الجمعة، 27 مايو 2011

تمهيد الترجمة وتعليق أوَّلي على المترجَم: شعر تسيلان يكتب عمل "ليس" الإلهي وغير الجدلي

المستقبل - الاحد 15 أيار 2011 - -


أعلاه ترجمة نصف فقرات الجزء الأول، من أربعة أجزاء هي جملة مواد "ليس وردة أحد" (1963)، مجموعة الشاعر الروماني المولد والألماني اللغة والألماني الفرنسي الاقامة، باول تسيلان (تشيرنوفيتش 1920 مياه السين بباريس 1970). وسبق أن نقلت عن الفرنسية الى العربية، و"ناظر" على النقل عن الألمانية لقمان سليم، "الخشخاش والذاكرة"، عن الفرنسية (دار الجديد ببيروت، 1990). ونقلت "بلورات نفس" (1952) ، تامة كذلك، في صحيفة "الحياة" (1995). وأعود الى مجموعة تسيلان هذه، وأنقل عن فرنسية مارتين برودا (دار سوي) وأقارن بفرنسية جان بيار لوفيفر (منتخبات دار غاليمار). وهذا اقرار صريح بالافتئات على تسيلان، والتطاول على شعره. وعذري القبيح لا ريب هو ان من في مقدورهم التقليل من التطاول أو تقصيره لم يعمدوا اليه، ولم يحلّوا المتطاول، شأني، من تحايله على ضعف حيلته، ونهوضه الى سد الاعذار، على زعمه، أي زعمي.
والحق أن هذه "الفقرات"، والقول قصائد عنتٌ غير مقبول على ما قد يرى القارئ بديهة، لا يقصد بها غير التنبيه على بعض أصداء شعر الشاعر الروماني الألماني، اليهودي الكتابي "قبل" النسبتين، إذا جاز التقديم أو التأخير في معرض اللغة والعبارة، اللغة العبارة على ما كان هو كتب ربما. ولا سبيل إلى التنبيه إلا من طريق النقل، على رغم أن نقلي عن لغة أصلية لا علم لي بها، ثم عن اللغة التي أقرأها وألم بعض الالمام بها والمنقول إليها غريبٌ غرابة تنم بغرابة الاصل واشتباهه- على رغم أن نقليَّ، على هذا النحو، يقصران عن إخراج الاصداء من شَبَه البكم الذي تصيبها به هذه الترجمة. ولست أغفل عن أن المضي على منطق الاعتذار هذا ينبغي أن يسلمني، من غير عذر مخفف، الى كتمان ما أقرأه من تسيلان، ويتراءى لي أنني أفهمه منه، في صمت أتقاسمه مع نفسي، ولا أثقل به على غيري. ولكنني أعصى المنطق، مرتين في أسطر قليلة، وأصر على نشر ما وسعني أن أقرأ من "ليس وردة أحد". فلعل في هذه الفقرات ما يخون باول تسيلان على وجه يحفظ من الأصل الممتنع عليَّ ما يبعث رغبة في وسع غيري استجابتها أحسن مما أستجيب. فيستجيبها ليس لقضاء وطره وحده، وهذا ما أصنع، بل لقضاء وطر كثيرين، على خلاف صنعي.
أما بعد، فشعر تسيلان، وهو ومباني لغته واحد، توقيع نَفَس، على قوله هو في وسم المجموعة التي تقدم الالماح اليها، "بلورات نفس". وعلى قوله في فقرات كثيرة من "ليس وردة أحد"، وبعضها في المنتخبات التي بين يدي القارئ. والنَفَس يلابس الخلق والكون، أو "الإكانة" (على ما لا تقول العربية) بـ"كُن". ويشترك الخالق والمخلوق في النفس، وفي النطق والقول والكلام، وتخللِ الحروف الساكنة أو الجامدة بأحرف معتلة. وهذا "أقوى" من الخلق "على صورة". ويحمل تسيلان، في فقرة مطلعها قسَم: "والنبيذِ والخسارةِ..." المدونين والحراس على "لغات ذات صور". والنفس، في الخالق والمخلوق، أمارة تقطع وضعف وفرق.
ويقود هذا الى التوقيع، على قول أحد أوائل من قرأوا تسيلان، هنري ميشونيك، هو كتب كتاباً في الشاعر المقيم بباريس. وكتب مقدمة في نقل التوراة العبرية الى الفرنسية، "يونان أو الدلالة المزدوجة"، مثَّل عليه بنقله سِفر "المزامير"، ووسمه بـ"مدائح"، على خلاف تراث يرقى الى 22 قرناً، أي الى الترجمة "السبعينية" الى اليونانية بالاسكندرية في القرن الثاني قبل الميلاد. وذهب ميشونيك الى أن لغة التوراة، في نفْسها وعلى هذا في اللغات التي تُنقل التوراة اليها، ومعاني كتبها واسفارها وآياتها، إنما تؤدي ما تؤديه أولاً على وجوه بسط القول وقبضه، وإرخائه ووقفه. ومثَّل الكاتب على هذا، في مقدمته ثم في "مدائح"، من طريق علامة وقف هي خلاءُ بين الجمل أو مسافة بيضاء. واستأنف مقالته في كتاب جامع "كبير" وسمه بـ"نقد الايقاع".
وكتابة تسيلان الشعرية، في مرآة النص الفرنسي وفي مرآة نظيره الألماني (أو صورة هذا النظير لمن لا يلم بالالمانية، مرة أخرى)، تُعمِل إعمال التوقيع في مباني العبارة، وتسعى في استيفاء التوقيع العبارة كلها. فتطرح الكتابة آلات العمل والوصل والعطف والتعدي، ما وسعها. وتتوسل بعلامات الوقف والتعليق والبدل. ويُعمل مباني غير نحْوية مثل المدح (يقول الطبري في اعراب حركة بعض ألفاظ الآيات: نصبه على المدح)، أو الجوار والتحريك عليه (والمثال الذائع هو: جحرُ ضبٍ خَرِبٍ، والخرب هو الجحرُ وليس الضبُ). ويولي هذا العبارةَ عن المعنى الى النفس، وقوله ما يقول بواسطة الجمع والتفريق. فلا يترجم الشعرُ عن (معاني) النثر، ولا ينقلها الى "لغة" المجازات والاستعارات و"الصور"، على بعض جاري القول. وإنما يباشر الشعر معانيه من غير واسطة، ويطلبها من مباني العبارة، وفي مباني العبارة.
وقد تصلح فقرة "مزمار"، وهي انتخبت وسم المجموعة منها، "ليس وردة أحد"، تمثيلاً على ما تقدم للتو، وربما تحقيقاً له. فالاحالة اللفظية التوراتية صريحة ابتداءً ومنذ الوسم المتصدر. والسطر الأول يردد أصداء الفصل الثاني من سِفر التكوين: "وإن الرب الإله جبل الانسان تراباً من الارض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار الانسان نفْساً حية" (7،2). و"سوّى"، في الترجمة، و"الطين"، هما من الاستئناف القرآني العربي، ومن إحالته. ويتردد في السطر الثاني (وهو من ترجمة لوفيفر) صدى الفصل الاول من سِفر التكوين:" وقال الله ليكن نورٌ فكان نور" (3). وجمعُ القول الى النفخ قرينتُه في الآيتين المتقدمتين. والرميم، محل الغبار، استئناف قرآني كذلك. و"ليس"، في مستهل السطر الثالث، نظيرُ نفي مشخِّص، واقع على شخص أو جوهر هو انسان. أي أن "ليس" هذه ليست حرف نفي، ولا هي كفء "لا". و"ليس أحد: ليست كفء "لا أحد". ومرّ معي في بعض ما قرأت أن وسم المجموعة هو "وردة لا أحد". وهذا زعم غريب ومُطْمئن الى عماه عن صنع تسيلان.
واقتراح "ليس وردة أحد" إنما هو من وحي أو إلهام المبنى الشعري التسيلاني عموماً، على ما مرَّ وصفه. وهو يعوِّل على اجتهاد بطرس البستاني، صاحب "محيط المحيط"، في مادة "ليس". والبستاني ردَّ على قول ابن السراج ان (ليس) "حرف بمنزلة ما". وذهب الى انها "فعل لا يتصرف"، وزنه "فَعِلَ (أي انه لَيِسَ قبل تخفيفه بسكون عينه، الياء). ويحتج بدليل أول من "القاموس" هو "قولهم ائتني من حيث أيْسَ وليس أي من حيث هو ولا هو" وعلى هذا فمعنى "أيْس" هو "موجود"، و"لا أيس" لا موجود. ودليله الثاني هو قياسه على السريانية والعبرانية: "وعندي أن (أْيسَ) في العربية كإيْتْ في السريانية ويشْ في العبرانية موضوعة للدلالة على الوجود (...) و(ليس) لنفي ذلك، كَلُوْ إيْت ولُوْيِشْ". والجمل الأولى من سِفر التكوين الاول تنقلب من القول الى الكون على مثال الخلق المتقدم:" وقال الله ليكن نور فكان نور"، أو: "وسمى الله الجَلَدَ سماءً. وكان مساءٌ وكان صباحٌ يومٌ ثانٍ"، (1-8). فلا يتعدى فعل الكون بحرف جر، كمثل القول: وكان صباحَ يوم ثان، ولا بإضافة كالقول: وكان صباحُ يومٍ ثانٍ، او كان صباحَ يومٍ ثان.
"وكان صباحٌ يومٌ ثانٍ" تفك الصباحَ من اليوم الثاني، واليومَ الثاني من الصباح. فلا قيد على الاثنين، الواحد على الآخر. وهما كلاهما صادر عن مصدر "واحد"، يوجبهما الواحد والآخر، ويجمعهما من غير توحيدهما، ويقرهما على فرقهما، على مثال تمييز الكون (أو الأيْس) من المكونات: فكثرة المكونات او الاكوان او الكائنات تُحمل على حال واحدة أو فعل واحد هي (أو هو) الأيْسية، على قول بعض المتكلمين المتهلينين، أو الكينونة. ولكن هذه الكثرة لا تتعلق بالوحدة تعلق آحاد النوع وأفراده بالنوع (الذئاب بالذئب). فهي تتستر على "شرطها" الزمني وتحجبه. ولكن "شرطها" لا يحضر إلا فيها، ويستتر من القصد إليه. ولعل أصلاً من أصول التمييز هذا هو سؤال موسى الله في سفر الخروج (3، 13 و14):" فقال موسى لله ها أنا سائر الى بني اسرائيل فأقول لهم إلهُ آبائكم بعثني إليكم فإن قالوا لي ما اسمُه فماذا أقول لهم. فقال الله لموسى أنا هو الكائن...". وتفسيره المشكِل والولود تفاسير لا تنتهي الى نهاية: أنا من يصدّق القولَ إنه (هو) من غير تعريف بغيرٍ او فرق أو اضافة.
ويشرح موسى، الآخر" او المثنى، ابن ميمون الافريقي المغربي، في "دليل الحائرين" ("من أهل ملته"، اليهودية الموسوية، وليس من أهل ملتنا السائرة على خط "المرشد"، على قول الناشر المصري في توطئة فصلٍ من فصول الكتاب الذي كتبه ابن ميمون بالعبرية وبالعربية ولم يطبع بالعربية منذ عقود)، فيقول: إنه هو من غير تعريف بغيرٍ أو فرق أو إضافة لأنه ميسم الغيرية، ومعين الفرق، وسند إضافة مرسلة. وكينونته غير جوهرية، ليس على معنى نفي التحيز (في مكان) والحركة والكم وحسب، بل أولاً على معنى امتناع الاحاطة والتعيين والتمثيل وهذه كلها، واحدة واحدة، آلات السلطان اللاهوتية. ويشرح أحد قراء موسى بن ميمون، غداة ثمانية قرون على "دليل الحائرين"، فيكتب إيمانويل ليفيناس:" إنه هو" على غير معنى "الهُوية"، وعلى معنى "الوجه الكريم"، البراني والمرسل لا الى غاية أو حد، وهو وجه (الانسان) القريب والضيف الذي لا ينفك يطالعني في عرائه المتعرض للقتل والناهي عنه، ويهل عليَّ إهلالاً متجدداً لا يأتلف منه مصدر جامع، ولا يُصعد اليه من طريق جدل مركب يلحم ("القالي" أو اللحمة، على قول تسيلان في "جليد، عدن") ما نثره التحليل.
وعلى هذا (إذا جاز القول!)، يكتب باول تسيلان عملَ "ليس" الالهي وغير الجدلي، ويروي "الحادثة" الأم والفارقة في لغتها (لغة ليس) غير الجوهرية وغير السلطانية. وغرابة هذه اللغة أن إعمالها، وهو تقويضها الجوهريةَ والمصدريةَ، لا ينجم عنه انهيار المعنى، ولا تمتنع معه "عمارة ما بين الناس" (ابن جني)، أو أواصرهم وفهمهم بعضهم عن بعض. ويحمل تناول "الحادثة" الفارقة، على هذا الوجه، القولَ على التوسع، ويدعوه الى الهجنة المركبة والمولَّدة. فتكثر الاسماء غير المتصلة إلا بجوار موقوف ولازم (على خلاف التعدي بحرف أو محل أو تقدير): "اللقاح صحراء السموات" ("مزمار")، "البعيد القريب" ("والنبيذِ والخسارةِ")، ولوائح الاسماء والمصادر... وتستوي الحروف، حرف العطف وأدوات الجر والاسماء الموصولة والافعال الناقصة والمشبهة بالحرف، على حدة، منقطعة، بعلامة الفصل والتعليق والبدل، مما تُعطف عليه أو تَعطفه على معطوف: "كان فيهم تراب، و/ كانوا يحفرون"، "كانوا ينحنون"، حين" ("والنبيذ...").
فالعبارة التسيلانية لا تطوي في المعنى المستقر والمفهوم والجامع موادها التي تأتلف منها، على نحو ما تأتلف من عمل المادة الواحدة في الاخرى. وهذا على خلاف العبارة المسرعة الى الطي، والمستقوية بـ"المعنى الهاجم"، على قول عبد القادر الجرجاني، على ضآلة آلات الوصل والتضمين، وعلى المَحال (جوار الصفة والموصوف، ومراتب الاسم والخبر تقديماً وتأخيراً...). فيُفك النعتُ من المنعوت بعد مجيئهما معاً، الواحد بعقب الآخر:" نعناع، جعد، نعناع، جعد،" ("ثالوث، رباع"). ويعلَّق الاسم، شأن الحرف، في حدة تخرج المعلق من تعلقه وإضافته، وتحرره من قيدهما وسلطانهما، ومن حملٍ على "كائن" عرشي يتولى (أو يولى) إعادة المتناثر والمتكاثر والمرسل وجوهاً الى طاعة المُحْكَم وغير المحتمِل أكثر من وجه واحد. وأحسبُ أن على الترجمة التسليم بهذا. فلا تجهر المضمر، ولا تملأ المحل الخالي.
وعلى خلاف الفرنسية (والانكليزية والالمانية) لا تُضَمّنُ العربيةُ الاسمَ، أي صيغة الاسم، النفيَ. فليس في العربية نظيرٌ للفظة "بيرسون". وأتاح اشتباهها، وترجحها بين صيغة الاداة المكمِّلة النفيَ ("ليس هناك أحد") وبين صيغة الاسم (" اسمي لا أحد")، لعوليس في "الاوديسة" الهوميرية التخلص من العملاق ذي العين الواحدة في وسط جبهته. وانتفاء النظير الاسمي والجوهري في العربية، و"العدم" لا يقوم مقامه، يوقع اللَّيسية على مركب من أداة واسم. ولكن "ليس" - على ما يدعو تسيلان، ودعا بطرس البستاني من "قبل" ("منذ" السريانية والعبرانية والتوراتية") ومن وجه آخر- تحتمل صيغة الفعل. فنظيرُ: " كان صباح"، يُكتب: "ليس إلهٌ" في الجملة المأثور: "قال الكافر في قلبه ليس إله". ولو تجرأ المترجم لكتب: "وردة الليس".

ليست هناك تعليقات: