في مدوناتِ أو مرويات تنازعِ الحكّام والمحكومين على رواية وقائع أو حقائق تدور على ما يفعله الحكام في المحكومين، واقعتان قريبتان وفريدتان هما معسكرات الاعتقال السوفياتية ("الغولاغ" منذ "تقصي" ألكسندر سولجنتسين الكبير والمستفيض في 1974) ومعسكرات الإبادة الألمانية النازية. وأودت الأولى بين 1918، غداة محاولة اغتيال لينين، و1953، غداة موت ستالين والإقلاع عن سياسة الاعتقال الجماعي، بنحو 15 مليون "سوفياتي". ولا يحتسب في هؤلاء من قضوا في المجاعات والتهجير القسري والانتفاضات الكثيرة التي لابست سياسة "بناء القواعد المادية للاشتراكية" ونجمت عنها. وقتلت الثانية 6 ملايين من يهود أوروبا، و300 الى 400 ألف من الغجر الرحل وربما 200 ألف من المرضى المزمنين والمصابين بعلل وراثية. وكانت معسكرات الاعتقال السوفياتية شبكة أمنية وإدارية "قضائية" وإنتاجية ومعنوية عظيمة، ومرفقاً معروفاً من مرافق "دولة العمال والفلاحين" وديكتاتوريتهم الديموقراطية، قبل ان توقَف الديكتاتورية على البروليتاريا حدها وصاحبة الحق الصراح فيها. وخصت القيادة النازية شبكة معسكرات الإبادة، اليهودية في المرتبة الأولى، عشية 1942 وتلية شنها الحرب الهائلة على الأراضي الروسية في تموز 1941 وتعثر هذه الحرب مع تبكير الخريف البارد بالقدوم، خصتها بموارد غزيرة وباهظة، وخلف حجبها عن الجبهات المنتشرة بنواحي أوروبا وأفريقيا وبحار الأرض خللاً ظاهراً أصاب مسارح البلقان وجنوب أوروبا وشمال افريقيا.
ولم تحل الآثار الفادحة في الناس والحوادث والمرافق بين أهل الحكم والقوة، ووكالاتهم السياسية والدعاوية جزء منهم، وبين إنكار هؤلاء، "واقعة" المعسكرات من أصلها، ونفي حقيقتها وحصولها. وبعض الإنكار لا يزال الى اليوم سائراً، ومن ثمراته "رسالة" روجيه غارودي قبل عقد وبعض العقد. وحين هرب مهندس روسي الى "الغرب" الأميركي في 1949، وكتب "اخترت الحرية"، وروى بعض الوقائع الأمنية والاجتماعية والمعيشية السوفياتية، ندد جهاز الحزب الشيوعي الفرنسي الصحافي و "الإيديولوجي" بكاتب الشهادة، ونسبها الى الكذب المتعمد والصريح. وحملها على حرب الاستخبارات الأميركية، وحمل مصدقيها على عملاء مأجورين ومختلقين. ومن لم تحسم المعتقلات النهمة والأكولة سنيّ حياتهم، وكانت لهم حياةٌ بعد المعسكرات وأعوامها الطويلة أو "القصيرة"، بعضهم تستر على هذا الشطر "المعيب" (على ما ترى الأجهزة وقد يتابع الناس الأجهزة على رأيها بعض الوقت) من حياتهم. ولم يزح الستر عنه لا في السيرة العامة التي اضطر المعتقل السابق الى كتابتها، ولا في السيرة الخاصة التي أسرَّ بها إلى أخص خواصه، على ما روى المؤرخ البريطاني اورلاندو فيغز في عمله "الهامسون" (كناية عن تعمّد المعتقلين السابقين إغفال حوادث حياتهم وإذا رووها عمدوا الى الهمس أو الوشوشة).
من "كُتبت" لهم حياة بعد معتقلات "العمل" السوفياتية، ومعسكرات الإبادة، وخرجوا منها ظلالاً رمادية وأطيافاً مغبرة، قال بعضهم – من كتب منهم أو من كلَّم أهله وأصدقاءه – انهم استَبَقوا تكذيب روايتهم وخبرهم والتشكك المتوقعين فيهما، وآثروا الصمت. وبعضهم أقام على تشككه في حقيقة ما رأى وعانى وخَبِر الى أن قضى ومات. وهذا قرينة على تجديد المعتقلات الجماعية، السوفياتية والنازية، واقعة الاعتقال الجماعي، وبنية المعتقلات ودورها الاجتماعي والسياسي، الى دورها العسكري والأمني الذي تحدرت ربما منه. فهي مثّلت على صنع بشرية جديدة لا تستبقي من البشرية الإنسانية المعروفة من قبل، وقوامها التعارف، إلا صفتها الحيوانية أو البيولوجية. وهذا ما تعاقب على قوله بريموليفي الإيطالي ("أيكون هذا إنساناً") وروبير آنتيلم الفرنسي ("النوع البشري") ويوليوس مارغولين البيلاروسي – الفلسطيني ("رحلة في بلاد الزيكا" أو "الحال غير الإنسانية"). وكلهم كتبوا قبل 1950، وحالَ العتقِ من المعتقلات الألمانية والروسية.
والسمة المبتكرة التي تستوقف في هذا المعرض، وهي وجه من تجديد المعتقلات الجماهيرية والجماعية على النحو الكلياني الشمولي (أو التوتاليتاري)، وابتكارها ما لم تُسبق إليه، هذه السمة هي استباق الخبر عن حادثة الاعتقال والمعتقلات، وإبطال هذا الخبر وإنكاره، على رغم تناوله عشرات الآلاف من الناس في وقت واحد قصير، والطعن في صدقه، وفي جواز ما يخبر عنه وحقيقته. فإذا خرج حياً من دَخَلَ الليل البهيم والأليل هذا، وأراد وصف ابتلاءه وابتلاء إخوة شقائه الفظيع، ألفى الجلادين وأصحابَ "نظام التجميع" والاعتقال قد سبقوا وصفه وروايته قبل ان يتصدى لهما، ويهمَّ بهما. وكذبوهما التكذيب الذي يَفترض ألا تقوم قائمة من بعد لرواية أو وصف يتناولان وقائع الاعتقال في معتقلات "العمل" السوفياتية والإبادة النازية الألمانية.
الاختلاط والتكذيب
ولا يتوسل التكذيب والإنكار المضمون بردٍ أو مناقشة أو تعليل حوادث يُقر بها تعليلاً مخالفاً. فالتكذيب والإنكار، في هذه الحال، هما في صلب الحوادث وكيانها. وهي من مادة تعصى التصديق، وتستدرج الإنكار والتكذيب من تلقاء نفسها، إذا جاز الكلام على "نفس". فمعسكرات الاعتقال الجماعية السوفياتية نشأت عن "روافد" وجماعات وحوادث ومنازعات وتشريعات وإدارات، أحصى بعضها ألكسندر سولجنتسين في أوائل العقد الثامن من القرن الماضي، وهذه "الروافد" يستحيل على المراقب جمعها أو ضمها في باب واحد او مؤسسة مشتركة. فما القاسم الذي قد يشترك فيه معتقلون جرموا في محاولة اغتيال لينين غداة انتصار البلاشفة على خصومهم وحلفائهم، ومحازبون شيوعيون تربعوا الى أمس قريب في سدة القيادة وشاركوا لينين نفسه الإعداد للانقلاب الثوري، وبعضهم شايعه من غير تردد، وبعض ثانٍ تحفّظ عن آرائه وأفعاله، وبعض ثالث ناوأه قبل أن يماشيه؟ وإلى هؤلاء وأولئك ضُمت جماعات متنافرة من المجرمين والجانحين "العاديين"، ومن "الطبقات" الغالبة والمسيطرة السابقة، ومن أقوام يُظن في أبنيتهم الاجتماعية ومعتقداتهم نازع الى مقاومة السيطرة الجديدة ومعاندتها ومواطأة أعدائها...
فاختلط "السياسي" بالمعتقد والمعاش والاجتماع والرأي والجنوح والجريمة والأخلاق والقرابة والهندام والمشاعر المعلنة والمفترضة ومقاصد القيادة الحزبية ومراتبها، اختلاطاً يعصى تمييزُ عناصره ومكوناته العقلَ العادي والخارق معاً. ومثَّلت السجون والمعتقلات، المتفرقة في أنحاء أوسع بلدان الأرض مساحة، والموحدة تدريجاً في إدارة بيروقراطية وأمنية متماسكة (اجتمعت "لفظة" "غولاغ" من أحرف كلماتها الأولى ومعناها الإدارة المركزية للمعتقلات) مثَّلت على وحدة قسرية واعتباطية. ولا قوام للوحدة هذه خارج سياسات القيادة الحزبية الحاكمة وفرماناتها الأمنية وغير الأمنية، فلم ينتبه أحد عملياً، لا عامة الناس، ولا المعتقلون أنفسهم، ولا المحازبون، ولا القياديون في المراتب المتوسطة ومعظم دوائر القيادة العليا، ولا "مسؤولو" الأجهزة الأمنية، الى ولادة أرخبيل المعتقلات المنتشرة خفية في طول عموم الروسيا وعرض أحزمة فتوحها. وبالأحرى ألا ينتبه أحد الى تبلور معنى متواطئ أو دور متضافر ومتماسك مقصود.
فإذا أنجز البناء العظيم والعبثي، على ما لاحظ خروتشوف على بعض ثمراته الكهربائية والمائية الضخمة غير المجدية، حال الستار الحديدي الداخلي، المصنوع من خوف وصمت وعزلة واضطراب وإجماع قسري، بين قدامى المعتقلين والمسجونين الناجين من الموت الجسدي والمعنوي وبين الكلام والإخبار. ويروي يوليوس مارغولين، البيلاروسي المولد والروسي اللغة الأم ولغة الكتابة، أن عدداً من معتقلي المعتقلات الجماعية لا يغادرون المعتقلات فعلاً حين انقضاء "محكوميتهم". فبعضهم يبقى في المعتقل، أو في أحد المعتقلات، موظفاً أو عاملاً إدارياً يتولى عملاً كان يقوم به منذ بعض الوقت وهو مسجون. وبعضهم يخرج من المعتقل الى جواره القريب، ويختاره منزلاً، وهو على يقين من خسارته المنزل السابق، وأهله وأسرته وعلاقاته. وبعض ثالث يثبته الجنون أو "ذهاب" العقل، في معتقله. وينتحر عدد كبير، قياساً على نظيرهم خارج المعتقلات، ويسدل موتهم الصمت على فظائع لا تصدق.
وهؤلاء، على تفرقهم، وأحوالهم الكثيرة والمختلفة، مصادر أو روافد صمت ثقيل وعميم يطبق على المعتقلات، وقارتها المترامية الأطراف، وعلى أهليها، وتجاربهم وأخبارهم. وينيخ الصمت، ومعه الإغفال، على ركن من أركان النظام المستبد والرابض على محكوميه وعبيد حزبه الحاكم (وليس رعاياه أو رعيته، وجذر اللفظة لا يخلو من أصداء معنى الاعتناء والحفظ والتكاثر، على خلاف معاني القهر والقتل والحجز التي لا تنفك من الاعتقال الجماعي والتأديبي الأمني والسياسي ومن ثمراته القاتلة والمميتة). ويتوسل الاستبداد بالمعتقلين الى إنكار واقعة المعتقلات، وإلى تبديد الواقعة، على رغم عِظَم كتلتها وعدد أهليها وضحاياها ودورها في استواء السلطان الغاشم والساحق على صورته. فالمعتقلون هم أداة الإنكار والتبديد الأولى، على رغم منهم. والسلطان الغاشم والقاهر قَدِر على صناعة واقعة "فرعونية" عظيمة، اجتماعية وإدارية ومادية، واستطاع صناعة إنكارها وإغفالها والسكوت عنها، معاً. وهذا طبع من طبائع الاستبداد سبق طبائعه الملكية المتأخرة التي أحصاها بعض الكتّاب الإيطاليين (واقتبس عنهم "عثمانيون" عرب إحصاءهم).
وحملَ الضحايا على الصمت، وربما على النسيان والإنكار حتى حين يخلو المرء بنفسه وإليها، سبقُ التشكيك والتكذيب الروايةَ، وإسراعُهما إليها قبل تصورها في الكلام والقول والذهن. فحين يختلق السلطان "الفرعوني"، أي البيروقراطي الصناعي في المعرض الشيوعي والمعرض النازي، واقعة المعتقلات الجماعية وكتلتها العظيمة، يُخرجها عمداً، وبناءً على أبنيته السياسية والإيديولوجية والتنظيمية العامة التي تتصدرها بنية الحزب القائد والطليعي، من عالم الحياة المشترك والمتعارَف الذي يتقاسمه عموم الناس، وينفيها من العالم المشترك والمتقاسَم هذا. والإخراج والنفي يتبلوران في المكان وتخصيصه (على حدة من الأماكن)، وفي الجمع بين من لا تجمعهم رابطة وحشرِهم على نحو يعدمون معه خاصاً يخصهم وحدهم. ويتبلوران في المراتب المفروضة، وفي اللغة الآمرة والبذيئة، والعمل المجرد من غاية مفهومة ومعروفة. والمعايير السائدة في قارة المعتقلات ليست أضعف إخراجاً من عالم الحياة المشترك، أو نفياً منه. فالنجاة بالنفس، والتنافس على البقاء والاقتتال في سبيله، والسعي في الحظوة، والتسلط على الضعفاء، والتسليم بالحال ولأصحاب الأمر، كلها أحكام وموازين تقطِّع أضعف عروة قد تجمع بين اثنين، وتُسْلم المعتقلين الى وحدة وعزلة مدمرتين.
تفترض الرواية، أو الخبر عن حادثة أو واقعة من حوادث عالم الحياة المشترك والمتقاسَم، بعض الاجتماع والإجماع على معنى أو دلالة، وعلى لغة تؤدي (عن) المعنى أو الدلالة. وعالم المعتقلات الجماعية يمعن، وهذه وظيفته الأولى، في تقطيع عرى الاجتماع والروابط التي تتيح أداء الواقعة الى النفس قبل الغير، والخبر أو الإخبار عنها، وحمل صاحب الخبر وراويه على الصدق أو الكذب أو عليهما معاً جزئياً. وعالم المعتقلات يقتل الرغبة في الإخبار والرواية والقص، على ما حصل للآلاف المؤلفة من المعتقلين. فتقطيع الأواصر والوشائج الإنسانية والمعنوية، على وجهها غير الحيواني أو البيولوجي وسلطانه، يُبطل ما يجتمع جماعة من الناس عليه ويُجمعون، ويستدلون به الى قيام "واقع". فهذا، على الدوام، عالم يحتكمون إلى حقيقته ضمناً، في مخاطبتهم بعضهم بعضاً، تصديقاً أو تكذيباً. والسلطان الصناعي والبيروقراطي الكلي يحقق ما أراده السلطان الديني القبلي والعصبي (أو مثاله الخلدوني، على زعم صاحبنا) من إنشاء الاجتماع والمناسبة بين الاجتماع السلطاني وبين أفهام ناسه وعقولهم ومخاطباتهم. وهذا، أي إنشاء "الواقع" والمناسبة بينه وبين أهله، لم يبلغه السلطان الديني العصبي، ولا أنجزته طبائع الاستبداد "التقليدي".
فإذا شاء المعتقلون السابقون الخبر عن "عالم" المعتقلات، والمعتقلات الجماعية نقض (على) معنى عالم مشترك ومتقاسَم ومتعارَف، خانتهم العبارة، وأرتج عليهم، وخافوا الكذب والتكذيب. واستهولوا غرابة ما كانوا فيه، أو ما هم فيه، إذا هم حاولوا الكتابة في المعتقل. واستولى عليهم بطلان أو إبطال "العالم" هذا نفسه بنفسه، وإنكاره حقيقته وصدق الخبر عنه تالياً حين هو كائن ويكون، أو في طور الكون. والحق ان عالم المعتقلات الجماعية، معتقلات العمل الشيوعية أو معتقلات الإبادة النازية، لم يستوِ واقعة مادية، سياسية وتاريخية، إلا غداة هدمه وطيه، ومعه مئات الآلاف من أهليه. وهو استوى هذه الواقعة، على هذه الشاكلة، في أعمال بعض الإخباريين ورواياتهم، ثم في أعمال المؤرخين وبعض السينمائيين القلائل.
تكذيب الشاهد
ولكن دروس المعتقلات وعالمِها وهي دروس سياسية امنية و"روائية"، باقية لم تطوَ. وهي اليوم، أي غداة نحو ثلثي القرن على هدمها، جزء لا يتجزّأ من جهاز السلطان المتمادي و "دولته" القاهرة والمنتصبة بإزاء مجتمعها وأهليه وحشاً ضارياً. والدرس الأول يقضي بحمل الناس على تكذيب ما يرونه رأي العين، ويلمسونه لمس اليد، والطعن في حقيقته وصدقه. فحي البلد بمدينة درعا بحوران، من أعمال الجمهورية العربية السورية (3 أكاذيب في 3 ألفاظ، على ما كان ليقول أحد دارسي الكليانية السوفياتية المبكرين)، لم يُحرم الذين يعدون 15 ألفاً من التغذية بالماء والكهرباء، والاتصال بخطوط الهاتف، والإمداد بالحليب والزيت والطحين، منذ 16 آذار 2011 حين طوقتهم قوات "خاصة". وهؤلاء، أهل حي البلد الى جنوب الشرق من درعا، لم يكبّروا ساعة صلاة المغرب ولم يردفوا التكبير بطلب الحليب لأولادهم والماء لهم جميعاً. ولم تحاول القوات المحاصرة تغطية التكبير والاستغاثة بإطلاق الرصاص، على ما سمع كريستيان كلانيه ("لوموند"، في 10 حزيران) بأذنيه. وحين استجاب بعض أهل قرى الجوار نداء أهل حي البلد، غداة نحو 5 أسابيع على ضرب الحصار، ومشوا الى أبواب المدينة حاملين أغصان الزيتون الى الجنود، و "غالونات" الماء الى الأهالي، لم يرد جنود "الخاص" على أهل الزيتون والماء برصاص قاتل أردى، في 29 نيسان، مئتي ضحية، على ما أحصت "هيومان رايتس ووتش" نقلاً عن الأهالي والأقارب والشهود (وليس المستشفيات، فلا "مشفى" بحي البلد).
ويطوق الحصار درعا كلها، منذ اوائل نيسان. ويحظر على أهلها إغاثة أهل حي البلد. وبعض أهل حي البلد اتفق ضربُ طوق الحصار الأول على الحي القديم مع خروجهم من حيهم، فلا سبيل الى عودتهم الى "بلدهم". فبعض سعوا، ويسميهم كريستيان كلانيه وهو حادَثَهم علي وحسين وأحمد، في العودة الى منازلهم وجرحوا برصاص القنص، أو اعتقلوا أياماً في سجن مرتجل وعذّبوا أو خطفوا. ومذذاك، صار هذا نهجاً في سياسة البلدات المتمردة والمتظاهرة، القريبة من الحدود التركية – السورية ومخيماتها، فتحاصر البلدات، وتخلى وتشرّد، وتقطع مواردها، وتُطوق طرق الخروج، ويحتفل بالعودة... وروى بعض شبان درعا للصحافي الفرنسي، وهو دخل درعا خلس في 25 أيار وطرد منها في 27، أن 8 جنود من الذين كانوا يؤدون خدمتهم العسكرية الإلزامية أُعدموا، وأشهد زملاؤهم ورفاقهم على قتلهم جزاء امتناعهم من إطلاق النار، وتحتسبهم احصاءاات الجهاز الحاكم في شهدائه. ويرتدي ضباط "الخاص" صدرية معدنية تحمي من رصاص الثأر والغضب والانشقاق.
الخبر على الهوية
فهذا وغيره مثله كثير، وبعضه بثت أشرطة صوره وأصواته على مواقع كثيرة وحفظت على "يوتيوب" وفي مدونات تلفزيونية، كذب في كذب. وهو ابن مشاهد وحوادث حسية. ولا يؤيد الشاهد الحسي، المرئي والمسموع، حقيقة المشهد أو الواقعة، على ما يحسب الظن العامي والساذج البالغ حد البله، على ما يذهب إليه مذيعو "ويكيليكس" والمتنصتون على أجهزة الاتصال "المقاوِمة"، الموازية والمقرصنة. فعلى مذهب "الخاص" السوري، الأمني الإعلامي والسياسي، ليس الشاهد الحسي المصور إلا مرآة ماثلة لمقاصد من يلوحون به أو يصدقونه ويحتكمون إليه. ويدعو الدرس الثاني المستقى من كتلة المعتقلات الى تعليق الخبر، ولو كان سنده اسماً ظاهراً وصورة مؤرخة وصوتاً ولوناً فاضحين، على صاحب الخبر أو مصدره. فيَحْسُن الخبر، ويحمل على الصدق، إذا كان ناقله من "أنسباء" الحاكم، وموظفي بعض أجهزته. ويُفحص المحدِّث قبل الفحص عن مادة الحادثة، وقبل النظر في وسائط النقل. فالتكذيب والتصديق معيارهما "الهوية" ومثل القتل على الهوية، والتعذيب والسجن عليها في حروب أو مقاتل الجماعات العربية الأهلية. وعلى هذا، تنكر حقيقة صورة حمزة الخطيب الصريحة، وحقيقة جروحاته وتعذيبه والتمثيل به قبل قتله وبعده. وتنكر حقيقة رواية الأهل، ويغفل انتظار الشهر قبل تسليم جثمان الولد. ويوكل الى طبيب "شرعي"، موظف في دائرة إدارية ومحل تهمة لا يرقى الشك إليها، "وصف" حال الجثمان. وذلك على ما ينبغي أن تكون عليه حاله.
الشهود الثالثون
فمن ألزم ما يلزم "الوصفَ" البوليسي المركزي والعصبي العشائري، ثالثاً، هو إبطال الشهادة الثالثة، وإنكار جوازها، اصلاً. وفي حال حمزة الخطيب، وغيره عشرات الأولاد ومئات الرجال والنساء، استدرج إعلانُ مصدر من الحركة الوطنية والمدنية السورية اسم الضحية والصورة ومحل القتل أو الاغتيال، نفياً قاطعاً. ويتوجه النفي الجازم على الجماعة المبادرة الى الإعلان قبل ان يتوجه على الحادثة أو الواقعة، وعلى مادتها وصفتها. ويترتب على هذا الطعن في جواز شهادة الأهل. فإلى تقرير الطبيب "الشرعي" و "المكلف" – على معنى التكليف الخميني، وحمله الشاهد والقاتل المفترض (في قضية الطيار الحربي اللبناني سامر حنا) على حجب شهادته عن المحقق "الكافر" أو غير العدل – أسرع رئيس "الدولة" إلى دعوة أهل القتيل الى "استقبالهم". وخرج الأهل المكلومون بكماً. وهم لم ينفوا تقرير "الخبير"
إبطال الاعلام
ويعمم الجهاز البيروقراطي الأمني والعصبي (المذهبي والأهلي) رابعاً، صيغة إبطال الشاهد الثالث على الإعلام كله، مرئيَّه ومسموعه ومكتوبه وإلكترونيه. فالاحتكام الى افتراض مثل هذا الشاهد، أو المصدر، يقيد صدق المصدر الجهازي. وهذه إما ان تكون مطابقة أو تتهاوى. وإخراج عيون الإعلام الأجنبي، وآلات رصده وإخباره وبثه، من الأراضي السورية حال حصول الحادثة السياسية المفاجئة والداهمة، وتعطيل شبكات الاتصال وتعمّد التعطيل أيام الخميس (قبل الصلاة الجامعة في المساجد) والجمعة والسبت، هذه كلها وسائل إبطال الشاهد الثالث أو الشهود الثالثون. وهذه كلها عطلها اعلام الطوارئ قبل نصف قرن. والشهود الثالثون هم "المصادر المستقلة" التي يستقوي بها الإعلام، وتقوم بها حرية الإعلام والرأي والاعتقاد، واستطراداً حرية الانتداء والاجتماع والانتقال. وهم، الشهود الثالثون، الكثرة التي تقوم بها الوقائع، ويبلغ من طريقها الإجماع على حقيقة هذه الوقائع و "موضوعيتها". وإذا امتنع الإجماع، وهو غالباً ما يمتنع، استقر الاحتكام الى معيار أو نهج تُطلب الموضوعية من جهته، وبواسطة تحكيمه. ويحارب الجهاز البيروقراطي والعصبي هذا المعيار حرباً شرسة. وهو يفضل نقض معايير الاستدلال كلها، وتبديد فكرة حقيقة ما، ولو كانت "حقيقته"على الإقرار بالكثرة وشهودها (و "عملية" لمياء شكور قرينة بليغة).
الحرب الاهلية في الخبر
فينبغي، في سبيل عموم الشبهة والشك، رمي حرية الإعلام والانتقال والتقصي كلها بالانحياز والميل والتخريب. ويدعو هذا، خامساً، الى بث الحرب الأهلية العامة في الإعلام والرأي، وحملهما عليها. وهذا ملحق "صناعي" وبيروقراطي من ملحقات إرساء الحرب الأهلية "الجديدة"، المذهبية الدينية والقومية والبلدية والثقافية والإقليمية، على منظمات شعبية وجماهيرية مؤطرة ومتماسكة. ويختلف الطور الجديد من الحروب الداخلية، على المثال البعثي العراقي الصدامي ثم السوري الأسدي، والخميني الإيراني فالفلسطيني واللبناني المعرَّبين من بعد، اختلافاً عميقاً عن المنازعات التقليدية المحلية، والمنافسة الظرفية والرخوة على الموارد و "الامتيازات" على مثالها اللبناني المنصرم والآنف. والعامل الجديد الحاسم هو تكتيل الجماعات الأهلية المتفرقة والمشرذمة في أجسام منظمة ومؤطرة تستند الى بيروقراطية تعبوية متماسكة ومركزية، أمنية وعسكرية وإيديولوجية و"اقتصادية" توزيعية. فإما أن تنشأ دولة أهلية موازية، على المثال الحزب اللهي تصدع وحدة الدولة الوطنية الاقليمية والقانونية والادارية، وتقسِّمها إقطاعات تقطعها مواليها، وتخرطها في كتلة محلية وإقليمية مرصوصة. وإما ان تنسلخ بطانةُ دولة ظلٍ تستدخل الدولة الوطنية القائمة، وتتسلط على هيئاتها وعلى أبنية المجتمع، وتحارب العصبية المستولية المجتمع وجماعاته بأجهزة الدولة المستدخلة هذه، على المثال الأسدي والخميني والفتحاوي والحماسي اليوم، والصدامي بالأمس.
أعراس اعلامية
ولعل الأعوام العشر الأخيرة، و"إنجازاتها" الإعلامية وحروب تضليلها الشرق أوسطية (من نيويورك الى أبو غريب ومن رصيف السان جورج ببيروت الى الاغتيالات المتصلة وقضايا التحقيق فيها)، شاهد على علاقة الحروب الأهلية والإقليمية المتناسلة والمتجددة بصروح الإعلام المتمايلة والمترجحة وبتشييدها وإعمالها والنواح على خسارتها. وتنزل السياسة الأسدية محل القلب من الحروب الأهلية الإقليمية، ومن حروب الإعلام، معاً. فمن حرب العراق، وفروعها الأهلية والإرهابية والإقليمية، والقرار 1559 واغتيال رفيق الحريري وذيوله الإجرامية والقضائية المتمادية الى اليوم، إلى انفجار الخلاف على النووي الإيراني وحرب صيف 2006 بين الجماعة الخمينية المسلحة وإسرائيل وقصف إسرائيل نواة المفاعل النووي السوري في خريف 2007، فحرب "حماس" وإسرائيل في 2008 – 2009 و "حرب" حصار غزة في حزيران 2009 – من تلك الى هذه اضطلع الإعلام المصور والدعاوي (دعاوة + دعاية) بدور راجح في اختلاق "الشارع" وإثارته وتجنيده تحت راية قضايا مشهدية ومبتورة، وتحت ألوية أصحاب قضايا يقودون جمهورهم الى التخبط والاستنزاف. واضطلع بدور لا يقل قوة في ولادة الحركات الوطنية المدنية. ولعل هذا الدور هو السبب في انتخاب الاغتيالات في لبنان منذ صيف 2004، عدداً من الاعلاميين وأهل العلانية هدفاً.
وكان لبنان واللبنانيون ساحة "مميزة" للعب الإقليمي. ونجم عن هذا اختصاصه بمسلسل إعلامي نازف تنقل بين المسؤولية عن اغتيال رفيق الحريري وتحقيقات المحققين الدوليين وإنشاء المحكمة الدولية وتقاريرها والشهود والمتهومين المفترضين والقتلة الحقيقيين والمتخفين. وفي الأعراس التلفزيونية والفضائية كان على الدوام للسياسة السورية وأعوانها وروافدها ووكلائها أقراص، وليس قرص واحد في العرس. وبعض الأعوان والوكلاء انقلب مشخصاً تلفزيونياً تتخاطفه برامج المحاورات "السياسية" الضاحكة والهازلة. فعرّج الرئيس السوري في خطبته اللبنانية الاولى شتاء 2005 على تناول آلات التصوير التظاهرات تقريباً وتبعيداً ("زوم إن" و"زوم آوت"). وسما جوهر ميشال عون و "إصلاحه وتغييره" في وقفة أسبوعية إعلامية، متلفزة و "لطيفة"، حولت كيمياؤها الهزل والسُفْهَ ذهباً سياسياً صافياً. وأما أمير أمراء الحرب على العناكب الغربية الواهية والمتداعية، عشية الرجعة و"الفرج" فتكشف عن رفيق مكاشفات وسمير أسمار عشايا في ملعب الراية، الحسن التسمية، لا يبارى. فليلة مكاشفاته وأسماره لا يغمض للمجاهدين وصحبهم جفنٌ، على قول ملتزم سهرٍ وسمرٍ آخرين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق