الأحد، 22 فبراير 2015

في ضوء النيران التي التهمت معاذ الكساسبة... التمثيلُ والتعذيب فوقَ القتل عَرَضُ حروب الأهل والعصابات



المستقبل، 22/2/2015 

روَّعنا قتلُ هيئة الموت الشرعية في الدولة الاسلامية الملازمَ الاول الطيار معاذ الكساسبة، في الاسبوع الثاني من شباط- وسمَّى الاعلام القتل إعداماً، على شاكلة إنفاذ الحكم القضائي بالموت رمياً بالرصاص أو شنقاً أو حتى بالسيف-، نحن المشاهدين «العرب»، وأخذنا على غرة منا ومن «اعتيادنا» مشاهد القتل الكثيرة والمروعة. فنحن ربما حسبنا أن أشرطة الفيديو الكثيرة التي بثتها المنظمات أو الشلل الاسلامية والصدامية التي تعاقبت على تحرير العراق من القوات الاميركية والحليفة، غداة الغزو العسكري في ربيع 2003، وصورت وقائع الذبح «الحي» من غير تزويق ولا مداراة حساسيات أو تستر على ما لا ينبغي لمن بلغوا سن العاشرة أو الـ12 أو الـ15 أن يروه، أثمرت (الاشرطة) بعض الحصانة من الارتماء في الروع، ومن الاستسلام لهزَّة المشاعر والاحاسيس.

فإعمال القتل والتعذيب والتمثيل في سبيل الترويع، وعلى شاكلةٍ تُعظِّم القصاص وصاحبَه، أي من يوقعه ويأمر به، (هذا الإعمال) ليس في المرتبة الاولى من خصائص الجماعات الدينية على رغم توسل محاكم دينية وشرعية تارة بالتحريق المشهود في الساحات العامة جزاء أفكار ومعتقدات، وتارة أخرى بالصلب على بوابات المدن وتعليق الرؤوس على الاسوار، ثأراً من إعلان حرب أو خروج على السلطان، وتارة ثالثة بالخوزقة التي تنتهك الأحشاء والغدد والفقرات. فعصابات المخدرات، ومافياتها المختصة، يقتل بعضها بعضاً على صور رهبة تفوق رهبتها وإرهابها الصور الجهادية. وحين تنتقم هذه العصابات ممن خاصموها لدى الدولة، فاشتكوا الى القضاء او الشرطة، أو تجازي من أفسدوا عليها تهريباً رابحاً، أو نافسوها على استغلال مرفق، أو ضلعوا في صفقة جانبية واحتفظوا بعائدها لأنفسهم، إلخ.، تعقبت هؤلاء، وأعملت فيهم فنون القتل والتعذيب، ومثلت في جثثهم تمثيلاً مُعْلَماً ليكون في مستطاع من يعثرون عليها قراءة العلامات و»إنتاجها» وسيروراتها من غير جهد ولا تأويل. فالحرفية ليست وقفاً على الفقه.

فمن تقطيع الاوصال بالمناشير، وسلخ فروة الرأس وجلد الوجه، وكسر الجمجمة بالمقدح الآلي، وتكحيل العينين وإخراجهما من حدقتيهما- إلى انتزاع الأحشاء من الجسم ولفه بالمصرانين، وإلقام الفم الأذنين المصلومتين والانف المجدوع والذكر والخصيتين، وتكسير الضلوع وفك فقرات العمود الفقري- يُشهَد خصوم عصابات الجريمة وجمهورها على فظاعات مبتكرة ومتجددة لا إلى غاية أو حد. وإذا أرادت العصابات هذه قتل «مدنيٍّ» لا شأن له بأعمالها أو بالمنظمات المتنافسة، أغلقت عليه (أو عليها) أبواب سيارته، ورمت ناراً داخل السيارة، وأشهدت الجمهور على عذابات نزع المختنق، وأطوار النزع، على ما وصف روبيرتو سافيانو في كتابيه «عمورة» (وليس «غومورا») و»(كوكايين) اكسترا نظيفة».

وأفعال عصابات الجريمة و»الجهاد» المعاصرة تجدد وتعظم فظاعات الحروب الاهلية والدينية القديمة و»الحديثة»، بحسب تعاقب الحقبات المدرسي والتقليدي، وتبعث بأدواتٍ وتقنيات «متطورة» أساليب الاقتصاص الملكية. وفنون التقتيل والتمثيل العصبية و»الجهادية» تشتركُ في قاسم واحد هو حملها قتيلها على صورة عن جماعة العدو أو قبيله. فقتله او تعذيبه إنما يقوم مقام أو محل قتل (ناس) الجماعة كلهم أو تعذيبهم جميعاً. ويقتضي قتل الناس جميعاً باسم إعلاء كلمة الحق وسلطانه، أو في سبيل أن يكون السلطان لصاحبه الشرعي، أو لأجل الانفراد بعوائد مرفق ثمين، رفعَ المحظورات المتعارفة والمحظورة. فحال الحرب أو الطوارئ تحيل حكماً الى أحكام عرفية، على ما خبرت المجتمعات العربية والاسلامية وتخبر منذ ثلاثة أربع القرن على أضعف تقدير. وحين تتولى الجماعات العصبية، الأهلية أو العشائرية أو المذهبية، السلطان على «الدول» وعلى المجتمعات، تنقلب أحكام الطوارئ حروباً أهلية (وليس حرباً واحدة) مقنَّعة أو سافرة لا تحصى عدداً ولا وجوهاً ومضامين. وترتسم الإبادة، أو التمثيل عليها وتجزيئها، أفقاً في متناول نظر المتقاتلين وخيالاتهم، وغير مستحيل البلوغ.

ويزعم بعض مؤرخي العنف والحرب (الأوروبيين، فمثل هذه السخافات لا تشغل غيرهم من الأمم الوسط أو الوسطية والمهدية) أن العنف يميل الى الانحسار مع نازع المجتمعات الى إضعاف روابطها أو لحماتها الجمعية والعصبية وتقديم علاقاتها الفردية والخاصة، أو الخصوصية. ويفاقم العنفَ ويعظمه سعي الجماعات المتصدعة أي تلك التي أعملت فيها عوامل الحداثة الرأسمالية والليبرالية (والاشتراكية «الفعلية») التصديع، وحطمت أبنيتها المرتبية والجمعية العصبية- في إحياء روابطها ولحماتها الممزقة والمتخرِّقة، ومسرحتها مشهداً مادياً. وذلك من طريق سلطات الدولة «العامة» وآلات عنفها المفترضة مشروعة. فلا سبيل الى إحياء الرميم والتماسك العصبيين، وهو رميم على رغم انبعاث الروابط العشائرية والاهلية وخروجها الى العلانية الحربية والاجتماعية، إلا من طريق الحروب الاهلية و»برامج» الجماعات، وتسليحها وتمويلها والتحاقها بعرابين إقليميين ودوليين. فـ»مجتمع الحرب» (أو «مجتمع المقاومة») الذي أرهصت به حركات التحرر من الاستعمار والاستيطان والدولة، وبلورة آية الله الخميني حرساً ثورياً (باسدران) وقوات متطوعين (باسيج) وحزباً أمة ودولة من غير تعريف ولا فواصل، لم يبق استثناءً ولا محصوراً في دوائر أو مسارح دون غيرها. فتسلل الى الخلايا والانسجة سرطاناً صارخاً ومظفراً ليست «الدولة» البغدادية أو «الأمة العالمة» إلا من ثمراته اليانعة والمترقرقة بين العمائم واللحى.

ولكن تواتر مشاهد التقتيل، والتفظيع في الضحايا والذبائح، لم يجعل الموت «لنا عادة»، على خلاف توقع روح الله خميني المتفائل حين خاطب العراقيين والخليجيين (وهو يحسب أنه يخاطب الاميركيين) ودعاهم جميعاً الى قتل مشايعي أهل البيت «أكثر»، وهو على يقين ان «الوعي» يولد من القتل. والحق أن القاتل، بعد ركونه الى بعض الكسل والرتابة حين قدم ذبائحه الى القتل بجز الرؤوس ودحرجتها على الارض من غير نطع يغيبها، عاد فأعمل مخيلته، وجدد آيات ترويعه وإرهابه.

وهذا شأن الارهابيين، على قول بعض خبرائهم. فإذا اقتصرت أفاعيل الارهابيين على دخول مآوى عجزة، أو مدارس الاطفال وحدائقهم، وتفجير احزمتهم الناسفة في وسط المسنين أو الاطفال، أو حتى في وسط منتظري حافلات النقل في محطة تسفير، قلّت شعائرهم، وضعفت. وخسروا جزءاً من الدوار والرعب اللذين «يربكان» العدو، على قول مشايعي المرشد الايراني وجنوده، ويصيبانه بـ»الهستيريا»، مرض المستكبرين الذي لا شفاء منه، والبكتيريا التي يدسها المستضعفون في جوارح المستكبرين وعقولهم وصدورهم.

فما كان، على هذا، لدولة أبي بكر البغدادي، سلطان الموصل والرقة وما بينهما، أن تستقر على إرعاب يشيعه نحر الرهائن الاميركيين وقطع رقابهم، ويتولاه جزارون أو جلادون من أحياء برمنغهام البريطانية أو مانت- لا-جولي الفرنسية. وهم نظير مسرور الاسود، جلاد هارون الرشيد وصاحب زياراته الليلة على زعم «ألف ليلة وليلة»، والقرينة على عالمية إسلام الجماعة (الدولة او «القاعدة») وعلو راياته في بلاد الكفر والظلم. فمثل هذا الارعاب يستنزفه التكرار سريعاً. وهو يعود، في صيغته الانترنتية التي حررته من رقابة الشاشة الصغيرة وعائليتها ومعاييرها المهنية والاخلاقية الضعيفة، الى بدايات حرب العراق، وقبلها الى «رسائل» الرهائن الغربية المصورة بواسطة الفيديو والمنذرة بالويل والثبور إذا لم تستجب حكومة الرهينة شروط المنظمة الخاطفة المحقة بل الشرعية.

وتوالت على التوسل بالرسائل المصورة منظمات فلسطينية مسلحة ومتفرقة، اقتصرت على صور فوتوغرافية أو شمسية في أول أمرها، وقبل «قبضها» على موارد التطور التكنولوجي (على قول رسمي أبو علي، الفلسطيني، في تطيير «القيادة العامة» طيارات شراعية في 1987 فوق مواقع اسرائيلية بالجليل الشمالي). وورثها «حزب الله»، المنظمة الحرسية الخمينية، خير وراثة، من طريق منظمة الجهاد الاسلامي في فلسطين وغيرها، ومن طريق نفسه غير مضاف الى غيره. فأتقن جهازُ السينما التصويرَ والتوليفَ، والتأثيرات الضوئية والصوتية والجمع بينهما من غير نشاز أو تعسف. وأعمل دربته وخبرته في (أشرطة) رسائل الرهائن التي خطفها، منذ 1984، الى حكومتهم (الفرنسية)، شريكة الشاه محمد رضا بهلوي في رأس مال «أوروديف» النووية، والرافضة الإفراج عن الحصة الايرانية في رأس المال الثمين هذا.

فظهر مارسيل كارتون ومارسيل فونتين، الموظفان في سفارة فرنسا ببيروت، في ضوء «غسقي»، على قول حياة شرارة العراقية، على شاكلة ضوء الفوتوماتون، منطفئين وباهتين، وهما يمدحان قضية خاطفيهما المحقة. وظهر بعدهما ميشال سورا، «المستشرق» الفرنسي الذي كان «لا مستشرقاً» وقتل في «لا استشراقه» على قول «روائي» لبناني «ناقص الوطن» يومها، مسجى على محفة، منتفخ عروق الرقبة، ومعلقاً بين موت لم تشأ المنظمة الخمينية الجزم فيه، وبين حياة مخدَّرة وواهية لم يسع «خبير» وكالة الصحافة الفرنسية إثباتها (ولا يبعد هذا من «مفاوضة» البغدادي السامرائي الحكومة الاردنية على ترك معاذ الكساكسبة لقاء الإفراج عن الشريكة الانتحارية ساجدة الريشاوي، وذلك غداة نحو الشهر على قتل الاول وتحريقه). وطور جهاز الدعوة الحزب اللهي تقنياته وتقانته في اعوامه التالية. فصور بقايا جثث الاسرائيليين الذين قتلهم في اثناء محاولة إنزال على الشاطئ جنوب صيدا، في 1998، ودلَّل على أجزاء من اقدام وسيقان وأذرع وجماجم. وفي موازاة عمل لجنة التحقيق القضائية الدولية في اغتيال رفيق الحريري، وبعد فكه لغز حلقة الهواتف الخمسة التي تعقبت الرجل طوال نحو 3 أشهر قبل اغتياله، بسط امير الجماعة المسلحة على شاشة «المنار» صوراً بانورامية اسرائيلية، استلها خبراؤه «اللبنانيون» من اجهزة تصوير سلاح جو العدو، وندبها الى البرهان على «اسرائيلية» الجريمة وبراءته منها.

النمر والنعجة

ويتوسل الاصعادُ في الترويع والارعاب، شأن الابتداء فيهما والخطو خطوات أولى في ساحتهما ومدرجهما، بالمبالغة في إشهاد المُشاهد والمُشاهدين المحتملين من بعد، على سطوة الجلاد الجزار أو «سلاطته» (ابن سيد الناس)، نظير ضعف ذبيحته أو ضحيته وهُويِّها عن مرتبة الانسانية ومعاملتها. فمن الصورة الفوتوغرافية للأسير أو لجواز سفره وبطاقة هويته- واقتصرت «فتح» الفلسطينية على هذا، في النصف الثاني من السبعينات المنصرمة في صحافي اميركي مراسل ظنت فيه التجسس لمصلحة الدولة العبرية-، الى تصوير الصورة الصوتية المؤرخة بنسخة الصحيفة الصادرة يوم تسجيل شريط بالفيديو، الى شريط الذبح الملون الذي فاجأ المشاهدين والمراقبين، واستدرج في 2004 أو 2005 إنكار فقيه «الجزيرة« الاخواني ورئيس اتحاد العلماء المسلمين العالمي، يوسف القرضاوي.

وتخلل الطورُ الثالث من الاطوار الثلاثة نشر الصحيفة الدانمركية الرسوم الكاريكاتورية المشهورة، وجهرها رأياً في آداب الاسلام والمسلمين السياسية حمل القرضاوي إياه على مناشدة «المسلمين» الثورة انتصاراً لدينهم، و»التنمر» في سبيله، وإفهام العالم أنهم ليسوا «نعاجاً» تساق الى الذبح صاغرة راضية. وليس القرضاوي، ولا غيره من فقهاء الشرع الاسلامي المعروفين بأسمائهم، مصدر التشبيه الحاد والتحريض بالنعجة الذبيحة. ولا شك في ان كلا الفقيه الاخواني وزملائه المفتين في «الهيئات الشرعية» التي تنصبها المنظمات الجهادية الارهابية مراجع فتيا وقضاء، ينهل من معين أو مصدر معنوي وصوري متخيل ومشترك حين يساوي ترك الرد العنيف على «الهزء» بـ»مقدسات المسلمين» باستسلام النعجة السائرة الى المسلخ.

فالحيوانات أو البهائم، سباعاً مفترسة ومقاتلة أو ماشية دابة وصاغرة، هي على الدوام مرجع مقدَّم من مراجع البيان عن أحوال السياسة والسلطان وآدابهما في التراثات الاسلامية والعربية. وأوجب جهاديو «القاعدة» الذبح بالسكين في أسرى الاميركيين من المقاولين وناشطي المنظمات الحقوقية والانسانية تحقيقاً (أو مرآةً) لبطشهم و»مَلَكيتهم» (الاسد ملك المسبعة أو الدغل) اللذين لا راد لهما، وأعملوه تمثيلاً على «صغار» عدوهم الصليبي، النصراني واليهودي، وأدائه «عن يدٍ» آيةَ خضوعه وتبعيته وطأطأته «جمجمته»، على قول جباة الجزية والخراج في عهود الفتوح الاولى وربما المتأخرة. وقايضوا اللباس البرتقالي، المشتق من لباس العمال الصناعيين الازرق والجامع الجسم في وحدة عملية متصلة، وهو اختاره الاميركيون زياً لمسجوني غوانتانامو من مقاتلي «القاعدة»، بمثيله ونظيره. فألبسوه أسراهم، المدنيين والعسكريين، المنذورين للذبح ومن بعد للتحريق، ومثلوا به على مكافأتهم الصليبي الكافر والطاغوتي جبروتاً واقتداراً.

وربما دعاهم الى استعادة «الثوب» البرتقالي المتصل، والمُكسِّم جسم لابسه، قرابته بالكفن الابيض الذي حمله «الشهداء الاحياء»، على ما سمتهم الدعاوة الخمينية المعرَّبة، المعلنون سلفاً عزمهم على الموت قتلاً في «سبيل الله» (أو «فداء صدام حسين»)، من وجه أول. ودعاهم من وجه ثان، تمييزه من «الثوب» الابيض، واختصاصه بالمسلمين وقتلاهم المتطوعين و»عشاق الشهادة». وفي الحالين يشهر لابس الكفن الابيض والطاقم البرتقالي اختلاط الحياة بالموت والتباس الموت بالحياة على نحوين مرئيين مختلفين.

فالابيض، وهو لون حروف الشهادتين على الرايات السود التي ترفرف فوق مواكب سيارات الدفع الرباعي الداعشية، ينصب إرادة القتال والقتل، وهي ذروة التكليف الانساني والديني، في حياة الجماعة المجاهدة والحاملة الامانة. وأما البرتقالي، فيوكل إليه الاعلان عن وشك وقوع الموت على الحي الموقت وقوعَ قدرٍ صادرٍ عن مشيئة تشاء بموجب شرعٍ وحاكمية لا راد لهما، هما شرع الواحد القهار وحاكميته، على ما يردد مفتو الجماعات الاسلامية المقاتلة منذ «علامات في الطريق» (1962) لسيد قطب.

وعلى هذا، حرصت الهيئة السينمائية الشرعية، في دولة الخلافة البغدادية، على تصوير الطيار الاردني، قبل اغتياله أو قتله تحريقاً، على تصويره في فلاة منبسطة ومضيئة، تعلوها سماء زرقاء نيرة ويجوبها معاذ الكساسبة في طاقمه البرتقالي، وهو حليق الوجه من قرب، وعلى قسماته وفي عينيه ما يخال المشاهد (ما خِلتُه) طمأنينة غريبة ومحيرة، بل مقلقة. وكانت الصور التي سبق الجهاز الشرعي الى إذاعتها ونشرها، تلية وقوع الملازم الاول الطيار في الاسر، أشبه بصور منتزعة أو مختارة من شريط صيد تنشب فيه الحيوانات الكاسرة العاوية والمظفرة أظافرها ونواجذها في بدن الطريدة المدماة: فحفت بالقتيل المرجأ قتله أياماً قليلة جمهرة المطاردين والصيادين، يتقدمهم مارد ضخم الجثة، أشقر شعر الذقن والرأس، يشد على رقبة غنيمته فرحاً ومنتشياً حتى يكاد يدقها أو يكسرها.

الحاكمية والتوحيد

والمقارنة بين الفصل الاول من الصور، فصل الأسر والغنم، وبين الفصل الثاني، فصل إرسال النظر في فلاة الطيران وسمائه أو ملعبه، قبل الفصل الثالث أو فصل التحريق، تبدو متعمدة، أي يبدو الحض عليها مقصوداً. فعلى مثال التوحيد المطلق- والحاكمية المودودية والقطبية فرع على أصل هذا التوحيد الحشوي- تقلِّب الهيئة الشرعية أحوال غنيمتها أو خليقتها على وجوه تختارها بمطلق إرادتها أو شهوتها (وهما واحد في هذه الذات). فهي تحيي وتميت، وتجمع القصاص الى الحياة وفهم ذوي الألباب جمعاً لا تحمله على علاقة سببية أو ذرائعية عملية، بل توحده في حمل وجودي أو كينوني يُدخل الموت قصاصاً في حياة الجماعة واجتهادها الفقهي والسياسي الشرعي.

وعليه، يبدو التحريق، وتمييزه من الذبح، اجتهاداً فقهياً لبيباً، يُعمِل الحرف والقياس معاً. فالطيار الاردني الشاب كان ربان طائرة حربية يتولى بواسطتها القصف المدمر والحارق. فـ»ينبغي» محاكاة تحريقه وتدميره (المشهد الاخير يصور إهالة التراب والردم على القفص ومن فيه) بمثلهما. وفي ضوء هذا القياس المستقوي بنص لا تأويل فيه يقتل القتلة الشرعيون عدوهم المحارب والمقاتل بمثل ما قتلهم أو قاتلهم به، على ما يحسبون. ويغفلون فحسب عن الفرق الشاسع بين من يَقتل وهو في ساحة حرب، جوية وغير متكافئة من غير شك ولكنها معروفة الملابسات والظروف والاجراءات، وبين من يُعذَّب بالايدي وهو في قفص حديد أسير حرب، على ما يُحسب ويفترض.

والاجتهاد الذي تقدم الإلماح إليه ليس تخميناً. فأحد معممي الازهر سألته فضائية دولية عن البيان الذي دعته فيه الهيئة الفقهية الرفيعة الى صلب مقاتلي الدولة الاسلامية وقطع أيديهم وأرجلهم «من خلاف»، رداً على قتل الطيار الاردني، أجاب ان الازهر لم يعمل رأياً من غير نص محكم ويقبل التأويل بل أشهد «قرآناً» واضحاً وبيِّناً. وهو، من وجه آخر، علل الدعوة الى الصلب وتقطيع الارجل والأيدي مقايساً على فعل القصف («الاميركي») في من يقصفهم. فالقصف، على قول المعمم الفقيه، يقطع الارجل والايدي و»يبعثرها». فالقصاص الذي وصفته الهيئة الازهرية، نقلاً عن تنزيل لا شك فيه ولا في بيانه، يحاكي صيغ القصف من الجو وشبيهه المدفعي والبري. والهيئة الفقهية تساوي الفعل الحربي المعلوم الأثر والمتوقع، والمحتسب تالياً، بالإجراء الفردي والمصمم على مقاس من ينزله ومن يُوقع فيه، وأهل قومه وحكام دولته، شأن المنظمة المقاتلة وهيئتها الشرعية. وتُغفل، شأنها، الفرق بين الحرب العامة و»كوارثها» على قول فرنسيكسو غويا وبين الثأر العصبي. والتنبيه على فرق الحرب والثأر لا يسوغ الحرب وآلاتها وعنفها «الصناعي»، ولكنه يقرر الفرق الحاصل والقائم، ويميز خوض الحرب العمومية وتوقع نتائجها، في خدمة سياسة ينبغي تقويمها، من قتل يشفي الغليل، ويقتص من المنفذين الثانويين، ويضرب صفحاً عن المحاسبة السياسية والقانونية، ويوصد الباب في وجه تقليص العنف وضبطه.

ليست هناك تعليقات: