الاثنين، 22 ديسمبر 2008

هندية "العجايبية" وآلة التوحيد والدمج تكشّف إلهامها وفرادتها عن آلة تفريق ودمار مكبوتة لا تزال فاعلة

المستقبل،21/12/2008
استخفت الحماسة مراتب الكنيسة المارونية كلها ("نوافذ"، 14/12/2008). وفي ضوء فحص ميخائيل فاضل كتب البطريرك إلى روما
يطلب تثبيت الرهبنة الجديدة وإقرارها على قانونها ورئيستها. وتناقل الجمهور مقتطفات من فحص فاضل وكتاب البطريرك، وقرئت المقتطفات هذه في الكنائس، ومنها كنيسة حلب. ودعا البطريرك المؤمنين من رعيتها الى الإسهام في تمويل الرهبنة والدير لقاء غفارين كاملة. فشاعت كما لم تشع من قبل أخبار "قداسة" الأم هندية. وتناقل العامة من طائفتها وملتها، ومن غير طائفتها وملتها، الكرامات ("الأعاجيب") التي خصت بها. فبـ"بـركتها" ولدت العاقر ولداً بعد عقد من العقم، وشفي مرضى، ومشى مقعدون، وأبصر كليلو بصر أو عميان، وانطبعت جراحات المسيح على مؤمنين "غشم" (أي بسطاء أو سذج)، وتدفقت عيون ماء في أراض يابسة...
فخشي كهنة من غير كنيسة، بعضهم موارنة، أثر اعتقاد ولاية هندية في تدين العامة، ولم يأمنوا أيلولته ربما الى التشكك في المراتب والهيئات المستقرة، وانحرافه عن الإرشاد الكهنوتي اليومي والعادي. فما كان من أحد خوارنة حلب الموارنة، الخوري نعمة الله شراباتي، إلا ان كتب الى روما محذراً من إسباغ البراءة الرسولية على رهبنة قلب يسوع. ونبه الى ان البراءة هذه تعني إقراراً فعلياً بـ "أعاجيب" الراهبة، وتطويباً لها وهي على قيد الحياة، على خلاف مذهب الكنيسة المقرر والمتشدد في الأمر. وعمد الخوري الحلبي الى سرد سيرة هندية، ولا سيما طفولتها، على خلاف السيرة الشائعة: فروى انها كانت على خصام مع أخواتها، ومالت الى زينة البنات وبهرجتهن، وخالطت احتفالات "ماجنة" في البساتين. وإلى هذا كله وُزعت على المؤمنين تمائم تحوي خرقاً، تعود الى هندية، وشَعراً ودماً. ودعي المؤمنون، بحسب الخوري نفسه، الى زيارة دير هندية جماعا ت وحفاة، وركعوا عند قدميها، ولثموا يديها وأطراف ثوبها. وسماها أنصارها "مجد لبنان"، تيمناً بـ "نشيد الأناشيد".
وأقنع اليسوعيون رهبان دير بكركي الأوائل بشكوى هندية وسلكها، والادعاء عليها باغتصاب الدير وأخذه لقاء تعويض بخس. فرد حبر روما على تقاطر الشكاوى هذه وتواطئها بإدانة هندية ورهبنتها، في الشهر الأول من 1752، بعد نحو سنتين على رسامة الأم الرئيسة، وحكم بإلغاء الرهبنة، وبعودة أصحاب دير بكركي إليه، وإتلاف كل ما كتب وطبع في المسألة منذ ابتدائها. وأدى حكم البابا بنوا الرابع عشر الى قيام معظم الموارنة على السلطة البابوية والكنيسة "الغربية"، وإلى تعصب الجماعة المارونية، عامة وأعيان وكنيسة، عصبية واحدة واجتماعها على الانتصار لـ "قدسيتها".
فالإدانة البابوية نسبت كرامات الراهبة الى شيء أشبه بالسحر. واشتم بعض الرعية منها تلويحاً بمحكمة تفتيش. فثارت ثائرة أهل الجبل لكرامة طائفتهم، المتهمة في إيمانها وصدقه واستقامته. ورموا جمعية اليسوعيين بإذكاء التهمة والنعرة. وانضم بطريرك الأرمن الكاثوليك، يعقوب بطرس، وكان كرسيه بكسروان، الى الموارنة، وندد، بدوره، بالحكم البابوي. فجمع نازع وطني، يسميه الأوروبيون "غاليكانياً"، يناهض النازع المركزي المتشدد ("الأولترامونتيني")، جمع بين كنائس محلية متحدة بالكنيسة الكاثوليكية، وقابلة أحكامها التنظيمية والاعتقادية. ولكن تقاليد هذه الكنائس القديمة والعريقة تمنعها من الميل ميلاً غير متحفظ مع التدبير الجامع والمسكوني إذا ترتب عليه التنكر لهذه التقاليد أو لبعضها.
وأسفر مجمع ضيق عقد في خريف 1752 بروما للنظر في قضية هندية، والرد على الرسائل والكتب الكثيرة التي رفعت الى الكرسي الرسولي جواباً عن حكمه، عن إيفاد موفد من الأخوة الأصغرين بالقدس هو الأخ ديزيديريو دي كازاباسكيانا، ملم بأحوال الكنائس الشرقية وعليم بالبلاد وأهلها. فهو سبق له ان حمل "الباليوم"، أو التثبيت الى البطريرك عواد، وقضى في الخلاف بين البطريرك وبين بعض أساقفته، وترأس الأخوية التي ينتسب إليها طوال خمسة أعوام.
فألفى الأخ "الأمَّ" موضوع تقرب ورجاء وشفاعة منتشرة في كسروان وفي جنوبه المتني والشوفي. ولاحظ المبعوث البابوي ان النساء المارونيات والدرزيات (من أسر أمراء آل شهاب)، ينتظرن الكرامات عن يد العابدة وحبيسة دير بكركي، ومن طريق دمها. فالدم الذي دأبت رفيقتا هندية المقربتان والأثيرتان، كاترينا وماريا ("الرومية" أي الملكية)، على جمعه ايام الجمعة، وهو يوم الجلجلة، تحول الى مادة كرامات الأم، وإلى رابطتها بالمرضى من قاصديها والمتبركين بها. ونعى عليها خصومها، وهم لا يقلون عصبية عن أنصارها ومريديها، وضعها دمها على المذبح وعرضه للعبادة، ومبالغتها في طلب دور الهدى والأضاحي. وكان دم المرأة في الذخائر يشفي العيون، على قول مريديها، على نحو ما يشفيها لمس الراهبة بأصابعها. وبدا ان أنوثة المرأة هندية، وتوجه عبادتها وعمادة سلكها الى القلب الأقدس وعليه، يستجيبان نازعاً محلياً عميقاً الى تأنيث التدين وطبعه بطابع الرحمة والمودة والإلفة. فالنساء هن مصدر الحاجّات. وحاجاتهن نسائية: الحليب للأثداء الجافة، وألوان الصحة والحياة لوجنات الأولاد القاتمة "كالباذنجان"، واشتهاء الأكل لأطفال مصابين بالأُباء. وكانت قاصدات هندية يضطرهن السفر الى قضاء الليل في الدير. فعمدت رئيسة الدير الى سد حاجاتهن من طريق مباركة "زوادتهن" وتكثيرها.
وفي ختام مهمته، في ايلول (سبتمبر) 1753، أعلن القاصد الأخ ديزيديريو جواز تقديم النذور الى دير بكركي والتصدق بواسطته. وأعقبت تبرئةُ الدير، ورئيسته وراهباته، من تهمة السحر حكماً بابوياً قضى بإخراج الرئيسة وسلكها من دير بكركي. ولكن إجماع البطريرك والشيخين الخازنين والأمير الشهابي على خلاف الحكم البابوي اقر الأم على ديرها، بعد أن برأ القاصد ساحتها من الدعاوى الدينية الخطيرة. فاستوت هندية، وديرها وكراماتها وولايتها، عَلَماً على طائفتها وعلى مكانة هذه الطائفة ونفوذها الروحي. وانتصرت الطائفة، عامة وكنيسة، على الهيئة الكنسية الرومانية، وحملتها على الإقرار بولاية هندية، وبصحة اعتقاد العامة والمراتب الكنسية المارونية المحلية هذه الولاية والكرامات المترتبة عليها. ورضخت الكنيسة الكاثوليكية، الجامعة والمسكونية (أي المتعالية عن المعتقدات والشعائر البلدية و "القومية" الموروثة عن ماض منفصل)، لاعتقاد ماروني لَحَمَ العامة بالكنيسة، وأجمع الموارنة، أو كادوا يجمعون على تعرّف هندية، ورهبنتها وعبادتها وكراماتها، آية على اصطفاء علوي إلهي خصوا بها.

قوة القلب والتلبيس
والحق ان هذا التخصيص، أي اعتقاده، كان سبيل الموارنة وطريقهم الى الدخول في الكنيسة الجامعة والاندماج فيها. فمن وجه أول، أقرت الكنيسة الرومانية عمادة القلب الأقدس، ولم تقطع في قانون الرهبنة على النحو الذي صاغته عليه هندية ("كانت روما... تمنح الغفارين والبركات لدير بكركي ولرهبنته التي تعتبرها مؤسسة تأسيساً قانونياً"، في السنوات 1753 – 1768، على قول ميشال حايك). ومن وجه ثان سعت الكنيسة المارونية في إدخال هندية ورهبنتها ورؤاها وكراماتها، تحت القانون الكنسي العام، الرسالي والروماني، وفي تصحيح اعتقاد الموارنة ولاية رئيسة دير بكركي بحسب معايير الكنيسة "الإصلاحية". فرسم البطريرك يوسف اسطفان، في حزيران (يونيو) 1768، يوماً يُعيّد فيه قلب يسوع (يوم الجمعة الثانية بعد عيد الجسد)، ويعمل فيه من باب الوصية، ويلزم بالصوم في الأيام الأربعة التي تسبقه، ويُسمح فيه بترك الإمساك عن أكل اللحم والبياض... (وأبطلَ مجمع روما، في تموز/ يوليو 1773، العيد، وتابعه مجمع ميفوق، في تموز 1780، على إبطاله).
وما انتهى إليه الأخ المقدسي ديزيديريو، على رغم إقراره المتحفظ "أحوال" هندية، لم يكن إلا مادة أولى تناولتها بالفحص، والنقد هيئة من الكاردينال انطونيو اندريا غاثي والأخ (الاصغرين كذلك) إيزيدور مانشيني، تحت نظر البابا نفسه. وكان البابا تولى، في 1745، الفحص عن قداسة راهبة ألمانية، كريسِّنْس (من) كاوفبيرين، وحكم فيها بالبطلان. فالتقليد الكنسي الكاثوليكي، منذ الربع الأخير من القرن السابع عشر، نحا نحواً عقلانياً، متشدداً، وبدا متحفظاً عن علامات القداسة عموماً. وخص العلامات النسائية بأشد التحفظ. وصدر الاثنان، الكاردينال والأخ، عن التقليد المتشدد هذا، لا سيما ان المتربع في السدة البابوية هو أحد أنصاره والآخذين به عملاً وفعلاً.
فرد الاثنان مزاعم الأم في الرؤى والانخطاف والتجلي. وذهبا الى ان صفة رؤاها و "أحوالها" الجسمانية المفرطة دليل على قوة التخييل والحس، على خلاف المعيار العقلي الذي تزن به الكنيسة صدق الرؤى. وحكما بـ "ولدنة" ما تراه في اثناء انخطافها. وقاسا وجه الأم، في أثناء "أحوالها"، على ما سبق لأحد الكرادلة ان قاله في وجوه المتصوفات وصاحبات الولاية الصادقات. فإذا بوجه الأم المارونية، المائل الى الاحمرار وإلى الجمال في اثناء الانخطاف، يخالف ما أثبته الكاردينال جيوفاني بونا في "قانونه" من صفرة وميل الى القبح. ولم تدعُ لجنة الخبيرين الى إبطال جمعية الأم هندي، بل تركاها معلقة. فمنح الكرسي البابوي الجمعية البركات. ووصف بعض الكرادلة إنشاءها بالقانوني.
وسعى الكرسي الرسولي في "علاج" هندية وما نسبه التحقيق الى "غرورها" و "أوهامها" واعتدادها الشديد بولايتها. فأوحى باستبدال المطران جرمانوس صقر، معلم تعريف هندية وكاتبها ومعتقد ولايتها وناشر كتاباتها ومدبر ديرها، غامزاً من تصديقه وتسليمه، شأنه والحق يقال شأن كل "الرجال" الذين كان لهم مكانة في جوارها. وسمّى الحبر الأعظم الأخ كارلو اينوتشينزو دي كونيو، في أوائل 1755، معلَماً ومرشداً لعله يجعل من الروح ملهماً للأم، ويبدد ما يُلبّسه الشيطان عليها وعلى أخواتها والرعية المارونية.
وقبيل مجيء كارلو اينّوشينزو صاحب تعريف هندية الجديد، في صوم 1755، أرادت هندية امتحان ولايتها، وقطع تشككها هي في هذه الولاية. ومرّ من قبل شاهدٌ على طلب المرأة الخلاص من "المدمرة"، على ما سمتهان وهي الاسم الذي تسمي به ابتلاءها بالإرادة. فترجو "خالقها" ان يعطيها "العطية... بلا قبول اختيار(ها) المعتوق" (و "الاختيار المعتوق" نظير إرادة المريد بإرادة من غير جبر)، وأن تريد هي بإرادة الخالق وليس بإرادة المخلوق، على قول بعض متصوفي الإسلام. فقالت "للذي يخاطبها": "أريد من فضل محبتك المقدسة ان تعطيني هذه العلامات الحسية: تطبع خمس جراحاتك المقدسة بالراهبة التي لم يكن أغشم منها في ديرنا هذا ولم تكن ذي فضيلة ظاهرة ولم تعرف الأمور الروحية لأُصدّق وليركن شكي هذا بما تقوله لي". وتنقل صاحبة الرؤى عن مرشدها قوله وهو يكلمها: "طلبت علامات طبع الجراحات في الأخت ونظرتيها بعينيكي".
وظهرت "العلامات" على الأخت مباركة (بينيديتا)، قبيل قدوم المرشد الجديد. وكانت الأخت مباركة يومها، أثيرة الأم هندية، وتنام في حجرتها. فجاء ظهور الجراحات رداً مسكتاً على تململ أخوات الجمعية، وإنكار بعضهن تعسف الرئيسة ومساعِدتِها، الأخت كاترين. وأطلقت الجراحات يد الأم الرئيسة في جمعيتها، وفي ديرها، وقطعت تشككها في "الذي يظهر لها" وحسمته. وفحص الموفد البابوي، مرشد هندية الجديد، جراحات مباركة، ومعه طبيب، في 28 تموز (يوليو) 1755. وأمرها بفك رباطاتها، فرأى جراحاً "صغيرة" يميل لونها الى الزهري. وأراد تغطيتها بالشمع ليتحقق اصلها ومصدرها، فإذا ذاب الشمع استُدل بذوبانه على أصل طبيعي وإذا لم يذب استدل على أصل "معجز". ولكن الأخت كاترينا، مساعدة الأم الرئيسة، تذرعت بفقدان الشمع من الدير. ونصح المطران جرمانوس صقر المحقق بترك فحصه تداركاً "للشائعات". فامتثل الموفد للنصيحة، ولم يطلب اعتراف الأخت مباركة، صاحبة "العلامات".
وفي أعقاب سبعة عشر عاماً قالت الأخت وردة بدران، إحدى اخوات دير بكركي وراهباته وشقيقة نسيمة بدران التي ماتت قتلاً وعذاباً في أحد أقبية الدير، انها خمّنت في "أعجوبة" الأخت مباركة حيلة وافتعالاً. وروت ان شقيقتها نسيمة رأت مباركة تدوس نوعاً من الشوك المدمي، وأنها هي، وردة، رأت آلة معدنية جارحة تخبئها مباركة تحت ثوبها وتُسيل دمها بها أيام الجُمَع. وسعت هندية في التملص من إرشاد اينوشينزوا وتعريفه (سماعه اعترافها). فزعمت انها لا تفهم عربيته، وأنها تستحي من قول أسرارها وعذاباتها و "تجاربها" على مسمعه، وهو ليس محل ثقتها. ولما اقترح عليها الاعتراف بخطايا حُلّت منها، لعل هذا يسرّي عنها ثقل الاعتراف بما هو أشد وطأة، أجابت أنها لم ترتكب يوماً ما يصح نعته بالخطيئة أو حمله على عصيان المسيح. فنبهها الموفد الرسولي الى "الكبرياء" التي ينم بها زعمها. ولكن "الشخص" مخاطبها في رؤاها، سألها، في معرض الإثبات الغاضب، هل قال "ان يطاعوا الكهنة ضد إرادتـ(ـه) المقدسة ومحبتـ(ـه) الفاعلة". فلما كان الجواب بالنفي، بديهة، لم تطع موفد المجمع المقدس، وحملته على ترك إرشادها وتعريفها يأساً. وحمت هندية عجيمي، من طريق سربلة المرشد الأجنبي، أسرارها الصوفية والدنيوية على حد سواء.
وعلى هذا، بقيت وقائع دير بكركي، وأقبيته وحجراته وسخرستيته ومطبخه وممتلكاته، طي الخفاء إلى حين قدوم مبعوث أو قاصد روماني، من مجمع نشر الإيمان المقدس، في أوائل 1774، هو بييترو دي (أودو أو ده) موريتا. وكان سبقه قاصد آخر، في أواخر 1772 هو فاليريانو دي براتو. وناط الحبر الأعظم الجديد، كليمان اوكليمانتي الرابع عشر (انتخب في منتصف 1769)، بقاصده، الى التحقيق في قضية رهبنة أو جمعية الأم هندية، ناط التحكيمَ في الخلافات الكنسية والمنازعات الأهلية والسياسية المارونية المستفحلة والمتصلة. والبابا الجديد، على خلاف سلفه، كليمان الثالث عشر، جهر تحفظه عن عبادة القلب الأقدس. وتحفظه هذا هو مرآة تحفظ عن تدين "قلبي" وشعبي عامي، يقدم التصديق والانخطاف و "العجائب" على التسليك والتوسك الكنسيين. وخالف الخلف السلف في هذا. فكليمان الثالث عشر كان نصير تدين قلبي وعامي، سعت الكنيسة منذ عقود في ضبطه، رداً على الإصلاح البروتستانتي، من وجه، وتداركاً لذيول استرسال سابق مع منازع "وثنية" تحسب الكنيسة المسكونية والجامعة انها تثوي في التدين الشعبي والقومي المحلي، من وجه آخر.

مَعْقد المنازعات

ولم تنفك قضية هندية ولا تخلصت من المنازعات الكنسية والسلكية والأهلية التي أنشبت في البلاد والأهل. فنزاع الحلبيين، وهم الرهبان (والراهبات) الموارنة القادمون من حلب وجوارها، والبلديين، وهم اللبنانيون من اهل الجبل، بلغ ذروة احتداده، ودخل الفصل الأخير والطويل (1755 – 1768) الذي كان انشقاق الجناحين، واستقلالهما الواحد عن الآخر، ختامه المرير. ويلابس النزاعُ الكنسي والسلكي هذا منازعات الجماعات الأهلية و "الوطنية" (نسبة الى الموطن) والثقافية. فالمنظمات الرهبانية أو الهيئات لا تبرأ من نفوذ الأسر ومصالحها وعصبيتها. وآية ذلك، على سبيل المثال، أن 6 مطارنة من 15 مطراناً في ولايتي البطريرك يوسف اسطفان الطويلة (1766 – 1793) كانوا من بلدة البطريرك، غوسطا. وتتصل الهيئات الكنسية بنفوذ الأسر المحلية من طريق الأديرة، والكراسي (كراسي المطرانيات)، والحظوة عند "الحكام". وكان أهالي حلب، حيث يختلط معتقدو المعتقد الماروني بمعتقدي المعتقد الملكي (الرومي الكاثوليكي)، من مصادر الرهبان، وأعيان الكنيسة ومناصبها، البارزة والقوية.
ولم يحل المعتقد المشترك دون الاستظهار بالأواصر الأهلية العصبية والاستقواء بها في المنافسة على المراتب، والتشيع والتعصب. وسبق مجمع غوسطا (1768)، وهو تولى إعلان انفصال الحلبيين والبلديين الجبليين رهبنتين، احتداد المنازعة بين الموارنة والملكيين. واتصلت المنازعتان الواحدة بالأخرى من طرق شتى. وعشية المجمع هذا، في 1766، رفع يوسف اسطفان الى السدة البطريركية. وعرف عن اسطفان مشايعته هندية (الحلبية)، ونصرته رهبنتها. وهو أنكر، في مجمع بيروت (1762) وفي ولاية سلفه، طوبيا الخازن، سيامة هذا مخايل فاضل مطراناً على بيروت. وميخائيل فاضل أحد اشد المنكرين على هندية "غرورها"، على ما كان يقول فيها خصومها، و "عجايبها" وكراماتها، بعد اعتقاد وتصديق. وما كاد يوسف اسطفان يتسنم الكرسي البطريركي حتى ألحق ديري مار جرجس (بساحل علما، مسقط كاترينا، أقرب الناس الى هندية وذراعها المميتة، على زعم بعض الشهود، وأخوات أخريات من رهبنة القلب الأقدس)، وسيدة البزاز (بحارة صخر)، بدير بكركي، "كرسي" الأم الحلبية ومعقلها – قبل انتقال الكرسي البطريركي إليه، واستقرار به في 1823.
وفي أواخر عُشر 1750، تجددت خلافات الشهابيين المزمنة على الخلافة. فنازع أخوا الأمير ملحم، أحمد ومنصور، ابنه، يوسف. وتلابس المنازعات الأميرية المنازعات العصبية، الجنبلاطية واليزبكية، وهي منها بمنزلة قممها المتقلبة والمترجحة. وفي 1764، حاز يوسف ملحم شهاب ناحيتي جبيل والبترون، وألحقتا بحكمه. فأضعفت إدارة الحاكم الشهابي المباشرة الناحية الكسروانية، والأخرى المحاذية، المقاطعجية "الوطنيين" والمحليين. وبرزت قوة جديدة في الأثناء، هي قوة المدبرين، وهؤلاء هم أهل مشورة الأمراء، ومنظمو "إدارتهم" الأميرية، الزراعية والمالية، وجبايتهم، والساعون في عقلنة هذه. ويسعفهم على هذا إلمام ببعض طرائق "الفرنج" وبلغتهم (أو لغاتهم، أي الفرنسية والإيطالية)، ومخالطة هؤلاء، ومباشرة بعض تجاراتهم. والمدبر القوي، والمسموع الكلمة، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، هو سعد الخوري الجبيلي. وآلت القنصلية الفرنسية إليه، وهي دامت قرناً تاماً في آل الخازن، "أشراف" كسروان، قبله. فلما انتخب يوسف اسطفان، في الأثناء، بطريركاً، نازعه المطارنة سلطاته وصلاحياته. فرسموا كهنة وخوارنة من غير علمه، وقضوا ببطلان زيجات وانحلالها "إكراماً" لأخصائهم وذوي النفوذ واليد في أبرشياتهم، من غير احتكام الى الإجراءات المعقدة التي يُفترض الاحتكام إليها في الأحوال السائرة.
فاجتمعت المنازعات الكثيرة هذه، وهي تتحدر من مصادر وسياقات متباينة، في معمعة معقدة، اصطف (تصاف، في لغة الحرب) فيها صفان وحلفان: واحد ضوى يوسف اسطفان والرهبان الحلبيين وأنصار رهبنة القلب الأقدس، وضوى الثاني بعض أقوياء المطارنة، والرهبان البلديين، ومن ورائهم الأمير يوسف شهاب والمدبر سعد الخوري. وعلى خلاف الحال في 1750- 1752، سنيّ تربّع هندية في كرسي رهبنتها وإجماع موارنة بلاد الشام الشمالية وفلسطين ومصر على اعتقاد ولايتها، وتبرئة ميخائيل فاضل ساحتها – ألْفت المعمعة العامة هندية بعضاً من "حزب" وغرضية وطرفاً فيهما، ولم تبق مناط اتحاد "وطني" وأهلي وكنسي، ماروني. واختلطت المنازع والمصالح والميول الاعتقادية والسلكية والمذهبية والعائلية والشخصية والسياسية بعضها ببعض على نحو عَسُر معه "بناء مثال" متماسك يجري الناس المعنيون على هديه، من وجه أول، ويجري عليه تعليل المؤرخ والدارس، وتجري عليه الجماعة التي ورثت هذا الفصل من تاريخها وينبغي ان تتدبره، من وجه ثان وثالث، على ما لاحظ هيبيرجيه، المؤرخ الجامع الذي تهتدي الملاحظات هذه بهدي كتابه.
وكان إخفاق وساطة القاصد الحبري، في أواخر 1772، بين "الأحزاب" الجبلية (من البترون شمالاً الى الشوف وصيدا جنوباً، من غير إغفال الدائرة "الإقليمية" والعثمانية الأوسع)، وقضية هندية بمنزلة النواة من المنازعات هذه، كان الإخفاق هذا مقدمة تداعي الحوادث المأسوية التي أماطت الستر عن "خبايا" صاحبة "سر الاتحاد"، وعن مترتبات النهج الاتحادي والحدسي الذاتي الذي غلب عليها وعلى اصحابها (وصواحبها) وأنصارها (ونصيراتها). فغداة وصول فاليريانو دي براتو، القاصد، هربت راهبتان "هنديتان" من دير ساحل علما، أحد أديرة راهبات القلب الأقدس الى أهلهما. وكانتا هربتا من دير بكركي، وجوار الأم وحاشيتها، الى دير ساحل علما. ومع خبر الهرب المزدوج هذا فشت بعض أخبار الديرين، وتناقلت الأسماع والألسن نتفاً تشي بفظائع وغرائب مروعة. ولم يبق أثر معروف وثابت من أخبار الراهبتين الهاربتين. فهما لم تدونا "اعترافاتهما" في تقرير. ولم يتح للقاصد المستعجل، على ما يبدو، لقاء من كان ليفيد من لقائه. فوساطته مقيدة بوقت ومهمة. ولم يحتسب في الوقت والعمل تعقيد الأزمة، ولا كثرة مواردها ومصادرها، وعمق آثارها. وقدوم القاصد من دواعي انفجار الأزمة على النحو الذي انفجرت عليه. فإعلان انتداب الكرسي الرسولي مبعوثاً محايداً، من غير الضالعين في المنازعة او الخائضين في المعمعة، نيط به التحري عن وقائع منحرفة عن معايير القبول والاستقامة، والفحص عنها، يدعو ضحايا الانحراف، إذا وجدوا وأنصارهم وأهلهم وأنسباءهم، الى جهر الوقائع وتقصيها وتحقيقها.
والحق ان هرب الأختين، على غرار قدوم القاصد دي براتو، كانا نذيراً بالفصل الآتي الطويل والختامي، وتمهيداً له. فلم يكد القاصد دي براتو يترك الجبل عائداً، وينزل خَلَفُه دي موريتا بيروت فالجبل القريب، حتى هربت راهبتان أخريان، ثم ثالثة، من دير بكركي، هن ماري مكرزل (من بيت شباب) وتيريز الخازن (من درعون) واسبيرانس أو رجاء الشنايعي (من غوسطا). ولجأت ماري وتيريز الى دير عينطورة. فجازاهما البطريرك اسطفان، وهو نصير هندية ومعتقد قداستها من قبل (1770) بعد شفائها إياه من علة في اللسان، وإحدى أخواته من راهبات القلب الأقدس، جازاهما حرماً كنسياً. فحمل الحرم في حق "بنت" الخازن" وهي من جب أولاد الحصن ومقاطعجيتها، أهلها وعصبيتها على الطلب الى البطريرك، وهو المقيم بديرة الأهل هؤلاء وبعض موارده من جراياتهم وجبايتهم، العودة عن حرمه. فأقامت بنت الخازن و "اختهم"، على المعنى القرابي العربي، بدير مار يوسف الحرف بدرعون. وكان استجواب دي موريتا ماري مكرزل، ثم كتابتها شهادتها أو إملاؤها، وما شاع من اخبار دير بكركي والأديرة الثلاثة التي ألحقت به عن لسان الهاربات وأهاليهم، المقدمة التي آلت الى سقوط صاحبة الرهبنة سقوطاً مدوياً (1779).

الرسوم الخفية

وجاء في إجابات ماري مكرزل، ثم في مذكرتها، ان دير بكركي في عهد هندية نهب لانقسام حاد باعد راهبات الجبل البلديات و "اللبنانيات" من الراهبات الحلبيات. وعلى رغم قرب كاترين، مساعدة هندية وروحها الملعونة على قول بعضهم، وحظوتها عند "الأم"، فالحلبيات هن المقدمات والأثيرات. وحين ظهر التململ على الأخوات، وأشاعت بعضهن في قراباتهن أخبار التمييز والشواذ، وصادف هذا انتصاف أعوام العشر السادس (1750)، أدّبت هندية، ونواة جهاز من النساء والرجال تحلقوا حولها، المتحفظات تأديباً بوليسياً قاسياً. فالبلديات على مقربة من أهلهن، ولم تنقطع أواصرهن بهم، وعلى خلاف الحلبيات عموماً. ولبس الثوب ضرب من الاستثمار المعنوي والأهلي، ويتصل بمرافق المنافسة الاجتماعية على مراتب الرهبنة. وعلى هذا، حملت هندية، وجهازها، التحفظ والإنكار، على سعي محلي وبلدي في إضعاف قبضتها "المقدسة" على المرفق الكنسي الذي تسوسه. فأعدت للمتحفظات حجرة بطرف الدير غطت جدرانها بالفلين والخشب لتحول بين الأصوات وبين التردد في الخارج، وجعلتها سجناً. وأمرت بحبس الراهبات المتذمرات والعاصيات في الحجرة المظلمة والموصدة النوافذ والباب، أسابيع وشهوراً، وبتركهن الى الجوع والعطش والبق وروائح الغائط والبول، وضربهن وترويعهن فوق ذلك. وكانت هذه الدائرة الأولى من دوائر جهنم. والدائرة الثانية هي الأقبية تحت الدير. وهذه أشبه بالمطامير أو القبور المظلمة، بمنأى من اصداء الحياة ولو الخافتة التي قد تتناهى الى أسماع المسجونات. وقتلت الراهبات اللائي قتلن في سياقة منازعة هندية على جمعيتها الرهبانية، ومحاولتها الحجز حجزاً صفيقاً بين داخل منكفئ، تسوسه وحدها، وتضطلع وحدها بالأمر والنهي فيه، وبين خارج هو كيدٌ وشرٌّ وكفر كله، ولا تهاون في درئه ورد كيده الى نحره.
وما أفشته الراهبات المتحفظات والمتذمرات، ثم الهاربات، هو تربع هندية في سدة سلطان "شرقي" وبعيد من النسك والإمساك. فالصبية النحيلة والرقيقة الوجه والجسم، على ما وصفت من قبل، تظهرها لوحة صورت في أوائل السبعينات امرأة غليظة القسمات، منتفخة الوجه والجذع. فهي، على روايات "بنات" مكرزل والخازن والشنايعي، خلَّت نفسها الى أكل الطيور والفراخ، وأمرت بصنع خبزها من الحنطة وحدها، واشتهت من الأشربة العصير والنبيذ والعرق. وتركت حجرة الطعام المشتركة، واحتجبت عن المؤاكلة. وعللت الأمر بخشية السم، ودس "الأعداء"، وفيهم الشيطان نفسه، السم لها في الطعام. وفي حجرتها الخاصة، وهي أوصدتها في وجوه من ليسوا ولسن خواصها وحاشيتها، لبست الحرير، ونامت على فراش ناعم ذهبت المخيلات الى حشوه بريش النعام. ونسبت الى نفسها القوة ("الحدسية") على إماطة اللثام عن السرائر والطوايا ومكنونات النفوس والأجساد والخطايا. ومن المكنونات والخطايا الحَمْلُ خلسة والإجهاض. فهي ظنت الظنون في اللاتي حدست فيهن, أو رأت منهن التشكك والإحجام والتمرد. فادعت عليهن الحبل والسرقة والتدليس ومؤامرة بعضهم بعضاً عليها. وكانت الأخت كاترين، "أخت روحها" ومساعدتها وحاجبتها، طبيبة الدير أو وكيلة طبابة الراهبات. واشتهرت كاترين بخبرتها في صناعة السموم وتركيبها. فاجتمع لها من العملين والوظيفتين، الطبابة ومراقبة الطعام، الى حجابة الأم الرئيسة، نفوذ مفتش في محاكم التفتيش أو وزير تفويض.
ولم تقتصد في إعمال النفوذ هذا، على وجوه الإعمال كلها. وذهب نقولا عجيمي، شقيق الأم الرئيسة ومرشد اعتراف الراهبات بعد إزاحة ارسانيوس دياب (1761)، في 1775، الى ان كاترين كانت الآمرة الناهية، على حين حرصت هندية نفسها، في اعترافات 1778، على تبرئة ساحة المدبرة المتسلطة. فضيقت المرأتان الخناق على أخوات القلب الأقدس. وأوحتا الى الراهبات ان مصدر أخبارهما عن خطايا الراهبات هو المعرّفون انفسهم. فصد الزعم هذا الراهبات عن الإسرار بوقائع الأديرة وحوادثها الى أصحاب الاعتراف، وأوصد باباً من الأبواب المحتملة على قول الوقائع، والإقرار بها، وتراويها، أي على إثباتها وقائع وحوادث، ويشترك "مجتمع" في العودة إليها على هذه الصفة. فلما بدا ان الراهب ارسانيوس دياب يصيخ السمع الى الراهبات، وإلى نقلهن ما يرين ويعلمن من فظائع الاحتجاز، أقيل من عمله. وخلفه نقولا عجيمي. ومال هذا بدوره الى حمل أخبار المعترفات على محمل الجد، ودعاهن الى رواية ما يعرفن وما ينتهي إليهن علمه. فغضبت عليه الأم الرئيسة ومساعدتها ووكيلتها غضباً شديداً. فخاف، هو الأخ الشقيق، على حياته من القتل بالسم، على ما قال الى دي موريتا. وكان نقولا راهباً يسوعياً. وناوأ اليسوعيون، وجمعيتهم، "مذهب" هندية في الاتحاد، وفي تدبير رهبنتها. فمالت الى خصومهم ومنافسيهم، الكبوشيين. وفي 1773، أي حين خرجت محنة راهبات سلك هندية الى العلن، قضى الكرسي الرسولي البابوي بحل جمعية اليسوعيين، في ختام نزاع كنسي كثير الأوجه. فخسر نقولا عضيمي، فيمن خسروا، السند والملاذ، وبدا له انه فريسة سهلة بيد الراهبتين الشرستين.
وحجزت هندية ومدبرتها بين راهبات سلكها وبين أنفسهن، وبينهن وبين الوقائع والحقائق، من طريق أشد تعقيداً بكثير من الطرق البوليسية والرقابية والعملية المعروفة، على شاكلة الإيحاء إليهن بأن المعرّفين هم عيونها وأرصادها. فعمدت الى حمل "خطاياهن" عنهن، والقيام بها محل "الخاطيات". وسبيلها الى هذا هو المرض. فكانت تمرض حقيقة وفعلاً، وتصيبها الحمى، ويغمى عليها، وتتقيأ، ويشحب وجهها، وتغور عيناها. فإذا عادتها الأخوات، سألها أمين سرها ومعرفها، المطران جرمانوس صقر، حاسراً وجاثياً، عن سر مرضها، قالت انها تحمل خطايا الراهبات المكتومة في نفسها وجسدها، وأنها لن تفتأ مريضة الى ان تعترف الأخوات بخطاياهن. ولم تنتظر الاعتراف الذي تطلبه. فكانت تستبقه، وتعلن على الملأ "خطايا" الراهبات. فإذا امتثلت الخاطيات المفترضات، واعترفن الى معرفهن بـ "اعتراف" هندية، أي بتهمة هندية إياهن، شفيت "الأم" من الأعراض التي ألمّت بها، وأبلت منها. وأرست هندية الحال هذه، أو "الأحوال"، على معتقد.

العُظام "الهندي"

فزعمت انها لم تخطِ يوماً ولم تكذب، فهي في حل من الاعتراف والمناولة. واتحادها بـ "الشخص" أقوى من القربان المقدس. وإذا انتهكت القانون الكنسي لم يوجب انتهاك الظاهر محاسبتها. فسرُّ اتحادها يرفعها فوق القانون، وفوق القاصدين الرسوليين، وطاعتهم. وما خلا مسائل الإيمان، فلا طاعة عليها لبابا رومية، ورأس الكنيسة. وهي تطيع البطريرك، رأس الكنيسة المحلية، في سائر المسائل (ويومها كان البطريرك يوسف اسطفان طوع يمينها، على ما مر). وتعاظم عُظامها مع اشتداد المنازعات السلكية الداخلية، وانفجار الأزمات والخلافات المتصلة بتجاذبات الكنيستين المسكونية والشرقية الوطنية ومشاحنات العصبيات والأسر والأهالي والأفراد. فألمحت الى ان الأناجيل تشير من طرف خفي الى سر اتحادها، وإلى جلوسها، يوم الدينونة، مع الابن الجالس الى يمين الآب. ونسبت نفسها الى قبيلة يهوذا، وفيها نسب داود، صاحب "المزامير"، ومن صلب داود يخرج مسيح اليهود و "مهديهم" المنتظر. وأعلت الى "نشيد الأناشيد"، ولم تقتصر على الأناجيل، "البشارة" بها، وعلامة "مجيئها". فأوَّلت: "ما أجمل خطواتك بالحذاء يا بنت الأمير" (7، 2 – وهي، منقولة عن الترجمة الفرنسية، "قدماك جميلتان في صندليهما يا بنت الأمير") على قصدها هي. وانتهى بها الهذيان الى إقحام نفسها في سر الثالوث.
وأنشأ أنطون جاماتي، الحلبي، أحد رهبان الدير، مصدقاً المزاعم "اللاهوتية" هذه، أخوية سماها "عبيد الأم هندية". وخاطبها، هو وجرمانوس دياب ويوسف دياب (المطران) والمطران الآخر أرسانيوس عبد الأحد، بـ "سيدتنا"، وبـ "المجد لإكليلك وتاجك". وخاطبها المطران اثناز الشنايعي بالقول: "أومن بالذي فيك". وتُقدمها المخاطبةُ هذه على مريم. فـ "الذي فيها" مدى العمر، وربما "بعده"، على حين ان مريم اقتصر حملها على الأشهر التسعة الطبيعية. فهي إلى أبد الآبدين "عروسة المسيح هندية". وحُفظت "ذخائرها"، ثيابها الخلقة ودمها (في أوانٍ) وشعرها، ودعي المؤمنون الى التبرك بها. وجُمعت الى "ذخائر" مدبرها، ونظير كاترين في الرجال، المطران جرمانوس صقر. ولعل القرينة على ان الضرب هذا من الاعتقاد العجائبي عرضٌ من أعراض حمى جماعية وظرفية هو سريانه في الجماعة المارونية الجبلية. فذاعت في اهالي الجبل أخبار رؤى قيل ان رئيسة دير الحصن بغوسطا، بلد البطريرك يوسف اسطفان، تراها، و "يظهر" لها فيها الطفل يسوع. وعلى شاكلة كتابة المطران جرمانوس صقر رؤى الأم هندية، وقلب يسوع هو ميسم رهبنتها، عمد المطران إرميا نجيم الى كتابة رؤى رئيسة دير الحصن. وكان المطران استأذن البطريرك في كتابته، فأذن له. ولم يغب لا عن المطران ولا عن رئيسه الكنسي دور "الرائية" الجديدة في منافسة هندية على الدالة والمكانة، وفي التقليل من سطوتها. وظهرت "علامات" على "رائية" ثالثة هي الأخت تيودورا بدير الحراش، حيث كرسي المطران ميخائيل فاضل، أحد أشد خصوم البطريرك اسطفان وأقوى أنصار الكرسي البابوي.
وقبل ان يخلص قاصد الكرسي، دي موريتا، الى إبطال الإجازات التي منحتها الأم رئيسة رهبنة القلب الأقدس الى نفسها في الامتناع من الزفر في أيام الصوم والغفارين والاعتراف، ويوصي بتشتيت راهبات الرهبنة في الأديار المتفرقة وبإعداد بكركي مقراً بطريركياً، استمع الى شهادة وردة بدران وروايتها مقتل اختها، نسيمة، ولفظها انفاسها في 19 تموز 1777. فبعد إثارة الراهبات على الأختين وتهمتهما بملابسة الشيطان، على معاني الملابسة كلها، سُلّطن عليهما. فأصلينهما طوال ساعات في اليوم الصراخ والشتائم. وخلعن عنهما ثوبيهما، وانتزعن صليبيهما، وحظرن على الأختين التلفظ باسم يسوع. وأوكل الى أحد الرهبان، الأب الياس بركانا، وعاونه اغناطيوس جاماتي وحنا كيلون، ضرب الأختين ضرباً قاسياً وفظاً. فكسر بعض أضلع نسيمة، ولم يملك نفسه فحطم جمجمتها. وتركت الأخت نسيمة بدران تلفظ انفاسها من غير ان يمد أحدهم، أو إحداهن، يد المؤاساة لها. ولم يُستجب طلبها "اللوازم" من فعل الندامة وقبول المشحة، هي "الساحرة" وصديقة الشيطان، وأهيل عليها التراب من غير مراسم. ويوم قتلت نسيمة سممت الأخت روفينا بعدها بقليل. وماتت أخت ثالثة هي خادمة القلب، على ما كانت تسمى، في يوم الشؤم هذا. ويرجح ان الراهبة الثالثة توفيت في ختام مرض سابق "اختار" اليوم المشهود ليطوي ايام التعس التي قسمت لخادمة القلب. وقسرت وردة بدران على القول ان الشيطان خنق أختها. وحين علم أنطون بدران، والد الأختين، أن إحدى بنتيه توفيت، وسّط الأمير يوسف شهاب في إخراج وردة من بكركي بالقوة، فلجأت الى دير حراش، حيث المطران ميخائيل فاضل.
ولم تنته قضية هندية فصولاً. فاشتبكت خيوطها وخيوط الأحوال "اللبنانية" الأخرى، ومنازعات الأسر والعائلات والنواحي والولاة والمطارنة والدول، وتخللت النظر في القضية، وبتها، انقلابات وتبدل أحلاف وحملات وانعقاد مجامع. ورفعت القضية الى الكرادلة بروما. فنظر مجمع فيها، في حزيران 1779. فطاولت أحكامه البطريرك، والمطارنة، والأديرة (وضع الآباء البلديون يدهم على ثلاثة أديار "حلبية")، والآباء العامين، وشعائر الكنيسة المارونية وبعض أنظمتها (مثل إحلال عيد الحبل بلا دنس محل عيد القلب الأقدس، وإلغاء إلزام أيام الصوم الثلاثة عشية عيد القلب الأقدس)، من غير إمساك عن البيض واللحم. وبعثت أحكام روما، ومطاولتها رسوماً وأبنية محلية عميقة الجذور، جبهة مارونية أهلية لحمتها إنكار سلطان روما، وتصرفها في رسم المطارنة وتنصيبهم، والحرص على "الحرية الإكليركية" وعلى "السنن القديمة" والتقاليد. وصدعت روما في 1785، فرضيت بعودة يوسف اسطفان الى كرسيه. وانتقلت الوكالة القنصلية الفرنسية، في 1786، الى غندور سعد الخوري غداة وفاة والده في سجنه الدمشقي. وعقد البطريرك والمطران ميخائيل فاضل صلحاً، فخلف فاضل اسطفان على الكرسي البطريركي في 1793.
وتنقلت هندية بين الأديرة، طريدة الضغينة والانتقام، "محجوراً عليها"، على قول عبدالله حشيمة، صاحب "القديسة هندية". وفي 1782 أقرت الى المطران مخايل الخازن، النائب البطريركي في أثناء نفي اسطفان، بأن اتحادها إنما كان بالشيطان. وأذيع "إقرار هندية" في الرعايا، على حين سعت الكنيسة في مصادرة كتاباتها أو أماليها وتعقبها". وتوفيت في شباط 1798، وحيدة ومرذولة وإنما مع قبول "اللوازم". ونامت كتاباتها فوق القرن، إلى ان نشر الأب بولس عبود تقارير فاتيكانية، في ثلاثة مجلدات، "الأصول المحجوبة" (1909)، و "المجالي التاريخية" (1910) و "بصائر الزمان" (1911). ولكن تراثها العميق الجذور لم ينفك حياً الى اليوم.

ليست هناك تعليقات: