الحياة- 13 مايو 2009
في نهاية 30 الى 35 سنة عاصفة تنحو معظم بلدان المشرق العربي الى بلورة بنية سياسية انتخابية تقوم على نظام «الحزبين»، وعلى تنافس تكتلين وطنيين عريضين. وليس التمثيل على الازدواج الحزبي بالقيسية واليمنية إلا على سبيل الظرفية التعليمية. ولعل خوض كتلتي أو جبهتي «14 آذار» و «8 آذار» اللبنانيين الانتخابات النيابية الوشيكة في الدوائر - الأقضية الـ26، في طول أراضي البلد وعرضها، من آخر القرائن على اثنينية سياسية وأهلية وطنية. وعندما «يتحاور» الفلسطينيون وينتخبون ويتقاتلون، فإنما يفعلون هذه، المحاورة والانتخاب الاقتتال، على المثال أو الرسم الاثنيني الغالب. فينقسمون فتحاويين وحمساويين. ويذهبون في انقسامهم هذا الى حد شطر السلطة القائمة و «الدولة» الموعودة دولتين أو إقليمين. وقد تؤدي انتخابات العراق القريبة، غداة توقيع الحكومة والقوات الأميركية المعاهدتين الأمنية والعسكرية، وبعد الانتخابات المحلية، الى تخطي الانقسام المذهبي والقومي بعض الشيء، وصوغ أحلاف معقدة ومتعرجة تلد في نهاية مطافها جبهتين مؤتلفتين من قوى متفرقة، تتولى واحدة الحكم، وتنهض الأخرى بالمعارضة. ويندرج مؤتمر التيار الصدري بتركيا، ورسوخه في الاحتجاج السلمي، وسعيه الى رعاية إقليمية جديدة، في التوجه هذا.
وتصدق الملاحظة على المملكة الأردنية الهاشمية، وعلى الكويت، على أطراف المشرق. وتغلب فيهما اثنينية قبلية وليبرالية، من وجه، وإسلامية وقبلية، من وجه آخر، على القسمة الانتخابية. وتشذ سورية، والحياة السياسية السورية وحدها في الإطار الجغرافي هذا، عن الاثنينية السياسية الانتخابية وازدواجها. ويعود هذا الى تصلب النظام الانتخابي وتحجره، وانسلاخه من التيارات والأهواء والعصبيات السياسية والأهلية التي تعتمل حقيقة في ثنايا الجماعات. ولا تتستر الأحادية الانتخابية الظاهرة والموجهة، وجبهة الأحزاب «الوطنية» الثمانية (بعد ضم الحزب السوري القومي الاجتماعي الى الأحزاب السبعة التقليدية) في قيادة «حزب» البعث وتحت هذه القيادة، على انقسام سياسي وأهلي ومذهبي واجتماعي قطباه الغالبان الى اليوم هما حزب الحكم والسلطان والمعارضة الإسلامية.
وينبغي أن تكون الاثنينية الانتخابية، والسياسية على مقدار أقل، دليلاً على نضوج العلاقات الوطنية بين الجبهتين أو الكتلتين العريضتين، وقرينة على بلورة نهجين عامين، أو برنامجين وطاقمي حكم. فتقارع الجبهةُ الجبهةَ، والنهجُ النهجَ. ويقارن البرنامج والطاقم بالبرنامج المنافس وطاقم حكمه المنافس. وعلى الضد من هذا، يبطن الانقسام، ظاهراً كان أم مضمراً، نزاعاً أهلياً عميقاً قد يحاذي الانفجار وينذر به، من غير أن يبلغه، على ما هي الحال في الأردن والكويت. ويلابس الانقسامُ في الأحوال الأخرى، على درجات متفاوتة، نزاعاً أهلياً معلناً يترجح بين أعمال العنف المادي والمعنوي المتنقلة، على ما هي الحال في فلسطين والعراق ولبنان، وبين إيلاء الكبت البوليسي والأمني الدور الأول في حماية السلم الأهلي الظاهر، من غير استبعاد التلويح بالقمع الدامي ومباشرته، على ما هي الحال في سورية. وعلى هذا، يحول أفق الحرب الأهلية، أو النزاع الأهلي العنيف، بين الاثنينية الانتخابية وبين التمثيل على اثنينية سياسية وطنية. فيمثِّل الحزبان المفترضان على عصبيتين متناحرتين تنزعان إما الى شق الدولة دولتين، واستيلاء العصبية على «دولتها» واستمرار حربها على عدوها، وإما الى غلبة ساحقة على الحزب الأهلي العدو وإرساء السلم الأهلي والاستقرار الظاهر على كبت وقمع يشفان، على رغم قوتهما واتصالهما، عن الاضطراب السياسي والأهلي العميق والعميم.
ولا ينفك الحزبان يتغذيان من موارد إقليمية كثيرة، عصبية وأهلية وسياسية وعسكرية ومادية، على مقادير متفاوتة، وقلما يتأتى لحزب من الحزبين، أو جبهة من الجبهتين، أن يستقل بموارده الذاتية عن «حلفاء» إقليميين هم، في معظم الأحوال، قادة أهليون ومسيطرون. فلا يستقر النزاع الداخلي على موازين وطنية، ولا تقيده، زمناً ودوائر جغرافية، موارد داخلية متاحة ومحدودة. ولا تحسمه، تالياً، الموازين الداخلية، ولا تقوده الى نهاية، أو الى صيغة ترعى مصبه السياسي. والحزب الخميني والحرسي المسلح في لبنان («حزب الله»)، على رأس جبهة «8 آذار»، دليل بارز وصارخ على دور الموارد الأجنبية وغير الذاتية، العصبية والأهلية والسياسية والعسكرية الأمنية والمادية، في نصب ميزان النزاع، والتحكم في دوائره وأوقاته وصيغة أو صوره.
فالحزب يدين بنشأته، وبميدان معركته ولحمته ومــقاتليه ومؤسساته وتمويله وسلاحه وأحلافه وســـياساته، لولي أمره الذي تولاه ورعاه وتعهد خطواته، ويتعهده، ويتكفل به وبحلفائه، الى اليوم. والتكفل بأكلاف القيادة والسيطرة المعنويتين والماديتين شرط لا غنى عنه لإرسائهما على بعض الثبات والاستقرار، ولدوام الاثنينية الوطنية و «تطويرها». وعلى هذا، فسيطرة الحزب الخميني والحرسي المسلح على كتل «8 آذار» الحزبية والانتخابية لا تستقيم إلا في ضوء خريطة النزاعات الإقليمية، وموارد أطرافها.
وتدين الاثنينية بتبلورها واستقرارها النسبي، وهي نشأت (وتنشأ) في أحضان بلدان ومجتمعات عرفت بكثرة مكوناتها المحلية وشرذمتها، الى الحروب الأهلية المتطاولة التي شهدتها، ولا تزال تشهدها وتغذيها الى اليوم. فلم تتماسك النزاعات اللبنانية المبعثرة والكثيرة وتستقر على نزاع انتخابي وسياسي يكاد يكون مشتركاً وجامعاً، يواجه فيه محور استقلالي مدني ومركب محوراً إقليمياً بوليسياً مسلحاً وهرمي التركيبة، لم تتماسك النزاعات على هذا المثال والرسم إلا بعد عشرات الأعوام من الحروب والنزاعات المتناثرة في أنحاء لبنان (والجوار) لا تحصى.
ويعود تفوق القيادة الإيرانية الحرسية على القيادة السورية الاستخباراتية الى توجيهها ثقلها نحو بناء قوة أهلية مسلحة، قائمة بنفسها وراجحة، على الجبهة الإسرائيلية والإقليمية أولاً، قبل توظيف جزء من القوة المتعاظمة والباهظة التكلفة على الجبهات الأهلية الداخلية، وأولها الجبهة الشيعية نفسها، من بعد. فاستولى الحزب الخميني المسلح على الجبهة الإسرائيلية - اللبنانية، جنوب الأراضي اللبنانية، وفي إقليم التفاح وشرق صيدا، وعلى طول بقاعها. وكان، في الأثناء، يحصن قواعده وخطوطه الخلفية في ضواحي بيروت، ويقرها على دور «خزان المقاومة» و «أرضها المحررة» من الدولة، ويصفي قوات «أمل»، جنوباً وبيروتاً وضواحي وبقاعاً وجبلاً. ويلحق شبان الحركة به، وبقواته وحملاته. ووسع الحزب الخميني المسلح، والإسلامي الثوري الدعوة والدعوى، و «الفلسطيني» والعروبي الميدان والمسرح، وسعه اختراق الجماعات السنية الأصولية المتحلقة حول الفلسطينيين ومنظماتهم المسلحة في المخيمات ومدن الجوار الساحلية، صور وصيدا وبيروت وطرابلس، والداخلية، بعلبك وبلدات البقاعين الأوسط والغربي.
وهو يتصدر اليوم الكتل الانتخابية، المزعومة خارج الحكم ومعارضة، في معظم دوائر الجنوب والبقاع وبعض جبل لبنان (بعبدا وجبيل)، وبعض بيروت. وتضطلع «الآلة» الحزب اللهية الحرسية بأدوار نافذة، بعضها اعتراضي، في معاقل سنية، بطرابلس وبعلبك وصيدا، أودرزية، مثل بعبدا، أو مسيحية، مثل جبيل. واضطلعت أصوات شيعية قليلة بالمتن الشمالي في الانتخابات الفرعية على مقعد شغر باغتيال بيار الجميل، بترجيح كفة المرشح العوني. فترسمت العملية الانتخابية، وتحالفاتها الأساسية والفرعية، خطوط جبهات القتال، القديمة والمستحدثة. وعلى نحو ما جهز الحزب الشيعي المسلح حملاته القتالية في بيروت والشوف والشويفات وعاليه، وبلغ عكار بالواسطة، وكان ضَلَع في اشتباكات طرابلس المتمادية، وبعث دورياته الى أعالي صنين ومفترق بلاد جبيل وقمم الجبال المطلة على البقاع، يقود الحروب الانتخابية الجارية، ويرعى جبهاتها. فيحكّم في «الخلافات» التي ينأى بنفسه عنها، وهي تنشب في عقر دياره الأهلية والعسكرية والتمويلية. ويجمع الزعيم المسيحي «التاريخي»، ميشال عون، الى زعيم شيعي لا يقل «تاريخية» عن سابقه، نبيه بري، ويقضي بخوضهما انتخابات «مهنية» في جزين، بجوار معقله في إقليم التفاح، وشبكة طرقه العسكرية بشرق صيدا. ويرجئ إعلان موقف ميشال عون من رئاسة «الأملي» الأول مجلس النواب القادم، فيستكمل هذا قرابة ربع قرن (22 سنة) من الرئاسة الثابتة.
وتسري العمومية الوطنية الانتخابية هذه في بلد فسيفسائي التركيب و «النسيج»، وعلى رغم قانون انتخابي يرمى بالطائفية المذهبية والشرذمة المحلية والعائلية. وهذا قرينة جلية على تقادم الزمن على «التحليل الطائفي» التقليدي. ولا يزال «التحليل» هذا ركيزة البرامج الانتخابية والسياسية الشيعية، ويتصدر «برنامجي» محمد رعد (نيابة عن حسن نصر الله) ونبيه بري، ومطالبتهما الهازلة بإلغاء «الطائفية السياسية». (وذلك شرط تقوية «طائفية» أهلية وعسكرية وبوليسية ومالية وثقافية وإدارية حصينة وإسمنتية). ففي دوامة الحروب الاحتياطية المزمنة، والمتفرعة من «القضية الفلسطينية» ومن صراع متجدد على الشرق الأوسط، وفي سياق الحروب هذه، نشأ على أنقاض الجماعات المحلية، ودوائرها ومراتبها، حلفان متنازعان ومتقاتلان. ويجمع الحلفان، على اختلاف بنيتيهما ولحمتيهما، قوى هي خليط من جماعات حاكمة في «دول» وأجهزة وجماعات أهلية وعصابات وأحزاب وروابط و «شخصيات» وأيديولوجيات ومصالح. وتتصدر إيران الخمينية و «النووية» حلفاً ورث من الحرب الباردة، ومن منقلبها السوفياتي، خصوصاً، بعض أساليبها وبنيتها، وكثيراً من تواطؤاتها، وجدد (في) أفكارها وغاياتها وثقافتها. وعلى خلاف الشرذمة السورية، لا ترى القيادة الخمينية الحرسية ضيراً في بناء قوة متماسكة واحدة من فتات الشراذم المتناثرة شرط التحكم في «قممها»، وفي عصبها. وهذا يعقد مسارات المفاوضات المزمعة، ويشبكها بعضها ببعض. ويسوغ الدعوات الملحة الى مفاوضة «حماس» و «حزب الله»، من غير تمييز جناح عسكري من سياسي. وربما سوغ دعوات قادمة الى مفاوضة «الإخوان» المصريين والأردنيين و «جيش المهدي» سابقاً، بعد الدعوة الى مفاوضة معتدلي طالبان و «عسكر الطيبة» الكشميري و «اتحاد الشباب» الصومالي.
في نهاية 30 الى 35 سنة عاصفة تنحو معظم بلدان المشرق العربي الى بلورة بنية سياسية انتخابية تقوم على نظام «الحزبين»، وعلى تنافس تكتلين وطنيين عريضين. وليس التمثيل على الازدواج الحزبي بالقيسية واليمنية إلا على سبيل الظرفية التعليمية. ولعل خوض كتلتي أو جبهتي «14 آذار» و «8 آذار» اللبنانيين الانتخابات النيابية الوشيكة في الدوائر - الأقضية الـ26، في طول أراضي البلد وعرضها، من آخر القرائن على اثنينية سياسية وأهلية وطنية. وعندما «يتحاور» الفلسطينيون وينتخبون ويتقاتلون، فإنما يفعلون هذه، المحاورة والانتخاب الاقتتال، على المثال أو الرسم الاثنيني الغالب. فينقسمون فتحاويين وحمساويين. ويذهبون في انقسامهم هذا الى حد شطر السلطة القائمة و «الدولة» الموعودة دولتين أو إقليمين. وقد تؤدي انتخابات العراق القريبة، غداة توقيع الحكومة والقوات الأميركية المعاهدتين الأمنية والعسكرية، وبعد الانتخابات المحلية، الى تخطي الانقسام المذهبي والقومي بعض الشيء، وصوغ أحلاف معقدة ومتعرجة تلد في نهاية مطافها جبهتين مؤتلفتين من قوى متفرقة، تتولى واحدة الحكم، وتنهض الأخرى بالمعارضة. ويندرج مؤتمر التيار الصدري بتركيا، ورسوخه في الاحتجاج السلمي، وسعيه الى رعاية إقليمية جديدة، في التوجه هذا.
وتصدق الملاحظة على المملكة الأردنية الهاشمية، وعلى الكويت، على أطراف المشرق. وتغلب فيهما اثنينية قبلية وليبرالية، من وجه، وإسلامية وقبلية، من وجه آخر، على القسمة الانتخابية. وتشذ سورية، والحياة السياسية السورية وحدها في الإطار الجغرافي هذا، عن الاثنينية السياسية الانتخابية وازدواجها. ويعود هذا الى تصلب النظام الانتخابي وتحجره، وانسلاخه من التيارات والأهواء والعصبيات السياسية والأهلية التي تعتمل حقيقة في ثنايا الجماعات. ولا تتستر الأحادية الانتخابية الظاهرة والموجهة، وجبهة الأحزاب «الوطنية» الثمانية (بعد ضم الحزب السوري القومي الاجتماعي الى الأحزاب السبعة التقليدية) في قيادة «حزب» البعث وتحت هذه القيادة، على انقسام سياسي وأهلي ومذهبي واجتماعي قطباه الغالبان الى اليوم هما حزب الحكم والسلطان والمعارضة الإسلامية.
وينبغي أن تكون الاثنينية الانتخابية، والسياسية على مقدار أقل، دليلاً على نضوج العلاقات الوطنية بين الجبهتين أو الكتلتين العريضتين، وقرينة على بلورة نهجين عامين، أو برنامجين وطاقمي حكم. فتقارع الجبهةُ الجبهةَ، والنهجُ النهجَ. ويقارن البرنامج والطاقم بالبرنامج المنافس وطاقم حكمه المنافس. وعلى الضد من هذا، يبطن الانقسام، ظاهراً كان أم مضمراً، نزاعاً أهلياً عميقاً قد يحاذي الانفجار وينذر به، من غير أن يبلغه، على ما هي الحال في الأردن والكويت. ويلابس الانقسامُ في الأحوال الأخرى، على درجات متفاوتة، نزاعاً أهلياً معلناً يترجح بين أعمال العنف المادي والمعنوي المتنقلة، على ما هي الحال في فلسطين والعراق ولبنان، وبين إيلاء الكبت البوليسي والأمني الدور الأول في حماية السلم الأهلي الظاهر، من غير استبعاد التلويح بالقمع الدامي ومباشرته، على ما هي الحال في سورية. وعلى هذا، يحول أفق الحرب الأهلية، أو النزاع الأهلي العنيف، بين الاثنينية الانتخابية وبين التمثيل على اثنينية سياسية وطنية. فيمثِّل الحزبان المفترضان على عصبيتين متناحرتين تنزعان إما الى شق الدولة دولتين، واستيلاء العصبية على «دولتها» واستمرار حربها على عدوها، وإما الى غلبة ساحقة على الحزب الأهلي العدو وإرساء السلم الأهلي والاستقرار الظاهر على كبت وقمع يشفان، على رغم قوتهما واتصالهما، عن الاضطراب السياسي والأهلي العميق والعميم.
ولا ينفك الحزبان يتغذيان من موارد إقليمية كثيرة، عصبية وأهلية وسياسية وعسكرية ومادية، على مقادير متفاوتة، وقلما يتأتى لحزب من الحزبين، أو جبهة من الجبهتين، أن يستقل بموارده الذاتية عن «حلفاء» إقليميين هم، في معظم الأحوال، قادة أهليون ومسيطرون. فلا يستقر النزاع الداخلي على موازين وطنية، ولا تقيده، زمناً ودوائر جغرافية، موارد داخلية متاحة ومحدودة. ولا تحسمه، تالياً، الموازين الداخلية، ولا تقوده الى نهاية، أو الى صيغة ترعى مصبه السياسي. والحزب الخميني والحرسي المسلح في لبنان («حزب الله»)، على رأس جبهة «8 آذار»، دليل بارز وصارخ على دور الموارد الأجنبية وغير الذاتية، العصبية والأهلية والسياسية والعسكرية الأمنية والمادية، في نصب ميزان النزاع، والتحكم في دوائره وأوقاته وصيغة أو صوره.
فالحزب يدين بنشأته، وبميدان معركته ولحمته ومــقاتليه ومؤسساته وتمويله وسلاحه وأحلافه وســـياساته، لولي أمره الذي تولاه ورعاه وتعهد خطواته، ويتعهده، ويتكفل به وبحلفائه، الى اليوم. والتكفل بأكلاف القيادة والسيطرة المعنويتين والماديتين شرط لا غنى عنه لإرسائهما على بعض الثبات والاستقرار، ولدوام الاثنينية الوطنية و «تطويرها». وعلى هذا، فسيطرة الحزب الخميني والحرسي المسلح على كتل «8 آذار» الحزبية والانتخابية لا تستقيم إلا في ضوء خريطة النزاعات الإقليمية، وموارد أطرافها.
وتدين الاثنينية بتبلورها واستقرارها النسبي، وهي نشأت (وتنشأ) في أحضان بلدان ومجتمعات عرفت بكثرة مكوناتها المحلية وشرذمتها، الى الحروب الأهلية المتطاولة التي شهدتها، ولا تزال تشهدها وتغذيها الى اليوم. فلم تتماسك النزاعات اللبنانية المبعثرة والكثيرة وتستقر على نزاع انتخابي وسياسي يكاد يكون مشتركاً وجامعاً، يواجه فيه محور استقلالي مدني ومركب محوراً إقليمياً بوليسياً مسلحاً وهرمي التركيبة، لم تتماسك النزاعات على هذا المثال والرسم إلا بعد عشرات الأعوام من الحروب والنزاعات المتناثرة في أنحاء لبنان (والجوار) لا تحصى.
ويعود تفوق القيادة الإيرانية الحرسية على القيادة السورية الاستخباراتية الى توجيهها ثقلها نحو بناء قوة أهلية مسلحة، قائمة بنفسها وراجحة، على الجبهة الإسرائيلية والإقليمية أولاً، قبل توظيف جزء من القوة المتعاظمة والباهظة التكلفة على الجبهات الأهلية الداخلية، وأولها الجبهة الشيعية نفسها، من بعد. فاستولى الحزب الخميني المسلح على الجبهة الإسرائيلية - اللبنانية، جنوب الأراضي اللبنانية، وفي إقليم التفاح وشرق صيدا، وعلى طول بقاعها. وكان، في الأثناء، يحصن قواعده وخطوطه الخلفية في ضواحي بيروت، ويقرها على دور «خزان المقاومة» و «أرضها المحررة» من الدولة، ويصفي قوات «أمل»، جنوباً وبيروتاً وضواحي وبقاعاً وجبلاً. ويلحق شبان الحركة به، وبقواته وحملاته. ووسع الحزب الخميني المسلح، والإسلامي الثوري الدعوة والدعوى، و «الفلسطيني» والعروبي الميدان والمسرح، وسعه اختراق الجماعات السنية الأصولية المتحلقة حول الفلسطينيين ومنظماتهم المسلحة في المخيمات ومدن الجوار الساحلية، صور وصيدا وبيروت وطرابلس، والداخلية، بعلبك وبلدات البقاعين الأوسط والغربي.
وهو يتصدر اليوم الكتل الانتخابية، المزعومة خارج الحكم ومعارضة، في معظم دوائر الجنوب والبقاع وبعض جبل لبنان (بعبدا وجبيل)، وبعض بيروت. وتضطلع «الآلة» الحزب اللهية الحرسية بأدوار نافذة، بعضها اعتراضي، في معاقل سنية، بطرابلس وبعلبك وصيدا، أودرزية، مثل بعبدا، أو مسيحية، مثل جبيل. واضطلعت أصوات شيعية قليلة بالمتن الشمالي في الانتخابات الفرعية على مقعد شغر باغتيال بيار الجميل، بترجيح كفة المرشح العوني. فترسمت العملية الانتخابية، وتحالفاتها الأساسية والفرعية، خطوط جبهات القتال، القديمة والمستحدثة. وعلى نحو ما جهز الحزب الشيعي المسلح حملاته القتالية في بيروت والشوف والشويفات وعاليه، وبلغ عكار بالواسطة، وكان ضَلَع في اشتباكات طرابلس المتمادية، وبعث دورياته الى أعالي صنين ومفترق بلاد جبيل وقمم الجبال المطلة على البقاع، يقود الحروب الانتخابية الجارية، ويرعى جبهاتها. فيحكّم في «الخلافات» التي ينأى بنفسه عنها، وهي تنشب في عقر دياره الأهلية والعسكرية والتمويلية. ويجمع الزعيم المسيحي «التاريخي»، ميشال عون، الى زعيم شيعي لا يقل «تاريخية» عن سابقه، نبيه بري، ويقضي بخوضهما انتخابات «مهنية» في جزين، بجوار معقله في إقليم التفاح، وشبكة طرقه العسكرية بشرق صيدا. ويرجئ إعلان موقف ميشال عون من رئاسة «الأملي» الأول مجلس النواب القادم، فيستكمل هذا قرابة ربع قرن (22 سنة) من الرئاسة الثابتة.
وتسري العمومية الوطنية الانتخابية هذه في بلد فسيفسائي التركيب و «النسيج»، وعلى رغم قانون انتخابي يرمى بالطائفية المذهبية والشرذمة المحلية والعائلية. وهذا قرينة جلية على تقادم الزمن على «التحليل الطائفي» التقليدي. ولا يزال «التحليل» هذا ركيزة البرامج الانتخابية والسياسية الشيعية، ويتصدر «برنامجي» محمد رعد (نيابة عن حسن نصر الله) ونبيه بري، ومطالبتهما الهازلة بإلغاء «الطائفية السياسية». (وذلك شرط تقوية «طائفية» أهلية وعسكرية وبوليسية ومالية وثقافية وإدارية حصينة وإسمنتية). ففي دوامة الحروب الاحتياطية المزمنة، والمتفرعة من «القضية الفلسطينية» ومن صراع متجدد على الشرق الأوسط، وفي سياق الحروب هذه، نشأ على أنقاض الجماعات المحلية، ودوائرها ومراتبها، حلفان متنازعان ومتقاتلان. ويجمع الحلفان، على اختلاف بنيتيهما ولحمتيهما، قوى هي خليط من جماعات حاكمة في «دول» وأجهزة وجماعات أهلية وعصابات وأحزاب وروابط و «شخصيات» وأيديولوجيات ومصالح. وتتصدر إيران الخمينية و «النووية» حلفاً ورث من الحرب الباردة، ومن منقلبها السوفياتي، خصوصاً، بعض أساليبها وبنيتها، وكثيراً من تواطؤاتها، وجدد (في) أفكارها وغاياتها وثقافتها. وعلى خلاف الشرذمة السورية، لا ترى القيادة الخمينية الحرسية ضيراً في بناء قوة متماسكة واحدة من فتات الشراذم المتناثرة شرط التحكم في «قممها»، وفي عصبها. وهذا يعقد مسارات المفاوضات المزمعة، ويشبكها بعضها ببعض. ويسوغ الدعوات الملحة الى مفاوضة «حماس» و «حزب الله»، من غير تمييز جناح عسكري من سياسي. وربما سوغ دعوات قادمة الى مفاوضة «الإخوان» المصريين والأردنيين و «جيش المهدي» سابقاً، بعد الدعوة الى مفاوضة معتدلي طالبان و «عسكر الطيبة» الكشميري و «اتحاد الشباب» الصومالي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق