الأربعاء، 17 ديسمبر 2008

استواء هندية رئيسة وأماً صورة فاعليةٍ مارونية مترجحة بين منهج السلك والأهل


الحلقة الثانية
المستقبل، 14،12/2008


لم يعدم بلوغ هندية العشرين من غير زواج، وإقامتها في بيت أهلها من غير انتقال الى الدير، الى "فرادة ذاتها في تجاربها" (فهي تقول: "... أرى ذاتي فريدة في تجاربي... بل كان البعض يقولون... ما رأينا قط أحد سلك قبلك هكذا") – لم يعدم هذا كله، مع شيوع صيتها وسعي الناس الى التقرب منها، إحراج أهلها، وإحراجها هي في دارها. وفي غضون العقد الخامس من القرن الثامن عشر توفيت هيلانة حوّا، والدة هندية، بالطاعون، وأصاب العجز والدها. فلم يبق لها ما تعتاش به بعد أن تواطأ والدها مع أخواتها وأهلها على حرمانها من سهمها في إرث الأسرة. وتنافس اليسوعيون والخوارنة الموارنة على العابدة الذائعة الصيت. فأراد خوارنة طائفتها إما رواحها الى دير لبناني، في كسروان، حيث يقوم زملاؤهم وإخوانهم على إرشادها وجني ريع مكانتها، وإما تولي واحد منهم إرشادها و "تعريفها".
فاستحصل "البادري انطون" من الأب العام للجمعية، في 1743، إجازة تنسب هندية الى الجمعية "أختاً"، آملاً في إلزامها بهذه الرابطة. وتوسل بملكيين محليين من زملائه الى استحالتها. فلم تكلمهم، وحملتهم على طائفتهم الرومية الكاثوليكية وخلافهم مع طائفتها المارونية. وفي خريف 1737، في أعقاب سبع سنين على طلب عابدات ملكيات من حلب الالتحاق بدير البشارة في زوق مكايل، على الساحل الكسرواني، أُذن لهن بالسفر الى الدير اللبناني واستجيب طلبهن. وكان اليسوعيون يسعون في جمع بنات من الطوائف الكاثوليكية المتفرقة في سلك رهبنة مشتركة من غير احتساب الحزازات التي قد تنشأ عن "تعايش" الطوائف المختلفة هذه ومساكنتها بعضها بعضاً. وكان على اليسوعيين، وهم على بعض الخصومة مع الآباء الشويريين، الملكيين، احتساب رغبة الشيخ موسى الخازن، مقاطعجي الناحية الكسروانية هذه وكبير عشيرته، في قبول بعض بناته في دير يمهره بعض أراضيه، فيحفظ هذه الأراضي على ذريته وقفاً ويحبسها عليهم.

العلانية

وأدت الحزازات بين اليسوعيين والشويريين الى انقسام الراهبات الحلبيات حزبين وجماعتين. وفي 1739 اضطرت الراهبات اللواتي ملن الى الشويريين، الى ترك دير زوق مكايل والرواح الى الخنشارة، غير بعيد من دير مار يوحنا، بالشوير. واحتكم المتخاصمون الى روما. فقضى البابا بينوا (بينيديكتوس) الرابع عشر، في 1743، بحق "الملة الرومية الملكية" في دير البشارة، وبتولي رهبنة القديس باسيل الشويرية الإرشاد الروحي والإدارة الزمنية. وفي 1746 كرر الحبر الروماني حكمه السابق ودعا اليسوعيين الى رفع اليد عن الدير، وعن راهباته. أما الراهبات اللاتي بقين في دير زوق مكايل، واخترن إرشاد اليسوعيين وسلك راهبات فرانسوا دو سال، فانتقلن الى دير حراش القريب، حيث أقمن من غير رسامة الى 1752.
فلا عجب إذا عظمت مكانة هندية عجمي في سياق تراكم الخسائر والانتكاسات على جمعية اليسوعيين، شرقاً وغرباً. واتفق ابتداء تدوين انطونيو فانتوري الدلائل على قداسة البنت الحلبية العابدة والمتنسكة، في 1743، مع ذرّ الخلاف بين الراهبات الشويريات الباسيليات والراهبات "اليسوعيات" (من طريق سلك فرانسوا دو سال) قرنه، وإدلاء البابا بحكمه الأول وإدانته الحزب اليسوعي. فناط اليسوعيون، وأنطونيو فانتوري وكيلهم على العابدة الحلبية، آمالهم بمآثر العابدة. وعقدوا العزم على نقلها الى كسروان، حيث يسعها ان تخرج الى العلانية بعيداً من القيود العثمانية. وفي وقت قريب، في 1745، استبق اليسوعيون حكم البابا في قضية دير زوق مكايل، فعزموا على إنشاء دير راهبات بعينطورا الكسروانية، غير بعيد من دير رهبانهم الرجال. وكانت وردة الخازن، بنت الشيخ موسى الخازن، استأذنت في بنائه.
وفي صيف 1746 رضيت هندية ترك حلب الى كسروان، وأذن رئيس جمعية اليسوعيين لأنطونيو فانتوري بمرافقتها الى جبل اللبناني، والاستمرار على تعليمها وإرشادها من غير قسرها على لبس الثوب، وتعليق البت في مسألة "عطيتها"، أو تأسيسها رهبنة منذورة للقلب الأقدس. وفي الأحوال كلها تولت رئاسة الدير الجديد وردة الخازن، وعرفت باسم روزاليا انتشيلاّ، وهي شقيقة صاحبي الدير شروان وجفال الخازن، ابني الشيخ موسى.
وفي الأيام الأولى من تشرين الأول (اكتوبر) 1746 تركت هندية عجيمي، في صحبة امرأة رومية وأرملة أرمنية، حلب الى طرابلس. وسافرت النساء الثلاث مع قافلة يقودها المكارية. وحطت القافلة رحالها بطرابلس. ومن طرابلس اتجهت هندية ورفيقتاها وجهة عينطورا. ووصلتها في اليوم الثاني عشر من الشهر نفسه، والحمى تأكلها. وكانت بلاد كسروان يومها تعد عشرة آلاف نفس ينزلون ثلاثين قرية. وغلب الموارنة على كسروان وانفردوا بها منذ أوائل القرن الثامن عشر. وكان سند غلبتهم هذه تكاثرهم وإنجابهم، واضطلاعهم بزراعة التوت، واتجارهم بخيوط الحرير، واجتذاب أموال ابناء طائفتهم بحلب وغيرها واستثمارها في الجبل ومرفقه الزراعي و "الصناعي" والتجاري استثماراً مجزياً.
ولم يكن ليتأتى لهذه العوامل ان تثمر قوة اجتماعية متصلة ومستمرة لولا استنادها الى أمرين متضافرين ومتكاتفين هما ظهور نوازع فردية تنيط بالأفراد والأشخاص وليس بالجماعة الإقدام على أفعال قد لا تقرها الجماعة، من وجه، وتبلور هيئة اجتماعية ترعى منهجة الأفعال الفردية في الحقل الديني، ابتداء، وتحض على هذه المنهجة في مضامير أخرى، من وجه آخر. ولا ريب في دين الجماعة المارونية اللبنانية (والحلبية والدمشقية والساحلية) والجماعة الملكية (الرومية الكاثوليكية) الى الكنيسة وروابطها السياسية الأوروبية، وإلى العلاقات التجارية الأوروبية، بظهور النوازع الفردية وبمنهجتها ورعايتها في هيئة اجتماعية مشتركة ورائدة.
وأتاحت حال جبل لبنان، شوفاً ومتناً وكسروان، في عهد الإمارة الشهابية وقبلها، بإزاء السلطنة العثمانية، أي أتاح تولي تدبيره السياسي والعسكري والمالي بالواسطة المحلية والأهلية، حماية النواة الجديدة والمختلفة. وحال دون معسها قبل ان تؤتي ثمارها وتراكم هذه الثمار. فجمع "اللبنانيون"، قبل قرنين ربما من استواء لبنان هيئة سياسية وحقوقية مستقلة، موارد فرص كثيرة، محلية وطنية و "دولية"، ودمجوها في فرصة واحدة. وهذا لا يبعدنا من هندية. فهي كانت على وجه من الوجوه صورة من صور هذا الجمع المحتمل، وسارت على حد شفرته وأرهصت بأزماته واضطراباته وإنجازاته.
ومن علامات الفاعلية الاجتماعية والسياسية المارونية الجديدة "صعود" آل الخازن في كسروان (وصيدا) والمدبرين من آل باز في الشوف، على ما أرخ ايليا حريق قبل نيف وثلاثة عقود واقتفى أثره دومينيك شوفالييه. فأهدى آل الخازن، وهم اصحاب عينطورا وزوق مكايل، اليسوعيين أرضاً، في منتصف القرن السابع عشر، ودعوهم الى بناء معقلهم بها، واستقووا بهم وبدالتهم الفرنسية. وبعد قرن من الهدية الأولى، أتبعوها بالهدية الثانية الى الرهبنة النسائية. ومنذ الثلث الأول من القرن السابع عشر (في 1634 على وجه الدقة) أنشأ شيخ آل الخازن مرفأ لزنة الحرير وتحميله وإبحاره بزوق مكايل. وبعد ربع قرن كان أبو نوفل الخازن نائباً لقنصل فرنسا، مع امتيازات نيابة القنصلية، ببيروت، قبل ان يرقى القنصلية نفسها في 1666. وفي 1671 حصل أبو نوفل من السلطان العثماني على إقطاع كسروان له ولأولاده وأعقابه.

الانقطاع والفعل

وقايض الأعيان الموارنة تعاظم نفوذهم وإعمارهم الأرض جنوباً، أديرة وأوقاف كانت بمنزلة مهور الأديرة. وفي 1736، قبيل قدوم هندية، بلغ عدد الأديرة المزدوجة (أو المختلطة المصلى والمطبخ)، للرهبان والراهبات، عشرة، ويأوي إليها مئة وستة وثلاثون راهباً وراهبة. ولم ينفع إنكار الكنيسة الرومانية الأمر، ولم يؤد إنكارها الى "إصلاحه" قبل عام 1824. فالازدواج كان ذريعة الى تقليص أعباء الدير، وإلى تقوية رقابة الأهل على النساء من طريق الرجال عموماً، والرهبان والأقارب خصوصاً. ولكن لقاء هذا ضعفت الحياة النسكية والسلكية، وتلاشت الحدود بين مراحل الرهبنة ومراتبها، وزادها العدد القليل ضعفاً على ضعف.
فكان إنشاءُ الرهبنة اللبنانية (الحلبية) بمبادرة من جبرائيل حوّا، عم والدة هندية، وأمثاله من أولاد تجار حلب المتعلمين والتواقين الى تدين أشبه بالتدين الكنسي الكاثوليكي (الإصلاحي)، كان رد جواب على غلبة الأهل على حياة الرهبنة والانقطاع. فنص قانون الرهبنة الجديدة، الى تدوين قانون مكتوب، على ترئيس رئيس عام عليها، ينتخبه الرهبان مباشرة مرة كل ثلاثة أعوام. وجمعت بين الانقطاع عن العالم وبين الفعل فيه، على المثال المتحدر من مجمع ترانت ومن المجمع اللبناني (1736) والوجهة التي سعى يوسف السمعاني في إرسائها. فكان قانونها تأليفاً بين تقليدين متباينين. وأنكر عليها هذا التأليفَ الكنيستان المارونية المحلية والرومانية الجامعة. ولكن تأليفها هذا كان يحتسب، على قدر من الدقة، النازع الفردي والمديني الناشئ، ونظيره النازع المنهجي الصارم، من غير ان يطرح دوامَ فعل التقاليد الأهلية البلدية والجمعية. وليست هندية عجيمي بغريبة عن مثل هذا التأليف كذلك. وهي جمعته بدورها بين الغلو في التجريب الصوفي الفردي وبين سطوة المرتبة والرئاسة وسلطانهما الساحق. وكان قانون رهبتها إحدى آيات إلهامها على زعمها.
ولم تكد هندية تقر في الجبل حتى تنازعها نازعان قويان. فأراد اليسوعيون ضمها الى حزبهم طوعاً أو كرهاً، "بالمحبة أو بالقسر". وألحوا عليها في لبس ثوب الراهبات النازلات دير عينطورا. أما "الشخص الذي كان يظهر (لها)" فقال لها "على القانون والرهبنة وعلى استحقاقات قلبه الأقدس"، وعلى ما سماه، مكلماً إياها، "الموهبة التي أريد ان أعطيك إياها (فـ)توضح استحقاقات سر تجسدي، واتحاد لاهوتي بناسوتي، وعظمة نفوذ الاستحقاقات من ناسوتي ومن جراحاتي الغير متناهية بفاعليتها كما أشاء".
ولما أمر الأب العام للجمعية، أنطوان غينار، انطونيو فانتوري مرشد العابدة نزيلة عينطورا، حملها على الانضمام الى راهبات الدير الذي يتولاه اليسوعيون حمّلت هندية معرّفها ومرشدها التبعة عن عصيان "الشخص" صاحب "عطيتها". فامتنع الراهب اليسوعي من احتمال التبعة، ورد بتوكيل أمره وأمر هندية الى حالتهما. وهذا الرد هو بمنزلة التنصل. فطلبت هندية الانتقال الى دير حراش، كرسي المطران جرمانوس صقر الحلبي – وهو سامه طوبيا الخازن مطراناً وقصد بسيامته تقوية معارضته البطريرك سمعان عواد من طريق استمالة الحلبيين، أو الجناح المديني من الرهبنة الجديدة، بإزاء البلديين (أو "أولاد الجبال") -. وإلى جرمانوس صقر كان يقيم بدير جماعة الراهبات الملكية والحلبيات اللائي تركن دير زوق مكايل قبل أقل من عقد من السنين، على ما مر.
وفي ختام أسبوع كان تركه الأب العام للعابدة المتنازعة، فإما تحزم أمرها وتلبس الثوب عن يد جمعيته أو تطرد من دير عينطورا، ويُغلق بوجهها بابا دير حراش ودير مار الياس الراس، أنفذ الأب العام وعيده. وكان مضى ثمانية أشهر على قدومها لبنان، حيث لا تعرف أحداً تلجأ إليه، وما تنتابها الحمى بين الوقت والوقت وتهزها. فأخرجت من عينطورا وهي على هذه الحال من الضعف والتقطع. ومر بها مصادفة "البادري انطون"، معلم اعترافها. فألجأها، شفقة، الى حظيرة المعهد اليسوعي، ثم عاد وعهد بها الى أرملة وابنها ينزلان بيتاً بين عينطورا وحراش. وتوسط الراهب اليسوعي لدى المطران صقر لعله يستقبل العابدة الطريدة والوحيدة. فلم يشأ صقر استعداء الجمعية القوية. وهو كان ألجأ الى ديره "الروميات" الحلبيات اللواتي لم يردن الذهاب الى الشوير وآثرن إرشاد الآباء الموارنة. وقبلت روميات دير حراش استقبال مواطنتهن الحلبية والمارونية. فحلت عليهن ضيفة متنقلة بين حجراتهن طوال سنة كاملة.
وحمل عنادها جرمانوس صقر، رئيس الدير، على قبول تولي اعترافها، وهو كان تردد في قبول لجوئها الى ديره. ولم ينجح غينار، الأب العام اليسوعي المشرقي، في إعادتها الى جمعيته ولو من باب الإرشاد والاعتراف. ولم يلبث المطران صقر ان اقتفى أثر فانتوري. فأيقن أن "رعيته" من أهل الولاية والقداسة، واستأنف من ابتدأه سلفه اليسوعي الإيطالي من تدوين "سيرة هندية" ووقائعها وأخبارها. وأرادت جمعية اليسوعيين الاستدراك على خروج هندية من عهدتها الى عهدة المطران الماروني، فعجلت رسامة أخي هندية، نقولا، راهباً. وأوفدت الراهب الجديد والفتي الى جوار اخته، في 1749، لعله يفلح فيما أخفق فيه فانتوري وغينار.
وكان المطران صقر دعا هندية الى مفاتحة رئيسة الراهبات الملكيات، مضيفاتها، بأمرها وأمر "أحوالها" ومشاهداتها. ففعلت على مضض. واستمالت بعضهن، ومن اللائي استمالتهن الرئيسة نفسها. وتعصبت للعابدة المريضة والطريدة راهبات جئن من بجة، من بلاد جبيل، وعلما، من ساحل كسروان. وسيكون لبعضهن، مثل كاترين العلماوية، أثر عميق في جنوح هندية، وذلك ربما على قدر تأثير هندية فيهن. فهذه، وهي في الثلاثين من العمر، اجتمع لها اختبار عقد كامل من المران والفحص الذاتيين والمنهجيين، على مثال "تمارين" اغناطيوس (اللوليولاوي – من لويولا). ولا ريب في أن "بنات" بجة وعلما الريفيات، وجلهن مولودات لآباء خوارنة، بهرتهن الحلبية المتمرسة بالرؤى و "الانخطاف"، والمصلوبة على منازعات نفسها المقيمة ومراجعاتها. فزادتها استمالة مرشدها الجديد وانبهار زميلاتها بها يقيناً بدعوتها الى إنشاء رهبنة موقوفة على قلب يسوع.
ولما فاتحت هندية مرشدها الجديد، المطران جرمانوس صقر بوعد "العطية"، أي بإنشائها رهبنة جديدة تحمل اسم القلب الأقدس، رد رئيس دير حراش بأن الجبل فقير، ولا يقوى على إعالة دير راهبات جديد ولا على مهر "بنات" ينذرن أنفسهن الى رهبنة جديدة. ولكنه سرعان ما تخلى عن تحفظه الأول، وكتب قانون الرهبنة، على النحو الذي أملته عليه هندية "الملهمة". وتحول معلم الاعتراف الى كاتب أمالي الوافدة الغريبة. وبلغ به شغفه بالأمر مبلغاً حيّر بعض المؤرخين فيما يعود الى صاحبة الإملاء أو يعود الى الكاتب (وليس ميشال حايك من المتحيرين: "فهي هي ربة الكلمة تطلقها على السامعين من حولها فيعجبون... حتى وثقوا جميعاً بأن كلامها يمليه عليها الحق الأزلي"). وأذاع البطريرك سمعان عواد قانون الرهبنة في أول آب (أغسطس) 1751.
ورسم قانون الجمعية أن يتولى تدبير الأخوية الروحي أسقف يستقر في دير بكركي، حيث استقرت "الأم" هندية من بعد، ويكون بمنزلة رئيس عام على جميع الأديار، من غير ان تنقض رئاسته "ولاية مطارنة الأبرشيات" التي تقوم فيها الأديار. ورد الأب مانشيني، مبعوث الفاتيكان و "عينه" على قضية الراهبة، مادة القانون هذه بذريعة ان الرسم ينقض حقوق المطارنة في الولاية المباشرة على أديار أبرشياتهم. ورد الرسم الذي يجيز دوام رئاسة رئيسة الجمعية مدى حياتها، أو يوجب هذا الدوام، بقوله ان هذا "الاستمرار" قد ينقلب "مصدراً للبغض والجور والاستبداد". وينسب المبعوث الفاتيكاني، وهو أحد سراة العصبية الكنسية على المرأة وجنسها، الآفات الخلقية هذه (البغض...) الى "طباع النساء"، وكأنها في الرجال أضعف منها في النساء. ويرفض الأب مانشيني تقييد اختيار المطران مرشد الراهبات بـ "رضى الراهبات". فللمطران وحده الكلمة الفصل في المرشد، رضيت الراهبات أم لم يرضين. ويذكر الرقيب الفاحص بأن الكنيسة لم ترسم "عيداً خاصاً لقلب يسوع"، وينفي علمه بما اذا كان الكرسي الرسولي "أثبت طلبة قلب يسوع التي يتلوها راهبات بكركي". ويجهل "ما قوام العيد الذي يحتفلن به من باب الوصية". ولمّا لم "تحدد (الكنيسة) ما اذا كان القلب هو المبدأ الحسي لجميع الفضائل والشواعر"، فلا ريب في إشكال غاية رهبنة بكركي، أي رهبنة الأم هندية عجيمي، وهي (أي الغاية) "التعبد الدائم لقلب يسوع".

الإلهام والغلو

وتنحو هذه الرسوم، على ما هو ظاهر، نحو تغليب الأم الرئيسة على الجمعية ولاً، وعلى الهيئات الكنسية والمراتب الكهنوتية، غلبة قاطعة لا راد لها ولا قيد عليها. وتبتدئ هندية، وهي ترسي سلكها على ركن غير مسبوق ولم يمهد له تقليد كنسي معروف ومتبع (العيد الخاص، قوامه، محل القلب من اللاهوت "اليسوعي"، الغاية من هذا الضرب المخصوص من التعبد)، تبتدئ طريقة لا مثال لها ولا معيار يُحتكم إليه في شؤونها وشجونها. ولعل إدراكها الأمر إدراكاً حاداً حملها على طلب التحلل من الرقابة "القانونية" على عمل رهبنتها، من وجه أول، وعلى اعتقادها وإيمانها، من وجه آخر. فهي فيما تقول وتعمل وتريد إنما تصدر، على زعمها، عن "شخص" تراه وتسمعه وحدها. وهي، أي ما ترويه، واسطة هذا الشخص الوحيدة والفريدة.
وإذا روت هندية عن الشخص ("إن كنت أنت سيدنا يسوع المسيح") فإنما تروي عمن تطلب إليه ان يعطيها نعمة "بإيمان حي". والإيمان الحي، على حسبها، هو خلاف الاختبار وخضوع الإرادة. وتسأل من ينظر إليها ويكلمها سؤال المنكر: "لماذا تطلب مني ان اقتبل (النعمة) باختياري وخضوع إرادتي". وتخلص الى الاشتراط على "السيد": "إن كان هذه العطية من الله ليعطيني (ليعطني) إياها بلا قبول اختياري المعتوق" أو إرادتها الحرة. فما تنكره المتعبدة الملهمة، والغالية في إجراء ما ترى وتسمع وحدها مجرى الإلهام، هو امتحان التجسد، وعقدته البشرية والإنسية: "وأريد (العطية أو النعمة) مختصة لنفسي وليس لجسدي بها حس". فيقول لها "الذي (تخاطبه)": "لم تحسي بمفاعيل الحس الروحي (...) إلا في الصعوبات فقط والضيقات المتراكمة (...) لأن ما لـ (جسدك الترابي) وميله تخصيص يناسب حسه الهيولي المادي إلا بالصعوبة فقط". ومحاورتُها الذي تخاطبه، وتلاوته عليها "حقيقة" المرتبة الإنسية، أي قيام الروح بالجسد (سَكَنُ النفس اللحم والعظم على قول المتنبي) واستحالة قيامها بغيره ومن دونه، تردان (المحاورة والتلاوة) هندية الى التراث الذي تصدر عنه، وإلى المنازعة التي تنزل منه منزلة المبنى والأساس.
وتحاكي بعض قوانين الرهبنة، وزعمت هندية أنها أُلهمتها منذ حداثتها بحلب، الأمر الإلهي. فيذهب القانون 17 الى ان المسيح "لا يدين المطيع إطاعة عمياء على ما عمله بأمر الطاعة". وهذا حض على الطاعة العمياء واطراح لها من الدِّين والدَّين جميعاً، ومن الثواب والعقاب. ويخلص القانون نفسه الى قلب "نظام" هندية: "كما ان الأخت المطيعة تخضع بالطاعة للجميع هكذا يُخضع الله لها جميع الأشياء". فلا يملك الرقيب الرسولي نفسه من القول (أي الكتابة): "ما هذه الوقاحة؟". فبولس الرسول، في رسالته الى العبرانيين، يقصر الأمر على الرب وحده، "فهو وحده كل شيء أُخضع له". وعلى هذا الأصل تتفرع فروع من مثل ان تدعى الرئيسة بصيغة الجمع "يا أمنا"، وليس بصيغة المفرد، والتماس الراهبات غفارين كاملة في 93 يوماً من السنة لأنفسهن ومرتين في السنة لكل زائر كنائسهن (ويرد هذا الرقيب الكنسي بقوله انها "طلبات جسيمة").
وكان، في الأثناء، دير صغير ببكركي يعود وقفه الى ولدي خطار الخازن، اسعد وخازن، ينتقل من سلك رهبان يقيمون به، ويرعون كنيسته، الى المطران جرمانوس صقر، مدبر الأخوية الجديدة، بإقرار البطريرك وبعض المطارنة. وفي الخامس والعشرين من آذار (مارس) 1750 اتشحت هندية وبعض صواحبها بالثوب الرهباني وأبرزن النذور الثلاثة، وأنشأت جماعتها. وعدت هذه خمساً وعشرين أختاً، نظير سبع عشرة بدير عينطورا وتسع وأربعين بدير حراش. وبين حبيسات دير بكركي ثلاث بنات مشايخ من آل الخازن، إحداهن هي تيريزة بنت الشيخ نوفل الخازن، قنصل فرنسا ببيروت.
وآذن إنشاء الرهبنة، والتصديق عليها، بذيوع صيت هندية عجيمي ورؤاها وعبادتها وكراماتها (أو "أعاجيبها"). فشد هذا إليها، وإلى الكنيسة المارونية من ورائها، موارنة بلاد الشام الشمالية وفلسطين ومصر، وجمعهم تحت لواء كنيستهم وهم قلما يجتمعون. فقوى اجتماعهم كنيستهم وجماعتهم بإزاء خصومهم وإخوتهم في الكثلكة الجامعة، "الروم" الملكيين واللاتين، وبإزاء المسيحيين من الطوائف غير الكاثوليكية، وبإزاء غير المسيحيين. فـ "ولاية" هندية لم يقتصر اعتقادها على قرى كسروان وجوارها القريب، بل تعدى الجوار هذا الى دوائر بعيدة.
وكان الآباء الكبوشيون، مدبرو دير الشوير، أول من ثارت حفيظتهم على "الولية" الجديدة. فندد رئيسهم العام، غبريل دوكانتان، بما يشاع من "أعاجيب" من كل نوع وضرب تجترحها قديسة مزعومة تسمى هندية، وهو اسم عمادتها (وهذا تعريض جارح، فليس الاسم بين اسماء العمادة طبعاً وهي موقوفة على القديسات المطوبات)، ويشرف عليها اسقف رفع الى رتبة الأسقفية في زمن الخروج عن الكنيسة (وهذا تعريض بالبطريرك طوبيا الخازن الذي سام جرمانوس صقر مطراناً). وينكر الراهب الكبوشي على هندية استقبالها الزوار مستلقية في كرسيها، وتركها زوارها، من مسيحيين "وترك ودروز"، يلثمون طرف ثوبها، وزعمها شفاءهم بوضع اليد على مرضاهم، وتوسلها بفصد دمها ثلاثين مرة وبنزفها دماً على قدر الدم الذي سال (على قولها) من جراحات المسيح.
ولقي رمي هندية بتهمة الشعوذة "الشرقية" ومماشاة شعائرها، على الضد من العقلنة الكنسية "الإصلاحية" واليسوعية، قبولاً لدى اليسوعيين الفرنسيين وأهل التدين المعتل والمهذب الذي أخذ يشيع في القرن الثامن عشر في أعقاب فورة القرن السابع وقدّيسات هذه الفورة. ولكن اليسوعيين الإيطاليين، ومنهم انطونيو فانتوري صاحب اعتراف هندية السابق ورائي رؤاها، خالفوا زملاءهم الفرنسيين في ولاية العابدة المارونية، واعتقدوها. فطارد الفرنسيون زميلهم الإيطالي وسعوا في القبض عليه، وناشدوا قنصل فرنسا بصيدا مساعدتهم على ذلك. وأمر الأب العام الراهب الهارب والمتخفي بالسفر الى الحاضرة الكاثوليكية طوعاً لقاء العفو عنه.
فلم يملك البطريرك الماروني، سمعان عواد، تبديداً للغط الذي أثاره الكبوشيون واليسوعيون، إلا تكليف الأب ميخائيل فاضل، أحد طلاب المعهد الماروني "اللامعين"، التحقيق في ما يقال في هندية، وفي شبهاتها. ولم يكن مضى على انتقال هندية الى دير بكركي غير شهرين. وبعد شهر، في أول تموز (يوليو) 1750، كتب ميخائيل فاضل كتاباً الى البطريرك يدرج فيه رهبنة قلب يسوع في مقاصد العناية، ويجعل من هندية وسلكها وسيلة من وسائل نهوض الكنيسة المارونية الشرقية الى دور مسكوني وجامع.
ولم يفت المعاصرين، على نحو ما لم يفت الخالفين مثل القس بولس عبود (1909 و1910 و1911) والأب بولس فهد (1972) – وكلهم كتبوا في الراهبة هندية عجمي – أن إدراج هندية في سياقة العناية يعهد الى الكنيسة المارونية، وإلى المسيحية الشرقية عموماً، بصدارة "وطنية". ويدعوها تالياً الى الاضطلاع بهذه الصدارة على وجوهها كلها، ومنها الوجه السياسي.
وعلى هذا كانت "حركة" هندية الدينية، من قداستها وولايتها الى رهبنتها وعبادتها، باعثاً على بلورة وطنية مستقلة بإزاء الجماعات المسيحية المحلية المتفرقة، وبإزاء التدين الكنسي الكاثوليكي. ولا عجب إذا كان "الاتحاد"، أي الصدور عن معين ملهم أول، سبيل هذه الحركة الى العلانية والعبارة. فالاتحاد من غير واسطة مرئية أو معروفة، أي من غير قيد ورقيب خارجيين وتقليديين، هو المدخل الى إنشاء وإيجاب غير مشروطين. ومن طريقه تستوي الجماعة المتفرقة والمختلفة فاعلاً وصاحب تاريخ. ومن طريقه كذلك يتعالى الفرد، امرأة أو رجلاً، على أوضاعه المقيدة.

ليست هناك تعليقات: