الأربعاء، 1 يونيو 2011

"حرائق" وجدي معوض... مسرحية وفيلماً: التوأمة الرحمية باعث على عنف يلجمه التعاهد

المستقبل - الاحد 8 أيار 2011


قد لا يحتاج تقريب "حرائق" عمل وجدي معوض المسرحي (2003) فالسينمائي (2010 اخراج دوني فيلنوف، وتعرضه صالة ميتروبوليس ببيروت منذ نحو شهرين) من المسرح اليوناني القديم ومآسيه وفواجعه المتعاقبة الحلقات ادراج الكاتب اللبناني الكندي نفسه "حرائق" في رباعية كان كتب منها، قبل عمله هذا، "ساحل" (1997)، وأوشك على كتابة الجزء الثاني والثالث "سموات"، على ما روى وأخبر في توطئة الى عمله المطبوع (نشر ليمياك، اكت سود- بابييه، 2003-2008، مونريال وفرنسا). وهو وسم التوطئة بـ"عزاء صارم". ولا يقع القارئ المتصفح على "سموات" المزمعة في لائحة أعمال الكاتب المسرحية المطبوعة. ولكنه يقع على اعمال تالية زمناً، مثل "ويلي بروتاغوراس في المرحاض مسجوناً" (2004) و"غابات" (2006) و"عطاشى" (2007). وكلها نشرتها دارا النشر الكندية والفرنسية في الاعوام المدونة.
ووسم العمل التالي، او الجزء الثالث (؟)، بميسم أوسع الفلاسفة السفسطائيين اليونان شهرة، بروتاغوراس (وهو اسم على محاورة من محاورات افلاطون السياسية والخطابية الكبيرة)، يحمل على التقريب الشكلي والصوري هذا، على رغم الحال الساخرة، السجن في المرحاض، التي يتناول عليها العنوان ُالفيلسوفَ السفسطائي والديموقراطي اليوناني. والحق أن الاشارات والتوريات اللفظية، وترجحها بين وجه المأساة وأقنعتها الصارمة وبين أوضاع أو أحوال يومية وبدنية وحيوانية، تدعو القارئ والمشاهد من بعد الى توقع ترجح وازدواج لا يقتصران على ألفاظ العناوين، وتورياتها وكناياتها واضدادها. وحين يفاتح الكاتب المسرحي قارئه، قبل مباشرة المسرحية والمحاورة والتشخيص، بمناط عمله، وهو التفكير في الاصل والمصدر والمنشأ والتكوين، انما يدعوه تلميحاً الى انتظار مزيج لا تتخلص مواده الاولى وخيوطه من أقدار ومصائر مستغلقة وسابقة، ومن دواعٍ وبواعث تتصور معانيها في الانفس والعقول ولكنها لا تشفي غليل الاسئلة أو السؤالات على قول سعيد عقل، "الصارمة"، وتتركها معلقة الى وقت أو حين.
وحين يرضخ معظم الناس، كتاباً وفنانين و"عواماً"، غداة الحروب العاصفة، الاهلية والخارجية، الى تناول حروبهم الممضة والمريرة على وجه الدواعي والبواعث والمعاني النفسانية والمعقولة، وهو الشق الثاني من المزيج، يقتفي وجدي معوض، وَجِلاً وهيَّاباً ومعتذراً، خطى السلف اليوناني والتوراتي الكبير. فيسأل عن "الدم" الذين يتوارثه في عروقهم المولودون من الحب والاشتهاء، ومن ضغائن أهلهم وأمهاتهم، معاً. ويقتص آثار الاسماء والالقاب والعلامات، المحفوظة والمهملة، في المصائر والاحوال، المقسومة والمختارة. وينسب الشر، في صيغة تتعالى على الجمع والآحاد (الشرور والمظالم)، نسباً منقطعاً ومرفوعاً، على قول أصحاب الحديث، الى أصل من غير ابتداء. ويحتج لزعمه بـ"وعد"يلتزمه أصحابه، وتورثه الامهات أولادهن أو بناتهن على وجه الخصوص. ويشهد على الوعد والوصايا أهل القانون (الكاتب العدل) في قلب فوضى عظيمة تصيب الولادات والمواريث، وتخلط الدماء والارحام خلطاً ذريعاً.
ولكن حمل المأساة، ومعانيها الآبدة، على وجه الجد، اليوم وفي عصرنا أي منذ القرن السادس عشر أو السابع عشر على التقريب، يلقي بصاحبه المتزمت المقلد والسلفي، في كوميديا المساخر. فيحاكي محاكاة مصطنعة وآلية سِمْتَ ما يحاكيه وظاهره، ويكشف عن ازدواج الروح والجسم حيث كانت المُسكة البديعة آية العبارة ومجلاها، على ما يصنع أهل السلف كل يوم في داوئر الدين والدنيا. ولا يبلغ الكاتب اليوم من المأساة اذا هو غفل عما غفل عنه الابله في "زرادشت"، ومضى على حسبانه ان الآلهة لا تزال تقيم بين البشر وفي ظهرانيهم، لا يبلغ إلا ما يبلغه مجددو شعراء العربية المعاصرون من "الشعرية"، على قول بعض أعلامهم وببغاواتهم العالمة. وهو، في معظمه، مضحك ضحكاً آلياً وتلفزيونياً مضجراً. ولا يشفع له تقنعه بأقنعة "القضايا" الكبيرة، والهموم الثقيلة والمصيرية، وتذرعه بها الى التستر على أساطير ومنافع ومراتب عصبية وبائدة.
الشعيرة والبذاءة
فعمد وجدي معوض، في سبيل تبديد شهية المأساة الساذجة والخطابية، الى حبكة بوليسية وقصصية، أو خبرية، أوكل اليها النهوض بعبء السعي في اقتفاء الاصل، والتحري والاستخبار عنه. فلم يوقف على باب مدينة طيبة التنينَ، أو أبا الهول المصري، وسؤالها الملغز والمستغلق عن "الانسان" على قول الفيلسوف الالماني الاشهر (من الكائن الذي يحبو صباحاً على أربع قوائم ويمشي ظهراً على اثنتين...؟)- ولم يَجْزِ العجز عن الاجابة بالقتل. ولم ينشر الطاعون والموت في طيبة نفسها غداة نحو عقد ونصف العقد على قدوم أوديب ذي القَدم الملتوية المفصل، وحله لغز التنين، ورفعه الحصار والقتل عن المدينة، ودخوله اليها وبملكتها، أمه، من غير أن يعلم. والدخول بالملكة هو جائزة المنقذ العتيد.
ولكن كاتب المسرحية، وهو خلَّف وراءه فتىً طاعون حروب الاهل العربية المتناسلة ومسرحَها اللبناني الاثير والمزمن وسافر مع أهله المهاجرين الى فرنسا فكندا، استعاد معظم وقائع الخبر اليوناني. فاستهل خبره بلغز هو وصية الام الراحلة، نوال مروان، الى ولديها التوأمين جانْ (حنة، مؤنث حنا، جانْ التي تلفظ في الفرنسية من غير التلفظ بالالف والنون) وسيمون، سمعان، مروان. وشهرة الولدين هي شهرة الام، على ما ينادى الناس يوم الحشر ستراً لعيوبهم، بحسب حديث نبوي متناقل.
واللغز الامومي، على شاكلة مسألة التنين المميتة بباب المدينة اليونانية المولودة من هرب أوروبا وقدموس الصوريين الى جزر اليونان، موضوع على الولادة والنسب والهوية. فالأم تسأل ولديها، على معنيي المناشدة والاستفهام، البحث عمن يكونان: أبنا من أنتما؟ ومن يكون أخوكما؟
وإذا وقع القارئ على "نقد" تناول الفيلم الذي صنعه المخرج الكندي مع كاتب المسرحية، وفيه أن "البنية السردية... تجنح الى مطب الاستشراق" (سمير يوسف في "الاخبار" البيروتية، 24 كانون الثاني 2011)، أيقن ان البصيرة السعيدية، نسبة الى الكاتب الفلسطيني الاميركي، أعمت التلاميذ والمريدين والانصار، على نحو ما أعمت "الاستاذ" عن ادراك بدائه الوقائع الاصيلة والذاتية. فالسؤال عن النسب هو السؤال "العربي" الاول: من أي القوم أنت؟ وإذا عُلم من موقع الواحد في ميدان الحرب من هم قومه، والحرب "الاهلية" هي مدخل "الثقافة" العربية الاول الى تعريف الهوية، سُئل: "من أخوالك؟" على ما سأل المهلهلَ، أخا كليب، بعض المنتصرين لقاتله. ويوجز زياد عبدالله، في عدد لاحق من "الاخبار" نفسها، "المعنى العام للحرب الاهلية في الشرق الاوسط" ايجازاً جامعاً ومانعاً: "قتل المسيحيين للمسلمين" على ما يكتب غير مستهول نكران الوقائع والتعامي القومي الاسلامي والاستخباري او المخابراتي عنها، قبل أن يستدرك على مضض "... والعكس أيضاً". وعلى شرط التنديد بالـ"قالب الاختزال التبسيطي (الذي) تضيع فيه الفروق بين خطاب الجلاد (المسيحي) وخطاب الضحية (المسلم)". وهو (التنديد) دأب السعيديين وديدن حرفتهم ذات الريوع.
وتستودع المسرحية، شأن الشريط السينمائي، السؤال الباعث على التقصي وسيطاً لا حول له ولا طول، على خلاف التنين المميتة، هو كاتب العدل الكندي هيرميل لوبيل. واختار الكاتب المسرحي كاتب عدل أي (لغة) كاتب عدل من مسرح البولفار الهازل والبورجوازي الصغير او العائلي، وعلى مثاله، المخرج السينمائي ممثلاً ممتلئ الخدين والاوداج، يتدافع الكلام الثرثار وهو يخرج من فمه وعينيه وجسمه كله. ويتعمد تحريف الجمل الجاهزة والسائرة تحريفاً ساخراً ينم، في الوقت نفسه، بإرادته استدراج الاعجاب والتواطؤ الرخيصين. وكاتب العدل الهازل والبدين هو وسيط ارادة الام الاخيرة، ورغبتها الى ولديها في التقصي غير المأمون العواقب على المقتصيين الفتيين. والوصية التي يقرأها رجل القانون المدوِّن على الشابين تشبه الاحاجي في شقيها: الشق الموجب التقصي النسبي، والشق "الجزائي"، اذا جاز القول. فالمرأة المتوفاة عن 65 عاماً تطلب الى التوأمين، والى كاتب العدل الذي عملت في مكتبه أعواماً طويلة من غير أن يعلم منها وعنها غير اسمها "مدام نوال"، دفنها عارية من غير نعش ولا ثياب ولا قشرة ولا صلاة، وجهها الى التراب، ومن غير شاهد ولا اسم. وذلك الى أن تبلغ الرسالتان، واحدة الى والد التوأمين والاخرى الى أخيهما الشقيق، "غايتهما" أو مقصدهما (ونص المسرحية المكتوب يهجئ الغاية أو المقصد في صيغة المفرد، ويطرح علامة الاثنين أو الجمع، هذا ما لا تؤديه المشافهة، مسرحاً او سينما). فإذا بلغت الرسالتان مقصدهما أو مقصديهما، على ما يفترض السامع، وهتك السر وأنجز الوعد، أجازت الام، من وراء القبر، نصب شاهد على قبرها وحفر اسمها في حجر الشاهد، على ملأ "الشمس" ونورها.
المأساة في الرواية البوليسية
فتوسع الارادة الشعائرية الآبدة والموروثة من الجدة، والدة الام، وهذه ورثتها من والدتها على رسم الاصلاب (والغضب) الامومي الذي يؤرخ به معوض الاهدني المولد و"الدم" (على قوله في اهدائه عمله) الاجيال وتعاقبها وانقلابها- توسع بعدَ الشقة بين وجهي الترجح والمزيج اللذين تقدم الكلام فيهما (الاقدار والمصائر المستغلقة من وجه، والمعاني والبواعث المتصورة في الانفس والعقول، من وجه آخر). ويرد الفتى سيمون مروان، الملاكم الهاوي والمتدرب، على وصية الام الشعائرية، والمهيبة مهابة ما لا يطويه التقادم، بشتائم نابية وبذيئة:" "القحبة!"، "بنت الكلبة"، وغيرها أشد نبواً وبذاءة وصدوراً عن زعرنة يونانية. وتجهر الشتائم انتساب الولد الى عصره ووقته، على نحو ما تجهر مقدمة كاتب العدل في زحمة السير ورصف الطريق والاعلانات والإيجار ومكيف الهواء وجمله النمطية المحورة، آيات العصر والوقت.
ويفترق كاتب العدل والابن، على رغم انتسابهما المشترك الى حاضر "وضيع" الهموم والمشاغل، في حملهما وصية الام على معنين مختلفين. فعلى حين لا يرى الولد الفتى ما يلزمه في وصية الميتة، ويدعوه الى التمسك بشعائرها الغريبة والموروثة من "عرق" ملعون، على قوله، يقر كاتب العدل ورجل القانون للوصية بقوة إنفاذ يحتار في العبارة عنها، وفي ابلاغها. فيقول تارة أن الوصية يُعمل بها من غير تعليل ولا تسويغ، شأن أعمال ووثائق كتابة العدل الاخرى. ويقول تارة أخرى أن سكرتيرته السابقة، "مدام نوال"، كانت محل ثقته ومحبته، وكان هو محل ثقتها ومودتها. ويرد هيرميل لوبيل على غضب الشاب العاصف، وعلى انقياد البنت، بالتردد والترجح بين الامتثال لقوة القانون والعَقد التلقائية وبين التلويح بسلطان الصداقة والمحبة. والامران، قوة القانون موجب الصداقة، صورتان عن المزيج الذي صدرت عنه المسرحية، وصدر عنه بنيانها. فالقانون يتعالي عن الدواعي النفسانية والذاتية، ويُلزم بما لا تعليل له في المنطق والعقل المجردين من متعلقات الاعراف والمعتقدات والتقاليد المشتركة. والصداقة باعث نفساني وذاتي يرتضيه الصديق(ة) أو يتملل منه على هواه ومشيئته، وقوته من هوى صاحبه أو صاحبته.
والقسمة المركبة هذه، الناجمة عن مزيج المأساة والرواية البوليسية و"إقحام" الاولى في الثانية على قول ذائع في إحدى روايات وليم فوكنر الاميركي، هي شرط المسرحية الاول وركنها. فلولاهما لكانت المسرحية، والفيلم من بعد، قَصَصاً يشبه وعظ القُصّاص وأمثالهم الاخلاقية والادبية. أو لكانت سهرة سمر يحلو فيها التخفف من التبعة عن "الهزيمة" المشتركة وإلقاؤها على عاتق استشراق كوني وكلي يُنصب باباً من أبواب "التوجه على الكون" أو الكينة (الحال) الانسانية. وهما القصص وسهرة السمر الفصلان اللذان يكادان يستغرقان المثالات العربية الثقافية التاريخية والسياسية. ولعل السبب في ما يشبه الوجوم الذي استقبل به الجمهور (اللبناني؟ "العربي"؟) فيلم "حرائق"، وما يشبه الخجل الذي يبعثه وجدي معوض وأعماله في الجمهور نفسه وطبوله وأبواقه الدعائية، لعل السبب في الوجوم والخجل هو خروج بعض عمل معوض من الفصلين هذين، وعليهما. والحق أن خروجه ليس متماسكاً.
فهو يريد حمل المأساة، وأثقالها وأقدارها وليلها وصبحها (مجازاً وحقيقة)، على الحوادث اليومية العادية والطبائع الانسانية المتداعية. ولكنه يستسلم لغرق نوال مروان في صمت ثقيل وصفيق جمعه أو دوَّنه ممرض المستشفى الذي حلت عليه نوال ضيفة في أشرطة مسجلة ويقرب هذا من الكناية المشبعة والجامدة. أو هو يسترسل في كلام متدافع يزعم رواية المقاتل وهولها ولا يلبث أن يستعير صور الهول من روايات سابقة مثل رواية "اختيار" الام من تريد استبقاءه من ولديها أو أولادها حياً، ومن تتخلى عنه الى القاتل. وفي الفقرة 25، أطول فقرات المسرحية وأكثرها كلاماً، تروي سودا على مسمع نوال مقتلة "الميليشيا" في مخيم "اللاجئين". و"ترد" نوال على الرواية بالدعوة الى "التفكير"، وبوعد اغتيال قائد "الميليشيا"، معاً (وحذف المخرج "المشهد" على نحو ما حذف مشاهد الاشرطة المسجلة، ربما استثقالاً وربما مجاراة لداعي معالجة سينمائية أقل كلاماً). ولا تتخلص محاولة شبك نوال بسودا، ظل نوال وتلميذتها ومعلمتها الغناء ولاجئة المخيم وصديقة وهب اللاجئ وعشيق نوال الذي أولدها طفل الحب المنقلب قناصاً قاتلاً، وشبك سودا بنوال، لا تتخلص من أداء بلاغي، مجازي وتمثيلي، على رغم قوة التوأمة على المسرحة.
التوائم
والتوأمة، على وجوهها، تكاد تكون لازمة "حرائق": جيهان (الجدة) وإلهام (القابلة)، وهب (العشيق) ونهاد (السجان المغتصب)، سيمون وجان، نوال وسودا، كاتب العدل الكندي وزميله المحلي، الميليشيا والمخيم، حريق البوسطة واجتياح المخيم، الجنوب والشمال، الوطن والمهجر، الميتم والمعتقل... والتوأم، شخصاً او جماعة او مكاناً أو حادثة، هو القريب الذي يتهدد قربُه أو شَبَهُه الواحدَ (الآخر أو الغير أو التوأم) بالموت أو بالنفي. فإذا كان الاثنان (التوأمان) واحداً على ما يقول سيمون لجانْ، ولم يفترقا الفرق الذي يثبتهما على اختلافهما ويترتب على جمعهما (في) اثنين على ما يفترض وينبغي، نزعا الى العنف نازعاً لا راد له. فالواحد المجتمع من اثنين يستوي واحداً من طريق النفي، نفي واحدهما الآخر أو نفي نفسه وذوبانه في قرينه. وإذا أقاما على فرقهما، على رغم شبههما وأسوتهما أو مساواتهما، لم يأمنا المنافسة والرغبة في التقاسم والاقتتال.
وعناوين أجزاء المسرحية الاربعة الكبيرة أو العريضة "حريق نوال" و"حريق الطفولة" و"حريق جنان" (وهي جانْ)، و"حريق سروان" (وهو سيمون)، والجزء منها يحتوي على فقرات يترجح عددها بين 11 و9 و10 و7 على مثال حسابي قَبَّالي بعض الشيء- تكني عن الخروج من التوأمة الطفلية والاصلية الى فرادة لا تقتصر على الواحد أو الاحدية. وطريق الخروج هي التقصي عن النفس والاصل، وتعقب الآثار، والاخبار وراء الصمت والخرس المدميين. ولا يقود التقصي والتعقب، على خلاف الاسطورة النَّسبَبية العربية ومثالها العبري المطوي، الى ركن صلب وآمن. فحُمكهما هو حكم رياضيات الفوضى، على زعم جانْ، أستاذة هذا الضرب من الرياضيات (أو مساعدة استاذه). والقول أن التقصي والتعقب لا يقران على ابتداء أول وراسخ ليس معناه أنهما رمي في عماية أو خبط عشواء. فهما يرسمان خرائط طرق الانتقال والسفر والاقامة والهرب واللجوء، ومراحلها ومحطاتها. وتقتفي المسرحية الطرق والمراحل من المحطات على وجه محدث و"عصري"، إليزابيثي وشيكسبيري، أي غير "يوناني" ولا مقيد بالاجراء القضائي وإلزامه العمل المسرحي بـ"وحدة الزمان" و"وحدة المكان". فتُعاقِب الفقرة الواحدة بين أوقات وحوادث يحول اختلافها وتفرقها دون القرار على معنى ثابت وماثل ومثل هذا المعنى لا يمكن إلا أن ينحو نحواً خطابياً مدلساً ومتستراً على خطابته وتدليسه.
ويُسلم التقصي والتعقب الناس الى حمل الاخبار والآثار، والى تراويها والتحديث بها، وغالباً الى تأويلها وتعليلها ومقارنة متفرقها ونثرها. فيقود صاحب الخبر أو المحدث الى آخر قبله أو بعده. وعلى هذا المثال، في الفقرة 28 الموسومة بـ"الاسماء الحقيقية"، يقود عبد الصمد، اللاجئ في مخيم الشمال، خطى جانْ الى معتقل كفار ريّات، حيث سجنت الام نوال مروان وعذبت وحملت توأمين ووضعتهما. وفي كفار ريّات يسلمها منصور، دليل السجن الذي دلها اليه عبد الصمد، إلى فهيم، ناطور مدرسة كفار ريّات وميتمها، حيث كان يرسل ربما اللقطاء المولودون في المعتقل. ودلها فهيم الى راعي الجوار القريب من القرية، أو أحد الرعاة. والراعي، الخارج لتوه من "أوديبوس ملكاً" (أو طاغيةً) وجد ربما بعض الاولاد الذي كان السجن يرمي بهم بعد ولادتهم، وقد يعلم ما حصل لهم. وهذا الراعي أرسل جانْ الى مزارع اسمه عبد الملك هو محاور جانْ في الفقرة. وهو ربما مربي الولدين التوأمين اللذين لم يشأ الراعي تركهما للذئاب، فأوكل بهما المزارع. ويحتمل المزارع اسمين: عبد الملك أو مَلَك (والاسم الثاني كناية توحيدية ترقى من الملاك الذي شق صدر الراعي محمد بن عبدالله ووضع فيه قلباً نبوياً، الى الرعاية التي أخرجت مريم بنت عمران بمولودها الى مصر فأنقذته من مقتلة الأبرياء، الى ترك موسى في عهدة المهد والنهر وبنت فرعون وبمنأى من قتلة فرعون).
وإذا سأل عبد الملك البنت المستفهمة عمن دعاها الى قصد عبد الصمد أجابته:" على هذا المنوال، ننتهي الى يوم مولدي". وكان سيمون، على الهاتف بكندا، رد في الفقرة السابقة على أخته، وهي تبلغه ما آل اليه تقصيها آثار ولدي أمها، بالقول:" لا أريد أن أعرف! لا، لا شأن لي بتاريخها! أنا أعرف من أنا اليوم، وهذا يكفيني!". فالاستدلال على "التاريخ" يُخرج الواحد (والواحدة) من نفسه، ومن اقتصاره على نفسه، ويعقد بين الغير عقداً أو عهداً يتردد بين حدي الصدق والكَذب، ويحتملهما معاً. والعقد أو العهد هو ما يكسر المتعاقدان أو المتعاهدان به سر التوأمة، وما يقرّان به، من وجه آخر ملازم، بعلاقة تربط واحدهما بالآخر تحتمل العنف من غير شك، ولكنها تحتمل كذلك التعلم، وهو ما تنصح به الجدة نوال، وعلى ما تصنع نوال مع سودا، في فقرة توراتية وقرآنية، وتصنع سودا مع نوال (فتعلمها الغناء، وتوحي "المغنية" أو "المنشدة" للسجان، أبو طارق، بالغناء). وتحتمل العلاقة، كذلك، على مثال وعد نوال سودا بالاقتصاص من مقتلة المخيم، ووعدها بإنجاز تعليمها وإخراجها من لوثة القصاص والثأر.
فيجمع الكاتب، على نحو يتعثر بالنازع النبوي تارة وينهض من عثرته تارة أخرى من طريق البولفار اليومي والمعاصر، في سياقة متضافرة ومشتركة، الخروج من التوأمة، ومن أدوارها المغلقة والمدمرة، وسكوتها المترع بالضغينة والقتل، الى عقد الكثرة وعهدها ووعدها وحلقاتها وتقصيها رواياتها يجمع الكاتب هذا الى انشائه مسرحيته وروايته ومحاوراته وبنائها البناء المتقطع والمتجدد الذي انتهى اليه. فالسعي الذي يفرق التوائم، ويقر رابطتها على عهد، هو نفسه ما يعقد بين وجدي معوض وبين مشاهدي مسرحيته أو قارئيها، ويدعوهم إلى المشاهدة أو القراءة.

ليست هناك تعليقات: