها المتفرقة والمختلفة. فإذا تصدى دروز اللجا الحوراني، الفلسطيني والأردني والسوري، لجند ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا، نائب السلطان على مصر، وهو (ابراهيم) في طريقه الى عاصمة السلطنة في النصف الثاني من ثلاثينات القرن التاسع عشر، عازماً على الاستيلاء عليها قبل ان يقطع عليه الجوق الأوروبي الطريق (في كوتاهية 1838) فرق اجتماعه ساقة ابراهيم أو الشطر الخلفي من جيشه. وجاءت المقاتلين النجدة من الجولان القريب ومن الشوف الأبعد. ووسع من شاء منهم الالتجاء الى بعض أهله في أي بلد يختاره من بلاد الملة الواسعة.
والهجرة، جماعةً، من ديرة الى ديرة في أعقاب هزيمة عسكرية، أو محنة أو فتنة، دأبُ الجماعة، على صورة هجرة الجناح اليمني من دروز الشوف، غداة كسرتهم بعين دارا في أوائل القرن الثامن عشر، إلى حوران والجولان. وقام الدروز كتلة على الجيش الفرنسي في النصف الثاني من عشرينات القرن العشرين. وهرب بعضهم الى بلاد بعضهم الآخر. وشفع بعضهم ببعض عند أهل القوة. وهم، في الأحوال كلها، يتزاوجون ويتزاورون. ولا تحول موالاة بعضهم أولياء أو حلفاء متخاصمين أو متعادين، على ما هي حال إسرائيل اليوم بإزاء دروز لبنان ودروز سوريا، من دوام المودة والتآخي بين أجزاء الجماعة المتصلة. فيسع الجنود الدروز في صفوف الجيش الإسرائيلي المحتل في 1982، والمرابط في الشوف، زيارة الأهل المحليين والخطبة والزواج من غير أن تفسد الحرب مودة الأهل. ويسع، من وجه آخر، المقدم الجنبلاطي مناشدة أهل ملته الفلسطينيين، "العرب الإسرائيليين"، ترك الانخراط في الجيش الإسرائيلي، فلا يحمل الأهل المناشدة على عداوة أو ضغينة، بينما يتصور انخراط لبنانيين مسيحيين أو شيعة في صفوف ميليشيا محلية أنشأها الاحتلال الإسرائيلي، في صورة جريمة لا يلغيها تقادم الزمن.
[جامعة الأجزاء
والدروز ليسوا بين الجماعات الأهلية المشرقية، حالاً على حدة. فالجماعات المسيحية العربية من غير الأرمن والأشوريين والكلدان والسريان (وهؤلاء جماعات ملية وقومية)، ومن غير الموارنة، جمعت بينها كنائس بطريركية مستقلة رأسها منها، ومن اكليروسها. ومعتقداتها تحدرت إليها من تاريخها العريق، ومن المطارحات والمناقشات والخلافات اللاهوتية والتنظيمية التي هزت "الشعب" المسيحي المشرقي بين بيزنطية "والجسر" (على البحار الثلاثة) شمالاً وبين بلاد القبط جنوباً وبين النهرين شرقاً في القرون الطويلة الأولى من المخاض الكنسي. ولم تشذ عن هذا الكنائس "الكاثوليكية" المتحدة، أرمنية كانت أم كلدانية... والجماعة الأرثوذكسية، من بين الجماعات الملية القومية، هي الجماعة المسيحية العربية الوحيدة ربما التي تجمع العروبة التاريخية والثقافية والبلدانية إلى التنظيم الإقليمي المستقل، على رغم روابط قديمة بالفنار البيزنطي فالعثماني، وروابط أضعف بالبطريركية اليونانية. فلما انقلبت الولايات السابقة، بعد دمج بعضها ببعض وتقسيم بعض آخر، كيانات سياسية وقانونية (وإدارية واجتماعية واقتصادية) مستقلة تقطعت أواصر رعايا الكنيسة الأرثوذكسية، وهم مواطنون في الكيانات الطارئة.
وإذا أقامت الأجسام الكنسية المتفرقة على هياكلها ومراتبها، وعلى أسقفياتها وليتورجياتها ومعتقداتها بديهة، فالحق أن الحال ا لسياسية والكيانية الجديدة لم تعدم أثراً عميقاً في وجدان الجماعات الديني والتاريخي معاً. ولعل هذه الحال أثرت في الجماعة الأرثوذكسية العربية فوق ما أثرت في الجماعات الملية والقومية الأخرى. فعلى خلاف هذه، انتشرت الجماعة الارثوذكسية العربية في الأنحاء العثمانية، والبيزنطية قبلها، كلها. ولم يبقَ لها موئل أو معقل غالب، على نحو المعقل الأرثوذكسي الأرمني بشرق الأناضول، أو الموئل اليوناني على ساحل إيجه، أو الحمى الأشوري بوسط العراق الشمالي، أو المعقل الماروني بشمال لبنان ووسطه الشمالي. فأقامت على انتشارها الضعيف، وعلى تخللها الجماعات السنية العربية، الغالبة على السكان. فكان الهيكل الكنسي البطريركي، في إطار الولايات السابقة وحدودها السياسية والقانونية الرخوة، هو جامعة أجزاء الجماعة الاعتقادية.
فلما تماسكت الحدود السياسية والقانونية الوطنية بعض الشيء، نشأت مصالح سياسية واقتصادية عن الأطر الإدارية والجغرافية الطارئة، متباينة. فشبكات التبادل والتجارة والانتقال القديمة والمستقرة منذ زمن بعيد، وهي شبكات ربطت بين الجماعات والبلدان على قدر ما ربطت بين البضائع والسلع والأسواق، تقطعت. واضطرتها الحدود الجغرافية والسياسية، ومكاتبها الجمركية وحسبتها على الاستيراد والتصدير وحصصهما ومصادرهما وعلى التهريب، ومراقبتها الأمنية، اضطرتها الى تنظيم شبكات تداول جديدة، وإلى دعم سلع والتخلي عن أخرى، ومراعاة مصالح "الحمايات" الأجنبية الغالبة. فتضافر التقطيع والتضييق الجديدان، مع غلبة مصالح الدول المنتدبة وتحطيمها وسائل الإنتاج وأنماط التبادل السائدة من قبل، على رمي الشبكات القائمة وأهلها، في أزمات متناسلة ومزمنة. وولد بروزُ شبكات ناشئة أصحاب مصالح جدداً نازعوا المتربعين في سدة المصالح الآفلة على مكانتهم وعوائدهم. وعزلت الحدود الجغرافية والسياسية الوطنية الناشئة الوحدات الأهلية، الملية، بعضها عن بعضها الآخر. وفوق هذا، وأشد فداحة منه، نصبت الكيانات الوطنية أجزاء الجماعات الدينية والأهلية الجزء بإزاء الجزء، وليس الكل المنتشر بإزاء كل منتشر غيره. فألفت "الأبرشية" الأرثوذكسية في الكورة نفسها، وقد انقطعت من بطريركيتها "الشامية" والعثمانية العريضة والواسعة، بإزاء الكتلة المارونية اللبنانية بل الأنطاكية "الساحقة" كلها، على ما روى إميل شاهين الى محمد أبي سمرا اخيراً ("النهار"، 16/1/2011). وعظَّم فداحة الأمر "الوجودية" اندلاع الصراع على المحل الأول في الدولة الجديدة، وكان (الصراع) مقتصراً على المحل الثاني أو الثالث في الإطار السلطاني أو الامبراطوري. فشحذت الحال الجديدة النعرات، وصوّرت الحال السابقة في صورة فردوس "وحدوي" ضائع. وتنطحت الجماعات الصغيرة والقليلة العدد الى التمثيل على الكل الواحد والاوسع. فسوغت المكانةَ القائدة التي تصبو اليها الجماعة من طريق تعظيم القضية التي تضطلع بالدعوة اليها. وعلى هذا، تديّن أنطون سعادة وميشال عفلق الارثوذكسيان، مولداً ونشأةً و"جلداً معنوياً"، بدينين قوميين يشبه واحدهما الاخر عصبية وأسطورية دمويتين. وحُمِّل الكيان اللبناني، ودعاته الموارنة وهم كثرتهم الكاثرة في الدولة "الكيانية" التي ضوت حدودها، من قنوبين شمالاً الى يارون وعين إبل ويارين جنوباً، كتلتهم الغالبة المسؤولية الداخلية عن تقطيع "سايكس بيكو" الخارجي ومبضعه الجراحي.
وعلى هذا، فالإنكار الأرثوذكسي، شأن الإنكار الدرزي ونظيره السني، في فلسطين ولبنان والأردن وسوريا والعراق (على وجه آخر)، على الكيانات والدول الوطنية المشرقية أو العربية عزلتها، أو "انعزاليتها"، وطائفيتها، إنما تصدر ("الإنكارات") عن بواعث ملية وسلطانية (امبراطورية) فوق صدورها عن باعث قومي سياسي. فما تنكره نخب أرثوذكسية، اجتماعية وإكليركية وثقافية، قومية سورية وبعثية على "التجزئة القطرية"، أي على الدول الوطنية المشرقية، هو تصديعها الحيِّز السلطاني المتصل الذي لاذت به زمناً طويلاً الجماعات الملية المتماسكة. وتنكر تقطيع الدول أجسامها الملية، وامتحانها مصالحها المستقرة ومكانات أعيانها الموروثة والمزمنة. فالدول الوطنية لم تقطع أو تجزّئ جسماً سياسياً متصلاً وجامعاً فهذا الجسم لم يكن قائماً وهو يفترض بنية سياسية وأحوالاً اجتماعية غير معروفة ولا تزال غامضة الى اليوم -، بل قطَّعت وجمعت جماعات أهلية ومللاً وأقواماً وولايات ونواحي متناثرة، ومنكفئة على العموم، تربط بينها رابطة السلطنة (وهذه ليست "لا شيء") الفوقية والمرتبية والائتلافية (الكونفيديرالية). وأرسى التقطيع والجمع الكيانيان والوطنيان موازين قوة ومكانة ومصلحة لا عهد للجماعات بها، واقتضت منها جهود تكيف مادية ومعنوية عظيمة وثقيلة، ورتبت عليها منازعات وانقسامات داخلية مريرة.
[النداء الملي
ولم تستو الجماعات على قدم واحدة بإزاء التقطيع والجمع الكيانيين. فلما اجتمعت كتلة الموارنة الكبيرة والراجحة في لبنان، وضوت الدولةُ الوطنية معظم أجزاء الكتلة، استقوت هذه بالدولة واستظهرت بها، وقامت منها، ومن جماعاتها، مقام "الطبقة الحاكمة" أو "الأمة"، على المعنى الجرماني (وهو قريب من الحال العثمانية وقبلها المملوكية). فاجتمعت الجماعات المذهبية الأخرى على كراهيتها والضغينة عليها. ولم يكن لشيعة لبنان "الكبير" تتمة ملية وأهلية بفلسطين أو بسوريا، البلدين المجاورين. فلم يكابدوا آلام "التجزئة" والانعزال، ولم يعانوا تباريح الاتصال، على ما سمي النازع الوحدوي السوري في ثلاثينات القرن الماضي اللبنانية. وبقوا "كيانيين" على قدر ما، وعلى ما ظن فيهم الوحدويون، الى أن حمَّ القدر الفلسطيني، وفي ركابه الأقدار الإسرائيلية والسورية والإيرانية. وعلى رغم اجتماع الأقدار هذه، وغلبة الجوار السوري والعامل الفلسطيني من قبل، لم تستفق الأهواء الوحدوية إلا استجابة لنداء ملي، مصدره التشيع الإمامي الإثني عشري وسيطرة جهازه العلمائي "الإكليركي" على الدولة الإيرانية. وأقام شيعة العراق على عصبية مذهبية واجتماعية ("يسارية") ما بقيت العصبية السنية والعربية الشريفية (نسبة الى أنصار فيصل ابن الشريف الحجازي المكي حسين) غالبة. فلم ينتسبوا الى عروبية نشطة، وفرقت بينهم وبين الجوار الفارسي الإيراني عصبية دموية وتاريخ من الغزوات والغارات والمجازر يرقى الى القرن السابع عشر.
وغلبت العرب السنّة على سكان المشرق، عدداً وسطوة واجتماعاً وتاريخاً وثقافة، ناطت بهم قبل غيرهم، وفوق غيرهم، "القضية القومية" على وجهيها، انفصالاً وطنياً واتصالاً واتحاداً أهليين وقوميين (والأدق القول: أهليين قوميين، من غير انقطاع ولا عطف. فالقومية بهذه الحال ليست منفصلة عن الأهلية، ولا عن صورة الحلف العريض). فهم وجدوا أنفسهم، فجأة، في مقابلة جماعات وأقوام استتبعوهم طويلاً في سلطناتهم، ودان لهم هؤلاء بالطاعة، فمحضوهم الحماية والجوار الآمن. وتولت الاستتباع طبقة عسكرية احترفت الحرب والرئاسة والجباية لقاء تسليمها بالشريعة الإسلامية معتقداً وقانوناً ناظماً لمعاملات المجتمع، وبإدارة مجتمعية ذاتية يتولاها سلك الفقهاء والعلماء بالتكافل والتضامن مع أهل التجارة ومشايخ "العشائر" والخطط والقرى. فاتصلت نواحي المشرق، الى مصر جنوباً وكيليكيا والأناضول شمالاً فقابادوقيا وتراقيا العثمانيتين من بعد، من غير انقطاع ظاهر. وتماسكت ديراتها ومدنها ومزارعها وقراها وطرق تجارتها وحجها من طريق "طبقتها" الحاكمة والسلطانية. وهي بنيتها الفوقية. ومن طريق فقهائها (ومحاكمهم ومذاهبهم) وتجارها (وقوافلهم ووكالاتهم وقراباتهم وحوالاتهم) وأعيان عشائرها (وأعرافهم وأطر اجتماعهم). وهم وهيئاتهم بنيتها التحتية. ونهض اتصال نواحي المشرق و "وحدته" على تقسيم أدوار واختصاص: فعادت "الحرب"، وهي لب السياسة وركنها، ومتعلقاتها المباشرة وغير المباشرة، الى "أولي الأمر"، واختصت "الرعية" بأداء الضرائب والأخرجة والأعشار والجزية والطاعة، على قول محمد علي الأرناؤوطي الى الشيخ عمر مكرم نقيب الأشراف الطالبيين بالقاهرة عشية استيلاء الأول على حكم مصر، و "عزله" الثاني.
والوحدة على هذا النحو، أي ائتلاف الجوار ائتلافاً رخواً ومرناً لا إلزام فيه غير ذاك الناجم عن تقسيم عمل مصلحي، تترجح بين قطبين: قطب سلطاني (امبراطوري) فوقي، وقطب أهلي (ديني عرفي واجتماعي معاشي) تحتي. ويتخلل القطبُ الآخر، ويلزمه الإلزامات ويقيده، بحسب ميزان القوة والمصلحة والظرف، وذلك من غير ان يجري التخللُ والإلزام والميزان على سنن أو قواعد معروفة وثابتة تخول "المتضرر" الاحتجاج بها أو الاحتكام إليها. وهذه، أي السنن والقواعد، تنشأ عن عقد سياسي لم يكن تبلور بعد. وحين تعاقبت الحوادث الدولية والعثمانية والوطنية المحلية على بلاد المشرق (أو الشرق الأدنى، في المصطلح الاستراتيجي والجغرافي السياسي الفرنسي)، وتفتحت المنازع "القومية" الاستقلالية المحلية وقويت، أقامت الجماعات وأصحاب المنازع هذه من رؤساء الجماعات وأعيانها ووجهاء الصف الثاني والثالث على قسمة القطبين، السلطاني الجامع من فوق والأهلي المؤتلف من تحت. واستمرت الجماعات، ومنازعها، على الترجح بينهما.
[أمم الولاية
وَوَلدت القسمة القطبية من غير عقلها، وَوَلد الترجح بين حدّيها، القضية (والأدق: القضايا) القومية والمسألة (والأصح: المسائل) الطائفية أو الملية على الوجوه التي وُلدت عليها المشكلتان أو المسألتان واستمرتا عليها، على هذا القدر أو ذاك، الى اليوم. فبقيت "القومية" شعوراً أو "تذكراً"، على قول إدمون رباط وميشال عفلق، وحركةً، على قول جمال عبدالناصر، كناية عن الذوبان البركاني أو تدفق السيل الذي يطيح الترع والمجاري ويكسرها. وبقي شرطها وقوامها ولاءً ومبايعة يتولاهما الجمهور، وهو على نقيض أحواله الأهلية والعصبية الأساسية والتكوينية. ومن غير رسو النقض المفترض، والناجم تخيله وتوهمه عن خروج "طبقات" المتعلمين والموظفين ومزاولي المهن الحرة والمكتبية الجدد عن أحوال أهلهم، على معاملات وأبنية اجتماعية وسياسية وثقافية متماسكة ومختبرة.
ويبايع الجمهور ويوالي وليَّ أمر يمثل في نفسه نسباً ودماً (فيصل بن الحسين)، أو انتساباً تاريخياً (عبدالناصر ووحدة "الإقليمين" المملوكية)، أو دوراً جوهرياً (ياسر عرفات وحبل السرة الفلسطيني)، أو فتوة فروسية وحربية (صدام حسين وبوابة الأمة الشرقية)... يمثِّل على الفكرة والقضية القوميتين، ويجسدهما تجسيداً مقدساً أو حراماً (ذا حرمة تحظر التحفظ والرأي والمنازعة والمداولة). وليس في الجسم السياسي، وبالأحرى ألا يكون في رأسه ما يستبقي أثر تركيب أو كثرة أو تفاوت تصف الجمهور المبايع والموالي وتعيِّنه وتعرّفه. فسند "الولي" على معنيي ولاية الأمر والسلطان، وحرمة الكرامة أو "البطولة" هو عروة، أو رابطة، أو روح "لطيفة" تحوم في فضاء المشرق العربي، وتشد، وهي في عليائها الأثيرية، كتل البلاد والأقوام والجماعات المنكفئة، وتنفخ فيها لحمة متينة تعصى حوادث الزمن وفرقته وتبديده. وتستيقظ الروح، أو تتنبه وتستفيق على قول "الشاعر" اللبناني الصارخ، في الملمات، وبإزاء موت الأمة الوشيك عن يد الأجنبي القاطع، الفرنجي الصليبي أو المغولي التتري أو المستعمر الأوروبي أو الصهيوني الكياني والأميركي. وقرين هذه ووليدها هو الطائفي الأقلوي والشعوبي الدخيل والمولَّد. وعلى هذا، لا تحتاج الروح القومية، ولا "الدولة" القومية أو "دولة الوحدة" من بعد الى حركات سياسية وطنية وبلدية محلية تنزع، في إطار دولها ومجتمعاتها الوطنية أولاً، منزعاً "قومياً" مشتركاً، وتنحو نحواً مركباً يمثل على الجمع بين المستويين المفترضين والتأليف بينهما. فما تحتاجه هو جَبُّ الطائفي الكياني والشعوبي الدخيل والمولَّد، وسحقُه. ولا يبلغ الجب أو السحق غايته إلا حين الانتصار على الرأس الاستعمارية والإمبريالية، وقطعها مجازاً، وفصلها عن "شعوبها" المسالمة و "المحترمة"، على قول بعض الإيرانيين الخمينيين اليوم.
فما أقامت الجماعات الأهلية، وهي بلدانية محلية واعتقادية وقرابية معاً، على اتصال شبكاتها في إطار السلطنة أو السلطنات، قبل الكيانات الوطنية، وما مضت على استقرار تقاليدها وعلاقاتها بين ابعاضها وأجزائها و "أبرشياتها" في الكنف الديني والقومي المختلط والجامع، بقيت المسألتان، المسألة القومية العروبية والمسألة "الطائفية" (والأقوامية) الكيانية، خافتتين بعض الشيء. والحق أن الكيانات الوطنية المشرقية التي نشأت وأنشئت غداة الحرب الأولى، وفي أعقاب نحو 80 عاماً على "التنظيمات" العثمانية، وعلى احتداد المنازعات الأوروبية الإمبريالية في إطار العولمة الأولى، فجّرت المسألتين، وربطتهما الواحدة بالأخرى برباط وثيق ومزمن غلب على العلاقات السياسية داخل الكيانات، وعلى علاقاتها الإقليمية الواحدة بالأخرى. وغذى الرباط الوثيق والمزمن هذا إيديولوجيات محمومة ومعاملات عنيفة حوّلت المسارح السياسية الداخلية والإقليمية ميادين حروب أهلية مستترة مضمرة أو صريحة فاحشة.
فبين الكيان الأهلي والعصبي الداخلي (ما قبل السياسي أو تحته، على سبيل الاستعارة) وبين السلطنة القومية المفترضة التي أُوكل إليها التمثيل على الدولة "الأمة" المرجوة (ما بعد السياسي أو فوقه)، خلت المجتمعات "السياسية" من حلقة وسيطة تفتح الكيانات الأهلية والعصبية ومنازعاتها على الدولة الوطنية المشتركة من وجه، وتغرس الإطار السلطاني في أرض الدولة، من وجه آخر. والأمران كانا يقتضيان إبطال نازع الكيانات الأهلية الى الانفراد بمكانة عصبية الدولة المستولية ومحلها، وإلى إرساء الدولة الوطنية، المؤتلفة من جماعات أهلية متقطعة، غالباً، على المُسكة العصبية. ولكن "الدول" الوطنية المستجدة والناشئة ضوت جماعاتها، أو كياناتها الملية وأقوامها (وأوَّل هذه الأقوام القوم الكردي العصي)، على معيار عصبي مترجح. فنصبت "الدولة" السورية الدروز والعلويين وسنّة الشمال العرب والأكراد، في وجه كتلة الوسط السهلي والمديني السني، كيانات قد لا تنازع الكتلة العتيدة، والغالبة على مجتمعات المشرق، الغلبة، ولكنها تقيد غلبتها، وتطعن في ميزانها ودعواها. وفي إطاره بلغ التفاوت الملي والطائفي ذروةً أورثت المسألتين الطائفية والقومية حدةً داميةً مريرةً ومزمنة. وأخرجت "الدولة" الوطنية اللبنانية الناشئة بعض الكتل المسيحية المجتمعة، أو الأكثف اجتماعاً في المشرق، من انبثاثها في الأرجاء العربية والإسلامية، وخصتها بكيان سياسي تنازعه نازعا الانعزال (أو الانفصال، على ما سمي أولاً) والاتصال ("الوحدوي") قبل ولادته الديبلوماسية.
وتوجت الإمارة الأردنية الهاشمية جسماً عشائرياً، أقرب الى التجانس الاجتماعي والأهلي، ولكن لا مُسكة له من داخل، وبغير تاجه الأميري فالملكي الخارجي، شأن "الوحدات" أو الأحلاف القبلية. فكان الجسم العشائري، قياساً على الكيانات الوطنية والمشرقية المجاورة، أمتنها وأعصاها على المنازعات الأهلية. وهذه طرأت عليه مع التحاق اعداد كبيرة من الفلسطينيين به ولجوئهم إليه، ومع اشتداد عودهم الأهلي، ورفضهم الصيغة الاتحادية أو الفيديرالية التي اقترحها عليهم، متأخراً، العاهل السابق. ومثلت فلسطين الانتدابية، وهي اختتمت حقبتها أو مرحلتها هذه بتقسيمين، على مأساة الترجح بين الكيانات الأهلية ويبن السلطنة القومية المفترضة. فأفضت العروبة الأهلية والعصبية الى ضم الضفة الغربية إلى (ما استوى) مملكة هاشمية أردنية (جراء الضم)، وإلى الإنكار على الأهل الفلسطينيين وطناً وكياناً سياسيين بذريعة "الدولة الأمة" القومية ولائحتها في الأفق. وعلى هذا، أفضى التقسيمان الى حربين "أهليتين" مزمنتين، غير متكافئتي الصفة، فلسطينية إسرائيلية، وفلسطينية أردنية. وأفضى طيف السلطنة العروبية الجامعة، وانفجار المسألة أو القضية الفلسطينية، رافد الطيف الأول والنافخ شبه الروح فيه مذذاك، أفضيا الى معمعة نزاعات وحروب اختلط فيها الأهلي العصبي بالوطني "القطري"، والعروبي القومي بالإقليمي ودوائره الظرفية والمتباينة. وفاقم العراق، حيث الميزان الشيعي السنّي والميزان العربي الكردي متشابكان بالميزان العشائري المديني والريفي، تعقيد المسألة الوطنية والسياسية. ويقتضي هذا معالجة مستقلة.
دخلت الجماعات والمجتمعات العربية المشرقية عهد الدولة الوطنية، أو صورتها وبنيانها، واستقرت أو اضطربت على شاكلة كيانات سياسية ومثالها، من باب "الثورة السلبية" (على ما تقدم القول في مقالين سبقا في "نوافذ المستقبل"، 9/1 و23/1/2011). وتلازم الدخول، استقراراً واضطراباً، مع تقطيع أوصال بعض الجماعات الكبيرة، النَّسَبية (الأحلاف القبلية الكبيرة) والقومية (والقوم الكردي مثالها) والطائفية المذهبية (مثل الروم الأرثوذكس والمَلَكيين والدروز والشيعة الإمامية الإثني عشرية، وقبل هؤلاء وأولئك أهل السُّنة). فحُملت الجماعات العريضة والمنتشرة في عدد من الولايات وبعضها نازل على الحدود الجديدة بينها وقد انقلبت حواجز بين الدول، وبعضها الآخر نازل في أنحاء متفرقة من الولايات السابقة حُملت الجماعات الأهلية هذه على انقطاع بعضها من بعض. وهي كانت الى الأمس القريب قوية العلاقة، أو العلائق والأواصر، تروح وتجيء في حمى السلطنة الواحدة وولاياتها المتصلة، وديراتها المستقلة. والحق ان الاستقلال والاتصال نجما عن غلبة الجماعات على ديراتها وبلادها ونواحيها، وتدبيرها (أهالي) الديرات والبلاد والنواحي بموجب أعرافها وسننها وتقاليدها الغالبة. ولم ينجم الاستقلال والاتصال عن شراكة سياسية، ولا عن التزامات إدارية أو مصالح قضت بتسوير دوائر الإمَامة والإقامة، ورفع "المسالح" والحصون على طول خطوط الدوائر المرسومة والمعروفة.
[الملة المتصلة والواحدة
فقطعت الحدود السيادية الجديدة، والكيانات السياسية والإدارية الوليدة، أواصر وروابط الجماعات الأهلية والأقوام. وخلفت في نخبها القديمة والناشئة المولودة من الإصلاحات والإدارات والتجارات والمواصلات على وجه الخصوص، جروحاً وندوباً كان لها الأثر العميق في "سياسيات" الجماعات والنخب معاً. فالإدارة السلطانية العثمانية ساست الجماعات الأهلية المتفرقة، من قبائل أو عشائر وأهل مذاهب وملل دينية وأقوام (أو قوميات)، بسياسة سلطانية أو امبراطورية مشتركة تقريباً أقرت لها بروابطها وأواصرها، وبوحدتها وانفصالها، وأوكلت الى هيئاتها وأسلاكها ومراتبها الخاصة الولاية الداخلية عليها، ورعاية دوامها على سننها وأعرافها وتقاليدها والتحكيم في منازعاتها. ولقاء الولاية والرعاية الداخليتين اضطلعت الهيئات والأسلاك والمراتب، بنواحي السلطنة القريبة أو البعيدة، بأداء فروض الولاء والطاعة للسلطنة، سلطاناً ووالياً ومتصرفاً، الى آخر مراتب السلطنة الإدارية والسياسية المحلية. فتخللت الولاءات النَّسَبية والمذهبية والقومية الكيانات والأبنية الإدارية والجغرافية (البلدانية) والاجتماعية (البوادي/ الأرياف، البوادي/ المدن، الأرياف/ المدن).
فكان الدروز، على سبيل المثل، في الشوف ووادي التيم والجولان وحوران، وهذه نواح انضوت من بعد في أربعة كيانات سياسية وتقاسمتها ولايات متقلبة العدد (وإمارة ومتصرفية وإمارتان) ومختلفة العرض، كانوا في الأثناء "أمة" واحدة أو ملة متآصرة ومتكاتفة على اختلاف بلادها ومنازلها وجيرانها. وترتبت على الآصرة الملية والأهلية القوية والمقيمة، على رغم تفرق البلاد والإدارة والجوار، نتائج ذات شأن بالغ. فكانت الجماعة المذهبية والنَّسَبية، والوجهان متضافران، واحدة في نزاعاتها المتفرقة والمختلفة. فإذا تصدى دروز اللجا الحوراني، الفلسطيني والأردني والسوري، لجند ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا، نائب السلطان على مصر، وهو (ابراهيم) في طريقه الى عاصمة السلطنة في النصف الثاني من ثلاثينات القرن التاسع عشر، عازماً على الاستيلاء عليها قبل ان يقطع عليه الجوق الأوروبي الطريق (في كوتاهية 1838) فرق اجتماعه ساقة ابراهيم أو الشطر الخلفي من جيشه. وجاءت المقاتلين النجدة من الجولان القريب ومن الشوف الأبعد. ووسع من شاء منهم الالتجاء الى بعض أهله في أي بلد يختاره من بلاد الملة الواسعة.
والهجرة، جماعةً، من ديرة الى ديرة في أعقاب هزيمة عسكرية، أو محنة أو فتنة، دأبُ الجماعة، على صورة هجرة الجناح اليمني من دروز الشوف، غداة كسرتهم بعين دارا في أوائل القرن الثامن عشر، إلى حوران والجولان. وقام الدروز كتلة على الجيش الفرنسي في النصف الثاني من عشرينات القرن العشرين. وهرب بعضهم الى بلاد بعضهم الآخر. وشفع بعضهم ببعض عند أهل القوة. وهم، في الأحوال كلها، يتزاوجون ويتزاورون. ولا تحول موالاة بعضهم أولياء أو حلفاء متخاصمين أو متعادين، على ما هي حال إسرائيل اليوم بإزاء دروز لبنان ودروز سوريا، من دوام المودة والتآخي بين أجزاء الجماعة المتصلة. فيسع الجنود الدروز في صفوف الجيش الإسرائيلي المحتل في 1982، والمرابط في الشوف، زيارة الأهل المحليين والخطبة والزواج من غير أن تفسد الحرب مودة الأهل. ويسع، من وجه آخر، المقدم الجنبلاطي مناشدة أهل ملته الفلسطينيين، "العرب الإسرائيليين"، ترك الانخراط في الجيش الإسرائيلي، فلا يحمل الأهل المناشدة على عداوة أو ضغينة، بينما يتصور انخراط لبنانيين مسيحيين أو شيعة في صفوف ميليشيا محلية أنشأها الاحتلال الإسرائيلي، في صورة جريمة لا يلغيها تقادم الزمن.
[جامعة الأجزاء
والدروز ليسوا بين الجماعات الأهلية المشرقية، حالاً على حدة. فالجماعات المسيحية العربية من غير الأرمن والأشوريين والكلدان والسريان (وهؤلاء جماعات ملية وقومية)، ومن غير الموارنة، جمعت بينها كنائس بطريركية مستقلة رأسها منها، ومن اكليروسها. ومعتقداتها تحدرت إليها من تاريخها العريق، ومن المطارحات والمناقشات والخلافات اللاهوتية والتنظيمية التي هزت "الشعب" المسيحي المشرقي بين بيزنطية "والجسر" (على البحار الثلاثة) شمالاً وبين بلاد القبط جنوباً وبين النهرين شرقاً في القرون الطويلة الأولى من المخاض الكنسي. ولم تشذ عن هذا الكنائس "الكاثوليكية" المتحدة، أرمنية كانت أم كلدانية... والجماعة الأرثوذكسية، من بين الجماعات الملية القومية، هي الجماعة المسيحية العربية الوحيدة ربما التي تجمع العروبة التاريخية والثقافية والبلدانية إلى التنظيم الإقليمي المستقل، على رغم روابط قديمة بالفنار البيزنطي فالعثماني، وروابط أضعف بالبطريركية اليونانية. فلما انقلبت الولايات السابقة، بعد دمج بعضها ببعض وتقسيم بعض آخر، كيانات سياسية وقانونية (وإدارية واجتماعية واقتصادية) مستقلة تقطعت أواصر رعايا الكنيسة الأرثوذكسية، وهم مواطنون في الكيانات الطارئة.
وإذا أقامت الأجسام الكنسية المتفرقة على هياكلها ومراتبها، وعلى أسقفياتها وليتورجياتها ومعتقداتها بديهة، فالحق أن الحال ا لسياسية والكيانية الجديدة لم تعدم أثراً عميقاً في وجدان الجماعات الديني والتاريخي معاً. ولعل هذه الحال أثرت في الجماعة الأرثوذكسية العربية فوق ما أثرت في الجماعات الملية والقومية الأخرى. فعلى خلاف هذه، انتشرت الجماعة الارثوذكسية العربية في الأنحاء العثمانية، والبيزنطية قبلها، كلها. ولم يبقَ لها موئل أو معقل غالب، على نحو المعقل الأرثوذكسي الأرمني بشرق الأناضول، أو الموئل اليوناني على ساحل إيجه، أو الحمى الأشوري بوسط العراق الشمالي، أو المعقل الماروني بشمال لبنان ووسطه الشمالي. فأقامت على انتشارها الضعيف، وعلى تخللها الجماعات السنية العربية، الغالبة على السكان. فكان الهيكل الكنسي البطريركي، في إطار الولايات السابقة وحدودها السياسية والقانونية الرخوة، هو جامعة أجزاء الجماعة الاعتقادية.
فلما تماسكت الحدود السياسية والقانونية الوطنية بعض الشيء، نشأت مصالح سياسية واقتصادية عن الأطر الإدارية والجغرافية الطارئة، متباينة. فشبكات التبادل والتجارة والانتقال القديمة والمستقرة منذ زمن بعيد، وهي شبكات ربطت بين الجماعات والبلدان على قدر ما ربطت بين البضائع والسلع والأسواق، تقطعت. واضطرتها الحدود الجغرافية والسياسية، ومكاتبها الجمركية وحسبتها على الاستيراد والتصدير وحصصهما ومصادرهما وعلى التهريب، ومراقبتها الأمنية، اضطرتها الى تنظيم شبكات تداول جديدة، وإلى دعم سلع والتخلي عن أخرى، ومراعاة مصالح "الحمايات" الأجنبية الغالبة. فتضافر التقطيع والتضييق الجديدان، مع غلبة مصالح الدول المنتدبة وتحطيمها وسائل الإنتاج وأنماط التبادل السائدة من قبل، على رمي الشبكات القائمة وأهلها، في أزمات متناسلة ومزمنة. وولد بروزُ شبكات ناشئة أصحاب مصالح جدداً نازعوا المتربعين في سدة المصالح الآفلة على مكانتهم وعوائدهم. وعزلت الحدود الجغرافية والسياسية الوطنية الناشئة الوحدات الأهلية، الملية، بعضها عن بعضها الآخر. وفوق هذا، وأشد فداحة منه، نصبت الكيانات الوطنية أجزاء الجماعات الدينية والأهلية الجزء بإزاء الجزء، وليس الكل المنتشر بإزاء كل منتشر غيره. فألفت "الأبرشية" الأرثوذكسية في الكورة نفسها، وقد انقطعت من بطريركيتها "الشامية" والعثمانية العريضة والواسعة، بإزاء الكتلة المارونية اللبنانية بل الأنطاكية "الساحقة" كلها، على ما روى إميل شاهين الى محمد أبي سمرا اخيراً ("النهار"، 16/1/2011). وعظَّم فداحة الأمر "الوجودية" اندلاع الصراع على المحل الأول في الدولة الجديدة، وكان (الصراع) مقتصراً على المحل الثاني أو الثالث في الإطار السلطاني أو الامبراطوري. فشحذت الحال الجديدة النعرات، وصوّرت الحال السابقة في صورة فردوس "وحدوي" ضائع. وتنطحت الجماعات الصغيرة والقليلة العدد الى التمثيل على الكل الواحد والاوسع. فسوغت المكانةَ القائدة التي تصبو اليها الجماعة من طريق تعظيم القضية التي تضطلع بالدعوة اليها. وعلى هذا، تديّن أنطون سعادة وميشال عفلق الارثوذكسيان، مولداً ونشأةً و"جلداً معنوياً"، بدينين قوميين يشبه واحدهما الاخر عصبية وأسطورية دمويتين. وحُمِّل الكيان اللبناني، ودعاته الموارنة وهم كثرتهم الكاثرة في الدولة "الكيانية" التي ضوت حدودها، من قنوبين شمالاً الى يارون وعين إبل ويارين جنوباً، كتلتهم الغالبة المسؤولية الداخلية عن تقطيع "سايكس بيكو" الخارجي ومبضعه الجراحي.
وعلى هذا، فالإنكار الأرثوذكسي، شأن الإنكار الدرزي ونظيره السني، في فلسطين ولبنان والأردن وسوريا والعراق (على وجه آخر)، على الكيانات والدول الوطنية المشرقية أو العربية عزلتها، أو "انعزاليتها"، وطائفيتها، إنما تصدر ("الإنكارات") عن بواعث ملية وسلطانية (امبراطورية) فوق صدورها عن باعث قومي سياسي. فما تنكره نخب أرثوذكسية، اجتماعية وإكليركية وثقافية، قومية سورية وبعثية على "التجزئة القطرية"، أي على الدول الوطنية المشرقية، هو تصديعها الحيِّز السلطاني المتصل الذي لاذت به زمناً طويلاً الجماعات الملية المتماسكة. وتنكر تقطيع الدول أجسامها الملية، وامتحانها مصالحها المستقرة ومكانات أعيانها الموروثة والمزمنة. فالدول الوطنية لم تقطع أو تجزّئ جسماً سياسياً متصلاً وجامعاً فهذا الجسم لم يكن قائماً وهو يفترض بنية سياسية وأحوالاً اجتماعية غير معروفة ولا تزال غامضة الى اليوم -، بل قطَّعت وجمعت جماعات أهلية ومللاً وأقواماً وولايات ونواحي متناثرة، ومنكفئة على العموم، تربط بينها رابطة السلطنة (وهذه ليست "لا شيء") الفوقية والمرتبية والائتلافية (الكونفيديرالية). وأرسى التقطيع والجمع الكيانيان والوطنيان موازين قوة ومكانة ومصلحة لا عهد للجماعات بها، واقتضت منها جهود تكيف مادية ومعنوية عظيمة وثقيلة، ورتبت عليها منازعات وانقسامات داخلية مريرة.
[النداء الملي
ولم تستو الجماعات على قدم واحدة بإزاء التقطيع والجمع الكيانيين. فلما اجتمعت كتلة الموارنة الكبيرة والراجحة في لبنان، وضوت الدولةُ الوطنية معظم أجزاء الكتلة، استقوت هذه بالدولة واستظهرت بها، وقامت منها، ومن جماعاتها، مقام "الطبقة الحاكمة" أو "الأمة"، على المعنى الجرماني (وهو قريب من الحال العثمانية وقبلها المملوكية). فاجتمعت الجماعات المذهبية الأخرى على كراهيتها والضغينة عليها. ولم يكن لشيعة لبنان "الكبير" تتمة ملية وأهلية بفلسطين أو بسوريا، البلدين المجاورين. فلم يكابدوا آلام "التجزئة" والانعزال، ولم يعانوا تباريح الاتصال، على ما سمي النازع الوحدوي السوري في ثلاثينات القرن الماضي اللبنانية. وبقوا "كيانيين" على قدر ما، وعلى ما ظن فيهم الوحدويون، الى أن حمَّ القدر الفلسطيني، وفي ركابه الأقدار الإسرائيلية والسورية والإيرانية. وعلى رغم اجتماع الأقدار هذه، وغلبة الجوار السوري والعامل الفلسطيني من قبل، لم تستفق الأهواء الوحدوية إلا استجابة لنداء ملي، مصدره التشيع الإمامي الإثني عشري وسيطرة جهازه العلمائي "الإكليركي" على الدولة الإيرانية. وأقام شيعة العراق على عصبية مذهبية واجتماعية ("يسارية") ما بقيت العصبية السنية والعربية الشريفية (نسبة الى أنصار فيصل ابن الشريف الحجازي المكي حسين) غالبة. فلم ينتسبوا الى عروبية نشطة، وفرقت بينهم وبين الجوار الفارسي الإيراني عصبية دموية وتاريخ من الغزوات والغارات والمجازر يرقى الى القرن السابع عشر.
وغلبت العرب السنّة على سكان المشرق، عدداً وسطوة واجتماعاً وتاريخاً وثقافة، ناطت بهم قبل غيرهم، وفوق غيرهم، "القضية القومية" على وجهيها، انفصالاً وطنياً واتصالاً واتحاداً أهليين وقوميين (والأدق القول: أهليين قوميين، من غير انقطاع ولا عطف. فالقومية بهذه الحال ليست منفصلة عن الأهلية، ولا عن صورة الحلف العريض). فهم وجدوا أنفسهم، فجأة، في مقابلة جماعات وأقوام استتبعوهم طويلاً في سلطناتهم، ودان لهم هؤلاء بالطاعة، فمحضوهم الحماية والجوار الآمن. وتولت الاستتباع طبقة عسكرية احترفت الحرب والرئاسة والجباية لقاء تسليمها بالشريعة الإسلامية معتقداً وقانوناً ناظماً لمعاملات المجتمع، وبإدارة مجتمعية ذاتية يتولاها سلك الفقهاء والعلماء بالتكافل والتضامن مع أهل التجارة ومشايخ "العشائر" والخطط والقرى. فاتصلت نواحي المشرق، الى مصر جنوباً وكيليكيا والأناضول شمالاً فقابادوقيا وتراقيا العثمانيتين من بعد، من غير انقطاع ظاهر. وتماسكت ديراتها ومدنها ومزارعها وقراها وطرق تجارتها وحجها من طريق "طبقتها" الحاكمة والسلطانية. وهي بنيتها الفوقية. ومن طريق فقهائها (ومحاكمهم ومذاهبهم) وتجارها (وقوافلهم ووكالاتهم وقراباتهم وحوالاتهم) وأعيان عشائرها (وأعرافهم وأطر اجتماعهم). وهم وهيئاتهم بنيتها التحتية. ونهض اتصال نواحي المشرق و "وحدته" على تقسيم أدوار واختصاص: فعادت "الحرب"، وهي لب السياسة وركنها، ومتعلقاتها المباشرة وغير المباشرة، الى "أولي الأمر"، واختصت "الرعية" بأداء الضرائب والأخرجة والأعشار والجزية والطاعة، على قول محمد علي الأرناؤوطي الى الشيخ عمر مكرم نقيب الأشراف الطالبيين بالقاهرة عشية استيلاء الأول على حكم مصر، و "عزله" الثاني.
والوحدة على هذا النحو، أي ائتلاف الجوار ائتلافاً رخواً ومرناً لا إلزام فيه غير ذاك الناجم عن تقسيم عمل مصلحي، تترجح بين قطبين: قطب سلطاني (امبراطوري) فوقي، وقطب أهلي (ديني عرفي واجتماعي معاشي) تحتي. ويتخلل القطبُ الآخر، ويلزمه الإلزامات ويقيده، بحسب ميزان القوة والمصلحة والظرف، وذلك من غير ان يجري التخللُ والإلزام والميزان على سنن أو قواعد معروفة وثابتة تخول "المتضرر" الاحتجاج بها أو الاحتكام إليها. وهذه، أي السنن والقواعد، تنشأ عن عقد سياسي لم يكن تبلور بعد. وحين تعاقبت الحوادث الدولية والعثمانية والوطنية المحلية على بلاد المشرق (أو الشرق الأدنى، في المصطلح الاستراتيجي والجغرافي السياسي الفرنسي)، وتفتحت المنازع "القومية" الاستقلالية المحلية وقويت، أقامت الجماعات وأصحاب المنازع هذه من رؤساء الجماعات وأعيانها ووجهاء الصف الثاني والثالث على قسمة القطبين، السلطاني الجامع من فوق والأهلي المؤتلف من تحت. واستمرت الجماعات، ومنازعها، على الترجح بينهما.
[أمم الولاية
وَوَلدت القسمة القطبية من غير عقلها، وَوَلد الترجح بين حدّيها، القضية (والأدق: القضايا) القومية والمسألة (والأصح: المسائل) الطائفية أو الملية على الوجوه التي وُلدت عليها المشكلتان أو المسألتان واستمرتا عليها، على هذا القدر أو ذاك، الى اليوم. فبقيت "القومية" شعوراً أو "تذكراً"، على قول إدمون رباط وميشال عفلق، وحركةً، على قول جمال عبدالناصر، كناية عن الذوبان البركاني أو تدفق السيل الذي يطيح الترع والمجاري ويكسرها. وبقي شرطها وقوامها ولاءً ومبايعة يتولاهما الجمهور، وهو على نقيض أحواله الأهلية والعصبية الأساسية والتكوينية. ومن غير رسو النقض المفترض، والناجم تخيله وتوهمه عن خروج "طبقات" المتعلمين والموظفين ومزاولي المهن الحرة والمكتبية الجدد عن أحوال أهلهم، على معاملات وأبنية اجتماعية وسياسية وثقافية متماسكة ومختبرة.
ويبايع الجمهور ويوالي وليَّ أمر يمثل في نفسه نسباً ودماً (فيصل بن الحسين)، أو انتساباً تاريخياً (عبدالناصر ووحدة "الإقليمين" المملوكية)، أو دوراً جوهرياً (ياسر عرفات وحبل السرة الفلسطيني)، أو فتوة فروسية وحربية (صدام حسين وبوابة الأمة الشرقية)... يمثِّل على الفكرة والقضية القوميتين، ويجسدهما تجسيداً مقدساً أو حراماً (ذا حرمة تحظر التحفظ والرأي والمنازعة والمداولة). وليس في الجسم السياسي، وبالأحرى ألا يكون في رأسه ما يستبقي أثر تركيب أو كثرة أو تفاوت تصف الجمهور المبايع والموالي وتعيِّنه وتعرّفه. فسند "الولي" على معنيي ولاية الأمر والسلطان، وحرمة الكرامة أو "البطولة" هو عروة، أو رابطة، أو روح "لطيفة" تحوم في فضاء المشرق العربي، وتشد، وهي في عليائها الأثيرية، كتل البلاد والأقوام والجماعات المنكفئة، وتنفخ فيها لحمة متينة تعصى حوادث الزمن وفرقته وتبديده. وتستيقظ الروح، أو تتنبه وتستفيق على قول "الشاعر" اللبناني الصارخ، في الملمات، وبإزاء موت الأمة الوشيك عن يد الأجنبي القاطع، الفرنجي الصليبي أو المغولي التتري أو المستعمر الأوروبي أو الصهيوني الكياني والأميركي. وقرين هذه ووليدها هو الطائفي الأقلوي والشعوبي الدخيل والمولَّد. وعلى هذا، لا تحتاج الروح القومية، ولا "الدولة" القومية أو "دولة الوحدة" من بعد الى حركات سياسية وطنية وبلدية محلية تنزع، في إطار دولها ومجتمعاتها الوطنية أولاً، منزعاً "قومياً" مشتركاً، وتنحو نحواً مركباً يمثل على الجمع بين المستويين المفترضين والتأليف بينهما. فما تحتاجه هو جَبُّ الطائفي الكياني والشعوبي الدخيل والمولَّد، وسحقُه. ولا يبلغ الجب أو السحق غايته إلا حين الانتصار على الرأس الاستعمارية والإمبريالية، وقطعها مجازاً، وفصلها عن "شعوبها" المسالمة و "المحترمة"، على قول بعض الإيرانيين الخمينيين اليوم.
فما أقامت الجماعات الأهلية، وهي بلدانية محلية واعتقادية وقرابية معاً، على اتصال شبكاتها في إطار السلطنة أو السلطنات، قبل الكيانات الوطنية، وما مضت على استقرار تقاليدها وعلاقاتها بين ابعاضها وأجزائها و "أبرشياتها" في الكنف الديني والقومي المختلط والجامع، بقيت المسألتان، المسألة القومية العروبية والمسألة "الطائفية" (والأقوامية) الكيانية، خافتتين بعض الشيء. والحق أن الكيانات الوطنية المشرقية التي نشأت وأنشئت غداة الحرب الأولى، وفي أعقاب نحو 80 عاماً على "التنظيمات" العثمانية، وعلى احتداد المنازعات الأوروبية الإمبريالية في إطار العولمة الأولى، فجّرت المسألتين، وربطتهما الواحدة بالأخرى برباط وثيق ومزمن غلب على العلاقات السياسية داخل الكيانات، وعلى علاقاتها الإقليمية الواحدة بالأخرى. وغذى الرباط الوثيق والمزمن هذا إيديولوجيات محمومة ومعاملات عنيفة حوّلت المسارح السياسية الداخلية والإقليمية ميادين حروب أهلية مستترة مضمرة أو صريحة فاحشة.
فبين الكيان الأهلي والعصبي الداخلي (ما قبل السياسي أو تحته، على سبيل الاستعارة) وبين السلطنة القومية المفترضة التي أُوكل إليها التمثيل على الدولة "الأمة" المرجوة (ما بعد السياسي أو فوقه)، خلت المجتمعات "السياسية" من حلقة وسيطة تفتح الكيانات الأهلية والعصبية ومنازعاتها على الدولة الوطنية المشتركة من وجه، وتغرس الإطار السلطاني في أرض الدولة، من وجه آخر. والأمران كانا يقتضيان إبطال نازع الكيانات الأهلية الى الانفراد بمكانة عصبية الدولة المستولية ومحلها، وإلى إرساء الدولة الوطنية، المؤتلفة من جماعات أهلية متقطعة، غالباً، على المُسكة العصبية. ولكن "الدول" الوطنية المستجدة والناشئة ضوت جماعاتها، أو كياناتها الملية وأقوامها (وأوَّل هذه الأقوام القوم الكردي العصي)، على معيار عصبي مترجح. فنصبت "الدولة" السورية الدروز والعلويين وسنّة الشمال العرب والأكراد، في وجه كتلة الوسط السهلي والمديني السني، كيانات قد لا تنازع الكتلة العتيدة، والغالبة على مجتمعات المشرق، الغلبة، ولكنها تقيد غلبتها، وتطعن في ميزانها ودعواها. وفي إطاره بلغ التفاوت الملي والطائفي ذروةً أورثت المسألتين الطائفية والقومية حدةً داميةً مريرةً ومزمنة. وأخرجت "الدولة" الوطنية اللبنانية الناشئة بعض الكتل المسيحية المجتمعة، أو الأكثف اجتماعاً في المشرق، من انبثاثها في الأرجاء العربية والإسلامية، وخصتها بكيان سياسي تنازعه نازعا الانعزال (أو الانفصال، على ما سمي أولاً) والاتصال ("الوحدوي") قبل ولادته الديبلوماسية.
وتوجت الإمارة الأردنية الهاشمية جسماً عشائرياً، أقرب الى التجانس الاجتماعي والأهلي، ولكن لا مُسكة له من داخل، وبغير تاجه الأميري فالملكي الخارجي، شأن "الوحدات" أو الأحلاف القبلية. فكان الجسم العشائري، قياساً على الكيانات الوطنية والمشرقية المجاورة، أمتنها وأعصاها على المنازعات الأهلية. وهذه طرأت عليه مع التحاق اعداد كبيرة من الفلسطينيين به ولجوئهم إليه، ومع اشتداد عودهم الأهلي، ورفضهم الصيغة الاتحادية أو الفيديرالية التي اقترحها عليهم، متأخراً، العاهل السابق. ومثلت فلسطين الانتدابية، وهي اختتمت حقبتها أو مرحلتها هذه بتقسيمين، على مأساة الترجح بين الكيانات الأهلية ويبن السلطنة القومية المفترضة. فأفضت العروبة الأهلية والعصبية الى ضم الضفة الغربية إلى (ما استوى) مملكة هاشمية أردنية (جراء الضم)، وإلى الإنكار على الأهل الفلسطينيين وطناً وكياناً سياسيين بذريعة "الدولة الأمة" القومية ولائحتها في الأفق. وعلى هذا، أفضى التقسيمان الى حربين "أهليتين" مزمنتين، غير متكافئتي الصفة، فلسطينية إسرائيلية، وفلسطينية أردنية. وأفضى طيف السلطنة العروبية الجامعة، وانفجار المسألة أو القضية الفلسطينية، رافد الطيف الأول والنافخ شبه الروح فيه مذذاك، أفضيا الى معمعة نزاعات وحروب اختلط فيها الأهلي العصبي بالوطني "القطري"، والعروبي القومي بالإقليمي ودوائره الظرفية والمتباينة. وفاقم العراق، حيث الميزان الشيعي السنّي والميزان العربي الكردي متشابكان بالميزان العشائري المديني والريفي، تعقيد المسألة الوطنية والسياسية. ويقتضي هذا معالجة مستقلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق