في استقصاء رأي وتقويم اميركي يعود الى 1992، وطاول 1769 طبيب أمراض عصبية، سئل الأطباء عن تقديرهم رأي الرجال (الذكور) في النساء (الإناث) اللواتي يرتدين لباساً كاشفاً أو مثيراً، وعن اضطلاع اللباس، أي رأي الرجال فيه وفي إيحاءاته، بدور محرض على ارتكاب جرائم جنسية. وفي عبارة أخرى مباشرة، سئل اطباء الأمراض العصبية عن دور ارتداء بعض النساء ثياباً مثيرة في ارتكاب بعض الرجال جرائم جنسية موصوفة. فأجاب 63 في المئة بأن الزينة النسائية المثيرة التي تحمل الرجال على تأويلها، أي يؤولونها على معنى دعوة الى الانتباه الجنسي، عامل يعظم حظوظ ارتكاب الجرم في نساء هذه حالهن. وقال 21 في المئة من الأطباء أنهم لا يرون هذا الرأي. وذهب 81 في المئة منهم الى ان أحد الأسباب في اغتصاب فتاة قاصر، أو في تحرش جنسي عدواني بها، هو لا شك إلفة أفعالها وحركاتها، على معنى العري أو الثياب الموحية. ولم ينكر التعليل هذا غير 17 في المئة من اطباء الجمهور.
ونسبة الآراء والأحكام هذه الى أطباء أمراض عصبية، خالط معظمهم جانحين أو مجرمين جنسيين في عيادات السجون أو في عيادات خاصة وفي المحاكم وعالجوهم على أنحاء متفرقة، لا تقوّي الآراء، والأحكام هذه، ولا تسندها الى "علم". فالأطباء هؤلاء إنما هم مرآة رأي عام منقسم، وينطقون، شأن أبعاض الرأي هذا وأجزائه، عن هوى أو عن تخمين. فالرأي المحافظ او التقليدي، في الولايات المتحدة الأميركية وفي البلدان العربية والآسيوية على حد سواء، لا يشك في ان النساء يسألن عن رغبات الرجال فيهن، ويتحملن التبعة، عن إثارة لباسهن، أو "عرض" أجسادهن ومزجها العري بالكسوة وإيقاع حركاتها وسكناتها، الرجالَ المشاهدين. فالنساء هن، على أضعف تقدير، شريكات الرجال في سيطرة هؤلاء على المشاعر التي تثيرها فيهم كسوة المرأة.
ويتفق النقد النسوي والرأي التقليدي ويتواضعان من طريق ملتوية. فالنقد النسوي يعزو اللباس المثير، وإيحاءاته و "دعواته" الجنسية المفترضة، إلى مماشاة المرأة المثيرة رأي الرجل الذكر في مشهد الأنوثة ومسرحها. فهي ترضى الانقلاب "شيئاً"، والاقتصار على ما يتوقعه الرجل الذكر منها، ويدعوها إليه، ويرسي عليه سيطرته. فيشيِّء ما تقع عليه السيطرة، ويذعن لها ويمتثل. وليس العنف، والحال هذه، إلا ثمرة إقرار المرأة بسلطان الذكر على الأنثى، والوجه البارز والجارح لاصطباغ السلطان الذكري، الجنسي، واصطباغ كل سلطان في نهاية المطاف بصبغة إيروسية. فاستجابة التشييء، أي الانقلاب شيئاً وموضوع فرجة وعرض النفس على النظر وفحصه ومتعته وميزانه، هذه الاستجابة هي دعوة مضمرة أو معلنة الى التمادي في إعمال الرغبة والإرادة. فالنساء، على هذا، يسألن عن تلبيتهن الرغبة الذكورية في التسلط، على رغم ذهاب النقد النسوي الى ان التفاوت في أحوال الذكور والإناث ليس "ابن" الطبيعة، ولا توقيفها الفطري والجِبِلّي، وإنما هو مصنوع ومجلوب، والعودة عنه جائزة على نحو ما جازت صناعته وجاز إحداثه.
ويفترض الرأي التقليدي ان المرأة المثيرة، إذا هي شهرت الإثارة وأعملتها من طريق التبرج واللباس والحركة على أنواعها، لم تعدم توقع أثر تبرجها ولباسها وحركاتها في الرجال. وتعمدها تأثير الأثر هذا هو بمنزلة دعوة الرجال إليه، والتعويل على الأثر، وقبوله. ويخلص الرأي المحافظ الى القول المتداول في مثل هذه الأحوال، حين يحدث ما يقول العقلاء وذوو البصيرة أنهم توقعوه وتخوفوا وقوعه، وهو ان المرأة كان لها ما أرادت، ووجدت ما سعت فيه، وجوزيت بما رغبت. فهي شبهت للرجال أنها حقيقة راغبة فيما تعلن "زينتها" كلها رغبتها فيه. فإذا صدّق الرجال العلانية، ولاقوا الدعوة، امتنعت المرأة، وأخلفت ما بدا موعداً مؤكداً وموثوقاً. والعنف الذكري، على الزعم التقليدي والمتداول، هو وليد خيبة الرجل من إخلاف المرأة موعدها، وإيقاعها بالرجل. فلو لم تعد، لما كان رجوعها في الوعد كذباً واستدراجاً وتشبيهاً و "لعباً" بالرجل. وعنفه لا يعدو الثأر لرجولة تعمدت المرأة إيقاظها، ودعتها الى الانتشار (على معنيي اللفظة)، ومننتها الإعمال. فإذا حان وقت التسديد، على ما يحسب الرجال، والرجولة ومسرحها لا ينفكان من الامتحان وساعته، ردت المرأة بأن هذا كان لعباً في لعب.
وينقم الرجال والنساء التقليديون والمحافظون على المرأة اللعوب، على ما تسمى، انتهاكها عمداً العقد البطرقي الأبوي "بين" الجنسين، وإنزاله النساء إحدى منزلتين: الزوجة الأم والعذراء، أو البغي. وليس من منزلة ثالثة. واللعب الذي تتصدى المرأة أو الأنثى اللعوب له، وتؤديه، يخرجها من المنزلتين، ويبوّئها مكانة على حدة ليست من القسمة المقيدة تلك. فيراها الرجال والنساء التقليديون، على هذه الشاكلة، مراوغةً، ومجانبةً الطريق القويم والعريض الى بُنيّات الطريق الثانوية والخفية. ويرونها أنانية، وخارجة على النظم المضمرة والدقيقة التي تحمي النساء عموماً من عنف الرجال، وتهورهم، وثورة رغباتهم وسورتها، وتحمي الرجال أنفسهم، من وجه آخر يلازم الأول، من تزاحم رغباتهم المدمر في النساء وعليهن. فتتولى النظم المضمرة ضبط "العرض" الأنثوي، على المعنى الاقتصادي، وتقصره على عرض خاص، من غير منافسة ولا سوق، تصرف المرأة بموجبه "نفسها"، جسدها ومتعتها ولعبها وغوايتها، إلا رجل واحد. ويقف الرجل رغبته وعنايته واسمه ونسبه على امرأتـ(ـه) وزوجه. وهذا وجه المرأة البكر والأم الزوجة. والوجه الآخر لضبط العرض الأنثوي، هو الإباحة، على مثال إباحة السلعة. وهذا وجه البغي.
مثال العقد
وينحو التناول المتقدم نحو الوصف او التشخيص الحقوقي والقانوني. فيحمل الإثارة النسائية والأنثوية الجنسية، وآلتها الثياب والزينة وتوسلهما بما يتعرض للنظر (والسمع والشم واللمس)، يحمل الإثارة هذه على صورة عقد ومترتبات عقد وشرائط عقد. ولا يضعف الإضمار التمثيل بالعقل على حال فالتة من كل عقال ظاهراً. والعقال القانوني هو مثال العقل، على معنى الربط والحل. ويتوسل دانكين كينيدي – أستاذ نظرية الحق العامة بمدرسة القانون بهارفرد الأميركية، وأحد وجوه مدرسة الدراسات القانونية النقدية، واستعارات مقدمة العجالة من كتابه "سكسي دريسينغ" عناصرها – بصورة العقد، ويعملها في فهم أحوال وأفعال وملابسات بعيدة، للنظرة الأولى، من العقودوموجباتها وقيودها ومفاوضتها. والحق ان البعد هذا ظاهري فوق ما هو حقيقي. والأدق القول، على منطق دانكين كينيدي ومدرسته النقدية، أن نأي الأفعال (وأصحابها) بنفسها عن مثال العقد العقلاني (ولا تنفك مشتقات العقل من الإلحاح)، وطلبها التحرر والانفكاك منه، هو، أو هما، احتيال على القانون.
فالعنف الذكري والجنسي، "رداً" على الإثارة واللعب، ينسب اصحابه لأنفسهم الانقياد لما لا يعقل، وهو "الطبع" وثورته ومماشاته سائقه وانفعاله. ويترتب على التعليل هذا او التعلل والتعلة، احتجاج قانوني على شاكلة العذر المُحِلِّ من المسؤولية والتبعة، أو "الأسباب المخففة" المسؤوليةَ هذه. فيقال ان المرأة هي البادئة والمبادرة، وهي المنتهكة والمتخطية "قاعدة" ارتداء الثياب والزينة المناسبة الحال والظرف، وهي الملوحة بدلالة الانتهاك والمستبقة مفاعيله، الخ. ويرد استاذ نظرية الحق العامة – وهو لا يتستر على حاله أو كينته ذكراً اميركياً أبيض وميسوراً، وغير مثلي (او غيري الميل الجنسي والإيروسي)، ومستمتعاً بالزينة الأنثوية ولعبها وإثارتها ومائلاً إليها، وقارئاً لوي – فردينان سيلين ورواته "رحلة الى أقاصي الليل"، ومعجباً بأعمال البوهاوس المعمارية – يرد كينيدي على الاحتجاج هذا بإخراجه من الإضمار والإلماح الى علانية المرافعة والمدافعة وجهرهما الصريح. ويسعفه في فعله هذا تعاظم نظر القضاء الأميركي في دعاوى التحرش، منذ منتصف الثمانينات. واضطلعت الحركة النسوية الأميركية، وهي سباقة ورائدة في المضمار الاجتماعي القضائي، بدور راجح في التحريض على مناهضة التفاوت الحقوقي، وإصلائه حرباً قانونية وقضائية، فردية وجماعية.
ولم تصنع الحركة النسوية غير استئناف تراث حقوقي وقضائي واجتهادي اميركي عريق، شأن حركة الحقوق المدنية من قبل ومن بعد، وشأن حركة المطالبة بالحق في الإجهاض، أو حركة التمييز الإيجابي. ويحسب كينيدي ان حمل خلاف، أي خلاف وفي أي مضمار، على مثال حقوقي وقانوني شأن العقد، يقرّب من وصف الوقائع وسياقاتها، ومن تقصي دواعي الفاعلين ومعايير احكامهم وآرائهم، على نحو لا يستوفيه تناول الحق تناولاً معيارياً خالصاً، وهو ما درج عليه ويدرج معظم أهل القانون والاجتهاد فيه. وقضايا العنف الجنسي في حق النساء، أو "ضدهن"، ومن بعدها قضايا التحرش في اثناء العمل وفي دوائره وأماكنه، قلبتها الحركة النسوية موضوع مناقشة ومداولة ومطالبة عامة ويومية. وعمل دانكين كينيدي التحليلي جزء من المناقشة هذه، وتمثيل على وجوه من منطقها وطريقتها وخلافاتها معاً.
فحمل مسألة العنف والتحرش الجنسيين والذكريين على خلاف يضمر مثال العقد، وإن لم يحتج احد من المتخاصمين او المتقاضين علناً للمثال هذا، يدعو إليه ويرجحه التعويل على ثمرته، أي على جلائه خطط التسويغ، وما تضمره وتتستر عليه في بعض الأوقات من أحكام تخالف نصوصاً قانونية واضحة، أو تجافي سنناً وأعرافاً غلبت منذ بعض الوقت على بيئات وأوساط اجتماعية واسعة. ويحتذي هذا التناول على نهج المقاضاة نفسه. فهو يفترض روايتين للخلاف وعلله وتداعي حلقاته. ويفترض، أولاً، مصلحتين متدافعتين تحدوان صاحبي الروايتين. ولا ينكر النهج هذا توسل المتخاصمين بحجج "ايديولوجية" تنحو نحو النمذجة والإطلاق والاستدراج، وتستبق حجج الخصم وتقارعها. فالرواية لا يرد عليها حسر اللثام عن رذائل الخصم، بل رواية نقيض تستقوي بمعايير هي خلاف معايير الخصم، وعلى الضد منها. ولا تأنف الرواية النقيض من التوسل بالخطابة وصورها.
فالرواية النقيض التي ترد على زعم تعمد المرأة المثيرة استدراج "الجمهور" الى استباحتها الجنسية، تروي، من جهتها، حكاية أو حكايات عن نساء مثيرات لم يتبرجن "تبرج الأنثى تصدت للذكر"، على قول ابن الرومي العتيق، ولم يلبسن لباساً يتعارف "الناس"، أو رأي عام "متوسط" ورجراج، وصفَه بالإثارة والإباحة. فالقول ان على النساء العاملات في المكاتب ان يتركن للبيت وفي البيت، الثياب التي تشف عن الملابس الداخلية، أو عن استدارات الجسد وتعرجاته، وتخلي بين بعض حركاته واضطراباته وبين الظهور، يرد عليه بأن من يثارون، وينسبون إثارتهم الى "موضوعية" ما يثيرهم وعمومه وحقيقته، مثل العري الظاهر أو الثياب الداخلية أو الحركة الباعثة على الاضطراب، لا يتناولون إلا ما يخصهم هم.
فثمة غيرهم، وهؤلاء قد لا يقلون عدداً عمن يهيج العري أو تخييله غريزتهم و "طبعهم"، يثيرهم ارتداء القميص اللصيق بالجسم (تي – شيرت). وآخرون يؤولون بنطلون الجينز "اقتراحاً" صريحاً بالمواقعة، على ما تذهب إليه بعض أشرطة الدعاية التجارية. وإذا نساء لبسن بذلات أو طواقم رجالية تامة، ولم ينسين الصدرية فوق القميص، رأى بعض الرجال إليهم آياتِ غواية وإغراء لا راد لها إلا بقضاء الوطر أو لبانات الجسد المعذب. وعلى وجه العموم، فالمرأة التي تلبس لباساً متحفظاً، أو محتشماً في "لغة" أخرى، إذا خالطت وسطاً أو موضعاً جرى رواده على ارتداء ثياب غواية وإيحاء، لا تأمن حسبان رجال كثر ان تحفظها هو علامة على هشاشتها الجنسية، أو أمارة خشيتها التعرض للرجال. وهذا مدعاة انتباه شديد إليها، وباعث لا يقاوم على محاصرتها و "مراودتها". ويعاقب قوادو بائعات الهوى عاملات الجنس اللواتي يعملن في إشرافهم وعهدتهم، ويلبسن ثياباً تقصر عن فضح "كنوزهن"، بالضرب، ويعنفنهن جزاء إمساكهن وحيائهن.
فالسبب في إثارة الرجال الذكور، إذا جاز الكلام على هذا النحو المباشر والمختزل، ليس جهر المرأة على الملأ علامة أو شارة يُؤوّلها الحضور على معنى الغواية والمراودة، وإنما السبب هو مزج أمرين: صبغ الجسد النسائي الأنثوي بصباغ جنسي متعسف (التعلل بما يشف أو بما يستر، باللصيق أو بالمهلهل، الخ)، وإرادة وطء الضحية، على قول العربية من غير مواربة. وإذا اجتمع الأمران جاز للذكر "المبصبص"، أي جوّز لنفسه، تأويل لباس المرأة، إغراء ودعوة، وأوّل إقدامه تلبية واستجابة توقَّع الشكر عليهما. فإذا امتنعت المرأة من إباحة نفسها أو جسدها، عاد للذكر المتسجيب، والملبي المناشدة، الحكم في الامتناع، والقضاء فيه. وهو يصدر في حكمه المزدوج، الحكم في معنى لباس المرأة والحكم في معنى امتناعها، عن حمل العنف الجنسي على نظام تأديبي ورادع، شأن السجن ووظائفه وأجهزته في أبنية القمع الجزائي والقضائي الأوروبية (والأبنية غير الأوروبية تؤدب وتردع من طريق المثل، إي القتل والبتر). ولا يعدو التعنيف الذكوري والجنسي "إصلاح" المرأة المتصدية للإثارة (و "إصلاحية الأحداث"، أي سجنهم، مشتقة من الإصلاح والتأديب). فتكرس إناطةُ الإصلاح المزعوم بالذكر المخدوع مرتبةَ الرجل، وعلوها، وحكمها، إن لم يكن حاكميتها في المباح والمنهي عنه. وتكرس تأخر مرتبة المرأة، وتنكر عليها رأيها في ما تفعل أو تحجم عن فعله، وتطعن في قبول الرأي هذا، أي في شهادتها على نفسها وعلى غيرها وذلك في معرض لا ينتقص من شهادتها فيه إلا أنوثتها.
حساب التكلفة/ العائد
والوجه النقدي والسجالي من المناقشة لا يستنفد علل من يدعون، إناثاً وذكوراً، إلى إباحة الثياب المثيرة. والدعوة الى الإباحة لا يسوغها دانكين كينيدي بالحجج النقدية التي تقدمت، وكشفت عن مضمرات "الذكورية" البطرقية والتمييزية المتعسفة والتأديبية "الإصلاحية". فهو يقترح وزن العنف التأديبي والإصلاحي في ميزان التكلفة والميزات (أو العائد)، ويخلص الى ان استئصال (على معنى الانتفاء) العنف في حق النساء المتبرجات والمثيرات يترتب عليه مربح يعود على اللواتي ينتهكن أعراف اللباس المتحفظ، وعلى اللواتي كن أقدمن على الانتهاك هذا حال تناقص العنف والتلويح به. وتصيب الخسارة الذين (وفيهم اللواتي) يعتقدون المعيار المحافظ والتقليدي، وينقادون له، على رغم إنكارهم نهج فرض المعيار، والقسر عليه بالعنف، ورغبتهم في ألا يتفشى لباس الثياب المثيرة. ويرحب بالانتفاء جماعة الثقافة الفرعية هذه، مرتديات اللباس والمحاميات عنهن. ولا يشك كينيدي في سرور الذين يثيرهم اللباس المثير، او يميلون إليه ويتمتعون به من غير أن يثيرهم، ويودون لو تفشو ثياب الغواية أكثر.
واحتساب المتعة في باب المربح والعائد يخرج المسألة من النطاق الأخلاقي والنقدي الذي يقصرها عليه الرأي المحافظ والرأي النسوي و "الجندري". والمتعة ليست جنسية أو حسية وحسب. فاللباس النسائي المثير جزء من عبارة النساء عن أنفسهن، وعلانية هذه العبارة، من غير ان يترتب على الملاحظة زعم بأن العبارة تطابق الطوية، أو أنها مرآتها الأمينة والصادقة. فهي قد تخالفها أو تبين منها. وحمل اللباس "الجنسي" على العبارة يستتبع، على جهة "الجمهور" والمشاهدين، التحري عن المعاني التي يؤديها اللباس، وتتعمدها، على هذا القدر أو ذاك، اللابسة "اللعوب".
وشأن صور العبارة الأخرى، تقصد صاحبةُ العبارة بها، أي بالعبارة، نفسها، وتمتحنها. فلا يستنفد التوجه على الذكور، قصد إثارتهم ودعوتهم، معنى العبارة التي يؤديها اللباس، وتؤديها الزينة مهما بالغت هذه في انتهاك معايير التحفظ والاعتدال. والمرأة المتبرجة، والبادية الإثارة والغواية، تتوسل بالتبرج واللباس المثيرين الى إعلان مقاومة المحافظة الجنسية والاستمتاع بالإعلان وبالمقاومة. وتتوسل بانتهاك رسوم المحافظة الى متعتها هي، وليس إلى الإثارة نفسها. ولا بأس إذا ظهرت رابطة بين المتعة الحسية والجنسية وبين متع المقاومة الإيديولوجية وانتهاك "النظام" السائد ومعاييره. وقد تغلب المتع هذه المتعة الجنسية التي صاحبت نشأة صنف من الثياب المثيرة والشائعة. فثقافة "البانك" الفرعية اقتبست أسلوب المثليات العاملات (البروليتاريات) والمسترجلات في اللباس، وأخذت عنهن الستر الجلدية والسلاسل المعدنية. وحين عمت الشارات هذه جمهوراً مختلفاً، أعمل الجمهور الجديد في معانيها، الجنسية والاجتماعية، تحويراً. فاستبقى بعضها في إطار مختلف، وجدد في بعضها الآخر. فما تبقى من المثلية الأنثوية، أو من البروليتارية، أو من الاسترجال، تبدد في دلالات ومعان أخرى كثيرة. وبقي ربما "معنى" المجابهة، والخروج على العرف، والانحياز الى المنبوذين والضعفاء.
فالرجال والنساء لا يكفون عن التخاطب، وعن "تناسخ السطور"، على قول شارع قديم، أي عن أداء المعاني والعبارة المفهومة، من زينتهم ولباسهم وقيافتهم. وهذه كلها، وغيرها مثلها، كنايات ومجازات عن الناس، رجالاً ونساء، وعن مقاصدهم ورغباتهم وطوياتهم. وفي هذا السبيل، يرتضي الناس (وهم ليسوا في حيرة من أمرهم) الانقلاب اشياء ترى على وجه الشيئية، أو موضوعات ثقافية، ويرتضون مسرحة انفسهم أو إخراجها إخراجاً مسرحياً. وهم يتوسلون الى هذا بالجمع بين أضداد أوامر المعايير الغالبة ونواهيها. وينقلون الحدود بين الأوامر والنواهي أو بين المستحب والمكروه، على أنحاء وصور كثيرة تترتب عليها نتائج لا يستهان بها تتطاول الى حيواتهم وتدبرها وروايتها. فلا يشك أستاذ نظرية الحق الأميركي في ان تقليص العنف في (حق) النساء، أو إبطال الرواية التقليدية الآيلة الى تسويغ العنف الجنسي بذريعة ان المرأة المتبرجة سعت الى الاعتداء عليها "بظلفها" (على نحو ما ارتمى "الأميركيان" على سيارات الانتحاريين وأحزمتهم، و "اليهود" على المنافحين عن دينهم وأرضهم...)، لا يشك كينيدي في إفضاء إبطال الرواية التأديبية الى تغير عميق في حياة ملايين النساء. وليس احتساب المتعة واللعب واعتبار المجابهة والانتهاك والقيام بالنفس، أضعف وجوه التغير هذا.
قضية النساء
ولكن صاحب "سكسي دريسينغ" لا يخلص من هذا، على خلاف "الحزب الجندري" (أو "الحزب التقليدي الموالي الجنس"، على ما يسميه)، الى وحدة القضية النسوية "التحررية" – من النظام البطرقي والسيطرة الذكورية، أو الذكرية. فالخلافات والانقسامات في صفوف النساء والرجال على مسائل مثل تأويل "نسب النساء بالمتعة" (أو علاقتهن النسبية و "الروائية" بالمتعة والإثارة الحسيتين والفكريتين معاً)، ومتّهن الى الاستعراض وفنونه وعباراته بأواصر قوية من غير ان تكون وقفاً عليهن، وعلى إجابة القسر والإكراه ومعالجتهما، واستنفاد الوظائف النفعية الرجال، الخلافات والانقسامات على هذه المسائل وغيرها كثيرة. فيرى (التيار) النسوي الطهراني المحدث والراديكالي ان ليونة المحظورات الجنسية الطارئة، الى صبغ الثقافة عموماً بصبغة ايروسية، اضرا بقضية النساء. فهما ينيطان علاقات الجنسين العشقية بالرضا والقبول (طوعاً)، إلا انهما يغفلان وقوع الرضا والقبول في معرض تفاوت عظيم في ميزان السلطة (أو السلطان أو الحجة).
والتفاوت هذا ينجم عن الإنشاء الاجتماعي للجنسانية، فينيط المتعة والغواية والإثارة بالمثال الجنساني الذكوري، وبسلطان الذكر وتمكنه. ويستهوي التربع في محل السلطان الرغبات ويستثيرها، ويدعوها الى غوايته والتصدي له، ومراودته. وعلى هذا، فمسرح الغواية النسائي، و "الشيئي" تالياً، إنما يتوجه على أصحاب المرتبة النافذة، ويميل مع رغبتهم في أداء فروض لذاتهم مغلفة بغلاف الاستدراج والدعوة والإقرار بعلو الرتبة. والجنسانية الغيرية هي أداة "الطبقة المسيطرة" الذكرية، وذريعتها الى "استعمار النساء الداخلي" أو النفسي. وليس اللباس المثير إلا عرضاً من أعراض رضا النساء استدراج رغبة الرجال فيهن، على شرط الرجال المفترض وهو تقديم النساء أنفسهن على صورة "الشيء" الساعي في تملك القوي، والمقيم شعائر التملك.
ويناقش دانكين كينيدي (التيار) النسوي الطهراني المحدث والراديكالي – ويدعو التيار النساء الى التخلي، عن لباس الثياب المثيرة ويسوغ دعوته بمقاومة الرسم الذي يوافق الرغبة السلطانية الذكرية، والتملص منه -، فينبه الى ان "الثقافة السائدة" ليست على التماسك الذي ينسبه إليه التيار النسوي هذا. ولا تتمتع، والحق يقال، بالسلطان الكلي والنافذ الذي تزعمه النسويات الطهرانيات والراديكاليات. ويسوق كينيدي الحجة "البراغماتية"، وهي تقوم من كتاب ريتشارد رورثي الفلسفي ("الفلسفة ومرآة الطبيعة") مقام الركن، فيقول اننا نحن الإنسيين أو الآدميين، لم يسعنا يوماً القيام بموضع "خارج" ما نحن عليه من ملابسة الثقافة وصورها ورسومها، والصدور عنها. فالزعم ان في وسع "السلطان الذكري" إنشاءنا، ورغباتنا وشهواتنا وعباراتنا وإرادتنا، إنشاء حراً ولا قيد عليه، يفترض جواز أو سبق علمنا بطبائع إنسية أولى، لم تصبها الثقافة (الذكرية أو الجندرية) بعكرها وانحرافها واستتباعها. فلا يخرج النقد الراديكالي النسوية عن سنة المذاهب الراديكالية الثقافية أو السياسية الأخرى، ويلبس مسوح "العودة الى اصول" اسطورية، وانتظار آت أنُف (مثل روض السيرة النبوية المحمدية) لا يجمعه شبه بماضي الغي والجور والاستلاب والفساد.
ويخالف اختبار الاختيار أو اختباراته الكثيرة، زعم العلم بـ "خارج" مثل هذا، أو طبيعة مثل هذه. فاختبار الاختيار ينم بالتماس المخارج والحلول من احتمالات قليلة العدد تدين بأجزاء كثيرة منها، وبمعظم عواملها، الى ثقافة وتقاليد قائمة وماثلة. فالإكراه والتقنع والتشبيه والعنف الجنسي أمور وحقائق لا تنكر، ولا مسوغ عملياً أو أخلاقياً لها. ولكن ما لا ينكر كذلك هو ملابستها اللذة والمدافعة، أو المقاومة، وتوسل هاتين بها، وتطفلهما عليها. واللذة والمدافعة، من وجه آخر، فلما تلابسان، أو هما تلابسان ابداً إصلاء النظام التأديبي و "الإصلاحي" التنديد المزمن على طريق إلغائه. ولعل هذا، أي التشابه والالتباس، قرينة على كثرة وجوه العبارة من طريق اللباس والزينة والتبرج. فمن طريق هذه تستجيب النساء دعوة الرجال ومتعتهم. ولكنهن ينكرن، من الطريق نفسها، الدعوة هذه، ويردنها على اصحابها.
فاللباس من أقوى الرسوم الاجتماعية عبارة، وأغناها وجوهاً. وإلى هذا، فهو لا يقتصر على مرآة ترى فيها ظلال "الداخل" الحميم والمستتر. فهو يُحدث في العالم الاجتماعي، عالم المعاني والدلالات، حوادث جديدة تستدرج أجوبة وردوداً وبدايات وانفعالات. وعلى هذا، لا تقتصر المتبرجة، أو لابسة الثياب المثيرة (على مراتب في الإثارة ودرجات)، لا تقتصر على عرض "نفسها" في مرآة ليرى الناس "نفسها" الخفية ظاهرة، ويروا معانيه من غير وسيط، فيسعهم "قراءة" المراودة، أو الدعوة الصريحة، أو الاستباق، الخ. فاللباس مرآة، من وجه، وهو، من وجه آخر لا ينفك من الأول، تعليق أو شرح أو تذييل على المرآة وصورها. والملاحظات التي تقدمت على كثرة اصناف اللباس المثير، أو على اقتباس "البانك" وأطوار درجته وشيوعه وترجماته، تمثيل على معاني التعليق أو الشرح أو التذييل، وعلى دعوتها الى "المفاوضة". والمفاوضة موضوعها هو المعاني المقصودة بالتعليق، أو المعاني غير المقصودة. وافتراض هذه مجرد افتراض يخرج من دائرة العنف. فالعنف يلازم الوضوح، والقراءة المبدئية، والعلم الجازم في "المسألة التبرجية"، وفي غيرها من المسائل الاستراتيجية.
ونسبة الآراء والأحكام هذه الى أطباء أمراض عصبية، خالط معظمهم جانحين أو مجرمين جنسيين في عيادات السجون أو في عيادات خاصة وفي المحاكم وعالجوهم على أنحاء متفرقة، لا تقوّي الآراء، والأحكام هذه، ولا تسندها الى "علم". فالأطباء هؤلاء إنما هم مرآة رأي عام منقسم، وينطقون، شأن أبعاض الرأي هذا وأجزائه، عن هوى أو عن تخمين. فالرأي المحافظ او التقليدي، في الولايات المتحدة الأميركية وفي البلدان العربية والآسيوية على حد سواء، لا يشك في ان النساء يسألن عن رغبات الرجال فيهن، ويتحملن التبعة، عن إثارة لباسهن، أو "عرض" أجسادهن ومزجها العري بالكسوة وإيقاع حركاتها وسكناتها، الرجالَ المشاهدين. فالنساء هن، على أضعف تقدير، شريكات الرجال في سيطرة هؤلاء على المشاعر التي تثيرها فيهم كسوة المرأة.
ويتفق النقد النسوي والرأي التقليدي ويتواضعان من طريق ملتوية. فالنقد النسوي يعزو اللباس المثير، وإيحاءاته و "دعواته" الجنسية المفترضة، إلى مماشاة المرأة المثيرة رأي الرجل الذكر في مشهد الأنوثة ومسرحها. فهي ترضى الانقلاب "شيئاً"، والاقتصار على ما يتوقعه الرجل الذكر منها، ويدعوها إليه، ويرسي عليه سيطرته. فيشيِّء ما تقع عليه السيطرة، ويذعن لها ويمتثل. وليس العنف، والحال هذه، إلا ثمرة إقرار المرأة بسلطان الذكر على الأنثى، والوجه البارز والجارح لاصطباغ السلطان الذكري، الجنسي، واصطباغ كل سلطان في نهاية المطاف بصبغة إيروسية. فاستجابة التشييء، أي الانقلاب شيئاً وموضوع فرجة وعرض النفس على النظر وفحصه ومتعته وميزانه، هذه الاستجابة هي دعوة مضمرة أو معلنة الى التمادي في إعمال الرغبة والإرادة. فالنساء، على هذا، يسألن عن تلبيتهن الرغبة الذكورية في التسلط، على رغم ذهاب النقد النسوي الى ان التفاوت في أحوال الذكور والإناث ليس "ابن" الطبيعة، ولا توقيفها الفطري والجِبِلّي، وإنما هو مصنوع ومجلوب، والعودة عنه جائزة على نحو ما جازت صناعته وجاز إحداثه.
ويفترض الرأي التقليدي ان المرأة المثيرة، إذا هي شهرت الإثارة وأعملتها من طريق التبرج واللباس والحركة على أنواعها، لم تعدم توقع أثر تبرجها ولباسها وحركاتها في الرجال. وتعمدها تأثير الأثر هذا هو بمنزلة دعوة الرجال إليه، والتعويل على الأثر، وقبوله. ويخلص الرأي المحافظ الى القول المتداول في مثل هذه الأحوال، حين يحدث ما يقول العقلاء وذوو البصيرة أنهم توقعوه وتخوفوا وقوعه، وهو ان المرأة كان لها ما أرادت، ووجدت ما سعت فيه، وجوزيت بما رغبت. فهي شبهت للرجال أنها حقيقة راغبة فيما تعلن "زينتها" كلها رغبتها فيه. فإذا صدّق الرجال العلانية، ولاقوا الدعوة، امتنعت المرأة، وأخلفت ما بدا موعداً مؤكداً وموثوقاً. والعنف الذكري، على الزعم التقليدي والمتداول، هو وليد خيبة الرجل من إخلاف المرأة موعدها، وإيقاعها بالرجل. فلو لم تعد، لما كان رجوعها في الوعد كذباً واستدراجاً وتشبيهاً و "لعباً" بالرجل. وعنفه لا يعدو الثأر لرجولة تعمدت المرأة إيقاظها، ودعتها الى الانتشار (على معنيي اللفظة)، ومننتها الإعمال. فإذا حان وقت التسديد، على ما يحسب الرجال، والرجولة ومسرحها لا ينفكان من الامتحان وساعته، ردت المرأة بأن هذا كان لعباً في لعب.
وينقم الرجال والنساء التقليديون والمحافظون على المرأة اللعوب، على ما تسمى، انتهاكها عمداً العقد البطرقي الأبوي "بين" الجنسين، وإنزاله النساء إحدى منزلتين: الزوجة الأم والعذراء، أو البغي. وليس من منزلة ثالثة. واللعب الذي تتصدى المرأة أو الأنثى اللعوب له، وتؤديه، يخرجها من المنزلتين، ويبوّئها مكانة على حدة ليست من القسمة المقيدة تلك. فيراها الرجال والنساء التقليديون، على هذه الشاكلة، مراوغةً، ومجانبةً الطريق القويم والعريض الى بُنيّات الطريق الثانوية والخفية. ويرونها أنانية، وخارجة على النظم المضمرة والدقيقة التي تحمي النساء عموماً من عنف الرجال، وتهورهم، وثورة رغباتهم وسورتها، وتحمي الرجال أنفسهم، من وجه آخر يلازم الأول، من تزاحم رغباتهم المدمر في النساء وعليهن. فتتولى النظم المضمرة ضبط "العرض" الأنثوي، على المعنى الاقتصادي، وتقصره على عرض خاص، من غير منافسة ولا سوق، تصرف المرأة بموجبه "نفسها"، جسدها ومتعتها ولعبها وغوايتها، إلا رجل واحد. ويقف الرجل رغبته وعنايته واسمه ونسبه على امرأتـ(ـه) وزوجه. وهذا وجه المرأة البكر والأم الزوجة. والوجه الآخر لضبط العرض الأنثوي، هو الإباحة، على مثال إباحة السلعة. وهذا وجه البغي.
مثال العقد
وينحو التناول المتقدم نحو الوصف او التشخيص الحقوقي والقانوني. فيحمل الإثارة النسائية والأنثوية الجنسية، وآلتها الثياب والزينة وتوسلهما بما يتعرض للنظر (والسمع والشم واللمس)، يحمل الإثارة هذه على صورة عقد ومترتبات عقد وشرائط عقد. ولا يضعف الإضمار التمثيل بالعقل على حال فالتة من كل عقال ظاهراً. والعقال القانوني هو مثال العقل، على معنى الربط والحل. ويتوسل دانكين كينيدي – أستاذ نظرية الحق العامة بمدرسة القانون بهارفرد الأميركية، وأحد وجوه مدرسة الدراسات القانونية النقدية، واستعارات مقدمة العجالة من كتابه "سكسي دريسينغ" عناصرها – بصورة العقد، ويعملها في فهم أحوال وأفعال وملابسات بعيدة، للنظرة الأولى، من العقودوموجباتها وقيودها ومفاوضتها. والحق ان البعد هذا ظاهري فوق ما هو حقيقي. والأدق القول، على منطق دانكين كينيدي ومدرسته النقدية، أن نأي الأفعال (وأصحابها) بنفسها عن مثال العقد العقلاني (ولا تنفك مشتقات العقل من الإلحاح)، وطلبها التحرر والانفكاك منه، هو، أو هما، احتيال على القانون.
فالعنف الذكري والجنسي، "رداً" على الإثارة واللعب، ينسب اصحابه لأنفسهم الانقياد لما لا يعقل، وهو "الطبع" وثورته ومماشاته سائقه وانفعاله. ويترتب على التعليل هذا او التعلل والتعلة، احتجاج قانوني على شاكلة العذر المُحِلِّ من المسؤولية والتبعة، أو "الأسباب المخففة" المسؤوليةَ هذه. فيقال ان المرأة هي البادئة والمبادرة، وهي المنتهكة والمتخطية "قاعدة" ارتداء الثياب والزينة المناسبة الحال والظرف، وهي الملوحة بدلالة الانتهاك والمستبقة مفاعيله، الخ. ويرد استاذ نظرية الحق العامة – وهو لا يتستر على حاله أو كينته ذكراً اميركياً أبيض وميسوراً، وغير مثلي (او غيري الميل الجنسي والإيروسي)، ومستمتعاً بالزينة الأنثوية ولعبها وإثارتها ومائلاً إليها، وقارئاً لوي – فردينان سيلين ورواته "رحلة الى أقاصي الليل"، ومعجباً بأعمال البوهاوس المعمارية – يرد كينيدي على الاحتجاج هذا بإخراجه من الإضمار والإلماح الى علانية المرافعة والمدافعة وجهرهما الصريح. ويسعفه في فعله هذا تعاظم نظر القضاء الأميركي في دعاوى التحرش، منذ منتصف الثمانينات. واضطلعت الحركة النسوية الأميركية، وهي سباقة ورائدة في المضمار الاجتماعي القضائي، بدور راجح في التحريض على مناهضة التفاوت الحقوقي، وإصلائه حرباً قانونية وقضائية، فردية وجماعية.
ولم تصنع الحركة النسوية غير استئناف تراث حقوقي وقضائي واجتهادي اميركي عريق، شأن حركة الحقوق المدنية من قبل ومن بعد، وشأن حركة المطالبة بالحق في الإجهاض، أو حركة التمييز الإيجابي. ويحسب كينيدي ان حمل خلاف، أي خلاف وفي أي مضمار، على مثال حقوقي وقانوني شأن العقد، يقرّب من وصف الوقائع وسياقاتها، ومن تقصي دواعي الفاعلين ومعايير احكامهم وآرائهم، على نحو لا يستوفيه تناول الحق تناولاً معيارياً خالصاً، وهو ما درج عليه ويدرج معظم أهل القانون والاجتهاد فيه. وقضايا العنف الجنسي في حق النساء، أو "ضدهن"، ومن بعدها قضايا التحرش في اثناء العمل وفي دوائره وأماكنه، قلبتها الحركة النسوية موضوع مناقشة ومداولة ومطالبة عامة ويومية. وعمل دانكين كينيدي التحليلي جزء من المناقشة هذه، وتمثيل على وجوه من منطقها وطريقتها وخلافاتها معاً.
فحمل مسألة العنف والتحرش الجنسيين والذكريين على خلاف يضمر مثال العقد، وإن لم يحتج احد من المتخاصمين او المتقاضين علناً للمثال هذا، يدعو إليه ويرجحه التعويل على ثمرته، أي على جلائه خطط التسويغ، وما تضمره وتتستر عليه في بعض الأوقات من أحكام تخالف نصوصاً قانونية واضحة، أو تجافي سنناً وأعرافاً غلبت منذ بعض الوقت على بيئات وأوساط اجتماعية واسعة. ويحتذي هذا التناول على نهج المقاضاة نفسه. فهو يفترض روايتين للخلاف وعلله وتداعي حلقاته. ويفترض، أولاً، مصلحتين متدافعتين تحدوان صاحبي الروايتين. ولا ينكر النهج هذا توسل المتخاصمين بحجج "ايديولوجية" تنحو نحو النمذجة والإطلاق والاستدراج، وتستبق حجج الخصم وتقارعها. فالرواية لا يرد عليها حسر اللثام عن رذائل الخصم، بل رواية نقيض تستقوي بمعايير هي خلاف معايير الخصم، وعلى الضد منها. ولا تأنف الرواية النقيض من التوسل بالخطابة وصورها.
فالرواية النقيض التي ترد على زعم تعمد المرأة المثيرة استدراج "الجمهور" الى استباحتها الجنسية، تروي، من جهتها، حكاية أو حكايات عن نساء مثيرات لم يتبرجن "تبرج الأنثى تصدت للذكر"، على قول ابن الرومي العتيق، ولم يلبسن لباساً يتعارف "الناس"، أو رأي عام "متوسط" ورجراج، وصفَه بالإثارة والإباحة. فالقول ان على النساء العاملات في المكاتب ان يتركن للبيت وفي البيت، الثياب التي تشف عن الملابس الداخلية، أو عن استدارات الجسد وتعرجاته، وتخلي بين بعض حركاته واضطراباته وبين الظهور، يرد عليه بأن من يثارون، وينسبون إثارتهم الى "موضوعية" ما يثيرهم وعمومه وحقيقته، مثل العري الظاهر أو الثياب الداخلية أو الحركة الباعثة على الاضطراب، لا يتناولون إلا ما يخصهم هم.
فثمة غيرهم، وهؤلاء قد لا يقلون عدداً عمن يهيج العري أو تخييله غريزتهم و "طبعهم"، يثيرهم ارتداء القميص اللصيق بالجسم (تي – شيرت). وآخرون يؤولون بنطلون الجينز "اقتراحاً" صريحاً بالمواقعة، على ما تذهب إليه بعض أشرطة الدعاية التجارية. وإذا نساء لبسن بذلات أو طواقم رجالية تامة، ولم ينسين الصدرية فوق القميص، رأى بعض الرجال إليهم آياتِ غواية وإغراء لا راد لها إلا بقضاء الوطر أو لبانات الجسد المعذب. وعلى وجه العموم، فالمرأة التي تلبس لباساً متحفظاً، أو محتشماً في "لغة" أخرى، إذا خالطت وسطاً أو موضعاً جرى رواده على ارتداء ثياب غواية وإيحاء، لا تأمن حسبان رجال كثر ان تحفظها هو علامة على هشاشتها الجنسية، أو أمارة خشيتها التعرض للرجال. وهذا مدعاة انتباه شديد إليها، وباعث لا يقاوم على محاصرتها و "مراودتها". ويعاقب قوادو بائعات الهوى عاملات الجنس اللواتي يعملن في إشرافهم وعهدتهم، ويلبسن ثياباً تقصر عن فضح "كنوزهن"، بالضرب، ويعنفنهن جزاء إمساكهن وحيائهن.
فالسبب في إثارة الرجال الذكور، إذا جاز الكلام على هذا النحو المباشر والمختزل، ليس جهر المرأة على الملأ علامة أو شارة يُؤوّلها الحضور على معنى الغواية والمراودة، وإنما السبب هو مزج أمرين: صبغ الجسد النسائي الأنثوي بصباغ جنسي متعسف (التعلل بما يشف أو بما يستر، باللصيق أو بالمهلهل، الخ)، وإرادة وطء الضحية، على قول العربية من غير مواربة. وإذا اجتمع الأمران جاز للذكر "المبصبص"، أي جوّز لنفسه، تأويل لباس المرأة، إغراء ودعوة، وأوّل إقدامه تلبية واستجابة توقَّع الشكر عليهما. فإذا امتنعت المرأة من إباحة نفسها أو جسدها، عاد للذكر المتسجيب، والملبي المناشدة، الحكم في الامتناع، والقضاء فيه. وهو يصدر في حكمه المزدوج، الحكم في معنى لباس المرأة والحكم في معنى امتناعها، عن حمل العنف الجنسي على نظام تأديبي ورادع، شأن السجن ووظائفه وأجهزته في أبنية القمع الجزائي والقضائي الأوروبية (والأبنية غير الأوروبية تؤدب وتردع من طريق المثل، إي القتل والبتر). ولا يعدو التعنيف الذكوري والجنسي "إصلاح" المرأة المتصدية للإثارة (و "إصلاحية الأحداث"، أي سجنهم، مشتقة من الإصلاح والتأديب). فتكرس إناطةُ الإصلاح المزعوم بالذكر المخدوع مرتبةَ الرجل، وعلوها، وحكمها، إن لم يكن حاكميتها في المباح والمنهي عنه. وتكرس تأخر مرتبة المرأة، وتنكر عليها رأيها في ما تفعل أو تحجم عن فعله، وتطعن في قبول الرأي هذا، أي في شهادتها على نفسها وعلى غيرها وذلك في معرض لا ينتقص من شهادتها فيه إلا أنوثتها.
حساب التكلفة/ العائد
والوجه النقدي والسجالي من المناقشة لا يستنفد علل من يدعون، إناثاً وذكوراً، إلى إباحة الثياب المثيرة. والدعوة الى الإباحة لا يسوغها دانكين كينيدي بالحجج النقدية التي تقدمت، وكشفت عن مضمرات "الذكورية" البطرقية والتمييزية المتعسفة والتأديبية "الإصلاحية". فهو يقترح وزن العنف التأديبي والإصلاحي في ميزان التكلفة والميزات (أو العائد)، ويخلص الى ان استئصال (على معنى الانتفاء) العنف في حق النساء المتبرجات والمثيرات يترتب عليه مربح يعود على اللواتي ينتهكن أعراف اللباس المتحفظ، وعلى اللواتي كن أقدمن على الانتهاك هذا حال تناقص العنف والتلويح به. وتصيب الخسارة الذين (وفيهم اللواتي) يعتقدون المعيار المحافظ والتقليدي، وينقادون له، على رغم إنكارهم نهج فرض المعيار، والقسر عليه بالعنف، ورغبتهم في ألا يتفشى لباس الثياب المثيرة. ويرحب بالانتفاء جماعة الثقافة الفرعية هذه، مرتديات اللباس والمحاميات عنهن. ولا يشك كينيدي في سرور الذين يثيرهم اللباس المثير، او يميلون إليه ويتمتعون به من غير أن يثيرهم، ويودون لو تفشو ثياب الغواية أكثر.
واحتساب المتعة في باب المربح والعائد يخرج المسألة من النطاق الأخلاقي والنقدي الذي يقصرها عليه الرأي المحافظ والرأي النسوي و "الجندري". والمتعة ليست جنسية أو حسية وحسب. فاللباس النسائي المثير جزء من عبارة النساء عن أنفسهن، وعلانية هذه العبارة، من غير ان يترتب على الملاحظة زعم بأن العبارة تطابق الطوية، أو أنها مرآتها الأمينة والصادقة. فهي قد تخالفها أو تبين منها. وحمل اللباس "الجنسي" على العبارة يستتبع، على جهة "الجمهور" والمشاهدين، التحري عن المعاني التي يؤديها اللباس، وتتعمدها، على هذا القدر أو ذاك، اللابسة "اللعوب".
وشأن صور العبارة الأخرى، تقصد صاحبةُ العبارة بها، أي بالعبارة، نفسها، وتمتحنها. فلا يستنفد التوجه على الذكور، قصد إثارتهم ودعوتهم، معنى العبارة التي يؤديها اللباس، وتؤديها الزينة مهما بالغت هذه في انتهاك معايير التحفظ والاعتدال. والمرأة المتبرجة، والبادية الإثارة والغواية، تتوسل بالتبرج واللباس المثيرين الى إعلان مقاومة المحافظة الجنسية والاستمتاع بالإعلان وبالمقاومة. وتتوسل بانتهاك رسوم المحافظة الى متعتها هي، وليس إلى الإثارة نفسها. ولا بأس إذا ظهرت رابطة بين المتعة الحسية والجنسية وبين متع المقاومة الإيديولوجية وانتهاك "النظام" السائد ومعاييره. وقد تغلب المتع هذه المتعة الجنسية التي صاحبت نشأة صنف من الثياب المثيرة والشائعة. فثقافة "البانك" الفرعية اقتبست أسلوب المثليات العاملات (البروليتاريات) والمسترجلات في اللباس، وأخذت عنهن الستر الجلدية والسلاسل المعدنية. وحين عمت الشارات هذه جمهوراً مختلفاً، أعمل الجمهور الجديد في معانيها، الجنسية والاجتماعية، تحويراً. فاستبقى بعضها في إطار مختلف، وجدد في بعضها الآخر. فما تبقى من المثلية الأنثوية، أو من البروليتارية، أو من الاسترجال، تبدد في دلالات ومعان أخرى كثيرة. وبقي ربما "معنى" المجابهة، والخروج على العرف، والانحياز الى المنبوذين والضعفاء.
فالرجال والنساء لا يكفون عن التخاطب، وعن "تناسخ السطور"، على قول شارع قديم، أي عن أداء المعاني والعبارة المفهومة، من زينتهم ولباسهم وقيافتهم. وهذه كلها، وغيرها مثلها، كنايات ومجازات عن الناس، رجالاً ونساء، وعن مقاصدهم ورغباتهم وطوياتهم. وفي هذا السبيل، يرتضي الناس (وهم ليسوا في حيرة من أمرهم) الانقلاب اشياء ترى على وجه الشيئية، أو موضوعات ثقافية، ويرتضون مسرحة انفسهم أو إخراجها إخراجاً مسرحياً. وهم يتوسلون الى هذا بالجمع بين أضداد أوامر المعايير الغالبة ونواهيها. وينقلون الحدود بين الأوامر والنواهي أو بين المستحب والمكروه، على أنحاء وصور كثيرة تترتب عليها نتائج لا يستهان بها تتطاول الى حيواتهم وتدبرها وروايتها. فلا يشك أستاذ نظرية الحق الأميركي في ان تقليص العنف في (حق) النساء، أو إبطال الرواية التقليدية الآيلة الى تسويغ العنف الجنسي بذريعة ان المرأة المتبرجة سعت الى الاعتداء عليها "بظلفها" (على نحو ما ارتمى "الأميركيان" على سيارات الانتحاريين وأحزمتهم، و "اليهود" على المنافحين عن دينهم وأرضهم...)، لا يشك كينيدي في إفضاء إبطال الرواية التأديبية الى تغير عميق في حياة ملايين النساء. وليس احتساب المتعة واللعب واعتبار المجابهة والانتهاك والقيام بالنفس، أضعف وجوه التغير هذا.
قضية النساء
ولكن صاحب "سكسي دريسينغ" لا يخلص من هذا، على خلاف "الحزب الجندري" (أو "الحزب التقليدي الموالي الجنس"، على ما يسميه)، الى وحدة القضية النسوية "التحررية" – من النظام البطرقي والسيطرة الذكورية، أو الذكرية. فالخلافات والانقسامات في صفوف النساء والرجال على مسائل مثل تأويل "نسب النساء بالمتعة" (أو علاقتهن النسبية و "الروائية" بالمتعة والإثارة الحسيتين والفكريتين معاً)، ومتّهن الى الاستعراض وفنونه وعباراته بأواصر قوية من غير ان تكون وقفاً عليهن، وعلى إجابة القسر والإكراه ومعالجتهما، واستنفاد الوظائف النفعية الرجال، الخلافات والانقسامات على هذه المسائل وغيرها كثيرة. فيرى (التيار) النسوي الطهراني المحدث والراديكالي ان ليونة المحظورات الجنسية الطارئة، الى صبغ الثقافة عموماً بصبغة ايروسية، اضرا بقضية النساء. فهما ينيطان علاقات الجنسين العشقية بالرضا والقبول (طوعاً)، إلا انهما يغفلان وقوع الرضا والقبول في معرض تفاوت عظيم في ميزان السلطة (أو السلطان أو الحجة).
والتفاوت هذا ينجم عن الإنشاء الاجتماعي للجنسانية، فينيط المتعة والغواية والإثارة بالمثال الجنساني الذكوري، وبسلطان الذكر وتمكنه. ويستهوي التربع في محل السلطان الرغبات ويستثيرها، ويدعوها الى غوايته والتصدي له، ومراودته. وعلى هذا، فمسرح الغواية النسائي، و "الشيئي" تالياً، إنما يتوجه على أصحاب المرتبة النافذة، ويميل مع رغبتهم في أداء فروض لذاتهم مغلفة بغلاف الاستدراج والدعوة والإقرار بعلو الرتبة. والجنسانية الغيرية هي أداة "الطبقة المسيطرة" الذكرية، وذريعتها الى "استعمار النساء الداخلي" أو النفسي. وليس اللباس المثير إلا عرضاً من أعراض رضا النساء استدراج رغبة الرجال فيهن، على شرط الرجال المفترض وهو تقديم النساء أنفسهن على صورة "الشيء" الساعي في تملك القوي، والمقيم شعائر التملك.
ويناقش دانكين كينيدي (التيار) النسوي الطهراني المحدث والراديكالي – ويدعو التيار النساء الى التخلي، عن لباس الثياب المثيرة ويسوغ دعوته بمقاومة الرسم الذي يوافق الرغبة السلطانية الذكرية، والتملص منه -، فينبه الى ان "الثقافة السائدة" ليست على التماسك الذي ينسبه إليه التيار النسوي هذا. ولا تتمتع، والحق يقال، بالسلطان الكلي والنافذ الذي تزعمه النسويات الطهرانيات والراديكاليات. ويسوق كينيدي الحجة "البراغماتية"، وهي تقوم من كتاب ريتشارد رورثي الفلسفي ("الفلسفة ومرآة الطبيعة") مقام الركن، فيقول اننا نحن الإنسيين أو الآدميين، لم يسعنا يوماً القيام بموضع "خارج" ما نحن عليه من ملابسة الثقافة وصورها ورسومها، والصدور عنها. فالزعم ان في وسع "السلطان الذكري" إنشاءنا، ورغباتنا وشهواتنا وعباراتنا وإرادتنا، إنشاء حراً ولا قيد عليه، يفترض جواز أو سبق علمنا بطبائع إنسية أولى، لم تصبها الثقافة (الذكرية أو الجندرية) بعكرها وانحرافها واستتباعها. فلا يخرج النقد الراديكالي النسوية عن سنة المذاهب الراديكالية الثقافية أو السياسية الأخرى، ويلبس مسوح "العودة الى اصول" اسطورية، وانتظار آت أنُف (مثل روض السيرة النبوية المحمدية) لا يجمعه شبه بماضي الغي والجور والاستلاب والفساد.
ويخالف اختبار الاختيار أو اختباراته الكثيرة، زعم العلم بـ "خارج" مثل هذا، أو طبيعة مثل هذه. فاختبار الاختيار ينم بالتماس المخارج والحلول من احتمالات قليلة العدد تدين بأجزاء كثيرة منها، وبمعظم عواملها، الى ثقافة وتقاليد قائمة وماثلة. فالإكراه والتقنع والتشبيه والعنف الجنسي أمور وحقائق لا تنكر، ولا مسوغ عملياً أو أخلاقياً لها. ولكن ما لا ينكر كذلك هو ملابستها اللذة والمدافعة، أو المقاومة، وتوسل هاتين بها، وتطفلهما عليها. واللذة والمدافعة، من وجه آخر، فلما تلابسان، أو هما تلابسان ابداً إصلاء النظام التأديبي و "الإصلاحي" التنديد المزمن على طريق إلغائه. ولعل هذا، أي التشابه والالتباس، قرينة على كثرة وجوه العبارة من طريق اللباس والزينة والتبرج. فمن طريق هذه تستجيب النساء دعوة الرجال ومتعتهم. ولكنهن ينكرن، من الطريق نفسها، الدعوة هذه، ويردنها على اصحابها.
فاللباس من أقوى الرسوم الاجتماعية عبارة، وأغناها وجوهاً. وإلى هذا، فهو لا يقتصر على مرآة ترى فيها ظلال "الداخل" الحميم والمستتر. فهو يُحدث في العالم الاجتماعي، عالم المعاني والدلالات، حوادث جديدة تستدرج أجوبة وردوداً وبدايات وانفعالات. وعلى هذا، لا تقتصر المتبرجة، أو لابسة الثياب المثيرة (على مراتب في الإثارة ودرجات)، لا تقتصر على عرض "نفسها" في مرآة ليرى الناس "نفسها" الخفية ظاهرة، ويروا معانيه من غير وسيط، فيسعهم "قراءة" المراودة، أو الدعوة الصريحة، أو الاستباق، الخ. فاللباس مرآة، من وجه، وهو، من وجه آخر لا ينفك من الأول، تعليق أو شرح أو تذييل على المرآة وصورها. والملاحظات التي تقدمت على كثرة اصناف اللباس المثير، أو على اقتباس "البانك" وأطوار درجته وشيوعه وترجماته، تمثيل على معاني التعليق أو الشرح أو التذييل، وعلى دعوتها الى "المفاوضة". والمفاوضة موضوعها هو المعاني المقصودة بالتعليق، أو المعاني غير المقصودة. وافتراض هذه مجرد افتراض يخرج من دائرة العنف. فالعنف يلازم الوضوح، والقراءة المبدئية، والعلم الجازم في "المسألة التبرجية"، وفي غيرها من المسائل الاستراتيجية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق