الأنظمة المهددة انكفأ حكامها وأصحابها على امتيازات مرتبة مغلقة ومتوارثة... من غير قيدِ عليها من تمثيل أو علانية أو منازعة المستقبل - الاحد 3 نيسان 2011 تشترك الأنظمة السياسية العربية التي يطاولها الاحتجاج والإنكار، مشرقاً ومغرباً، ويدعوها المتظاهرون الى الرحيل أو السقوط، في ميزة ظاهرة للعيان وبارزة هي «عمرها» المستطيل لا إلى نهاية (عطفاً على مقالتي في «نوافذ» في 20 آذار). وما يرد عليه المتظاهرون المنكرون بنفاد الصبر وفراغه، وباستعجال مضيّه وطيّه، هو جثوم «نظام» حاكم، يختصره رأسه الثابت ونصبه المعنوي والمادي، على صدور أهل البلاد وعيونهم وأسماعهم منذ عقود. وإذا كان ترتيب قيام حركات الاحتجاج، من تونس ومصر فليبيا الى اليمن والبحرين وسوريا، لا يتفق ومدد العهود والرئاسات، ولا يتدرج من الأقدم الى الأقل قدماً، فالحركات شملت أطول الأنظمة السياسية العربية عمراً، ولم تعف، الى اليوم، إلا عن نظام عمر حسن البشير السوداني (المستولي في 1989)، «الفتي» قياساً على بعضها. فكان نظام بن علي بتونس بلغ 24 عاماً حين سقوطه. ورحل نظام حسني مبارك عن 30 عاماً تقريباً. وأتم معمر القذافي الأربعين عاماً قبل سنة ونصف السنة. وهو عميد السن بعد سقوط صدام حسين في 2003. ولا يزال علي عبدالله صالح حاكم شمال اليمن، فاليمنين، بأمره منذ 34 عاماً. وحمل متظاهرو دوار اللؤلؤة بالبحرين على رئيس الحكومة ترؤسه الهيئة التنفيذية من غير انقطاع طوال عقود أربعة تكاد تكون تامة. ويستدلون بطول المدة على جمود الحكم، ودوام خلله وظلمه. وحين «يخاطب» بشار الأسد، وهو الثاني في العدد والترتيب، السوريين من طريق «مستشارته الإعلامية والسياسية» (على ما تعرَّف وتوصف)، فيعدهم الوعود الواضحة، مثل زيادة الأجور أو إنشاء صندوق ضمان اجتماعي، أو الغامضة، مثل «درس» إلغاء الطوارئ أو سن قانون أحزاب جديد وقانون إعلام مثله، يرد المخاطَبون مذكرين بالأعوام الأربعين المنقضية التي تربع في أثنائها الأب والابن في قمة السلطة. ويذكرون بسيادة «قانون» الطوارئ الحياة العامة السورية 7 سنوات «بعثية»، قومية (مع أمين الحافظ) وقطرية (مع صلاح جديد)، قبل الفصل البعثي الثالث والثابت من الانقلاب والاستيلاء. والمحصلة هي، على هذا، 47 سنة، على نحو ما يضم المصريون 11 سنة حكم السادات في أثنائها و18 سنة ناصرية خالصة ومباشرة الى «عمر» مبارك في السلطة، فتجتمع 60 سنة حُمِل «الأخوة المواطنون» طوالها على رعية قاصرة ومذعنة ومنقادة. [ الانصاب والآيات والمدد الطويلة التي يستكثرها المتظاهرون المنكرون على أنظمة الحكام المقيمين والمزمنين لا تقتصر على إحصاء عدد السنين (ومن معاني السنة، وجمعها على سنين، معنى القحط والمجاعة والكساد) الكثيرة واللجبة. وحين خرج المتظاهرون المنددون إلى الساحات والميادين والطرقات مخرجهم السلمي الأول وهو بقي سلمياً ما وسعهم وتُرك لهم الأمر استثنوا من «السلمية»، أو المسالمة والموادعة، مرافق و «أنصاباً» دون أخرى. فبادروا الى حرق دور بعض كبار النافذين، وأصحاب الحظوة والقرابة من رأس النظام، بقرطاج وموناستير التونسيتين. وتعمدوا إشعال النار في مباني شركات يملكها أهل الحظوة والقرابة، وتحتكر التصرف بقطاعات مواد أو عمليات مثل الاتصالات، وساووها بمباني تحلها بعض أجهزة الأمن «المركزي»، وبأخرى تنهض آية متجبرة على تسلط المنظمات الحزبية الرسمية، على ما صنعوا ببوزيد وتونس والقاهرة والاسكندرية والسويس وبنغازي وطبرق وراس لانوف وبعض أحياء طرابلس وصنعاء وتعز والحديدة ولودر ودرعا وحمص واللاذقية. فجمع المحتجون الثائرون في باب واحد ومشترك تعديات أجهزة التعسف والإذلال والتعذيب، وأقنعة التمثيل السياسي الصفيقة والكاذبة، وأدوات المصادرة الاقتصادية والمعاشية. وحين وسعهم الأمر، أدخلوا القضاء الصوري والشكلي في الباب هذا. ولعل توحيد أبواب السلطة ومواردها في باب مشترك ومتصل، ودمج التربع بسدتها الظاهرة والمرئية في وجوه مزاولتها وحمايتها البوليسية العنيفة، والاقتصادية الساحقة والمواربة، والقضائية المراوغة، لعل التوحيد والدمج هذين هما مرآة ما تفهمه حركات الاحتجاج المدنية والديموقراطية (والأهلية، في ليبيا واليمن وسوريا) من أبنية الأنظمة السياسية التي تستفز الاحتجاج وتستدرج إليه. فالمحتجون المنددون والناقمون حين يختارون، في المراحل الأولى من تحركهم وخروجهم، إحراق مقرات أمنية بوليسية، ومباني أحزاب رسمية قيادية، ومكاتب شركات اقتصادية احتكارية، إنما هم يعربون بعبارة صريحة وفصيحة عن معنى السلطة (أو النظام) في نظرهم وإدراكهم وتجربتهم الراسخة. وهم يقولون ان النظام الحاكم والمتسلط، أو «الديكتاتور» على قول الإيرانيين في أحمدي نجاد ثم في علي خامنئي، والجاثم منذ 24 عاماً الى 41 عاماً على الصدور والرؤوس، هو مركَّب مدمر من عنف مادي ومعنوي، ومن فساد اقتصادي وأهلي، ومن سطو سياسي وتمثيلي واعتباري لا قيد عليه ولا حد له. وهذا ما انتهت إليه الأنظمة السياسية العربية عنوة. وينهض عليه قرينةً حادة تربعُ قادتها في سدتها الوقت الطويل الذي تربعوه ويتربعونه. والوقت في هذا المعرض عامل نوعي وجوهري. والتنديد به ليس مظهر ضجر أو ملل أصاب جيلاً من المواطنين والسكان لم يروا، ولم يسمعوا طوال ربع قرن أو ثلث قرن إلى (قرابة) نصف قرن من السنين، متسلطاً في زي قائد ملهم وتاريخي، غير «سيادته» أو «فخامته» أو «زعامته» و»قيادته» (ناهيك بعطوفته وسماحته وقُدْسِ سره...). ففي غضون السنين الطويلة التي يجمع «الحاكم» فيها مقاليد الأمر والنهي، والجمع والمنع، في يده الغليظة لا ينفك يمد أذرع سلطانه الطويلة والملتفة الى زوايا «مملكته»، وثناياها الخفية والقصية، ومواردها الظاهرة والمستترة. ويتحول، في الأثناء المتمادية، الضابطُ الذي استولى على قصر الرئاسة ومبنى الإذاعة والتلفزيون ومقر قيادة الأركان (وسلاحي المدرعات والجو)، وحوله زمرة من رفاق «السلاح» أي الرصد، يتحول قائداً محازباً واستراتيجياً وديبلوماسياً كبيراً، ومفتياً فقيهاً، وزعيماً جماهيرياً وتاريخياً. فتخدمه أجهزة حزبية تعبوية وتنظيمية وأمنية جرارة، ويتربع في قمة إدارات ومرافق لا يحصى عديد العاملين فيها، ويسوس موارد إنتاج وقوى عاملة ودوائر تداول نصبه التأميم (وثوابت العقيدة القومية الاشتراكية) سيداً مطاعاً عليها. [ البطانات المزمنة والرؤساء الخالدون ورؤساء الأنظمة العربية، منذ ربع قرن الى (زهاء) نصف قرن، عليهم سوس هذا كله وغيره، وإذا بقي غير أو خارج، سياسة مباشرة لا تحتمل التأويل، ولا حسبان الصدور عن وسيط (اللهم إلا وسطاء أوقات الشدة والأزمة مثل محافظ من هنا أو بواب بناية من هناك). ويقتضي هذا «متابعة» وتأطيراً مباشرين، لا هوادة في معاييرهما وصرامة هذه المعايير. والمعيار الأول الصدور عن إرادة رأس النظام، و»استباق» منازعه وتوجهاته، على ما كان يقول النازيون الألمان في علاقتهم بمرشدهم وزعيمهم، أو «السير على خطه» على قول قريب جغرافية وتاريخاً وثقافة. والصدور عن إرادة مهيمنة تلزمه «عدة» (بشرية) تعمل الإرادة بواسطتها، على ما أوضح سليمان فرنجية، «الحفيد» و «صديق البيت»، بحسب تعريفه نفسه. فيترتب على هذا ملء الوظائف والمواقع الكثيرة، الأصيلة والرديفة والشاغرة والمستحدثة والمتوقعة والظاهرة والخفية، بمن هم أهل ثقة، ومستودع ودائع متعاظمة العدد والتعقيد. فلا يثبت رأس الهرم المقلوب في الولاية المطلقة وحده. ولا تدوم ولايته، وهي متصلة بشخصه الملهم وبصورته المتجسدة والشحمانية، إلا متلازمة مع مركب معقد من الأجهزة والمصالح والولاءات. فلا جمال عبدالناصر (المثال) من غير الكوكبة المتماسكة والمقربة من نوابه، ومسؤولي مكتبه وأذرعته الأمنية، و»أطر» تنظيمه الطليعي، ومحركي جماهيره وخطبائها ومثقفيها العضويين، ومن غير التقنيين والمهندسين والمخططين الذين «يترجمون» الرؤى التاريخية والآفاق السياسية إجراءات يومية، وأعمالاً إدارية وتحكيماً سارياً في الشاردة والواردة. فـ «الثورة» على النظام القديم وأصحابه ومصالحه، والاستيلاء الانقلابي أو العسكري والبوليسي «الأمني» (المخابراتي) على السلطة والمرافق والأنشطة الأهلية والاجتماعية والاقتصادية، رفعا الى مقام السلطان «قيادة» عامية وقليلة العدد ومتسرعة، وضعيفة الخبرة بمجتمعاتها وجماعاته، ولا لحمة سابقة بين عناصرها وبين الجماعات الأهلية والفئات الاجتماعية (على) الاستيلاء أو الانقلاب. وعلى هذا، تولت «القيادة» المستولية من فوق إنشاء كتلة عصبية واجتماعية عريضة تقوم محل القاعدة التي تفتقر إليها هذه «القيادة». فتوسلت الى لحمة الكتلة المصنوعة على عجل وإلى تماسكها خليطاً متنافراً من المقومات. وجمعت النزعة الاستقلالية الوطنية الى طلب الارتقاء الاجتماعي. وعهدت بهذين الى اجهزة آمرة لا رقابة عليها، تأتمر بأمر «القيادة» المستولية ولا تدين بالحساب إلا إليها وحدها. فنجم عن هذا انقلاب النزعة الاستقلالية الوطنية عصبية قومية توسعية، تجتر ثاراتها الخارجية والداخلية لا الى غاية أو نهاية. وعلى مثال قريب، قُرن الارتقاء والتجدد الاجتماعيان بالانتقام من الطبقات القديمة واختصارها في تبعيتها للمستعمر والمحتل السابق، وبالإطباق على المقدرات والموارد واستهلاك ريوعها وتوزيعها على جماعات موالين لقاء ولائهم، وخنق مصادر تجديد الموارد وبواعث هذا التجديد. وأوكل النظام الجديد تدبير العوامل المتنازعة والمتدافعة، ورعاية هذا التدبير الى أجهزة متسلطة لا قيد عليها غير السلطان النافذ الكلمة والأمر والمصالح والتحكيم. وعندما تصدعت لحمة الكتلة المرتجلة، جراء إخفاق السياسات القومية التوسعية، وتآكل العوائد الريعية، وتفاقم المنازعات في صفوف قيادة الكتلة العصبية والاجتماعية وقواعدها، وظهور بوادر العولمة المالية وأعراضها الأولى (ومنها تراكم «البترو دولار» غداة حرب تشرين 1973) اضطرت «القيادة» المستولية الى إرساء استيلائها وسيطرتها على عوامل وأركان جديدة. فهي نزلت عن رعاية العصبية التوسعية والقومية، وارتضت محلها سلماً بارداً، ووطنية منكفئة ومكلومة، وانقياداً خجولاً للسياسات الأميركية. وعوضت القوات المسلحة، لقاء منزلتها الظاهرة والرمزية الثانوية امتيازات اقتصادية وبيروقراطية كثيرة. وبنت دعامتها الاجتماعية على أنقاض القطاع العام وإداراته الخاسرة السابقة، من المقاولين، ووارثي الشركات المخصخصة، وأصحاب «القطائع» المحظيين، والمضاربين والوسطاء، وشركاء هؤلاء جميعاً المتقاعدين من الجيش والإدارة وقممها، والأقارب وشبكاتهم المترامية. ولم يحرر التخلي عن الدولة المتسلطة والجامعة، باسم «المشروع» القومي التوسعي والارتقاء الاجتماعي («العدالة الاجتماعية»)، المجتمع وطبقاته وفئاته من التوحيد السياسي والبوليسي القسري. فبقيت هيئات التمثيل والتحكيم والعلانية، من مجالس نيابية وبلدية ومحلية ونقابية مهنية، وقضاء (على مراتبه واختصاصاته)، وأجسام دينية أهلية أو وطنية عامة، وصحافة وإعلام، وأحزاب وجمعيات، وإدارات، في قبضة الدولة أو «القيادة» المستولية. [ سلطةٌ من غير ضد فما يقوم من الدولة والسلطة مقام الند والصنو، وما عُرف في التاريخ السياسي البريطاني الليبرالي باسم «حزب البلاد» (أو «حزب البلد«) في مقابل «حزب التاج» أو العرش، وهو في مصطلحنا المعاصر «المجتمع» أزيل عن محله الندي والضدي المقيِّد، وأخرج من دوره ونفيت حقوقه، وألحق قسراً بدولة متسلطة. وتسلطت هذه، أي «قيادتها» المستولية، على هيئات التمثيل، ووسائط العبارة العلنية عن المجتمع وهويات جماعاته. وحلت محلها في تعريف المصالح الجزئية والمصالح العامة، وفي وصف هذه المصالح من غير الاحتكام الى أصحابها، وعيار أوزانها ونِسَبها. وأنكرت «القيادة» المستولية جواز قوانين ومواثيق وأركان تعلو مصالح (أصحاب) الدولة المزعومين والمفترضين، وتصدر عن حق طبيعي راسخ. وتصدر بدورها القوةُ التشريعية والإدارية عنها، وعن التزامها. ويتولى القضاء، والمتقاضون جماعات وأفراداً، صوغ أحكامها، وتأويلها، والاجتهاد المضبوط في التأويل وفي بت المنازعات والخصومات اللازمة. وعلى الحال والمنوال هذين، تعاظم سلطان «قيادة» الدولة على المجتمع، وعلى قواه وإراداته وحاجاته، وحيل بين هذه وبين مراقبة آلات السلطان الجامح وتقييده، وإلزامه اعتبار حقوق الغير والناس واحتساب موجبات إراداتهم وخلافاتهم في سياساته. فمن جهة، انكفأت «القيادة» المستولية وأجهزتها وكتلتها وشبكاتها على نفسها انكفاء المرتبة المغلقة المرصوصة والمتوارثة («كاسْت»، على قول فرنجي). واستقلت بحالها عن العوام والرعية والجماعات، أو هي سعت في استقلال متوهم وممتنع. وحرست الانكفاء والاستقلال هذين من طريق تعطيل هيئات التقييد والتمثيل والعلانية والمنازعة والإدارة التقنية، وإلحاقها بها شأن الأجهزة الصماء المتفرقة. وسوغ، تسويغاً شكلياً وكاذباً، الانكفاءَ المرتبي المغلق أمران متصلان: تعليق الدولة الوطنية وسياستها وأدوارها ووظائفها على «المسألة القومية» (والدينية)، بعد صوغها صياغة عصبية ثأرية، و»وجودية» ذرائعية، أسهم التهافت الفلسطيني الوطني في دوامها. والأمر الآخر هو إناطة «المسألة»، وإدارتها وتدبيرها الى قوة على حدة من المنازعة والقانون والحسبة. وتصدر سمات القوة، على هذه الشاكلة، عن تقاليد سلطانية وعصبية استبدادية مديدة، لعل «التنظيمات» العثمانية وملابساتها من المثالات الكلاسيكية والحديثة عليها (ويحلو الكلام اليوم على «ثقافوية» التقاليد، ويسوغ نفيها واطراحها من غير فحص ولا تقويم). وتستقوي السمات هذه بحوادث متجددة، وموازين قوى متغيرة، وبموارد غير محلية غالبة وقاسرة. وتفحُّص الحركات المدنية الديموقراطية في ضوء التاريخ المديد ومراحله الأخيرة، وفي ضوء ملابسات نشأتها واشتداد عودها حيث اشتد عودها وتعثرها حيث تتعثر، يحقق الملاحظات التي تقدمت. فدواعي النشأة الأولى تعود كلها الى ما سماه المصريون «التوريث». فقبل نصف عقد ظهر الأبناء والأصهار وأبناء الأخوة والزوجات والأصحاب، وتحلقوا حول الحكم، واقتسموا المرافق، واستولوا على هيئات التمثيل والعلانية. وفاقم ظهورهم الصارخ التفاوت الاجتماعي الحاد بين المرتبة المغلقة المرصوصة والمتوارثة وبين الطبقات المتوسطة «الجديدة» (من غير الموظفين وأصحاب المصالح الصغيرة والمتوسطة)، المولودة من الخصخصة والانفتاح والعولمة والهجرة ومرافق الخدمات. والتوريث هو تتمة تعاقب الولايات الرئاسية، واستقرار «الولايات» والامتيازات الأخرى المتفرعة عنها، وتمتع الرئاسة بصلاحيات «مطلقة»، من غير قيد ولا حصر. ولكن التتمة لا تقتصر على الكم، وعلى عدد الولايات على رغم ثقلها، وتتعدى العدد الى كابوس «الأبد» النوعي. ويتصل بهذا، أي بالتوريث ودلالته، الانفجار السكاني وغلبة الشباب على السكان، وضيق سوق العمل، وزيادة البطالة، وانتشار العلاقات الأفقية والافتراضية، ويسر دخولها والانخراط فيها. ولكن «الثورة»، على ما يسمي التونسيون والمصريون والليبيون والسوريون واللبنانيون والبحرينيون واليمنيون حركاتهم المتفرقة والمختلفة، سياسية واجتماعية فوق ما هي اقتصادية. والقيام على التوريث هو قيام على الحجر على الحريات السياسية والمدنية، وعلى توسل هذا الحجر الى خنق المطالبة بعدالة توزيع الموارد وموازينها. وفي عداد هذه الموارد والعوائد مورد الهوية (الأهلية والثقافية والمهنية والعمرية والجنسية والفردية...) وإعلانها وتداولها في دائرة العلانية العامة والمشتركة، على ما لاحظ الأميركي مايكل والزير. فينهض التوريث آية على تأبيد احتكار المرتبة المغلقة («الطغمة») الموارد واقتسامها وتوارثها من غير قيد. ويقتضي تعطيل القيد، أو القيود على احتكار الموارد، تعريف الهويات بهوية (قومية دينية) واحدة، ونفي الهويات الأخرى والطعن فيها وعليها. ويترتب على التعريف والنفي المتعسفين إنكار التمثيل والحق فيه، وإنكار حقيقة النزاعات والانقسامات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية. والحال هذه، لا حاجة الى تجزئة التمثيل، وإلى وصف المصالح المتباينة علناً وجهاراً، ولا إلى التحكيم في المنازعات بواسطة القانون والقضاء والتقاضي. ولا ريب في أن غلبة الهوية الوطنية على الدولة والمجتمع واستقرارها، قياساً على اضطراب الهويات الأهلية الكثيرة وتخطيها المزعوم في هوية «قومية» متعالية ومفارقة، عجلت في نشأة الحركة المدنية الديموقراطية في تونس ومصر، ومهدت الطريق الى انفكاكها من ربقة «القيادة» المستولية والمتسلطة، على خلاف الحال في ليبيا وسوريا والعراق ولبنان واليمن وفلسطين. فتقاسم الهوية الوطنية يحول، على الأرجح، دون انتصاب جماعة من الجماعات الأهلية، أو سلك من أسلاك الدولة، مستودعاً متميزاً للهوية وولياً قواماً عليها. ويبطل طلب الجماعة امتيازات وسلطة قاهرة لقاء الوديعة المفترضة وحراستها وحمايتها. وما حظرته «القيادات» المستولية على الجماعات من تمثيل ومنازعة وعلانية وفرت بعضه وسائل الاتصال والإعلام الاجتماعية الرقمية والتلفزيونية. و»اتفق»، وقتاً وزمناً، انتشارُ استخدام هذه الوسائل في صفوف الشباب مع انعقاد بعض ثمرات العولمة ومفاعيلها في «تحرير» المرافق المؤممة وسوق العمل، وفي تبلور الطبقات المتوسطة الجديدة ووسائط اتصالها ومخاطبتها و»ثقافتها» وترتيب مشاغلها. وآذن تضافر المشكلات والمسائل والظاهرات هذه أي بروز التوريث واستتمامه تعاقب الولايات ومراكمة الاستحواذ على الموارد، وقصره الاستحواذ على مرتبةٍ مرصوصةٍ ومغلقةٍ والحجرُ على التمثيل والمنازعة والعلانية، وقيام وسائط علانية اتصالية واعلامية محلَ وسائط علانيةٍ اتصالية واعلامية محل العلانية السياسية آذن بأجوبة وحلولٍ غير الاجوبة والحلول المتوقعة والمولودة من داخل الانظمة السياسية وعلاقاتها. وفاجأت الجِدَّة الانظمة الاولى التي أصابتها الحركات المدنية والديموقراطية. فهي لم تعتد انكاراً ومعارضة من هذا الضرب، ولم تعد العدة لمثله. والمعارضة والانكار المعروفان والمختبران من قبل هما الصادران عن أحزاب أو حركات سياسية، معلنة او سرية، تنافس الطاقم الحاكم على السلطة والدولة والادارة والموارد، وتخوض المنافسة غير المتكافئة في دائرة لا تسوغ فيها المنافسة ولا تتمتع بأضعف شرائط المساواة. وأما الحركات الوطنية والمدنية الديموقراطية فلا تنافس على السلطة، بل تخرج من ثنايا المجتمع ناضجة، وتأخذ «القيادة» على حين غرة ومن خلف، إذا جازت العبارة. وارتجال الحركة، وهي لا شك تكونت في رحم حوادث وانعطافات عامة وخاصة لا تحصى، عامل قوة. وتبذل الانظمة، وطبقاتها الحاكمة، وسعها في سبيل الحركة الديموقراطية الى دائرة سياستها وعنفها، فإذا أفلحت تعثرت الحركة بالسياسة والعنف هذين. واستحواذ «القيادات» المستولية على السياسة، واستبعاد الحركة الاجتماعية والمدنية من دائرتها، جزء من قوة «القيادات» وأنظمتها المغلقة والمنكفئة. فإيصاد باب المجتمع السياسي العلني، والحؤول دون دخول الحركات المدنية والديموقراطية حلبته ومنازعاته ومنافسته على التمثيل، يقصران هذه الحركات على تناول أركان العلاقات السياسية (بين الحاكم والمحكوم) ربما وشرائطها الاجتماعية، ولكنهما يمنعان الحركات هذه من مباشرة السياسة ووجوهها السلطوية (تدبير السلطان والقوة) وعوامل الهوية فيها، مباشرة عامة وشاملة. فيؤدي «تقسيم العمل» الى تنصيب المجلس العام العسكري وصياً على الدستور والمرحلة الانتقالية وولياً. ويؤدي في بلدان أخرى إلى دوام الوصاية والولاية ما أشكل على جمهور المواطنين العلم بما تبطنه الحركة المدنية الاجتماعية من آراء وأحكام. فهذه الحركة ليست بديلاً من السياسة، ومن الحركات السياسية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق