الاثنين، 4 أبريل 2011

الأنظمة السياسية العربية قبل امتحان الديموقراطية وحقوق الإنسان

المستقبل - الاحد 20 آذار 2011

قبل نحو 12 سنة، في 1999، حفل العام ما قبل الاخير من القرن العشرين، بتظاهرات سياسية عربية صوّرت، على أدق صورة، ما تتشارك فيه أنظمة الحكم، وأنظمة السياسة، في كثرة من البلدان والمجتمعات العربية. فحيث جرت انتخابات رئاسية - بسورية واليمن ومصر وتونس أو جرى استفتاء عام بالجزائر- وحيث خلف حاكم (ملك) حاكماً بالاردن والمغرب- او احتفل حاكم بتنصيبه حاكماً وبذكرى فوزه بالحكم بليبيا- كان الاجماع الرسمي والشعبي المظهر اللازم لمشروعية الحاكم، ولمشروعية نظام حكمه من بعد. ففاز الرؤساء بكثرة لم تقل عن 94 في المئة، وبلغت 99 في المئة في حال واحدة، ولم ينافس مرشح ثان جدي المرشح الاول، حيث ترشح ثانٍ (باليمن). وتولت الاحزاب الغالبة على المجالس النيابية، وعلى الحياة العامة، وإن لم تكن أحزاباً واحدة ومنفردة بالدولة، ترشيح الرؤساء إلى الانتخابات، أو إلى المبايعة واعلان الولاء، على ما جرت الكلمة ولم يتحفظ أولو الامر عنها أو عن استعمالها، وخلف المرشحون أنفسَهم على ولايات، ومدد ولايات، تترجح (عدداً) بين الثلاث والاربع، و(مدة) بين الخمس سنوات والسبع، وتترجح جملة مدد الحكم بين اثنتي عشرة سنة وتسع وعشرين. وإلى هذا، فالرؤساء الاربعة عسكريون في ابتداء امرهم، انقلب اثنان منهم على حاكم عسكري سابق، وثالث انقلب على حاكم مدني، وانتقل الحكم إلى رابع من طريق نيابة رئاسة بالتعيين وليس من طريق الانتخاب. [حلة الخلافة ولعل استواء الانتخابات المفترضة مبايعةً، وهي انتخابات من غير مرشحين ولا منافسة ولا حملة ولا فصل بين الدولة، ادارات ومجلساً نيابياً، وبين «حزب الرئيس»، يقرِّب الاجراء السياسي، الدستوري والديموقراطي، اي الانتخاب والاقتراع، من المبايعة المشيخية، والوراثة. فما لم يسقط الرئيس، أو ينحَّ، او يعزل، فهو مستمر على مزاولة السلطة وماضٍ عليها. والاقتراع، ولا تقل نسبته عن 85 في المئة من المسجلين، انما يجدد الولاية، ولا يتطرق إلى برنامجها، ولا إلى القوى السياسية والاجتماعية الملازمة لاقتراح البرنامج وإنفاذه. وهذا كذلك صفة شبيهة بالصفة الملكية المطلقة وغير المقيدة بأحكام دستورية تفصل بين «ولاية الاحكام» وبين «الحكم». وفي ضوء الشبهين هذين، المبايعة واطلاق الولاية، تبدو خلافة الملكين، الاردني والمغربي، والديهما، من غير منافسة ولا ترجيح ولا برنامج أو مضمون ولاية، من باب انتخابات الرؤساء الثلاثة الجمهوريين، أو تبدو الانتخابات الجمهورية حلة ترتديها الخلافة الملكية المطلقة من غير أن تضمر القواعد السياسية والاجتماعية والثقافية التي تتضمنها الانتخابات الجمهورية. وتدل مدد تولي الحكم في البلدان الخمسة، وفي غيرها، على صفة الاطلاق (من القيود الدستورية والديموقراطية) نفسها. فالمملكة الاردنية الهاشمية تولى حكمها الفعلي والمباشر عاهل واحد طوال أربعين عاماً. وتولى الملك في المملكة المغربية الشريفية والعلوية ملك واحد طوال 38 عاماً. ويحكم العراق، منذ 31 عاماً، شريكاً في الحكم ثم منفرداً، «الرجل القوي» نفسه. ودام حكمه إلى 2003، فجمع 35 عاماً تامة. وهذا شأن «رجل» ليبيا «القوي»، ورئيس الجمهورية السوري، بفارق عام واحد وعامين. ويدوم عهد الاول منذ 42 سنة، وحكم الثاني من طريق الابن المستخلف 41 سنة. وتتفاوت مدد الولاية في سلطنة عُمان، ودولة الكويت، واتحاد الامارات العربية، وفي امارتي البحرين (وهي مملكة منذ أوائل العقد الاول) وقطر إلى أمس قريب، ولكنها تعد بالعقود (بين الخمسة والثلاثة). وتخطى رئيسان «جديدان»، الرئيس التونسي (إلى حين سقوطه) والرئيس السوداني، العقدين الاولين من الولاية إلى نيفٍ وثالث. وأتمت ولاية عاهل المملكة العربية السعودية السابق العقدين قبل خلافة عاهل جديد هو ولي عهد منذ بداية ولاية سلفه. والاستثناء الفلسطيني ليس استثناء. فرئيس السلطة الفلسطينية الذاتية المنتخب الاول إلى 2004، انتخبه المجلس التشريعي في الشهر الاول من 1996، هو رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1968، ورجل «فتح« الاول، وهي أولى المنظمات السياسية والعسكرية الفلسطينية وأقواها، منذ نشأتها في 1965. والرئيس الثاني هو رئيس «فتح». وصنوه الغزاوي منذ 2007 رأس «حماس». وأما لبنان، فخلف رئيس جمهوريته السابق، في أواخر 1998، بالاجماع النيابي، ومن غير منافس، وفي اعقاب «اختيار« وقع على المرشح من غير خارج الاطار النيابي والدستوي، خَلَف رئيساً تولى الرئاسة طوال تسعة أعوام هي محصلة ولاية من ست سنوات وتمديد من ثلاث اقتضى تعديلاً للدستور (1998 2007). والولاية الاولى ونصف الولاية انما تولاهما رئيس الجمهورية الاسبق جراء «اختيار» انتخبه واصطفاه قبل أن ينتخبه المجلس النيابي بإجماع نوابه الحاضرين. وهذا شأن خلفه (1998 2007). ولا شك في أن اضطراب الرئاسة والنظام الجزائريين بعد استقرار دام 13 سنة مع بومدين (11 منها، من 1965 إلى 1976، مضت من غير دستور ولا انتخابات)، وعقداً مع خلفه هو مرآة اضطراب اجتماعي بنيوي، وأزمة سياسية عميقة، أصابا الجزائر، دولة ومجتمعاً، وتخلصت منهما ظاهراً مع انتخاب الرئيس بوتفليقة منذ 12 عاماً. [السلاح والحزب الحاكم وجليّ أن استقرار الانظمة السياسية العربية، ملكية اميرية (دستورية، وبرلمانية، على ما هو حال المغرب والاردن والكويت، او مطلقة)، أم جمهورية (رئاسية او برلمانية)، يلازم استقرار الحكام، وينجم في معظم الاحيان عن شكيمتهم ودرايتهم، السياسيتين والامنيتين. فإذا اسثتنيت الملكيات والامارات (بما فيها الدولة و»السلطنة») الاسرية والقبلية، أحصي سبعة رؤساء، صاروا ثمانية اذا عد لبنان وتسعة اذا احتسبت الجزائر إلى أوائل 1999، خرجوا من صفوف الجيوش العربية. والبلدان السبعة او التسعة، هي جماع الدول العربية غير الملكية ولا الاميرية الوراثية، اذا استثنيت السلطة التنفيذية، من الاحصاء والمقارنة. ولا ريب في ان هذا قرينة قوية على التعالق بين استقرار الانظمة الجمهورية وبين نسبها العسكري والامني المباشر. فرئيس السلطة التنفيذية في هذه البلدان، هو القائد الاعلى للقوات المسلحة، وهو رئيس مجلس الوزراء الفعلي، ووزير الدفاع دستورياً في بعضها. وفي خمسة من هذه البلدان (أو ستة اذا احصي العراق فيها إلى 2003) لم يزل الرئيس هو نفسه الضابط الذي تولى الحكم حين نحى عنه من كان يتولاه قبله. ولم يختبر النظامُ الذي أنشأه مع توليه الحكم انتقالَ مقاليد الحكم منه إلى خلفه على خلاف الاختبار الملكي والاميري والسلطاني منذ مدد طويلة اذا استثني الاختبار السوري في العام 2000- اقترن هذا الاختبار بهيئة الدولة (منذ النصف الثاني من القرن العشرين عموماً) أو لم يقترن. وفي ثمانية من هذه البلدان، والاستثناء النسبي هو لبنان، تساند القوات المسلحة، وقوات الامن، في تثبيت الحكم والحاكم، وفي رعاية غلبتهما على المجتمع، منظمةٌ سياسية واحدة تحفها جبهة «وطنية». ويقوم الحزب «الخميني» المسلح في لبنان مقام الحزب الحاكم و»جبهته»، أو هو يحاول هذا، وتقتفي «حماس» في غزة خطاه. وتترجح صيغ المنظمة السياسية بين صيغة الجهاز المتماسك، والقائم بإزاء الدولة الظاهرة ومراتبها بمنزلة الرقيب عليها والمقوِّم «اعوجاجها» الشرعي والقانوني، وبين صيغة الرابطة النيابية، وتضم إلى النواب أعيان السلك الاداري ووسطاء النفوذ المحلي، وهذه الرابطة رخوة، ومجتمعة على الولاء للرئيس ولاءً شخصياً وليس حزبياً أو ايديولوجياً وعقدياً (عقائدياً). وتتولى المنظمة السياسية، جهازاً كانت أو رابطة، انفردت بالسلطة أم حفتها جبهة «وطنية» صورية، تتولى توحيد الدولة السياسي، إلى توحيدها الاداري من طريق الادارات والبيروقراطية، بما فيها البيروقراطية العسكرية والاقتصادية. وتوكل بعض الدساتير إلى الحزب القائد والاول بعض الصلاحيات الجوهرية مثل الترشيح إلى رئاسة الجمهورية، والترشيح إلى الانتخابات النيابية، وحفظ حصة من النواب على الحزب الاول، الخ. ويؤدي اضطلاع الحزب السياسي بهذا الدور، ولو لم ينفرد بالسلطة وأجاز لأحزاب أخرى او منابر قدراً من العمل والوجود، إلى دمج الدولة في الحزب السياسي، أو في الاحزاب السياسية المقبولة. وإذا خرجت الدولة، ادارات وبيروقراطية، من انفراد حزب حاكم بالسلطة، تولى «حزب الرئيس» ومن ورائه البيروقراطية العسكرية والامنية العليا، رعاية الوحدة السياسية للدولة. [العصبية والدولة ولا يقتصر تثبيت الحاكم الفرد على رأس الدول، جامعاً لمقاليد السلطة والتوحيد، على الحزب والقوات المسلحة والادارة، بل تتولى العصبية قسطاً من مهمات التثبيت والتوحيد هذه. وإذا كانت الاجهزة السياسية والعسكرية والادارية من تظاهرات التحديث الاجتماعي (النسبي) في بلدان امتُحنت جماعاتها الحاكمة امتحاناً وطنياً قاسياً، أو تأخرت طبقاتها الحاكمة عن مسايرة تغيرات مجتمعاتها فسرعان ما ظهر عجزها عن حماية وحدة الدولة، والتسلط عليها، بواسطة موارد الدولة السياسية وحدها. فلا الولاء السياسي والايديولوجي التلقائي، ولا القوة المنضبطة، ولا الوظيفة الادارية بوجهيها: المصلحة والمكانة الاجتماعية بدت لحمة قادرة، منفردة أو مجتمعة، على التمكين من بلوغ السلطة، ثم من حفظها. والحق ان أياً من هذه الاجهزة لم يبق بمنأى عن منازعة العصبيات عليه. فكانت الاحزاب والحركات السياسية، على رغم زعمها «الوطنية» العامة والعلمانية المحايدة، موئلاً لجماعات أهلية وعصبية. وهذه غلبت على الاحزاب والحركات السياسية، وصبغتها بصبغتها، أي صبغة الجماعات الاهلية، المذهبية أو القومية المحلية، أو القبلية. واصطبغت الاجهزة الادارية والعسكرية بصبغة القيادة السياسية، الاهلية، وحاكتها. وعمدت القيادات السياسية الجديدة، الحزبية والعسكرية، إلى انشاء نخب اقتصادية على مثالها، من طريق القطاع العام، أو بواسطة الالتزامات وحصص الاستيراد وتعهد الوساطات والامتيازات والمصاهرات. فالتحمت الدائرة العصبية الاقرب بلحمة كثيرة الموارد والوجوه. والتقت الانظمة السياسية المحدثة و»التقدمية»، أي تلك التي استولت على السلطة من طريق الاجهزة السياسية والعسكرية والادارية، بالانظمة «التقليدية» المنسوبة إلى القبيلة أو الاسرة أو الطريقة (الصوفية) أو المذهب والدين. واستوى الضربان من الانظمة واحداً. فاصطبغت الانظمة السياسية العربية كلها بصبغة عصبيات قادتها الاهلية. وبعثت غلبة العصبيات على سياسات داخلية وعلى منازعات داخلية بعينها، على قدر ما دعت إلى انتهاج سياسات اقليمية دون غيرها، ورجحت احلافاً على اخرى. فأشبهت الانظمةُ الجمهورية الانظمةَ الملكية والاميرية، وأشبهت الانظمة التقدمية الانظمة التقليدية، من وجوه كثيرة. واستوت مسألة مثل مسألة الخلافة، وكان يُظن أنها وقف على الممالك والامارات والسلطنات والمشيخات، قاسماً مشتركاً بين ضروب الانظمة السياسية العربية كلها، وأزمةً سياسية عمّت الانظمة وامتحنتها. فأظهرت الانظمة التقليدية طول باع في الامر تقدم باع الانظمة التقدمية. [المثالات الجامعة تؤدي الظاهرات التي مرت: أي الاجماع والمبايعة والولاية المتطاولة وتضافر الاجهزة السياسية والعسكرية والادارية مع العصبية الاهلية على تثبيت الغلبة على الدولة وتوحيدها تؤدي هذه معنى واحداً جوهرياً هو التلازم بين المثال السياسي العربي المعاصر وبين السعي في الالتحام العصبي. ويَمثُل هذا التلازم، في أوائل القرن الواحد والعشرين، على نحو واحد وجامع. فكأن المسارات التاريخية المختلفة والمتعرجة التي سلكتها البلدان العربية منذ مطالع القرن، وفي معظم الاحوال منذ منتصف القرن الماضي، مشرقاً ومغرباً؛ والاختبارات السياسية المتباينة التي خبرتها الجماعات الناطقة بالعربية والمتصلة «الديار» والبلاد والمتعالقة المصائر على هذا القدر أو ذاك، كأن هذه وتلك لم تنفع في بلورة مثالات سياسية متباينة ومختلفة تكون مرآة لاختلاف المسارات التاريخية والاختبارات السياسية وتباينها. وهذا بقي صحيحاً إلى شتاء 2011. وهذان، الاختلاف والتباين، ينبغي ألا يُنكرا في ضوء غلبة نازع، يبدو مشتركاً، إلى الالتحام العصبي وإلى تحكيمه في الحياة السياسية والقضاء فيها بأمره. فبينما بكّرت بعض البلدان إلى اختبار صور من العلاقات السياسية الدستورية والديموقراطية على شاكلة «الممتلكات» العثمانية المشرقية التي تناهى اليها أمر دستور 1876، وشارك بعضها في اختبار ممثليها إلى «مجلس المبعوثان»، أو على شاكلة مصر التي بعثت الحماية البريطانية المباشرة، في 1882، بعض نخبها العسكرية والدينية على الاجتماع والانتداء في ما يشبه «الحزب»، ونجمت عن الاجتماع والانتداء صحافة رأي، وخلفت المنازعات الاهلية اللبنانية في اواسط القرن التاسع عشر صحافة دعاوة وتحضيض وتكتيل- تأخرت بلدان أخرى، إلى اليوم، عن تحقيق مثل هذه الصور، أو بعضها، وارتكست بلدان أخرى عما اختبرته طوال عقود من السنين في اثناء القرن المنصرم، مثل صحافة الرأي وحرية الاجتماع (المقيدة). وكان العامل الحاكم والمؤثر في افتراق البلدان العربية، في علاقة جماعاتها بالسياسة، فريقين عريضين، هو مبانيها الاجتماعية، وبعدها أو قربها من المبنى الاهلي والعصبي. فحيث غلب المبنى الاهلي والعصبي من غير منازع تقريباً على ما كانت الحال في شبه جزيرة العرب، وإماراتها ومشيخاتها وسلطناتها، وفي أطراف ولايات المشرق العراقية والشامية واللبنانية والفلسطينية والمصرية، وفي الارياف والصحاري الافريقية الشمالية اقتصرت السياسة على الرئاسة، أو الرئاسات، ومراتبها. وقامت الرئاسات ومراتبها وشبكتها محل الهيئة السياسية الناظمة. والرئاسات جزء عضوي من هيئة الجماعات كلها، صغيرها وكبيرها، قليلها وكثيرها، ضعيفها وقويها، المختلط النسب منها والصريح. وتنضوي الرئاسة الادنى وجماعاتها معها، في الرئاسة الاوسع، من طريق الحلف والالتحام وليس من طريق الهيمنة والتذرير (أي التفكيك ذرات). وعلى هذا تقوم السياسة على عقد الاحلاف وفكها وتبديلها، من غير تغيير كبير في هيئة الجماعات، وعلاقاتها بعضها ببعض، أو في علاقات مراتبها ورئاساتها. فالمنازعة على الرئاسة حكر على «بيوت» دون أخرى. ولا يخرج المنازعة من المرتبة، أي من الاسرة والبيت والسلك، إلى التداول الحر والمنافسة، تعاظمُ فئة اجتماعية، وظهور قوتها ودورها، شأن تجار «مدن» الساحل، مثل الكويت والبحرين، وواحات نجد وعسير والقطيف وحائل. وعلى هذا، استغرقت الاحلاف والغزوات سياسة «ملوك العرب». وطرأ التغيير الداخلي من طريق الاحياء الديني، الوهابي، وحلف الفقهاء و»الرؤساء» الشيوخ، ومن طريق تجدده في العقد الاول من القرن العشرين. فانضوت قبائل نجد وتهامة والقطيف وحائل، ثم الحجاز، في مملكة واحدة، ربطت بينها برباط الحلف القبلي الكبير، تحت لواء أقوى العشائر شكيمة، وأقدرها على رعاية المراتب، وتوزيع المغانم، وعلى الاستظهار بالشرع ورجاله، والتزام موازين القوى بين الداخل وبين الخارج. وعلى هذا المثال العملي والمعقد، ضبط عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود الهيئة السياسية التي استأنف انشاءها منذ خروجه من الدرعية إلى الرياض، في 1909، ثم توحيده نجداً وملحقاته في سلطنة توجتها المملكة العربية السعودية في أواخر العقد الثالث. وكان مثارَ الخلاف السياسي، وامتحان السياسة تالياً، تقييدُ التوسع بالقيود الاقليمية والقبلية المناسبة. فقمع عبد العزيز بن عبد الرحمن مشي أحد قادة «الإخوان» إلى الشمال، صوب امارة شرق الاردن، المحمية البريطانية، وأباح الحرب على الجنوب، فقاد أبكار أبنائه الثلاثة، سعود وفيصل وخالد، الملوك الثلاثة اللاحقين، ثلاثة جيوش دخلت اليمن، غير المحمي، وتقدمت في نجران وجيزان في 1936. سلطان من غير ند وكِفء فاستقرت الكيانات داخل حدود أهلية معروفة وموروثة، وتولت القوة البريطانية رعاية العلاقات بين الكيانات السياسية والاهلية المستقرة، في حين رعت الاعراف، وعلاقات الولاء، الروابط السياسية الداخلية. وأولت هذه الرعاية المباني الاهلية والعصبية استقلالاً حقيقياً وعريضاً عن سلطة مركزية لم تكن، فعلاً، الا العصبية الاقوى والاعرق. ولما كانت الجماعات العربية هذه بقيت بمنأى من السيطرة الاجنبية والاوروبية، وبمنجى من وطأتها المباشرة والمدمرة، حفظت سنداً فاعلاً وظاهراً للحريات الاهلية بإزاء سلطة مقيدة بالاعراف والولاءات. وحالت بين الحريات والحقوق الفردية والخاصة وبين الخروج إلى العلانية، أي منعت الحريات والحقوق الفردية والخاصة من التبلور أصلاً. وهذا بعض تأويل «وداعتها»، إلى الريع النفطي، وما لم يشقها فارق مذهبي عريق. وأما البلدان العربية التي تعرضت للاحتلال والسيطرة الاوروبيين، وكان معظمها، من قبل ممتلكات عثمانية، فاستوت على هيئة الدولة المركزية والحديثة باكراً. فكان بعضها، مثل مصر (1922) والعراق (1928)، ملكيات دستورية منذ أوائل العقد الثالث. وحيث لم تنصب التقاليد المحلية والاهلية أسرة غالبة ومتصدرة سنّت الدولُ المنتدبة، أو المتسلطة والمستعمرة، مواثيق انتداب لم تلبث أن ولدت دساتير، شأن لبنان في 1926. أو أدخلت المستعمرات في نطاق أحكام وتشريعات استثنائية، مرجعها المبدئي شرعة دستورية وعامة، على ما كانت عليه الحال بالجزائر وتونس، وعلى قدر أقل بالمغرب. ونجم عن حكم الدول الاوروبية هذه البلدان وهي أكثر البلدان العربية سكاناً، وأقدمها مدناً وخبرة بالادارة، وهي إلى هذا يتصل بعضها ببعض بواسطة ساحل المتوسط، أو تقع على طريق أوروبا إلى أفريقيا، أو على طريقها إلى آسيا الوسطى فالشرق الاقصى- نجم عن الحكم الاوروبي ارساء ادارة مركزية، عسكرية ومالية واقتصادية وحقوقية، على المباني الاهلية وشبكاتها. فاجتمعت في أيدي السلطة الاوروبية، ثم في أيدي الطبقات الحاكمة المحلية بعدها، سلطة عظيمة تكاد تكون من غير ند أو مكافئ من المجتمع الناشئ نفسه. ويصدر ندها أو مكافئها والقيد عليها عن الجماعات الاهلية ومبانيها العصبية أو الدينية. ولعل هذه الحال هي في صلب المسألة السياسية العربية. فالتحديث السياسي والاجتماعي، منذ «التنظيمات» العثمانية في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر، أدى إلى تقوية الكبراء والاعيان على حساب العوام الذين أضعفت الحمايات علاقاتهم الاهلية الداخلية. وكان نظام ملكية الارض الجديد علماً على الخلل هذا. فوضع الاعيان والشيوخ (أو المعمرون الاوروبيون في المغارب) يدهم على الاراضي المشتركة. ونزع التجنيدُ من الجماعات الاهلية ملاذها وحماها اللذين كانت تمتنع بهما، وسوّى الاحصاء، وسوّت الضريبة بين الافراد في الواجبات، بينما عجز النظام الانتخابي، والفصل بين السلطات ونصب القضاء سلطة مستقلة، عن الاضطلاع بالمساواة بين «المواطنين» المفترضين. فهؤلاء لم ينفكوا، حين أقرت هذه، أي الانظمة الانتخابية والدستورية والقضائية، قبل الاستقلال أو بعده، أهالي وجماعات وعصبيات وطوائف (حرفاً ومذاهب) وأقواماً. وكانت المباني الاهلية والعصبية، المتصلة بالاعيان والشيوخ والرؤساء والوجهاء (القدماء والجدد) «واسطتهم» إلى الاحتماء من سلطة تصوّرت في صورة القوة الغاشمة، والغاشية كل مرافق العلاقات الاجتماعية. فهذه المباني لم تصدعها السيطرة الاجنبية التصديع التام، وتوسلت بها إلى سوس الاهالي بمراتب يقر لها الاهالي بالمشروعية وينقادون اليها. فلجأوا اليها احتماء من قوانين الدولة الواحدة، أو طلباً لبعض «الامتيازات». فكانت السيطرة الاجنبية، انتداباً دولياً او تملكاً منفرداً، مدرسة للتعسف وانتهاك الحقوق والمساواة. وحذت السلطات المستولية المحدثة، والسلطات التقليدية اللابسة لباس الدولة، حذوها من غير تردد. دول» من غير مجتمعات وطبع هذا الالتباس بطابعه الحركات السياسية الاستقلالية. وكانت حركات الاستقلال عن السيطرة الاجنبية الجسر والسُلَّم إلى دخول السياسة المحدثة، من وجه، والسبيل إلى صوغ المثال السياسي العربي على صورة الانبعاث الداخلي والاحياء التاريخي والحضاري، من وجه آخر. فنشأت، بين الحربين العالميتين، حركات «الوفد» بمصر (استتماماً للمفاوضة على استقلالها، في 1919)، و»نجمة شمال افريقيا» في صفوف جزائريي فرنسا، محاربين قدامى وعمالاً مهاجرين، في 1920، والاحزاب الشيوعية بلبنان وسوريا وفلسطين ومصر، 1924 و1928. وجمعية الاخوان المسلمين بمصر، في 1928، ونشط في مضمار العمل العام، بمصر والعراق وسوريا وفلسطين ولبنان، في اثناء العقد نفسه، ضباط واداريون اختبروا السياسة في المنظمات العثمانية السرية، وكانوا نواة «الاحزاب» السياسية التي انتشرت في المشرق كله في العقد الرابع التالي. فكانت «الكتل الوطنية» و»العُصَب» وأحزاب «الدستور» و»الاستقلال» في المشرق والمغرب، منهم، ومن النخب العائلية والمدينية، التجارية والادارية الوليدة. وتواقتت نشأة حركات النخب هذه مع نشأة حركات «عامية» (من غير أسر النخب المتحدر معظمها من «التنظيمات» العثمانية)، من المتعلمين وأهل المهن الحرة والموظفين وأبناء المهاجرين الاولين إلى المدن، جمعت إلى المطلب الاستقلالي، نازعاً احيائياً، قومياً وتوحيدياً، حاداً وغالياً. فكان الحزب القومي السوري الاجتماعي، بلبنان وسوريا، وعلى نحو أضيق بفلسطين وشرق الاردن، طليعة هذا الضرب من الحركات السياسية. وتبعته حركات «القمصان»، بمصر وفلسطين، وإرهاصات «البعث العربي» بسوريا. واستبقت هذه الحركات، المختلفة والمتعادية، والمتقاتلة في أحيان كثيرة، رسم الدول العربية القائمة اليوم، ومثالها السياسي المشترك والمُجتمِع من اختبار ربع القرن المحوري هذا (1920 1945). فافترضت النتيجةَ المرجوة والمبتغاة، وهي الدولة المتماسكة والقوية أو «الدولة الامة» على ما تبدو من خارج ساذج، مقدمةً متحققة وناجزة. وليس على الحركة السياسية إلا نشر ألويتها وإعلانها في الحال، ومن غير ابطاء ومن غير اعتبار حواجز (مصطنعة) ومعوقات وطنية واجتماعية. فعمّ مثال للدولة، الكلية القدرة والمستغنية بنفسها من كل سند أو رافد أو خارج، استعادته الناصرية المصرية الحاكمة، وغيرها من مناهج الحكم والسياسة، الجديدة و»التقدمية». وأمكن الانظمة «الناصرية» المختلفة، وهي ناصرية على معنى الاستعادة والمحاكاة والبنية، بذريعة الثورة على عجز الانظمة التقليدية وضعفها، الاستيلاء على الحيز السياسي والحقوقي كله. وألحقت بها، وبإدارتها وموظفيها وأنصارها، شطراً كبيراً من الانشطة الاجتماعية والاقتصادية، على تباين مستوياتها السوقية والسلعية. فمذ ذاك، وهذا الطور تبلور غداة الحرب الثانية و»النكبة» الفلسطينية، ومع استيلاء القوات المسلحة على السلطة وهو لا يزال إلى اليوم غالباً، انقلبت السياسة، وانقلب مثال مزاولتها ومباشرتها، إلى منازعة أهلية عامة على السلطة كلها. ويكاد لا يسلم بلد عربي، ولو لم يكن في عداد بلدان الساحل المتوسطي والممر القاري، من هذه المنازعة، ومن اطاحتها ضوابط دولة القانون (والحقوق). فالحقوق كلها، المدنية والسياسية، قيود على سلطة الطوارئ التي تسوس بها معظم المجتمعات العربية الحرب الاهلية، المضمرة أو المعلنة، في بلدانها وبين جماعات هذه البلدان. وليس بمنجى من الحرب الاهلية هذه، ومن السلطة العرفية، تالياً، إلا البلدان التي تتصدر الروابط العصبية القريبة فيها المباني الاجتماعية والسياسية، وشريطة ألا تكون الجماعات كثيرة ومتفرقة المعتقدات. وإذا كانت السلطة العرفية والاستثنائية من خاصيات البلدان «المتقدمة» أو «التقدمية» وأنظمتها السياسية، فالبلدان الاخرى، بلدان الروابط العصبية القوية، تسوس خلافاتها ومنازعاتها وانقساماتها من طريق مراتبها، وقيود المراتب على النزعات السياسية والاجتماعية الجديدة. فما يجمع عليه الضربان من الانظمة السياسية هو إخراج المنازعة المعلنة والمتبلورة من العلاقات السياسية والاجتماعية، على حد واحد وسواء. وهي تجلي، مع المنازعة المعلنة والمتبلورة في حركات سياسية واجتماعية وثقافية وفي هيئات التمثيل والادارات وتنازع السلطات، حقوقَ المواطنين وقيودهم على مباشرة السلطة وسوسها «مواطنيها». فتترجح الدول والانظمة، في الفراغ الحقوقي والسياسي الذي تسبح فيه، بين استقرار مديد وثقيل تنعم به، على مثال تقدم وصفه، وبين انفجار متقطع ومباغت، موضعي أو منتشر. ولم تعف الانفجارات، في العقود الاربعة الاخيرة، عن أي بلد من هذه البلدان. فإما تُخمد المنازعة، في «ديموقراطيات» من غير منازعة، وإما تتفجر منازعات بين «أجزاء» الاهل وجماعاتهم. وقد تكون الحركات الوطنية والمدنية الديموقراطية في منقلب 2010 إلى 2011، وقبلها في لبنان 2004 2005 إلى اليوم، إيذاناً بانعطاف تاريخي يبني ديموقراطيات المنازعة السياسية، ويرسيها على إيجاب المجتمع والمواطنة والحقوق والعلانية والدولة (المنفصلة).

ليست هناك تعليقات: