المستقبل - الاحد 29 أيار 2011
تبدو حلقات الحوادث العربية المتعاقبة وسلاسلها منذ انصياع الرئيسين السابقين، التونسي زين الدين بن علي والمصري حسني مبارك، لـ"رحيلهما" ورضوخهما لتخلي قيادة القوات المسلحة في الدولتين عن مساندتهما، تبدو هذه الحلقات مرآة دامية وعاصفة لخطط "بناء" الدولة التي تولتها واضطلعت بها طواقم حكم مستولية ومتسلطة على أجهزة القوة والسلطان، وعلى مجتمعات بلدانها ومرافقها، في ليبيا وسوريا واليمن أولاً، و"تعالج" اليوم الحركات الوطنية والمدنية التي تعارضها وتقوم عليها. فتستخدم في "معالجتها" موارد ووسائل أمنية وأهلية (اجتماعية) واقتصادية واعلامية دعاوية هي ثمرة "بناء" الدولة على المثال المتعمد الذي بنت هذه الطواقم أنظمتها أو دولها الخاصة عليه. فكأن "البناء"، على النحو الذي أنجز عليه، إنما قصد به منذ الشروع فيه الحؤول دون نشوء معارضته المحتملة، ومهاجمتها ومحصارتها وتدميرها إذا لم يبق باليد حيلة، ونشأت هذه وقامت على رغم الترصد لها واستباقها واطفاء مواردها.
ولعل في رأس ما يحول دون تبلور معارضة وطنية، ويقطع الطريق على نشوء حركة سياسية ومدنية تنازع الحكم الحاكم على الحكم، وعلى ادارة شؤون البلد وتنمية موارده وتوزيعها والدفاع عنه والحفاظ على استقلاله، هو حل كيان الدولة الوطنية الجامعة والمتماسكة في عصبيات أهلية، وتسليط ابنية هذه العصبيات الغالبة على اجهزة الدولة العامة والمشتركة، وعلى إداراتها ونواظمها القانونية والحقوقية والعرفية التقليدية. فحيث بقيت للدولة الجامعة والمتماسكة بقية على شاكلة جيش محترف مهني وغير فاسد، أو على شاكلة تعليم عمومي متوسط الجودة، أو مواد دستورية مدنية، أو نشاط اقتصادي لا تستغرقه الريوع وعوائدها وشبكاتها المتواطئة وتهربها الضريبي واستهلاكها الباذخ والمبدِّد...- اضطرت "الطبقة الحاكمة"، أو قمتها الظاهرة، الى الانصراف والاستقالة مرغمة ومكرهة. وعلى ما شُهد بالعين المجردة في تونس وفي مصر، حيث لم يدمر السلطان الامني والعسكري والاقتصادي كتل الدولة او مبانيها كلها، وسع حركة الاحتجاج الاتساع والتعاظم والسريان في ثنايا المجتمع المتصلة وروافده وجنباته. وانتهى المطاف بهذه الحركات، كان اولها ومبتدأُها في القلب (على صورة مصر) أم كان في بعض الاطراف الداخلية (على صورة تونس)، الى لم اطرافها الى قلبها وبث حركة القلب في عروق الاطراف. وجاز حصول هذا على وجه السرعة المباغتة وعلى وجه التزامن او التواقت الانترنتي والاعلامي "الفضائي".
ويعزو بعض المراقبين والناشطين الوطنيين، وبعضهم يجمع الصفتين معاً، تعاظم الحركة المدنية والديموقراطية التنوسية السريع الى جودة التعليم الذي حظي به أبناء أسر الطبقات الوسطى، وخوَّل بضعة آلاف منهم اذاعة وقائع القمع ومقاومته وانشاء جبهة الاحتجاج والمطالبة وبلورتها، وبعضهم يعزو التعاظم الى دور اتحاد الشغيلة العام التونسي والى مدنية الشباب التونسي "الشخصية". وهذه، جودة التعليم، وتماسك البنيان النقابي والمدنية القانونية والشخصية، من التراث البورقيبي، ومن أركان الدولة ومبانيها التي لم تبلغها يد بن علي، والرهط العائلي الذي يحفه، ولم تحطمها على ما ذهب اليه الفرنسي أوليفييه مونجان والتونسي الفرنسي عبد الوهاب المؤدب الاول في مقالة شهرية "اسبري" لخصتها "الحياة" في 11/5/2011، والثاني في كتيِّبه "ربيع تونس- تحول التاريخ" نيسان 2011، باريس. فوسع الحركة التأليف بين جماعات شعبية فقيرة وجماعات متوسطة متعلمة. وانضمت الى هذه وتلك جماعات عريضة من المهن الحرة والاطر الادارية العليا، وهيئات المجتمع المدني. فسرى التضامن والتكاتف في أوصال لم يستوف القمع تقطيعها (إلى) مناطق وجهات وإيديولوجيات وولاءات، على رغم عمق الخلاف بين الداخل الزراعي والمنجمي والبدوي "الهلالي" (بوزيد، اسم بلدة محمد البوعزيزي، على اسم عَلَم التغريبة العربية الاشهر) وبين الشرفة البحرية والمدنية ووارثة مركزية "الباي" وبعض امتيازاته.
وعلى المعنى هذا او قريباً منه، وقياساً على حالي ليبيا وسوريا، أرست الحركة المصرية بنيانها الكبير والجسيم على وطنية مصرية مشتركة وبدهية، وعلى عمومية شعبية تستقي من الوطنية المصرية تماسكاً قوياً. وحال هذا دون انفلات أجهزة القوة، وبعض الحركات الاهلية السياسية (مثل "الاخوانيين") من عقالها، وانقلابها على جسم الحركة الكبير إما قمعاً دامياً وإما استيلاءً سياسياً وتنظيمياً وقسرياً ومدمراً. ولم يؤد انهيار التعليم المصري الحكومي، على شاكلة عربية لا تقتصر على توسع التعليم الديني الصرف، الى غَلْق عقول المتعلمين ودراياتهم دون بعض احوال العالم وأطواره البارزة، الثقافية والاقتصادية والحقوقية القانونية والسياسية. ونفخت الحركة المدنية روحاً جديدة في جسم اعلامي متآكل ومتهالك، أناخت عليه "الثورة" وتأميماتها ومكافآتها و"إرشادها"، طوال 6 عقود طويلة، بقيودها الثقيلة. فانبعث شطر منه من عماه وسكوته وبلادته في أثناء الحركة نفسها (ويعود شطر آخر منه يتقنع بقناع محمد حسين هيكل و"حكمته" و"تجربته" و"اخباره" المنحولة والمزعومة، فيبايع المشير حسين طنطاوي، وزير الدفاع المزمن ورئيس المجلس الاعلى العسكري، "رئيساً انتقالياً"، وعلى تقليد عميق وثابت يقضي بالتسليم والخنوع فكان الرجل من سدنته وكهانه)، حين تولت الشطر الاعظم من الاعلام، في الوقت الحرج، الفضائيات الخليجية.
حل الدولة في الحاكم
وفي كلتا الحالين، انتقلت الحركتان التونسية والمصرية، من طرفية جغرافية واجتماعية ابتدائية الى عمومية متواردة ومتآصرة، وجمعت أذيال الثوب الوطني، ولمت اطرافه الى قوامه ومصدره. والارجح أن شبكة الاتصالات والتواصل الاجتماعية لم تضطلع بالدور الذي اضطلعت به في الحركتين إلا جراء لباسها جسماً وطنياً أقامت بعض مبانيه على بعض التماسك والوصلة. فجددت الشبكة، وأواصرها واتصالاتها، تماسكاً لم تتداع مبانيه كلها تحت وطأة الاستيلاء والتعسف والكذب والتفريق والمصادرة الاستبدادية. وحفظت الدول بعض العمومية الجامعة. فحالت هذه بين الجهاز الحاكم، على مثال صدامي من قبل وأسدي وقذافي اليوم، وبين تقطيع أوصال الجماعة السياسية الوطنية، وتسليط أجهزة القوة والتواصل والادارة، وعصابات أهلية طرفية، على الجسم السياسي الوطني وإرهابه وتقييده وشرذمته.
وعلى رغم شبه قوي بين الانظمة العسكرية الانقلابية التي تعاقبت على الاستيلاء على حكم بعض الدول العربية في العقدين السادس والسابع من القرن الحالي، ولا يزال معظمها على استيلائه، ثمة فروق سياسية واجتماعية لا تنكر بينها. وتقود هذه الفروق، أو بعضها، الى حال المجتمعات وجماعاتها، مُسكةً أو تصدعاً، حين الاستيلاء على حكمها. فخوَّل التصدع والتفرق العراقيان، نواحي ومدناً وأريافاً نهرية وأودية وحكاماً ومحكومين وطوائف وأقواماً وقبائل ومنازع، على تقسيم واحصاء فصلهما حنا بطاطو وتقصاهما، حاكماً مثل صدام حسين حين الاستيلاء على الحكم والدولة، وحلَّهما في شخصه وحده، وتوحيدهما فيه هو، وإبطال أضعف رابطة قد تربط اجزاء الدولة العراقية ومرافقها، وتشبكها بعضها ببعض تلقائياً ووظيفياً، خارج نظره وأمره وإيعازه.
فلم يشرك صدام حسين أركان جيشه في النصف الثاني من الثمانينات في التخطيط للأعمال القتالية الجوية المزمعة، ولا في التصدي للهجمات الايرانية على شكل الموجات البشرية الانتحارية في الاهوار. وكان الجبوري، قائد الاركان، تبلغه اخبار العمليات الكبيرة والصغيرة من الاذاعة، شأن غيره من الرعايا، على ما روى وأخبر. فالقوات المسلحة في الاوقات الخطيرة والحاسمة التي كانت تعركها وتمتحنها لم تكن قيادتها جديرة، في عُرف صدام حسين يومها ولا فيما يرى القذافي ورهط الاسد اليوم، بالاسهام في "قادسية صدام". فالقيادة لا يؤمن جانبها، ولايؤمن توسلها بقيادة وحداتها الى مهاجمة الحاكم والانقلاب عليه. و"عِلْمُها" لا اعتبار له في ميزان المحافظة على السلطة. والجنود "مادة" الحاكم الصماء والذليلة. وأحكام الخبرة والتقنية والمعرفة ذريعة لا يجوز، على ما يرى الحاكم الفذ والفرد، أو "القائد" التذرع بها الى إعمال معايير "غير سياسية" لا تصدر مباشرة عن ارادات قيادية ورئاسية، بالغاً ما بلغت هذه من الخرق وضعف التدبير.
ويسوغ هذا الالتباس، التباس تصريف أعمال الدولة بإرادات وأهواء لا قيد عليها ولا رقيب، فيما سماه بعض الخيمينيين، متفاخرين ومتعاظمين، "لا دولة". فلا قيد على "القائد" أو "المرشد" المعصومين، وهو (القائد أو المرشد) انشأ "النظام" وسواه من عدم، على ما هذى معمر القذافي وهجر في خطبة 21 آذار المشهودة. والهيئات التي قد تدعى الى مشاطرته السلطة، أو مراقبة أعماله وأفعاله، هي في حسبان "القائد" أو "المرشد" من خلائق النظام وصنائعه وفروعه وثمراته. فكيف يجوز أن تتصدى "الخليقة" الضئيلة، أو أن يتصدى الفرع للأصل، على ما يذكِّر بعض "كبار" الحوزة في قم، من امثال جنتي ومصباح يزدي وأحمد خاتمي، "المخلوق" أحمدي نجاد، وينصحونه بالرجوع عن مزاعمه البَنَوية الى حقيقته التابعة والمأمورة.
والحق ان ما جاز في العراق لم يجز في مصر الناصرية، وبالأحرى الساداتية والمباركية. فبعض أركان الدولة و"مداميكها"، على قول نابوليون في الادارات المحلية والقضاء والتعليم والتحصيل الضريبي ومرافق الانتاج الكبيرة والسياسة الدينية، عصي تصديعها وحلها في شخص الحاكم، على رغم دالته التاريخية. والحق أن هذه الدالة، والمكانة المترتبة عليها، حلت في المؤسسة العسكرية المصرية كلاً وجميعاً، وأحاطتها بهالة قيدت يدها الى اليوم، ومنعتها من التطاول على الحركة المدنية، وحالت بينها وبين خدمة التعسف الرئاسية وشططه، والانصياع لارادته وأهوائه. وهي تفرض على المجلس الاعلي مراوغته وترجحه بين الأقطاب المتخلفة عن اخراج مبارك واعتصامه بالصمت في مسائل كثيرة تتداولها المناقشات العامة مثل النص على مدنية الدولة ومترتباته على قانون الاحزاب السياسية وشروط انشائها ومراقبة التزامها القانون والشروط.
ويكاد ينفرد "النظام" القذافي الليبي، بعد انهيار قرينه الصدامي قبل 8 سنوات تحت ضربات الحملة الاميركية و"ائتلافها" الضيق وزعزعة معاصره وقرينه الاسدي السوري من بعد، في النص الصريح، عملاً وقولاً، على ارادة الغاء الدولة وهيئاتها ومؤسساتها وقواعد اضطلاعها بأدوارها ووظائفها تمهيداً لإلغاء "السياسة". وتتقنع دعوة الضابط والمحرض الليبي الى الغاء الدولة، وجماع هيئاتها الانتخابية والتمثيلية والتشريعية والقضائية وسلطاتها المستقلة والمتعاونة وأحزابها ونقاباتها...، بإلغاء الفرق بين "الشعب" وبين من ينوبون عنه، ويحلون محله، من طريق الانتخاب والتفويض والاجسام الوسيطة والقوانين والنظم الحقوقية والتنفيذية. ولا ريب في أن دعوة المحرض الناصري والمسلم "الجماهيري" تستقوي بانفصال الدولة، سلطةً وهيئات ومعاملات، من المجتمع وعنه، وانتصابها قوة أو كتلة مرصوصة تحكمه من فوق، وبمعزل من رغبات الناس والجمهور وارادتهم. والانفصال تجربة عامة تثقل على الناس في أنظمة اجتماعية وسياسية مختلفة. وهي أقسى ما تكون في الولايات السلطانية. ودواء الانفصال، على زعم محرضين كثر ليس معمر القذافي أولهم ولن يكون آخرهم، هو حل الدولة في الشعب، وتذويبها في مائه الصافية والطاهرة، ومصادرتها على سلطاتها التي صادرت الشعب عليها من قبل و"سرقتها" منه، على نحو ما سرقت المُلكية (المِلك) الممتلكات وخصت ملاكين بها بعد ان كانت مشاعاً مباحاً وغير مقسوم.
المثال القذافي
وتتردد اليوم، في خطب "القائد" وأولاده وهم عماد "الطبقة السياسية" العائلية الحاكمة وبعض ألسنته، الاحالات الى خطبة زُوارة، في 1973، البرنامجية. فالضابط الشاب الملازم الاول بعد أن كان نقيباً، لم يدعُ الى حل مباني الدولة حين استولى وصحبه من الضباط الاحرار، على الحكم وخلع الادريسيين، في 1969. وأرجأ الامر، من غير الافتراض أنه كان عازماً عليه، أربعة أعوام. وفي الاثناء، احتدمت الخلافات في قيادة الضباط الانقلابيين. ولم تلبث هذه ان انقلبت الى صفوف الموظفين، والجماعات الاهلية التي يصدرون عنها هم والائتلاف العسكري الحاكم. وذرت قرنها في أوساط الميسورين والمتعلمين (البورجوازية) في المدن الكبيرة، طرابلس وبنغازي. وتستجيب خطبة وزارة ودعوتها الى الغاء التمثيل، وإلغاء التقاسم وموازنة الحصص والمراقبة والقيود على المبادرات والتزام المداولة (وهذه كلها هي الوجه الآخر للدولة وانفصالها)، تستجيب داعياً شعبياً عميقاً، ونازعاً حاد الى التحرر من قيد سلطة مركزية قوية، وتشترك جماعات ليبية أهلية عريضة في الداعي والنازع هذين، على ما لا يلاحظ الديبلوماسي والضابط الفرنسي السابق باتريك همزاده ("في قلب ليبيا القذافي"، باريس، نيسان 2011).
وحرص "العقيد" الابدي، في خطبة زوارة، على ارساء اعادة الدولة الى الاحضان الشعبية المزعومة على عمليات استئصال تحيل المجتمع الليبي وجماعاته أنقاضاً، وتمهد خلافاته ونزاعاته وتزهق أسبابها. فتعهدت النقطة الثانية تطهير ليبيا من "المرضى". والمرضى هم أنصار النظام السابق و"الاخوان المسلمون" والشيوعيون و"القطريون" المتحفظون عن الوحدة (الوحدات) العربية. وأطلقت النقطة الثالثة "حرية الشعب" من غير قيد، على ان يحظر على "اعداء الشعب" التمتع بها على أي نحو كان. وعلى جاري عادة هذا الضرب من الانظمة المستبدة والمتسلطة، قلما تترتب نتائج معروفة وايجابية على الاجراء، على حين تترتب عليه نتائج سالبة مباشرة. واباحة حرية التظاهر في سوريا من آخر الامثلة على هذا. ولما كان لا يعرف أحد من يكون "الشعب" المفترض والمطلق الحرية، وكيف يتمتع بالهبة الالهية والمعمرية، بقي الاجراء من غير أثر. وعلى خلاف الوجه الايجابي، لا يجهل أحد من يكون "أعداء الشعب": فهم "الخبثاء" (لم يكن هذا اسم "الجماعات الارهابية" بعد)، و"القطريون" الوطنيون ودعاة الاقلاع عن المغامرات الخارجية وتمويل حركات "التحرر"، والانفصاليون من غير قبيلة (قوم) القذاذفة وحلفائها المباشرين والاوفياء وكاتمي الاسرار من المقارحة. وأقرت النقطة الخامسة اجراءً عاجلاً هو "الثورة الثقافية". وهي قضت من غير ابطاء، بإحراق الكتب الماركسية والرأسمالية والمخالفة الاسلام، وبـ"التعريب الكامل" للحقل الثقافي البارز والحيوي الماثل في اسماء المحال التجارية والشركات.
وأتبع "الأخ" خطبته بأفعال ترجمت عنها. فاعتُقل آلاف الليبيين المتعلمين والميسورين، وعذبوا، وقتل بعضهم. ومن لجأوا الى ديار (أو ديرات) أهلهم، واعتصموا بها، قصفوا هم وأهلهم. وهرب الآلاف من السجن الليبي الكبير الى الخارج. فأرسل "الاخ القائد" من تعقبهم، وقتل بعضهم عنوة في المنافي، خارج أسوار "اللادولة" القذافية الناشئة. ودأب الرجل، وهو انفرد تدريجاً بالحكم بعد أن انفض عنه حلفاء الساعة الاولى وشركاؤه في الغاء القواعد الاميركية والبريطانية وفي زيادة حصة ليبيا من عوائد تصدير النفط، دأب على النفخ في إوار "الثورة"، والحؤول دون برود توتراتها، واستقرارها على نظم وأعراف. فلا مناص إذا استقرت هذه، من أن يفضي استقرارها الى تقييد حملات التطهير، وتحصين المواقع والمصالح، والرجوع الى السوابق والاجتهادات وتقديمها على الاحكام المرتجلة. وسمى الرجل نهجه المضطرب هذا "ثورة الى الابد". ومزج تخريب الدولة، ونظمها وسننها، بإجراءات سياسية واجتماعية استجابت احتياجات فعلية وعامة. فهو لما دعا "الشعب" الى الاستيلاء على جهاز الادارات، وتحطيم الدولة، وندد بطلب جماعات ميسورة ومتعلمة اجراء انتخابات نيابية حرة وعلى قاعدة حزبية، عمد الى زيادة حد الاجور الادنى ضعفين. وأمر بتثبيت ايجارات السكن. وعرَّب التعليم فقرَّبه من متناول الفقراء وأهل العسر. وباشر خطط إسكان كبيرة وسريعة تلبي حاجات المهاجرين من قراهم وديراتهم الى مأوى في مهاجرهم الحضرية والغريبة.
وعلى هذا، اجتمع في نهج وسياسة متضافرين ومتلازمين تحطيم الادارات وهيئات التمثيل والتوسط والتحكيم واضطهاد الاحزاب ("الاخوان" والشيوعين والبعثيين) مع تلبية بعض حاجات الجماعات النازحة الى المدن واهل القبائل، واستعداء "النظام"، رسمياً وايديولوجياً، هؤلاء، وهم يحملون وظائف الدولة التحكيمية والتمثيلية والقضائية والادارية على ترف في وسعهم الغنى عنه، على البورجوازية وأنصار السنوسية والطرق الصوفية والاحزاب والدول الاستعمارية الغربية وشركاتها النفطية و"عملائها" المحليين. وأرفق اجراءات التوزيع باعتقالات معارضين حزبيين وناشطين من التيارات والميول كلها. وفي أواخر تشرين الاول 1975 غداة سنتين وبعض السنة على الاجراءات "الشعبية" التي مولتها زيادة عوائد النفط في اعقاب حرب تشرين (1973)، وتوسلها المحرض الجماهيري الى شراء الانصار وتكتيلهم وتجييشهم في إمرته كشف الضابط المستولي عن مؤامرة ضباط "رجعيين" يقودهم عمر المحيشي، المصراتي الطرابلسي. وكانوا ينوون الانقلاب على معمر "القذاذفي" السبهاوي الفزّاني. وكان المحيشي أنكر تقديم عبد السلام جلود على سائر الضباط، وانتدابه الى الولاية على المنظمات الفلسطينية المقاتلة في لبنان، والى تنسيق الولاية المزدوجة والعظيمة المردود مع الاجهزة السورية الاسدية "العاملة" في "بلد الارز". وسمى الضابط المحرض والناشط و"الموزع" مهاجمة بعض شركائه في هيئة الانقلاب وهي تشبه مرفق دولة ولو شبهاً ضعيفاً- والاعداء الكامنين والمتجددين، سمى العمل المزدوج "زحفاً" على المؤسسات.
وتوج مسيره المظفر منذ "الفاتح" (الاول من أيلول) بـ"الكتاب الاخضر"، أو النظرية العالمية الثالثة، مَدْرج البشرية (فهي وحدة القياس القذافية) الى تجاوز الشيوعية والرأسمالية، على ما هو مشهور. وفي أوائل آذار 1977، بسِبْها هذه المرة، وفي قلب الفزان، ومن مؤتمر الشعب العام، زف القائد الملهم بشرى انشاء "الجماهيرية العظمى..."، نظام سلطة الشعب من غير دولة، ودستوره و"مرجعيته" "الكتاب الاخضر"، بحر العلوم السياسية والاجتماعية والتاريخية ومحيط المحيط. وحسبان انسان او امرءٍ مثل معمر القذافي، وهو من هو عزلةً وتحصيلاً ضعيفاً وعالة ظاهرة وقصوراً فادحاً، أن في مستطاعه الخروج الى انسانية القرن العشرين بـ"دعوة" سياسية وأخلاقية واجتماعية جامعة تداوي أمراض هذه الانسانية وتشفيها، لا لمسوغ إلا تحكمه في انتاج نحو مليوني برميل نفط في اليوم وأمره ونهيه فيها وحده، هذا الحسبان مدعاة غرابة وعجب لا يتبددان على مر الزمن. ويصيب مثل هذا الغرور المرسل والارعن أشباه الرجل المتربعين على رأس وحدة صواريخ مهربة، ووراء جدار بشري من الشهداء "الاحياء" الذين تغلب "شهادتهم" "حياتهم" المبددة. ويبعث انكفاء الجماعات العربية "القبلية"، وانقطاعها من تيارات العالم وحوادثه، مثل هذا الاحساس المستحوذ والمستبد بالانتداب الى تبليغ "رسالة خالدة" وتخليص البشرية من "الآثام" و"الشرور".
الاعفاء
فتتصور الادارات، وأعمال التدبير اليومية، والسياسات التربوية والانتاجية والمالية والقضائية والتقنية، وغيرها مثلها، في صورة المهمات التافهة، والسخيفة. ولم يخامر الملازم أول والمحرض المنتشي بسلطانه وعوائد نفطه، والمتربع في قمة "ولايته"، شك في تفاهة القيود على سلطانه. فلم ينفك يخرب أبنية الادارة والتدبير بواسطة "اصلاحات". وتعمدت هذه تضييع المسؤوليات عن القرارات، وتمويه معايير تعيين المسؤولين ومحاسبتهم ومراقبتهم. وأعلت معيار الولاء او التحزب والتعصب على معايير الكفاءة والاداء والمسؤولية. فسادت مناخات "الثورة الثقافية البروليتارية العظمى"، الماوية الصينية المدمرة، "الدولة" والجماعات الليبية. وعاثت فيها فساداً وتخريباً وتفكيكاً. وعلى المثال الماوي الصيني، بقي الرأس المدبر، أو "قيادة الاركان"، يقظاً. فحصّن مرفقين حيويين ومتصلين من فوضى "اللادولة" القذافية، هما المورد النفطي والنهر الكبير أو العظيم. فأوكل بالاول إدارة تقنية صارمة. وصرف الى الثاني شطراً كبيراً، يقدره همزاده بنصف عوائد الدولة. فالماء، في بلاد صحراوية وزراعية، على رغم هجرة معظم أهلها الى المدن، مادة شاملة، إذا جازت العبارة، وركن ترسو عليه لحمة الجماعة الوطنية وتغرف منه. وقد تؤدي خطط الري الزراعي من دون مياه الشفة تقريباً وهي أنجزت منها 3 مراحل تروي أراضي أجدابية وسرت وبنغازي وطرابلس وشرق برقة وغرب طرابلس (في 1983 1996 الى اليوم)- الى نضوب المياه الجوفية في مستقبل قريب أو بعيد. وتحظر السياسة والمخيلة الستالينيتان والماويتان، ونازعمها الى العظمة الفرعونية، مناقشة المسألة الحيوية. فالأمة الليبية ذائقة الموت على خلاف سلطانها "الدهري" وسلالته.
ويُزري جعلُ النفط، أو عوائده، والماء في عهدة القذافي وحده، من غير تثمير العوائد ورسملتها، وعلى خلاف مقتضيات الحفاظ على مصادر المياه، بالدولة وهياكلها ويحط منها. وهو يوكل الى الرجل وأولاده وبعض أصهرته التمثيل على دوام الامة. فإذا اضطر الى تقليص أعباء النفقات "العامة"، على معنى السلطانية أو نفقات الاعالة من الموارد الطبيعية وليس من موارد العمل والانتاج، سلك نهج الادارة السوفياتية و"اصلاحات السوق" الحيية التي اضطرت اليها. فأباح في أواخر الثمانينات، حين شرعت أسعار النفط تتردى في ختام دورة زيادتها "العظيمة"، التجارات الصغيرة من جديد. وألغى دعم بعض المنتجات والسلع الحيوية. ورفع الحظر عن بيع المزارعين منتجاتهم بأسعار السوق أو قريباً منها. ولا تفعل مثل هذه الاجراءات إلا الإقرار المتأخر والوقح بأن للاقتصاد ومعاملاته منطقاً لا تستنفده إرادة الحكم ومصالحه التعبوية والشعبوية والارهابية (وهذه سنوات اسكوتلندا ولوكربي)، ونازعه الى إيهام رعيته بأنه "ربها" الذي "يحيي ويميت". وهذا على خلاف منطق الدولة، ورهنه النتائج والعوائد الاقتصادية بتنظيم الانتاج، وسياسة الاستثمار في المرافق المناسبة، واسهام عوامل الانتاج، وفيها العمل، في الناتج.
واضطر القذافي المحاصَر، وهو جرّ رهينته ليبيا الى الحصار، الى "تحرير" مرافق أخرى، على ما سميت اجراءات السياسة التاتشرية والريغانية الليبرالية في أوائل التسعينات. وعادت الاجراءات القذافية على الليبيين المحاصرين بكارثة انسانية. فزادت أسعار السلع الاستهلاكية، وهي تولت شركات الاستيراد الاحتكارية والمحظية استيرادها، ووزعتها المحال الصغيرة والخاصة، أضعافاً. ولم يكن عسيراً على "الاخ" المتعاظم القيادة الخرقاء والمتهورة استثمار عسر الليبيين في خدمة سلطانه: فاستمال اليه المستوردين، أو قوّى روابطهم بإرادته وإنعامه، وحمَّل صغار التجار أوزار النقمة "الشعبية" على المستغلين والعملاء وأنصار النظام القديم، وندد بالحصار الغربي والاستعماري على الشعب الليبي المظلوم وعلى قيادته العنيدة والمقاومة، وجدد العقد بين القيادة الحكيمة وبين الشعب. وأتبع، مرة أخرى، النظر والمقال بالعمل والحال: فأنشأ لجان تطهير ثورية (بديهة)، في 1994، أوكل اليها تعقب الباعة وصغار الوسطاء من "المنتفعين" ومصاصي دماء الشعب (ولولا بقية من جهل أو حياء لقال: الكولالك او لقال اليهود).
ولما عدم كل ذريعة الى استبقاء "الخطة" المركزية، أو "القطاع العام"، وهذا ما كان في 2002 -2003، "حرر"شيخ القذاذفة والمقارحة الاقتصاد كله، وخصصه أو خصخصه. وألقى على عواتق أولاده الكثر، وخواصهم ومحظييهم، أعباء السوق "الاجتماعية"، على قول الصينيين الشيوعيين وقول عبدالله الدردري الخبير الاقتصادي السوري في حكومة العطري الحلبي "التكنوقراطي". فاقتسم محمد معمر القذافي، بكر الاولاد، وسيف الاسلام والساعدي والمعتصم (بالله بعد والده) وهنيبعل (صاحب الفتوحات السويسرية واللبنانية) وعايشة وسيف العرب (الراحل)، مرافق الهاتف النقال والنفط والمصارف وكرة القدم وتجهيزات البنى التحتية ووكالات الاستهلاك العالمية والتجهيز العسكري والنقل البحري والعقارات. وأبلوا جميعاً في المهمات الثقيلة بلاء أولاد الاخوال والاصهرة في بلدان شقيقة أنشأ قادتها، وهم على الدوام فرادى، أجهزة تسلطهم "الى الابد" على مثال "اللادولة".
وعلى هذا، لا ينهض سلطان القائد المزمن والقادة المزمنون الاشقاء، على أجهزة الاستخبارات والامن والقوات المسلحة والعصابات الاهلية، أي على الارهاب والاكراه والعصبية أولاً. وإلا لم يُعقل، ولم يجز فعلاً وعملاً، انتهاء عهود مثل هؤلاء القادة، ولو تصورت نهاية عهد بعضهم في صورة المعجزة الفريدة. فلا أمن بن علي أصابه الوهن، ولا نقص عدد موظفي الامن المركزي المصري، ولا ألغي جهاز واحد من أجهزة الامن السورية الـ19 أو قلصت صلاحياتها في التوقيف و"المقاضاة" والاخفاء، ولا انحسر "الباسدران" و"الباسيج" الوارف عن الايرانيين. فركن الاستبداد المتين هو صدوع المحكومين وتوكيلهم الحاكم، وأهرامات أجهزته ومراتبها، بالنيابة عنهم في تدبير روابطهم ومصالحهم المشتركة، ومرافق معاشهم وعمرانهم، وفي تعريف هوياتهم ومثالاتهم. فيصح في معمر القذافي أنه اشترى من ليبيين كثر حرياتهم وتدبيرهم، "أن لهم"، أي لقاء اعفائهم من منازعاتهم على أي ليبيا يريدون : أي اواصر بين المناطق و"العواصم" التاريخية والاهلية؟ وأي ادارة لهذه الأواصر؟ وعلى أي معايير توزيع وتأليف وتداول؟ وعلى أي مقادير من العوائد؟ وعلى أي توزيع؟ وأي قسمة بين الدولة وبين المجتمع وقواه وجماعاته؟ وكيف يُنشّأ فتيان الليبيين؟ وأي روابط تشدهم الى مواضيهم؟ والى الامم الاخرى؟...
والدولة الوطنية المدنية، في عالم دول أمم غالب، هي الكيان الجامع للمباني التي تضطلع بالمداولة العملية في مثل المسائل التي "أعفى" منها القذافي، وأقرانه وزملاؤه "العرب"، رعاياهم من الخوض فيها، واحتمال اعبائها الثقيلة، الى بعض الوقت (الطويل). وهم لا ينفكون يطلبون إطالة الوقت وتسليفهم الصبر عليهم، على رغم استطالة الوقت هذا عقوداً مرهقة. وأنصار هذه الانظمة حين ينتصبون للدفاع عنها يختارون ما يتراءى لهم منها "مهمتها المركزية"، مثل المقاومة، او التحرير، أو عداء الامبريالية، أو الموقع الاقليمي المفتاحي... وفي الاحوال كلها يرفضون المجادلة في "السياسة"، أي في موضع التهمة الداعية الى الحركة المدنية: كيف اضطلع النظام بمهمته المركزية المفترضة. وكيف عرَّفها وانتخبها؟ وما هي تبعات التعريف والانتخاب على الشعب وأجزائه وعلاقات اجزائه بعضها ببعض وطاقاته؟ وعلى رشده وقيامه بنفسه؟ فالمجادلة في عدد الصواريخ وجفري فيلتمان أقرب تناولاً وأوضح معنى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق