الحياة - 24/12/08
بين رمي صحافي محطة «البغدادية» العراقية منتظر الزيدي الرئيس الأميركي بحذاءيه، على مرأى من جمهور العالم المتلفز والواحد، وبين الإعلام المرئي والصوري في صيغته المشهدية و «الحية»، علاقة جوهرية وحميمة، فالإعلام المرئي الفوتوغرافي التلفزيوني يصوّب آلات تصويره وعدساته صوب موضوعه أو غرضه الذي «ينقله»، على ما يقال تيمناً بحياده وموضوعيته ومديحاً لهما. وهذا ما يصنعه حقاً. ولكن عينه اليقظة على الدوام، وتغلغله في ثنايا الأحوال والمواقع والأوقات، وصلته المباشرة وهو بأقاصي الأرض بمركز عالمي يقوم في وسط شبكة أخطبوطية، هذه كلها تنصّبه شاهداً «حقيقياً» على الواقعة «الحقيقية»، الظاهرة والعارية. وحمل هذا صناعة الإعلام المرئي، وهو مرئي على شاشات التلفزيون (على أنواعه) وشاشات الإنترنت وشاشات أجهزة الهاتف المحمول جميعاً، حملها على انتخاب الحادثة الحارة والحية. وحمل هذا، من وجه آخر، الحوادث والوقائع نفسها، أي صانعي الحوادث وفاعليها، على انتخاب الصورة التلفزيونية مناسبة ومعرضاً. فيتعمد صانعو الحوادث، ومعدوها ومبيتوها، انتهاز الفرص المتلفزة، وسوقها العامرة والقائمة، فيرمون في السوق بضاعتهم وسلعتهم. وهم يرجون تهافت الزبائن والمشترين والمقاولين على «شراء» الصورة «التاريخية»، على ما وصف عدد لا يحصى من المراقبين والمناضلين والصحافيين («المرئيين» أولاً) صور الحادثة البغدادية.
السلعةفالصور هذه تحقق مثال صناعة الإعلام المرئي التلفزيوني (والكابلي والانترنتي). وسلعته المفضلة هي «الإعلام في وقت حقيقي»، على قول أرباب الصناعة هذه وصياديها ومقاتليها. و «الإعلام في الوقت الحقيقي» يتخطى الإعلام على معناه الواقعي القديم، أو النقلي، الى صناعة الحادثة نفسها. فما أن تأنس الصناعة هذه الى رواج الصورة المحتمل، وتعاظم وقعها، حتى تجدد بثها ما لا يحصى من المرات. فبث موقع غوغل رمي الحذاءين (من طريق «يوتيوب») في أكثر من 70 شريطاً، زارها في أثناء 24 ساعة 600 ألف زائر. وبث موقع فرنسي لتبادل الصور 50 شريطاً لجزء الواقعة (والواقعة، على ما نسي، هي مؤتمر نوري المالكي وجورج بوش الصحافي)، شاهده 200 ألف زائر. فاستوى رمي الحذاءين الحادثة «التاريخية»، على معنى الذائعة والمشهورة، التي استواها، أو «لقطة العصر»، على قول أحد قاطني حي الكرادة بوسط بغداد، أبو حسين (84 سنة). وعلى هذا، فالتاريخي هو «اللقطة» أو الصورة المدوية، على ما لم تفت المعادلة الشيخ البغدادي المسن، على رغم سنّه. فهو «ابن التلفزيون»، على ما يصف الرئيس الفرنسي «الشاب»، ساركوزي، نفسه مفاخراً. وتحكي العبارة، «ابن تلفزيون»، عبارة سبقتها هي «ابن دعاية»، على ما وصف مصمم حملة الرئيس الفرنسي الأسبق الرئاسية نفسه عشرين عاماً قبل ساركوزي. والحق أن جيش الصحافيين العرب، والمسلمين، الذين تباروا في تناول الواقعة - الصورة، وبهرتهم «حقيقتها»، إيجاباً وسلباً، امتلاء وفراغاً، إنما حداهم على التهافت عليها «إعلاميتها» أو «صحافيتها». فالصحافيون، وكثر غيرهم من الشهود، يتهافتون على سلعة هي بنت حرفتهم وصناعتهم. وهذه السلعة، الصورة، صورة عظيمة أو مكبرة عن مثال المهنة والصناعة، وعن الحال التي انتهت إليها عن يد «الجسم» الإعلامي.فهم يرون أنفسهم في مرآة الصحافي العراقي وصوره «لحظة» رميه حذاءيه. وهم ليسوا زملاء الرجل وحسب. وهو لم يرم، حين رمى وعلق على رميته، زميلاً، أي على صفته صحافياً. فبادرته «تختصر»، على ما يحسب الإعلاميون المرئيون وغير المرئيين القول، في حركة وشتيمة وعبارة، أوضاعاً وأحوالاً معقدة ومتشابكة. فجاءت الرمية، في المحفل الذي جاءت فيه، على مثال العمل الصحافي «الأعلى»، أي اختصار الأوضاع والأحوال والآراء، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وإيجازها في «لقطة» أو لحظة فاقعة، جامعة مانعة (إيجاباً أو سلباً، على ما تقدم)، و «عالمية»، على قول أحدهم. فإعلاميو الصحافة المكتوبة، شأن المصورين وراء العدسات ومُعْمِلي محركات البحث وباثي الصور الرقمية ومتلقيها، يطاردون بدورهم البادرة أو الحادثة التي يعود إليهم الإشارة الى «تكثيفها» المفحم والساطع بالعوامل الكثيرة والمتشابكة، والعصية على الفهم. وهم يعتقدون، شأن صناعيي الدعاية والتحريض السياسي والديني، حقيقة التكثيف «الرمزي» هذا، ويؤمنون بأداء الواقعة الرمزية، وصورتها المتلفزة والرقمية والورقية، (عن) الوقائع الكثيرة والمتشابكة، وعبارتها (أو تعبيرها) عن الوقائع.ومثال «العمل» الصحافي، مراسلة أو ملاحظة وتعليقاً وتحليلاً، هو الركض شطر الحادثة المكثفة والرمزية، وإثباتها، والتزاحم على استنطاقها المعاني الغزيرة التي لا يشكون في انطوائها عليها واستبطانها. وعلى الكتابة الصحافية، على رغم الوقت الذي يفترض أن تتمتع به، والمسافة أو البعد الذي يمكّنها من بعض الإحاطة بالحادثة والحوادث التي تحفّها، وتضعها موضعها من جملة الحوادث، تسعى الكتابة هذه في محاكاة صناعة الإعلام المرئي، وتتبنى فهمها للحوادث السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والشخصية، ولمعاني الحوادث هذه ومضامينها.والخبر، أي الجزء الذي اشتهر منه، ذاع على وقتين أو مرحلتين. وغلب، في المرحلة الأولى، تعليق الصحافي العراقي اللفظي أو الكلامي، أو ربما تساوى، تقريباً، رمي الحذاء بنعت الرئيس الأميركي بـ «الكلب»، وبتحميله المسؤولية عن ضحايا الحرب العراقية، أي الغزو والرد عليه والتذرع به إرهاباً واقتتالاً ومقاومة (وهذه حصتها حصة القريب الفقير واليتيم). ولم تنقض 24 ساعة، أو بعض اليوم، على الحادثة وصورها، وفي الأثناء تلقفتها صناعة السلع الإعلامية، حتى اختصرت الصورة وحدها الواقعة. ونُسيت الشتيمة المدوية، وصيغة الإدانة. وسقط، في اليوم التالي، شطر من تعليل الأهل، الأشقاء الثلاثة والشقيقة، حركة شقيقهم، ودعوتهم الى النظر في مساواة شقيقهم «الاحتلال العسكري الأميركي» بـ «الاحتلال المعنوي الإيراني». وطوي التنويه بيساريته وشيوعيته الغيفارية، أي المجددة المحدثة والسينمائية النجمية. وبقي من هذا مقارعة داود بزوجي الحذاء الجبار غوليات (أو جوليات)، وكناية داود، المنتظر، عن الاقدام المؤيد بالحظ والرضا، وكناية بوش عن السطوة والسلطان الضعيفين الدنيئين والزائلين بإذنه تعالى.وغداة ذيوع الصورة، على حالها هذه من العراء السلعي والمعنوي معاً، تنافس المعلقون على أصنافهم، على أداء معناها، ومكافأة المعنى إيجازاً وجمعاً ومنعاً وإفحاماً ورمزاً أو ترميزاً. فذهب صحافيون كتاب الى نعت الحذاء بالمعادن الثمينة، وهي معقل قديم من معاقل الرمز الخالص. فنعتوه بـ «الماسي» و «الذهبي». وفي حسبانهم أن الكائنات مرتبة على مراتب، وعلى معادن وجواهر (خسيسة ونفيسة) وأحساب، يتربع الماس والذهب في أعلاها وأشرف مراتبها. وذهب آخرون الى حمله على مراتب القوة العسكرية والمسلحة. فهو «حذاء دمار شامل»، على شاكلة السلاح الذي يسعى الحكم الإيراني الخميني في امتلاكه بوجه الولايات المتحدة والعراق وبلدان الخليج والشرق الأوسط، وسعى صدام حسين من قبل في امتلاكه بوجه إيران البهلوية وأميركا («حليفه») وبلدان المشرق، خليجاً و «هلالاً»، المتحفظة من «مهابته» و «نشامته». وهو، الحذاء، «مذنب كوني» يسبح في الفضاء، ويسبق أسلحة الدمار الشامل الى الفضاء الخارجي، ويؤذن بعسكرته، ويتوج الهذيان النووي «الإيراني» بهذيان كوني: فالحق في تخصيب الأورانيوم، وفي النهضة العلمية، ينبغي ألا ينفك من الحقوق المتممة مثل الحق في إنشاء مركبات فضائية تخزن فيها صواريخ نووية الرؤوس وتعبر الكواكب.
الحضرةوليس هذا تفكيراً سحرياً كله. فأصحاب هذا الرأي أو هذه العقيدة، لا يفترضون فاعل التحويل وصانعه روحاً أو جناً أو حِنّاً. ولا يخلون فجوة أو فراغاً في سلسلة الأسباب، وإن لم تكن هذه كلها مادية أو طبيعية، ولا بين العلة والمعلول. فقال إمام صلاة ومسجد أبو حنيفة النعمان، وهو مسجد أهل السنّة الأعظم في الأعظمية، في خطبة الجمعة، وأقسم: «والله ما رماه»، يريد أن منتظر الزيدي لم يرم الحذاء الذي قال فيه محامي الصحافي مقالته، «ولكن الله رمى». فلا يتهيب الشيخ عثمان رحيم محمد، وهذا اسم الإمام، التضمين بالآية 17 من سورة الأنفال، وربما بالآية الرابعة من سورة الفيل, وبآيات أخر من سور الأنفال والأعراف ويونس والنمل وآل عمران. ويشفع للشيخ العراقي البغدادي ربما تأويله الرمية «موقفاً بطولياً أمام الباطل». وهذا تأويل زمني دنيوي وقومي. وهو يحمل البطولة على القدوة العملية والأخلاقية. فيقول: «كان حرياً بنا نحن، ومنذ الأمس، أن نقف ذلك الموقف». ولكن الزمنية الدنيوية حين تُشبك بالبطولة، وبوجدان الأمة أو الشعب الجمعي، تجر مادحيها، ودعاة الاقتداء بها، الى معين البطولة المفترض، ونسب الأبطال الأول، على ما يرويه الإغريق والرومان، وترويه ملاحمهم. فالبطولة ليست شأن الأبطال وحدهم، ولا من صنع أيديهم وإرادتهم، وإنما هي من العلامات على «إرادة» تتخطى البطل، وتتعالى عنه. والبطل هو «من يستسلم الى قدره»، ويقبل عليه لأنه يحدس فيه قصداً عظيماً، ويقول لقدره المتصور في صورة السيوف: «خذيني».ولم تمتنع الرمية، ولا امتنع صاحبها، كاره «الاحتلال المعنوي الإيراني» كرهه «الاحتلال المادي الأميركي»، من التأويل الإيراني العاشورائي. فاقترح آية الله أحمد جنتي أحد خطباء الجمعة بطهران وأحد أعيان النظام الخميني، اقترح، على ما تقول وكالات الأخبار جادة، «جمع أجزاء حذاء (منتظر الزيدي)، ووضعه في المتحف العراقي، وانطلاق العراقيين والإيرانيين في انتفاضة أحذية على الولايات المتحدة». وفي الأثناء، كان الحذاءان (التركيان) مزقهما رجال أمن عراقيون وأميركيون شر تمزيق، خشية حشوهما بالمتفجرات على شاكلة رجل «القاعدة» وراكب طائرة على خط نيويورك - لندن في 2002، على ما زعم بعض الناطقين الرسميين العراقيين. فجمع أجزاء الحذاء قريب من النفخ في رميم العظام وبعثها. والوضع في المتحف تأبيد وتخليد على قدر المستطاع التاريخي. وما كان مجازاً بدوياً وأردنياً، «الوشم على خد الزمن»، تترجمه «الآية» الإيرانية تحفة في مبنى رسمي. ويقدر خطيب الجمعة الطهراني أن مبناه وجامع تحفه «باق الى ألف عام»، على شاكلة الرايخ الثالث الهتلري أو رجاء عبدالله بن علي (العباسي) السفاح في خطبة الولاية. و «انتفاضة الأحذية»، على لسان الركن الخميني، موكب من المواكب التي أولاها المرشد الأول هز أركان السلطان، و «قبر» الخانات والخاقانات والسلاطين. فهي المثال الصوري والإجرائي الذي تقع عليه الثورات «الإسلامية» وقوع العاشق على شكله أو نصفه المتمم، على زعم عرفاني أصيل.وعلى هذا ليس منتظر الزيدي، ولا الآلة التي رجم بها خاقان البرين والبحرين، وتمثال الجور والباطل والظلم، الشاب البغدادي العراقي والعربي المسلم والغيفاري، الى آخر أبواب تعريفه الظاهر. وبالأحرى هو لم يبق هذا. ولا يستوفي الظاهر تعريفه المشترك، البطولي والجهادي، منذ رميته، وسطوعها على الشاشات وصفحات الصحف والمنابر. فشأن الأبطال والأبدال والأولياء وأهل الكرامات، يتحدر «ذو الحذاء» (أو «ذو الخف») من الأمة ووجدانها وروحها وتاريخها المجيد مباشرة. وهو حلقة في سلسلة «الحجج على الخلق». وخليل الدليمي، رئيس هيئة الدفاع عن صدام حسين والمبادر (خطابة ولفظاً) الى دعوة هيئة من 200 محام، عراقيين وعرباً وأوروبيين وأميركيين، الى الدفاع عن مراسل «البغدادية»، تعرف في صاحب الرمية على «امتداد» «للرئيس العراقي الراحل»، على نحو ما هيئة الدفاع الجديدة هي امتداد لهيئة الدفاع السابقة.وتنافس إسلاميو الإسلام السياسي، الإخواني و «الجهادي»، على الاحتفاء بـ «ذي الخف». فتظاهروا حيث قدروا، بالنجف ومدينة الصدر ببغداد ونعلين وبعلين الفلسطينيتين (في الضفة الغربية) ولاهور وكراتشي وإسلام أباد وبيشاور. وتظاهر أنصار حقوق الصحافة وحرية الرأي والقول بلندن وأونتاريو وعواصم أوروبية وغربية أخرى. ووصفت التظاهرات الأولى صاحب الرمية بـ «المجاهد» و «البطل». واقتصر تضامن الدول التي هلل بعض قادتها وأجنحتها السياسية ونقاباتها المهنية للفعل، على بيانات وتصريحات. فمنحت جمعية «واعتصموا» الليبية، وترئسها بنت معمر القذافي (وشقيقة هنيبعل ضارب الخادمة)، صاحبنا جائزة «الشجاعة». وندد 70 نائباً مصرياً، هم معظم الـ77 نائباً اخوانياً، بـ «تعذيب» الزيدي المفترض، ودعوا منظمات حقوق الإنسان الإقليمية والدولية، تلك التي تولت التمهيد بدوربان (الجنوب أفريقية) في أيلول (سبتمبر) 2001 الى غزوتي نيويورك وواشنطن المظفرتين، الى التضامن والحماية. وأفتى التجمع الإعلامي الفلسطيني بغزة في «خطوة الزيدي» بأنها «تعبير عن روح الأمة الرافضة للهيمنة الأميركية»، على شاكلة اعتقالات غزة واغتيالاتها ومقاومتها. وصفقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، رائدة خطف الطائرات المدنية الى «هانوي» الأردنية، لـ «مدى رفض الشعب العراقي للاحتلال الأميركي الغاشم». وأنكرت نقابة الصحافيين التونسيين «تعنيف الزميل أمام وسائل الإعلام وعلى مرأى من الرئيس بوش»، وهي ربما تؤثر التعنيف وراء وسائل الإعلام، وفي الخفاء عن الرئيس، أياً كان هذا. ومدح هوغو تشافيز «الرجل الشجاع»، بينما كان يوقّع شيكاً الى قادة مهربي «فارك» الكولومبية وخاطفيها، ويسدد ثمن خدمات «فيلق القدس» الحرسي الإيراني الاستخباراتية. وموكب الأقنعة الحذر يطول.وحذر القادة وأولادهم، والصحافيين واتحاداتهم، والجبهات وبياناتها، والنواب وبرقياتهم، مفهوم ومعذور. فرمية المراسل العراقي تشترك في معنيين أو طبيعتين مختلفتين ومتقابلتين. فهي رمية الضعيف ورجمه وكلمة حقه، من وجه، وهي انتهاك «حضرة» السلطان والخاقانية والشاهنشاهية «العظمى»، من وجه آخر. وعلى هذا، فالانتهاك إنما عظمته وبطولته وقدسه على قدر عظمة «الحضرة» المفترضة. والإقرار بعظمة السلطان الجائر والظالم، ولو في معرض الحط منه، وإنزاله من مرتبته العلوية الى حضيض النعل، وهو قرين الأرض والوحل والتراب والغبار، هذا الإقرار يحرج المنتهك وأصحابه وأنصاره. فينصبون بإزاء السلطان «العظيم» ضداً أو نقيضاً يصدر عنه المنتهك، ويتكلم باسمه، ويقاتل بسيفه (وصورته)، هو الأمة أو الشعب أو الضحايا. ويروي أهل المراسل التلفزيوني أنه كان يحمّل جورج بوش المسؤولية عن «خمسة ملايين قتيل عراقي». وهو رمى الرئيس الأميركي، ونعته بالكلب، بالوكالة أو النيابة عن أمة القتلى والضحايا وشعبهم. ومن انتصروا لصحافي الكرادة البغدادية الشاب، وهللوا وصفقوا، يحسبون أنهم ينتصرون لهذه الأمة، ويصدرون عنها، وعن «حضرتها» الغائبة، على قول محمود درويش المفترض شعرياً وحقيقياً نافذاً.فالمشهد المتلفز حفل تتويج مقلوب رأساً على عقب: لباس القدمين محل تاج الرأس، والتلقيب بالحيوان النجس محل المخاطبة بالتنزيه عن الدناءة، وتحميل ثقل الموتى الضعفاء عوض الاستبشار بالنسل والحرث، واللعان على خلاف قوس النصر. ولم يخفَ هذا المتحفظين من طريق البيانات والاتحادات. فهم يشتركون مع «لويس السادس عشر» الأميركي والمعاصر في السلطان و «عظمته» و «حضرته». واتخاذهم «أمة الشهداء» سنداً لا يعصمهم من السلطان الذي يحبونه «عظيماً» ولا قيد عليه. وتظاهر من تظاهر انتصاراً لحرمة حسن نصرالله، وإنكاراً للإساءة التلفزيونية إليه، هو من هذا قبيل. وإهدار روح الله خميني دم سلمان رشدي، في 1989، لم يقتصر على التذرع بمهند، الشخصية الروائية، وكان ثأراً من تصوير خميني نفسه في الرواية. وعلى الضد من هذا، لم يفهم الرئيس الأميركي سر الهوى بالحذاء. فقال: «إنه مجرد حذاء». فهو، والغرب معه، طوى قبل قرنين، ومع مقتل لويس السادس عشر كلاماً وورقاً، على قول جاك رانسيير الفرنسي، «قدس» الجسد الخاقاني، وجعل محالاً التمثيل على الأمة، الناخبة والمنحلة أفراداً وصاحبة «الحقوق»، بجسد جامع وصوفي موصول بالغائب، يبجل ويهان معاً، ويمثل على الأمة سلباً أو إيجاباً.
بين رمي صحافي محطة «البغدادية» العراقية منتظر الزيدي الرئيس الأميركي بحذاءيه، على مرأى من جمهور العالم المتلفز والواحد، وبين الإعلام المرئي والصوري في صيغته المشهدية و «الحية»، علاقة جوهرية وحميمة، فالإعلام المرئي الفوتوغرافي التلفزيوني يصوّب آلات تصويره وعدساته صوب موضوعه أو غرضه الذي «ينقله»، على ما يقال تيمناً بحياده وموضوعيته ومديحاً لهما. وهذا ما يصنعه حقاً. ولكن عينه اليقظة على الدوام، وتغلغله في ثنايا الأحوال والمواقع والأوقات، وصلته المباشرة وهو بأقاصي الأرض بمركز عالمي يقوم في وسط شبكة أخطبوطية، هذه كلها تنصّبه شاهداً «حقيقياً» على الواقعة «الحقيقية»، الظاهرة والعارية. وحمل هذا صناعة الإعلام المرئي، وهو مرئي على شاشات التلفزيون (على أنواعه) وشاشات الإنترنت وشاشات أجهزة الهاتف المحمول جميعاً، حملها على انتخاب الحادثة الحارة والحية. وحمل هذا، من وجه آخر، الحوادث والوقائع نفسها، أي صانعي الحوادث وفاعليها، على انتخاب الصورة التلفزيونية مناسبة ومعرضاً. فيتعمد صانعو الحوادث، ومعدوها ومبيتوها، انتهاز الفرص المتلفزة، وسوقها العامرة والقائمة، فيرمون في السوق بضاعتهم وسلعتهم. وهم يرجون تهافت الزبائن والمشترين والمقاولين على «شراء» الصورة «التاريخية»، على ما وصف عدد لا يحصى من المراقبين والمناضلين والصحافيين («المرئيين» أولاً) صور الحادثة البغدادية.
السلعةفالصور هذه تحقق مثال صناعة الإعلام المرئي التلفزيوني (والكابلي والانترنتي). وسلعته المفضلة هي «الإعلام في وقت حقيقي»، على قول أرباب الصناعة هذه وصياديها ومقاتليها. و «الإعلام في الوقت الحقيقي» يتخطى الإعلام على معناه الواقعي القديم، أو النقلي، الى صناعة الحادثة نفسها. فما أن تأنس الصناعة هذه الى رواج الصورة المحتمل، وتعاظم وقعها، حتى تجدد بثها ما لا يحصى من المرات. فبث موقع غوغل رمي الحذاءين (من طريق «يوتيوب») في أكثر من 70 شريطاً، زارها في أثناء 24 ساعة 600 ألف زائر. وبث موقع فرنسي لتبادل الصور 50 شريطاً لجزء الواقعة (والواقعة، على ما نسي، هي مؤتمر نوري المالكي وجورج بوش الصحافي)، شاهده 200 ألف زائر. فاستوى رمي الحذاءين الحادثة «التاريخية»، على معنى الذائعة والمشهورة، التي استواها، أو «لقطة العصر»، على قول أحد قاطني حي الكرادة بوسط بغداد، أبو حسين (84 سنة). وعلى هذا، فالتاريخي هو «اللقطة» أو الصورة المدوية، على ما لم تفت المعادلة الشيخ البغدادي المسن، على رغم سنّه. فهو «ابن التلفزيون»، على ما يصف الرئيس الفرنسي «الشاب»، ساركوزي، نفسه مفاخراً. وتحكي العبارة، «ابن تلفزيون»، عبارة سبقتها هي «ابن دعاية»، على ما وصف مصمم حملة الرئيس الفرنسي الأسبق الرئاسية نفسه عشرين عاماً قبل ساركوزي. والحق أن جيش الصحافيين العرب، والمسلمين، الذين تباروا في تناول الواقعة - الصورة، وبهرتهم «حقيقتها»، إيجاباً وسلباً، امتلاء وفراغاً، إنما حداهم على التهافت عليها «إعلاميتها» أو «صحافيتها». فالصحافيون، وكثر غيرهم من الشهود، يتهافتون على سلعة هي بنت حرفتهم وصناعتهم. وهذه السلعة، الصورة، صورة عظيمة أو مكبرة عن مثال المهنة والصناعة، وعن الحال التي انتهت إليها عن يد «الجسم» الإعلامي.فهم يرون أنفسهم في مرآة الصحافي العراقي وصوره «لحظة» رميه حذاءيه. وهم ليسوا زملاء الرجل وحسب. وهو لم يرم، حين رمى وعلق على رميته، زميلاً، أي على صفته صحافياً. فبادرته «تختصر»، على ما يحسب الإعلاميون المرئيون وغير المرئيين القول، في حركة وشتيمة وعبارة، أوضاعاً وأحوالاً معقدة ومتشابكة. فجاءت الرمية، في المحفل الذي جاءت فيه، على مثال العمل الصحافي «الأعلى»، أي اختصار الأوضاع والأحوال والآراء، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وإيجازها في «لقطة» أو لحظة فاقعة، جامعة مانعة (إيجاباً أو سلباً، على ما تقدم)، و «عالمية»، على قول أحدهم. فإعلاميو الصحافة المكتوبة، شأن المصورين وراء العدسات ومُعْمِلي محركات البحث وباثي الصور الرقمية ومتلقيها، يطاردون بدورهم البادرة أو الحادثة التي يعود إليهم الإشارة الى «تكثيفها» المفحم والساطع بالعوامل الكثيرة والمتشابكة، والعصية على الفهم. وهم يعتقدون، شأن صناعيي الدعاية والتحريض السياسي والديني، حقيقة التكثيف «الرمزي» هذا، ويؤمنون بأداء الواقعة الرمزية، وصورتها المتلفزة والرقمية والورقية، (عن) الوقائع الكثيرة والمتشابكة، وعبارتها (أو تعبيرها) عن الوقائع.ومثال «العمل» الصحافي، مراسلة أو ملاحظة وتعليقاً وتحليلاً، هو الركض شطر الحادثة المكثفة والرمزية، وإثباتها، والتزاحم على استنطاقها المعاني الغزيرة التي لا يشكون في انطوائها عليها واستبطانها. وعلى الكتابة الصحافية، على رغم الوقت الذي يفترض أن تتمتع به، والمسافة أو البعد الذي يمكّنها من بعض الإحاطة بالحادثة والحوادث التي تحفّها، وتضعها موضعها من جملة الحوادث، تسعى الكتابة هذه في محاكاة صناعة الإعلام المرئي، وتتبنى فهمها للحوادث السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والشخصية، ولمعاني الحوادث هذه ومضامينها.والخبر، أي الجزء الذي اشتهر منه، ذاع على وقتين أو مرحلتين. وغلب، في المرحلة الأولى، تعليق الصحافي العراقي اللفظي أو الكلامي، أو ربما تساوى، تقريباً، رمي الحذاء بنعت الرئيس الأميركي بـ «الكلب»، وبتحميله المسؤولية عن ضحايا الحرب العراقية، أي الغزو والرد عليه والتذرع به إرهاباً واقتتالاً ومقاومة (وهذه حصتها حصة القريب الفقير واليتيم). ولم تنقض 24 ساعة، أو بعض اليوم، على الحادثة وصورها، وفي الأثناء تلقفتها صناعة السلع الإعلامية، حتى اختصرت الصورة وحدها الواقعة. ونُسيت الشتيمة المدوية، وصيغة الإدانة. وسقط، في اليوم التالي، شطر من تعليل الأهل، الأشقاء الثلاثة والشقيقة، حركة شقيقهم، ودعوتهم الى النظر في مساواة شقيقهم «الاحتلال العسكري الأميركي» بـ «الاحتلال المعنوي الإيراني». وطوي التنويه بيساريته وشيوعيته الغيفارية، أي المجددة المحدثة والسينمائية النجمية. وبقي من هذا مقارعة داود بزوجي الحذاء الجبار غوليات (أو جوليات)، وكناية داود، المنتظر، عن الاقدام المؤيد بالحظ والرضا، وكناية بوش عن السطوة والسلطان الضعيفين الدنيئين والزائلين بإذنه تعالى.وغداة ذيوع الصورة، على حالها هذه من العراء السلعي والمعنوي معاً، تنافس المعلقون على أصنافهم، على أداء معناها، ومكافأة المعنى إيجازاً وجمعاً ومنعاً وإفحاماً ورمزاً أو ترميزاً. فذهب صحافيون كتاب الى نعت الحذاء بالمعادن الثمينة، وهي معقل قديم من معاقل الرمز الخالص. فنعتوه بـ «الماسي» و «الذهبي». وفي حسبانهم أن الكائنات مرتبة على مراتب، وعلى معادن وجواهر (خسيسة ونفيسة) وأحساب، يتربع الماس والذهب في أعلاها وأشرف مراتبها. وذهب آخرون الى حمله على مراتب القوة العسكرية والمسلحة. فهو «حذاء دمار شامل»، على شاكلة السلاح الذي يسعى الحكم الإيراني الخميني في امتلاكه بوجه الولايات المتحدة والعراق وبلدان الخليج والشرق الأوسط، وسعى صدام حسين من قبل في امتلاكه بوجه إيران البهلوية وأميركا («حليفه») وبلدان المشرق، خليجاً و «هلالاً»، المتحفظة من «مهابته» و «نشامته». وهو، الحذاء، «مذنب كوني» يسبح في الفضاء، ويسبق أسلحة الدمار الشامل الى الفضاء الخارجي، ويؤذن بعسكرته، ويتوج الهذيان النووي «الإيراني» بهذيان كوني: فالحق في تخصيب الأورانيوم، وفي النهضة العلمية، ينبغي ألا ينفك من الحقوق المتممة مثل الحق في إنشاء مركبات فضائية تخزن فيها صواريخ نووية الرؤوس وتعبر الكواكب.
الحضرةوليس هذا تفكيراً سحرياً كله. فأصحاب هذا الرأي أو هذه العقيدة، لا يفترضون فاعل التحويل وصانعه روحاً أو جناً أو حِنّاً. ولا يخلون فجوة أو فراغاً في سلسلة الأسباب، وإن لم تكن هذه كلها مادية أو طبيعية، ولا بين العلة والمعلول. فقال إمام صلاة ومسجد أبو حنيفة النعمان، وهو مسجد أهل السنّة الأعظم في الأعظمية، في خطبة الجمعة، وأقسم: «والله ما رماه»، يريد أن منتظر الزيدي لم يرم الحذاء الذي قال فيه محامي الصحافي مقالته، «ولكن الله رمى». فلا يتهيب الشيخ عثمان رحيم محمد، وهذا اسم الإمام، التضمين بالآية 17 من سورة الأنفال، وربما بالآية الرابعة من سورة الفيل, وبآيات أخر من سور الأنفال والأعراف ويونس والنمل وآل عمران. ويشفع للشيخ العراقي البغدادي ربما تأويله الرمية «موقفاً بطولياً أمام الباطل». وهذا تأويل زمني دنيوي وقومي. وهو يحمل البطولة على القدوة العملية والأخلاقية. فيقول: «كان حرياً بنا نحن، ومنذ الأمس، أن نقف ذلك الموقف». ولكن الزمنية الدنيوية حين تُشبك بالبطولة، وبوجدان الأمة أو الشعب الجمعي، تجر مادحيها، ودعاة الاقتداء بها، الى معين البطولة المفترض، ونسب الأبطال الأول، على ما يرويه الإغريق والرومان، وترويه ملاحمهم. فالبطولة ليست شأن الأبطال وحدهم، ولا من صنع أيديهم وإرادتهم، وإنما هي من العلامات على «إرادة» تتخطى البطل، وتتعالى عنه. والبطل هو «من يستسلم الى قدره»، ويقبل عليه لأنه يحدس فيه قصداً عظيماً، ويقول لقدره المتصور في صورة السيوف: «خذيني».ولم تمتنع الرمية، ولا امتنع صاحبها، كاره «الاحتلال المعنوي الإيراني» كرهه «الاحتلال المادي الأميركي»، من التأويل الإيراني العاشورائي. فاقترح آية الله أحمد جنتي أحد خطباء الجمعة بطهران وأحد أعيان النظام الخميني، اقترح، على ما تقول وكالات الأخبار جادة، «جمع أجزاء حذاء (منتظر الزيدي)، ووضعه في المتحف العراقي، وانطلاق العراقيين والإيرانيين في انتفاضة أحذية على الولايات المتحدة». وفي الأثناء، كان الحذاءان (التركيان) مزقهما رجال أمن عراقيون وأميركيون شر تمزيق، خشية حشوهما بالمتفجرات على شاكلة رجل «القاعدة» وراكب طائرة على خط نيويورك - لندن في 2002، على ما زعم بعض الناطقين الرسميين العراقيين. فجمع أجزاء الحذاء قريب من النفخ في رميم العظام وبعثها. والوضع في المتحف تأبيد وتخليد على قدر المستطاع التاريخي. وما كان مجازاً بدوياً وأردنياً، «الوشم على خد الزمن»، تترجمه «الآية» الإيرانية تحفة في مبنى رسمي. ويقدر خطيب الجمعة الطهراني أن مبناه وجامع تحفه «باق الى ألف عام»، على شاكلة الرايخ الثالث الهتلري أو رجاء عبدالله بن علي (العباسي) السفاح في خطبة الولاية. و «انتفاضة الأحذية»، على لسان الركن الخميني، موكب من المواكب التي أولاها المرشد الأول هز أركان السلطان، و «قبر» الخانات والخاقانات والسلاطين. فهي المثال الصوري والإجرائي الذي تقع عليه الثورات «الإسلامية» وقوع العاشق على شكله أو نصفه المتمم، على زعم عرفاني أصيل.وعلى هذا ليس منتظر الزيدي، ولا الآلة التي رجم بها خاقان البرين والبحرين، وتمثال الجور والباطل والظلم، الشاب البغدادي العراقي والعربي المسلم والغيفاري، الى آخر أبواب تعريفه الظاهر. وبالأحرى هو لم يبق هذا. ولا يستوفي الظاهر تعريفه المشترك، البطولي والجهادي، منذ رميته، وسطوعها على الشاشات وصفحات الصحف والمنابر. فشأن الأبطال والأبدال والأولياء وأهل الكرامات، يتحدر «ذو الحذاء» (أو «ذو الخف») من الأمة ووجدانها وروحها وتاريخها المجيد مباشرة. وهو حلقة في سلسلة «الحجج على الخلق». وخليل الدليمي، رئيس هيئة الدفاع عن صدام حسين والمبادر (خطابة ولفظاً) الى دعوة هيئة من 200 محام، عراقيين وعرباً وأوروبيين وأميركيين، الى الدفاع عن مراسل «البغدادية»، تعرف في صاحب الرمية على «امتداد» «للرئيس العراقي الراحل»، على نحو ما هيئة الدفاع الجديدة هي امتداد لهيئة الدفاع السابقة.وتنافس إسلاميو الإسلام السياسي، الإخواني و «الجهادي»، على الاحتفاء بـ «ذي الخف». فتظاهروا حيث قدروا، بالنجف ومدينة الصدر ببغداد ونعلين وبعلين الفلسطينيتين (في الضفة الغربية) ولاهور وكراتشي وإسلام أباد وبيشاور. وتظاهر أنصار حقوق الصحافة وحرية الرأي والقول بلندن وأونتاريو وعواصم أوروبية وغربية أخرى. ووصفت التظاهرات الأولى صاحب الرمية بـ «المجاهد» و «البطل». واقتصر تضامن الدول التي هلل بعض قادتها وأجنحتها السياسية ونقاباتها المهنية للفعل، على بيانات وتصريحات. فمنحت جمعية «واعتصموا» الليبية، وترئسها بنت معمر القذافي (وشقيقة هنيبعل ضارب الخادمة)، صاحبنا جائزة «الشجاعة». وندد 70 نائباً مصرياً، هم معظم الـ77 نائباً اخوانياً، بـ «تعذيب» الزيدي المفترض، ودعوا منظمات حقوق الإنسان الإقليمية والدولية، تلك التي تولت التمهيد بدوربان (الجنوب أفريقية) في أيلول (سبتمبر) 2001 الى غزوتي نيويورك وواشنطن المظفرتين، الى التضامن والحماية. وأفتى التجمع الإعلامي الفلسطيني بغزة في «خطوة الزيدي» بأنها «تعبير عن روح الأمة الرافضة للهيمنة الأميركية»، على شاكلة اعتقالات غزة واغتيالاتها ومقاومتها. وصفقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، رائدة خطف الطائرات المدنية الى «هانوي» الأردنية، لـ «مدى رفض الشعب العراقي للاحتلال الأميركي الغاشم». وأنكرت نقابة الصحافيين التونسيين «تعنيف الزميل أمام وسائل الإعلام وعلى مرأى من الرئيس بوش»، وهي ربما تؤثر التعنيف وراء وسائل الإعلام، وفي الخفاء عن الرئيس، أياً كان هذا. ومدح هوغو تشافيز «الرجل الشجاع»، بينما كان يوقّع شيكاً الى قادة مهربي «فارك» الكولومبية وخاطفيها، ويسدد ثمن خدمات «فيلق القدس» الحرسي الإيراني الاستخباراتية. وموكب الأقنعة الحذر يطول.وحذر القادة وأولادهم، والصحافيين واتحاداتهم، والجبهات وبياناتها، والنواب وبرقياتهم، مفهوم ومعذور. فرمية المراسل العراقي تشترك في معنيين أو طبيعتين مختلفتين ومتقابلتين. فهي رمية الضعيف ورجمه وكلمة حقه، من وجه، وهي انتهاك «حضرة» السلطان والخاقانية والشاهنشاهية «العظمى»، من وجه آخر. وعلى هذا، فالانتهاك إنما عظمته وبطولته وقدسه على قدر عظمة «الحضرة» المفترضة. والإقرار بعظمة السلطان الجائر والظالم، ولو في معرض الحط منه، وإنزاله من مرتبته العلوية الى حضيض النعل، وهو قرين الأرض والوحل والتراب والغبار، هذا الإقرار يحرج المنتهك وأصحابه وأنصاره. فينصبون بإزاء السلطان «العظيم» ضداً أو نقيضاً يصدر عنه المنتهك، ويتكلم باسمه، ويقاتل بسيفه (وصورته)، هو الأمة أو الشعب أو الضحايا. ويروي أهل المراسل التلفزيوني أنه كان يحمّل جورج بوش المسؤولية عن «خمسة ملايين قتيل عراقي». وهو رمى الرئيس الأميركي، ونعته بالكلب، بالوكالة أو النيابة عن أمة القتلى والضحايا وشعبهم. ومن انتصروا لصحافي الكرادة البغدادية الشاب، وهللوا وصفقوا، يحسبون أنهم ينتصرون لهذه الأمة، ويصدرون عنها، وعن «حضرتها» الغائبة، على قول محمود درويش المفترض شعرياً وحقيقياً نافذاً.فالمشهد المتلفز حفل تتويج مقلوب رأساً على عقب: لباس القدمين محل تاج الرأس، والتلقيب بالحيوان النجس محل المخاطبة بالتنزيه عن الدناءة، وتحميل ثقل الموتى الضعفاء عوض الاستبشار بالنسل والحرث، واللعان على خلاف قوس النصر. ولم يخفَ هذا المتحفظين من طريق البيانات والاتحادات. فهم يشتركون مع «لويس السادس عشر» الأميركي والمعاصر في السلطان و «عظمته» و «حضرته». واتخاذهم «أمة الشهداء» سنداً لا يعصمهم من السلطان الذي يحبونه «عظيماً» ولا قيد عليه. وتظاهر من تظاهر انتصاراً لحرمة حسن نصرالله، وإنكاراً للإساءة التلفزيونية إليه، هو من هذا قبيل. وإهدار روح الله خميني دم سلمان رشدي، في 1989، لم يقتصر على التذرع بمهند، الشخصية الروائية، وكان ثأراً من تصوير خميني نفسه في الرواية. وعلى الضد من هذا، لم يفهم الرئيس الأميركي سر الهوى بالحذاء. فقال: «إنه مجرد حذاء». فهو، والغرب معه، طوى قبل قرنين، ومع مقتل لويس السادس عشر كلاماً وورقاً، على قول جاك رانسيير الفرنسي، «قدس» الجسد الخاقاني، وجعل محالاً التمثيل على الأمة، الناخبة والمنحلة أفراداً وصاحبة «الحقوق»، بجسد جامع وصوفي موصول بالغائب، يبجل ويهان معاً، ويمثل على الأمة سلباً أو إيجاباً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق