المستقبل، 3/5/2009
من لا إلفة بينه وبين البيانات العربية في التنسيق والتعاون والتخطيط المشترك و "الوحدات"، الاقتصادية والأمنية والثقافية والعسكرية وأفقها السياسي و "القومي" الماثل ابداً ودوماً، قد يأخذه على حين غرة عجب بعض الساسة المشرقيين، من محترفي "الوحدات" هذه أو بياناتها، من تأخر "اتحاد عربي" يسابق الاتحاد الأوروبي ويتقدمه. والسبب في العجب السامي هو تمتع العرب، ودولهم وشعوبهم، على قول من تنوب عن بشار الأسد على رأس الجمهورية العربية السورية (اسم من ثلاث ألفاظ أو كلمات مشكلة المعنى والجمع)، باللغة العربية العظيمة والرائعة التي يتمتعون بها. ويؤيد خبير اقتصادي ومالي سابق، القول هذا. وحملُ الوحدة السياسية أو "القومية"، على قول عربي غامض ومزمن، على اتفاق اللغة المكتوبة والتراثية، حين أكثر من نصف المجتمع أمي والنصف غير الأمي معظمه "لا يقرأ" على ما زعم بن غوريون ويصدق من يروون عنه، هذا الحمل على اللغة يبعث على عجبين أو دهشتين: من رد السياسة الى اللغة وتوحيدها فيها، ومن تعظيم شأن ما لا تحصى القرائن على ازدرائه، والعبث به، وتركه مواتاً.
الزمن والدهري
فإذا رجع الواحد من عجبيه ودهشتيه، لم يفته طبعاً ان بعض الخفة تلازم الكلام على الاتحاد والوحدة، وعلى صفة العروبة المفترضة جامعة، وعلى ترتيب عوامل الوحدة التي لا يشك فيها "المؤمنون" بها (فهي "فعل" إيمان: حين القول فعل والفعل قول). ولا يفوت المراقب أو الملاحظ، من وجه آخر، ان إيجاب وحدة "العرب"، في أقطارهم الاثنين والعشرين الى اليوم أو دولهم، قلما يتعدى الإيجاب الوجودي، أو الحكم بالوجود والوقوع، الى الإيجاب السياسي، أو الحكم بإلحاح ضرب من العلاقة التنظيمية والإجرائية. فيسع بلدان الخليج والمغرب، ومصر بين هذه وتلك، نصب العروبة تعريفاً والاقتتال الأخوي فيما بينها، معاً. ويكاد يكون ساسة سوريا والسوريين وحدهم يُتبعون فعل إيمانهم العربي والوحدوي بترتيب تنظيم وإجراء على فعل الإيمان هذا، أي بتعدي القول الى الفعل. ولكنهم يخصون "لبنان" بتعديهم هذا.
وهو، التعدي (لغة وفعلاً)، يتوج عقوداً طويلة من سياسة جوار محمومة ومقلقة، غذّت حماها الفروق الاجتماعية والأهلية والدينية والجغرافية والسياسية المتعاظمة. وفي سياقة التاريخ الطويل هذا، وترقى "أوائله" الى أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن الذي يليه أي الى ظهور أعراض انحلال السلطنة العثمانية، مال اهل الساحلية الى بلورة هوية تاريخية أو "زمنية" اجتماعية وإدارية، مدارها على "حوادث" الأسر الحاكمة والعصبيات والنزعات المحلية والولاة والولايات والجبايات والتجارات والزراعات والمدارس والموانئ والمجاعات والهجرات. ومال أهل الداخلية، الى تثبيت هويتهم على الأنساب الأهلية والفتوح (الخالية)، وذاكرة هذه وتلك ولغتها. وكان الفرق مرآة تاريخين مختلفين ومتنازعين. وترتب على فرق التاريخين، وعلى اختلافهما وتنازعهما، تناولان متباينان للفرق التاريخي ولمحله من الهوية والسياسة. فذهبت بلدان الداخلية العربية، ولا يزال معظمها يذهب الى ان الفروق الحادثة، الأهلية والاجتماعية والثقافية والسياسية، لا يعول عليها في في تناول الهوية الجامعة، وليست عاملاً يعتد به في معالجة صيغ الحكم والأبنية السياسية الداخلية، أو في صيغ العلاقات بين الدول والبلدان والجماعات.
وعلى خلافها، استلهمت بعض جماعات بلدان الساحلية، وهي لم تفض الى بلورة دولة وطنية في غير لبنان، الحوادث "الزمنية"، وأوجبت اعتبارها واحتسابها في ميزان الهويات ومصائرها. وكان إنشاء الدولة الوطنية، على رغم مبادرة الدول الأوروبية إليها، ثم دوامها على مقادير متفاوتة من التنازع والقلق، إثباتاً مضطرباً لجواز إرساء كيان سياسي قائم برأسه، فعلاً وحقاً (أو قانوناً مشروعاً)، على حوادث تاريخية زمنية، وليس على هوية "قومية" جوهرية، أهلية ونسبية في المرتبة الأولى. وجوز النشأة والدوام رجحان كفة الدول الكبرى في ميزان القوة وكثرة الكيانات الإقليمية والأهلية وضعف قياداتها ومجتمعاتها (أو جماعاتها)، وجمع الكيانات هذه، قيادات ومجتمعات، بين وقائعها الإقليمية أو "الكيانية" المنفصلة والمنعزلة وبين انتسابها "القومي" والأهلي الجامع.
وهي جمعت بين الأمرين، الوقائع "الكيانية" والنسب الجامع، من غير تناقض وتدافع، من جهة، ومن غير تأليف ونسيج، من جهة أخرى. فبقي فعل الإيمان الوحدوي والعروبي معلقاً ومجرداً، ما لم يدعُ داع سياسي ظرفي إلى خلاف الأمر، والداعي هذا صادر غالباً عن موجب لا راد له هو محاماة الجماعة الحاكمة والمتسلطة عن نفسها بوجه إنكار مشروعيتها، وتنديد الكثرة الأهلية بأقلويتها الأهلية والاعتقادية (على ما هي الحال في سوريا البعثية الأسدية، وعلى ما كانت عليه في العراق البعثي الصدامي)، أو بتنطحها الاجتماعي والمرتبي (على ما كانت الحال عليه في مصر وسوريا والعراق واليمن في أعقاب الانقلابات العسكرية). وأقامت قيادات الكيانات ومجتمعاتها على جمعها بين قطبين متدافعين، في الأفكار والذهن، ومتآلفين فعلاً وعملاً، حين استظهرت القيادات والمجتمعات بحوادث "زمنية"، واستقوت بها على الطبقات الحاكمة القديمة أو السابقة، وسوغت انقلابها، العسكري في معظم الأحيان، عليها، وعلى سيطرتها. ولم تكن وحدها "متناقضة"، فناقض تسويغها "الزمني" والتاريخي منزعها "القومي" والأهلي الثابت والدهري. فالجماعة الوطنية الحادثة فعلاً، والناشئة عن حوادث سياسية وثقافية واجتماعية وأهلية معروفة "الأزمنة"، على قول بطريرك ماروني و "لبناني" كبير، هذه الجماعة لم تحمل نفسها، ومصيرها التاريخي والسياسي الذي أدلى بها الى إنشاء كيان سياسي وحقوقي وطني، على حدوثها وتكونها، بل نسبتها، بدورها وعلى مثال الجماعات "القومية" المتناقضة، الى هوية دهرية وألفية ("ستة آلاف سنة") ثابتة. وليس هذا نهاية "التناقضات". فعندما تخففت جماعات لبنانية عروبية من ثقل عروبة مبدئية وعامة، حلمت بعروبة "حضارية".
الدمج والتقطع
والحق ان الترجح بين الوطني وبين القومي، أو بين التاريخ السياسي وبين هوية تتعالى عن التاريخ، لم تقتصر فصوله الأخيرة على الطاقم الحاكم السوري في علاقته بلبنان واللبنانيين، ولا على علاقة جماعات لبنانية بساسة سوريا وبعض أجهزتهم الأمنية والعسكرية. ولا قبلها، على علاقة الجماعات هذه بالمنظمات الفلسطينية المسلحة، أو بالرئيس المصري الأسبق، جمال عبدالناصر فنصب "القائد" الليبي معمر القذافي، نفسه من تلقاء نفسه داعية "وحدوياً". وتنقل بين مصر والسودان وتونس والجزائر والمغرب وتونس (في إطار مغاربي هذه المرة). وحاول قسر حكومات، أي رئاسات هذه البلدان على الاتحاد. وانهارت المحاولات هذه قبل ان تتصور في أضعف صورة مرئية، على خلاف صورة الوحدة السورية – المصرية، وبعيداً جداً من صورة الكونفدرالية اللبنانية – السورية، وهي أوضح صور التوحيد القومي العربي، وأكثرها دقة وتفصيلاً. ولعلها أقواها وأعرضها دلالة على مضمرات التوحيد القومي العربي غداة الحرب العالمية والانقلابات العسكرية التي "جددت" الجماعات والكتل العربية الحاكمة.
فاتحاد دولتين أو أكثر هو، في مرآة ما يسمى افتئاتاً ومجازاً "تجارب وحدوية"، إعلان جهازين حاكمين عزمهما على دمج "شعبهما" الواحد والمشترك، على رغم كثرة الدولة، في دولة واحدة، أو تحت رئاسة مشتركة قد تكون واحدة وقد لا تكون. ويُغفل الإعلان عمداً المراحل، وشرائط إنجاز المرحلة قبل الانتقال الى التالية، والقرائن التي يستدل بها على الإنجاز أو على الإخفاق في هذا الميدان أو ذاك (من التعريفات الجمركية الى التعليم)، والإجراءات البديلة او الاستلحاقية في حال تأخر إنجاز المرحلة أو بدا مستحيلاً، إلخ. فما يتخطى مجلس الرئاسة، أو هيئات الحكم العليا، لا يحظى بالانتباه، ولا يستوقف دعاة الوحدة وأصحابها. واستثناء مجلس التعاون الخليجي، وخروجه على قاعدة عربية جارية، فرادة مردها الى "محافظة" دول مجلس التعاون، وإلى "واقعية" قياداتها ورئاساتها، على خلاف "ثورية" القيادات وضعف أودها السياسي واستعجالها العقيم. وتضمر الوحدات، على نحو ما يضمر تقديم اللفظة على أخرى قريبة هي الاتحاد، الذوبان في جسم واحد، وحين يبلغ الأمر هذا المبلغ من نفي التمييز، ورفض الإقرار به، تُحمل عوامل الإتحاد المفترض على اللغة والمعتقد والتاريخ (على معنى الأسطورة). وهي عوامل قوية الأثر من غير شك في طلب الانصهار على شاكلة الحلم وفي التسليم لإرادة توحيد "عليا" والتضحية بين يدي هذه الإرادة. ولكنها لا تقوم مقام نثر التدبير والإدارة، ولا مقام "شعر" السياسة الكبير. وهي، في الأحوال كلها، تفترض (وتغذي معاً) مثالاً من السياسة سلطانياً أو امبراطورياً فاتحاً لا يستقيم ولا يتفق مع بيئات إقليمية أو دولية، ولا محلية وطنية ابتداء، تدور مبانيها على معايير عمل مختلفة، وتسعى في غايات أخرى.
ولا يخفى ان الدول العربية، أي جماعاتها الحاكمة، التي يلح عليها شاغل التوحيد "القومي" والإقليمي، تكاد تكون نهباً، في الآن نفسه، لشواغل الحدود "القطرية" الصغيرة، ولمشكلات انتقال البضائع وسفر الأشخاص وتشريعات العمل والهجرة والإقامة والاستثمار والمياه. فإلى اليوم، لم ينجز ساسة سوريا المتعاقبون تخطيط حدود بلادهم مع دول الجوار "الشقيق" كلها: 1) لا مع لبنان، حيث لا يزال عمال مساحة لبنانيون يقتلون حين يوكل إليهم الأمر في الشرق الشمالي وفي البقاع الأوسط، ويثير ترسيم مزارع شبعا مسألة جغرافية سياسية واستراتيجية خطيرة، وحيث تغلق الجمارك السورية وأمنها بوابات الشاحنات والسلع الى الداخلية من طريق سوريا، ولا يعلم أهالي آلاف اللبنانيين ما مصير محتجزين أو رهائن أو موقوفين من أقاربهم في سوريا وسجونها وعلى أراضيها. 2) ولم ينجز الساسة أنفسهم تخطيط حدود بلدهم مع الأردن الذي ينازعونه نحو 50 كلم2 من أراضي الجرف الصحراوي، ويساومونه على المياه الثمينة وترعها، ويتحكمون في طريق النقل الى شبه جزيرة العرب. 3) والحدود السورية – العراقية مثار مشكلة عصية منذ 1978 – 1979، غداة انفراط عقد "جبهة الصمود والتصدي" التي أنشأها الحكمان البعثيان، الصدامي والأسدي، رداً على انخراط الرئيس المصري أنور السادات في مفاوضات كمب ديفيد، ثم في اتفاقاته. وتخلف عن انفراطها، الى إعدامات ميدانية بادر إليها صدام حسين، قطع علاقات التمثيل الديبلوماسي، ووقف تدفق النفط في أنبوب كركوك – بانياس، وغلق الحدود تقريباً ومراقبة المسافرين والتجارة (والسيارات المفخخة) مراقبة صارمة. ولم "تفتح" الحدود من جديد، عشية 2003 وغداتها خصوصاً، إلا بوجه مجندي "القاعدة" وقتلتها وانتحارييها، ومناضلي البعث الصدامي ومقاتليه، وهم في طريقهم الى الأنبار أو الموصل، وبعضهم في طريقه الى طرابلس وبيروت وصيدا.
وهذا غيض من فيض، وقليلة هي الدول العربية، في المشرق والمغرب، التي لم تشهد حروباً إما بين الدول وإما حروباً داخلية إقليمية ينهض لبنان، من طريق اللبننة، خالفة البلقنة، علماً عليها منذ نحو نصف القرن. فكانت باكورة الاستقلال الجزائري حرباً جزائرية مغربية في 1962. ولا يزال "الشعب" الصحراوي بتندوف والساقية الحمراء، معقلاً ثابتاً من معاقل حرب البلدين. وسبق السعي الليبي في "ضم" تونس الى حاكمية الجماهرية القذافية تسلل حدودي الى قفاصة موله القائد "العظيم". وحين أراد هذا إعلان العودة عن انخراطه في المسائل العربية، الداخلية اولاً، مثّل على عودته هذه بطرد عشرات الآلاف من الفلسطينيين الى الحدود الليبية – المصرية، وتشريدهم هناك. والرجل نفسه، ومن ورائه بلده، خاض حرباً على جبهة تشاد في أواخر ثمانينات القرن الماضي على أوزو. وتعرض الى تسلل من مصر في أواخر السبعينات وأدواره المتفرقة في السودان والصومال والنزاع الإريتري – الإثيوبي ومالي والنيجر، على جبهات هذه البلدان الداخلية والأهلية أو على جبهاتها فيما بينها، نشطة. ومتلونة وكان صدام حسين "محركاً" حدودياً فاعلاً ومدمراً. فهو خاض اعظم وأطول حرب دبابات بعد الحرب الثانية على الحدود الإيرانية – العراقية. وخلفت الحرب هذه نحو 600 ألف قتيل، وما لم يحص من الجرحى والمعوقين والمفقودين الى اليوم. وبعث اجتياحه الكويت، غداة سنتين على وقف النار على جبهة العراق الشرقية، أعرض تحالف أممي شهده المجتمع الدولي مع نهاية الحرب الباردة. واستبق التحالف الأممي، في قيادة الولايات المتحدة، احتمال انهيار الحدود الخليجية على حوض "بحر" النفط الكبير. فمن المحيط (سبتة ومليلة)، هادراً أم أبكم، الى البصرة (شط العرب) على الخليج واسكندرون، شمالاً، تتخبط دول "الأمة" وشعوبها وأقوامها وجماعاتها، في دوامة منازعات حدودية، في الداخل والخارج.
وهذا جزء من مخلفات "زواج" السرح الأهلي والقبلي والتجاري والديني (الحج) في عهدة خاقان البرين العثماني التركي، والولاية أو السيادة في عهدة الدول الوطنية. وحلت هذه محل الولايات، وقطّعت الأهل والأرض تقطيعاً وصف فيما بعد (ويوصف الى اليوم) بالكيفي والظالم و "التجزيئي". ويطلق الوصف غالباً في ضوء معايير ورغبات وخطط لاحقة وجزئية، قد لا تقل افتعالاً واصطناعاً عن "التجزئة" الاستعمارية. ولما ملكت الدول عصمتها، وآلت ولايتها على نفسها الى قياداتها الوطنية و "القومية" لم تدخر هذه جهداً ولا آلة في سبيل تدعيم الولاية المختلطة، السلطانية، والوطنية، على الرعايا والأرض. وانقسمت النخب السياسية، والعامة أو الجمهور، الانقسام الذي تقدم وصفه. فتنازعهما، النخب والجمهور، نازعان، واحد الى الانكفاء على الداخل، وتحصينه من الجوار والخارج من طريق قطع علاقاته الأهلية والسياسية والوطنية بهما، دولاً وجماعات. والنازع الآخر الى السيطرة على جماعات دواخل الدول الأخرى، واستمالة ولائها على دولها وجماعاتها الحاكمة، والانتصاب بإزائها مرجعاً وقطباً.
فالنخب السياسية الحاكمة "قومية" وعروبية ومتعالية على القطرية المحلية والانعزالية حين يغلب السرح الأهلي والقبلي والتجاري والديني، أو النطاق السلطاني والامبراطوري، على النطاق الوطني وهيئاته الرخوة ومصالحه المضطربة. وهي "قومية" وعروبية في كل مرة تحوجها فيها القوة الغربية، الأوروبية – الأطلسية (الواحدة على مثال امبراطوري استعماري، تعريفاً وماهية)، الى بعث صورة امبراطورية ماضية. وهذا ليس عسيراً عليها. فالتاريخ الإقليمي، القديم والوسيط و "الحديث"، يعج بالامبراطوريات، وبخليط الولايات والأقوام والأهل الذي يتربع في سدته أهل أو قوم، ويستولي على السدة متقنعاً بالدولة ونظام "الحكومة"، على معنى الدولة الأوروبية المحدثة. ولكن غلبة الصورة أو الرسم السلطاني والامبراطوري على الحركات السياسية العربية "الوطنية"، وفيها الحركات الإسلامية والقومية والأهلية والمحلية، أعجزتها حين بلوغها الحكم عن التدبير الحكومي، وعن بناء الدولة في الداخل والخارج. والتدبير يقدم "المساواة والكثرة والمنازعة والإدارة – وهي عوامل غير متجانسة – على تفاوت الحاكمية أوالولاية، وعلى تعاليها ووحدانيتها ونفيها الخلافات وتمهيدها بالإكراه.
الدولة والإمبراطورية
وحين تصدى دعاةٌ مؤسسون لمسألة "الضعف" أو "التأخر" أو "الانحطاط"، على ما سمى سياسيو القرنين الحاليين وكتابهما قصور أو تقصير بلدانهم (العربية والإسلامية) في ميدان "التمدن" و "المدنية" – وهذه كلها من مصطلح "النهضة" – بعثوا القوة المنشودة والمرجوة في صورة الوحدة الجامعة، وأنزلوا الوحدة الجامعة في جسم الخلافة وأحلوها فيه، أو في المملكة، أو في الامبراطورية الإقليمية. وليس حسن البنا المصري الإسلامي أو ميشال عفلق العروبي أو أنطون سعادة اللبناني "السوري"، ليسوا إلا أصداء منزع صادر عن السرح الأهلي والقبلي والتجاري والديني ونطاقه السلطاني والامبراطوري، وعن مقاومة السرح هذا رسم الدولة المحدثة، واستعدائه عليها الموارد الأهلية والقبلية والدينية والتجارية البسيطة أو السوقية. وهؤلاء كان حاديهم أو داعيهم الأول ضم أطراف "عوالمهم" بعضها على بعض، وغلق أبواب العوالم هذه وحدودها على دواخلها، واستعادة قوتها المفترضة بدءاً من حدودها وتخولها ومساكها، على ما كانت تسمى مواضع المراقبة على الانتقال والنقل.
وتستوقف، في أدبيات اليوم السياسية أو خطبه وبياناته، المقارنة المتواترة والبدهية بين الاتحاد الأوروبي وبين السوق العربية المشتركة المأمولة، على ما مر بمطلع العجالة. وتنكر الأدبيات هذه، والأرجح انها تجهل (أي يجهل اصحابها) السيرورة الأوروبية، ومراحلها ومرارة مخاضها ومنازعاتها المستمرة وترجحاتها. وهو جهل اضطرار وضرورة. فموضوع الجهل أو موضوعاته الكثيرة هي ما لا قياس عليه في الاختبارات أو في الحاجات العربية المدركة. ولعل مثال هذا الفرق الشاسع بين الرغبة المعلنة في رفع الحواجز والمعوقات بوجه التبادل والنقل والانتقال وبين اقتصار التجارة البينية على 4 الى 7 في المئة من التجارة الخارجية الإجمالية. وفي تقرير قريب لمنظمة العمل العربية ان نسبة انكشاف الاقتصاد العربي على الاقتصاد العالمي، وهي تقاس بقسمة التجارة الخارجية (العربية) على الناتج الإجمالي المحلي، بلغت، في 2006، نحو 80 في المئة. وتظهر مقارنة المؤشرين ضعف المبادلات قياساً على اقتصادات منكشفة وما يحجز أو يحول بين السلع وبين تبادلها يحول على نحو أشد وأقوى بين الناس وبين سفرهم وتنقلهم، وبين الأفكار والمطبوعات والكتب وبين تداول الرأي فيها ومناقشتها. وإذا أتاحت التقنية عبور الحدود البرية أو البحرية، تولت خطابة الصور والمقالات تحجيرها على خنادق وسرادقات متحزبة ومتناحرة. فالاتحاد الذي يزعم "الوحدويون" طلبه، وينشدونه، ينزل على البلدان والمجتمعات من عل سلطاني وفاتح، على مثال الولاية أو الحاكمية.
سيرورة الحكومة
وعندما تناول "مؤرخ" مجدد (لا تستوقفنا في المعرض هذا مسألة "اختصاصه" ومادة الاختصاص) هو الفرنسي ميشال فوكو، في محاصرات عامي 1977 و1978، مسائل "الأمن والإقليم والسكان" (نشرت في 2004)، وتضافرها، عالج النظام الإقليمي الأوروبي المتصل والمشترك على النحو الذي بدأ ينزع الى الاستقرار عليه في أواسط القرن السابع عشر. واختار، في أعقاب ما لا يحصى من الدارسين، عام 1648، وهو عام معاهدة فيستفاليا (أو وستفاليا، على ما يكتب بعضهم اسم المدينة الألمانية)، علماً على ولادة النظام الإقليمي هذا. وهو صار الى النضج، وبلغ مرحلته الطويلة، وغير المحصنة من الارتكاس، 12 عاماً غداة نهاية الحرب العالمية الثانية، مع معاهدة روما (1957). وحين ألقى المحاضر محاضراته، وهي لم يكن غرضها الوقائع السياسية الخبرية ولو "العظيمة"، غداة عشرين عاماً على معاهدة السوق الأوروبية المشتركة بين ست دول، صار عدد الدول تسعاً، وخطت خطوة أولى على طريق التنظيم النقدي فأقرت "ثعباناً" ضبط تقلب العملات داخل هوامش ضيقة، وأجرت أول انتخابات نيابية مباشرة الى برلمان أوروبي مشترك. ولكن أواخر السبعينات كانت تسبق ربع قرن المناقشة والخلاف الحادين اللذين نجما عن اقتراح دستور أوروبي، اقترعت فرنسا وهولندا على رفضه، في 2005، وعن طلب تركيا عضوية الاتحاد والهوية الأوروبية.
وذهب ميشال فوكو يومها، أي قبل ربع قرن على بروز معضلة الهوية الأوروبية في علاقتها بالمسيحية، من وجه أول، وبالإرادة الشعبية الموجبة، من وجه ثان، وبحدود أوروبا الجغرافية والسياسية، من وجه ثالث (وكان هذا الوجه رازحاً تحت ثقل النير الشيوعي السوفياتي وتقسيمه أوروبا وسطوه بالقوة على شرق أوروبا وبعض جنوبها البلقاني) – ذهب الى "كثرة" أوروبا، على معنى المصادر والمشارب والتواريخ الكثيرة. ولكن قوام الكثرة الأوروبية هذه هو اشتراكها في بنيان الدولة، أو الحكومة، وخروجها المشترك كذلك من الرسم الامبراطوري. والأمران متلازمان. فالإقرار بكثرة الدولة، وكياناتها المستقلة والنهائية، على قول لبناني شائع ومكرر، كسر الرسم أو الأفق الامبراطوري الجامع، وأحل "الميزان الأوروبي"، على ما قيل منذ مؤتمر فيينا في 1815، وجوق الأقطاب والدول الكبرى محل السدة الرأسية المتصدرة. وألغي المحل مع انقلاب مفهوم السياسة انقلاباً نقلها وأرساها على أركان أخرى لا عهد لها بها. فنشأت أوروبا المؤتلفة على نحو ائتلاف الجوق من أصوات متفرقة. ولا يبقى الجوق جوقاً، أو الميزان ميزاناً، إلا ببقاء الأصوات على تفرقها وفرادة اصواتها والمساواة بينها.
والتأريخ الشائع والرائج بفستفاليا ومعاهداتها – والمعاهدات هذه يتصدر شرحها والتعليق عليها "كتاب" هنري كيسنجر "الجامع" في "الديبلوماسية"، على سبيل المثال – مرده الى ان الوثيقة السياسية والديبلوماسية كانت ختام حروب دول وحروب أهلية ودينية عمت أوروبا، وشقتها بين الكثلكة والبروتستانتية داخل الدول بينها، وفي علاقاتها بعضها ببعضها الآخر. وعرفت الحروب هذه بحرب الثلاثين عاماً، وكان ابتداؤها الرسمي في 1608، سنة إنشاء الاتحاد الإنجيلي, وفي 1610، سنة إنشاء الرابطة المقدسة. وهي دامت حقيقة قرناً وبعض القرن. وشبت نذرها مع الحروب الدينية أو المذهبية. وكان الإصلاح البروتستانتي الألماني، في 1517، فاتحتها، والشمال الأوروبي، حيث انتشرت الشيع الإنجيلية، مسرحها الدامي، والامبراطورية الجرمانية المقدسة محورها. وخرجت الدول والمجتمعات الأوروبية من الحروب الكونفيديرالية، على ما سمى الالمان الحروب الدينية والسياسية والإقليمية هذه، مع التحول من إدراج الدول في زمن دائري هو زمن دولتها، أو مداولة القوة والغلبة بينها قبل ان تدور الدوائر عليها وتخلفها "دولة" أخرى (وهو الزمن الامبراطوري)، الى إدراجها في تاريخ لا يدول ولا يدور، ولا ينتهي الى نهاية أو ختام.
فالحروب المعقدة والمتشابكة والمدمرة التي خاضتها الدول والمجتمعات الأوروبي في معظم القرن السادس عشر وشطر من القرن التالي، سعياً في غلبة دولة على الدول الأخرى وفي غلبة مذهبها على المذهب الآخر وضم الجماعات المتفرقة التي تدين بمذهبها الى دولتها ورعاياها، امتحنت مثال الامبراطورية الجامعة أو المسكونية، والمقدسة قداسة الاعتقاد، ولفظته وأبطلته. فانتهت الحروب الأهلية والمذهبية داخل الدول المنقسمة الى فصل ديانة الحاكم والدولة، وهما واحد، من سلطته على رعاياه وإقليمه. ووسع بعض الرعايا التدين بمذهب أو معتقد غير مذهب الحاكم والدولة من غير الخروج عليه، أو موالاة حاكم آخر يدين بمذهبهم. وأما السبيل الى هذا فأمران: الأول سن قاعدة قضت بوجوب ان يكون الناس على دين ملوكهم وبطاعة "الكنائس" الوطنية ولي الأمر العام في الدولة، وقضى الثاني بحمل الدين المختلف على شأن ضميري وذاتي يقر في طوية المؤمن "الحرة" ولا يقدح في ولاء المؤمن لدولته وولي أمرها.
وعلى هذا فمعيار الدولة من نفسها، وليس من جامع عام كوني خارجها، وينطوي عليها انطواء الكل الواحد على أبعاضه وأجزائه، أو انطواء الغاية التي تتوج المراحل والأدوار الممهدة على المراحل والأدوار هذه. والدول كثيرة الى أبد الآبدين، إذا جاز القول. وقوانينها من نفسها، وغايتها هي نفسها، ولا غاية تمامية لها من غيرها. والقول بالدولة أصلاً وعلة و "عقلاً"، وهو قول وحال أو نظام عمل، ترتب عليه نزاع بين "السياسيين" على ما سموا، وبين انصار الكنيسة المسكونية والجامعة. وافترضت صورتا الكونية الجامعة هاتان، افترضتا الدول، وعلاقتها بعضها ببعض، على مراتب ومقامات وأعتاب (بحسب العبارة العربية المعروفة). وطي الصورتين الكونيتين طوى التفاوت بين الدول، وأحل محل الخصومة او العداوة، منافسة بين كيانات سياسية تامة، هي غاية نفسها، على ما مر القول للتو. ولا يتوقع تخطيها أو تجاوزها الى كيان أوسع أو "أعمق". وأما حيز المنافسة فهو المبادلات الاقتصادية المتمادية والمتكاثرة، وهذا الحيز ميدان يجري فيه المتنافسون، ويتسابقون على السيطرة فيه وعليه. ومالت علاقة الدول بعضها ببعض الى الدوران والاضطراب في الحيز هذا أولاً.
صرحا الديبلوماسية/ الحرب والحسبة
وكانت الخصومات والعداوات، والأحلاف تالياً، سلالية واسرية ملكية أو مالكة. فتحتسب احتمالات المجابهة والحلول، وأكلاف هذه وتلك، في ميزان ثروة "الأمير" الحاكم وممتلكاتها وخزينته، وفي ميزان استقرار سلطته، وقوة سطوته. ومع الانتقال من الولاية والحاكمية الى الحكومة، احتسبت الخصومات والعداوات والأحلاف، وهي أخلت المحل الى المنافسة (على معنى نشأة محل آخر)، في ميزان الدولة كلاً وجميعاً. ولم يبق موضوع الاحتساب، أو مادته، ممتلكات الحاكم وثروته وعوائده – وكان العثمانيون يسمون الممتلكات والعوائد السلطانية "ديوان الخاص" – فصار موارد الدولة ومقدراتها وطاقاتها التجارية وميزان مبادلاتها. وحملت الأحلاف مذذاك على مزيج المصالح الموقت، وعلى محصلة شبكها. فمعيار "القياس" السياسي الجديد هو قوة الدولة، على خلاف معيار توسع إقليمها وأراضيها، وبسطها تحكمها على أقاليم جديدة، وعلى أهل الأقاليم وممتلكاتهم. وتعظيم قوة الدولة في ميزان الموارد والقدرات والمبادرات ليست الغلبة، ولا الحاكمية، السبيل إليه ولا الذريعة، بل شبك قوى الدول المتفرقة والمستقلة في أحلاف سياسية تسعى في استعمال القوى على الوجه الأجدى.
وترتب على عقلنة القوة وعواملها، من موارد ومبادلات وتداول (سلع ومنتجات ورساميل، بديهة، وإليها البشر الأصحاء، والمدن الخالية من الأوبئة، والطرق السريعة، والبريد الآمن، والمعلومات المحققة، والتعليم المتصل، والعلماء المجددين...)، بناء صرحين أو كتلتين كبيرتين من المباني المركبة والمتماسكة: المباني الديبلوماسية – العسكرية، ومباني "البوليس"، على معنى الحسبة الإسلامي موسعاً، على ما يأتي. فنشأ عن إطار المنافسة نمط ديبلوماسي وعسكري يقيد الدول، ويعقل مطامحها ونماءها وتعاظم قوتها بقيد منها. ويترك لنماء القوة وتعاظمها متنفسات تتيح للدولة الواحدة موارد القوة من غير استفزاز منافسيها، ولا إضعافهم، وبالأحرى من غير القضاء عليهم. ونزعت تقنيات النمط الديبلوماسي والعسكري الجديد – وما ترتب عليه من بناء شبكة حصون، وشق طرق، وابتكارات تسليح، ورسوم تكتيكية، ومن تخصيص سلك من محترفي التخاطب بين الدول، وصوغ المعاهدات والمفاوضات، وشن تشريعات ونص على حقوق وقوانين – الى إرساء الجوار الأوروبي على إيجاب سياسات تشترك في توازن من غير مراتب.
ولا يفهم بالمنافسة محل الخصومة والعداوة، أو بالسعي في تعظيم القوة عوض التوسع والضم، وبانتفاء المراتب والمساواة بدل الوحدة الامبراطورية ورأسها، لا يفهم بهذه نظام من غير قوام أو عمود فقري. فأوروبا الكثيرة هي خريطة جغرافية داخل حدود وكيانات نحَّت أفق المسكونية الإكليركية والامتداد السلطاني. ولكن كياناتها، وتعد العشرات إذا احتسبت على ما ينبغي الإمارات الألمانية، ليست سواسية في ميزان القوة، على معناها الجديد. فثمة 15 دولة تفوق قوتها قوة الدول الأخرى، منفردة ومجتمعة، على المقياس المشترك. وعلى خلاف علاقة هذه الدول بعضها ببعضها الآخر، تنهض علاقاتها ببلدان العالم، خارج الخريطة الأوروبية، على السيطرة او الاستعمار، وعلى الاستعمال التجاري والاستغلال. وأما داخل أوروبا، فيستحيل على الدولة الأقوى، حسابياً، أن تملي إرادتها أو قانونها على أي دولة من الدول الأخرى، كانت من "النادي" المنتخب أم من خارجه. ولم يحل هذا بين دول قليلة، أربع أو خمس، وبين البروز. وقضى الميزان، والتزام أوروبا دوامه والحفاظ عليه، بانحياز الدول الأخرى مجتمعة ومتكتلة، الى قطب مشترك يكافئ الدولة البارزة قوة ووزناً راجحاً، ويقيدها بالميزان، ويردها الى حكم الأسوة في الشرف (أو الى "ارستقراطية أسوياء").
وعلى هذا، لا ينشأ السلم عن الوحدة، ولا عن بسط قوة غالبة أو جبارة واحدة سطوتها على الدول (الأوروبية) الأخرى، بل ينشأ عن الكثرة. وليست الكنيسة الجامعة مصدر السلم المتوقع، بل نظام الكثرة المقيمة على كثرتها. والنظام هذا يتولى امناً يتيح لكل دولة من الدول تعظيم قوتها، أو قواها، من غير ان يكون هذا سبباً في انهيار دول أخرى، أو في انهيار الدولة العظمى نفسها. وأداة الموازنة الأولى هي الحرب. وهذه كفت عن ان تكون حرباً "خاصة"، أو حرب الحاكم على حاكم آخر. وانقطعت من صلتها الحميمة والوثيقة بالقانون والحق والعدل، أو بـ "حكم الله"، على ما كانت الكنيسة تقضي في حروب الأمراء في العصر الوسيط. ونشأت صلة جديدة ومختلفة بين الحرب وبين السياسة. وذلك قبل نحو قرن من إرساء الصلة هذه على صيغتها السائرة والمعلنة. وتنص الصيغة على ان الحرب لا تشن لإحقاق حق، وهذا يفترض "سماءً" مأهولة بالحقوق والماهيات، والداعي الى شنها وخوضها هو علل القوة والدولة. ولعل وظيفة الحرب الأولى هي الحؤول دون الإخلال بالميزان المشترك. فهي، من وجوه كثيرة حرب على حرب الاستيلاء الامبراطورية اللائحة في الأفق (وكانت الحربان العالميتان حربين على لائحة ألمانيا الفاتحة، وعلى تهديدها أوروبا بالسيطرة عليها من غير تقيد بالميزان، والتحفظ الأوروبي عن تفوق القوة الأميركية ووحدانيتها مرده الى الخشية من انبعاث الرسم الامبراطوري، وينتقد "الواقعيون" الأميركيون الويلسونية، المبدئية أو المسلحة، باسم الميزان ورسمه).
واضطلعت المفاوضة الديبلوماسية الدائمة، ومعها نظام استعلام واستخبار معلن عن حال البلد "الآخر" وقواه أو موارده، بما لن تلبث عن الاضطلاع به البعثات والسفارات والقنصليات. وأُقر للبعثات هذه، ولمقارها ومبانيها وطاقمها ومراسلاتها، بحقوق لا تعقل في إطار نظام الحاكمية والسيادة هي حقوق الإخراج والاطراح من الأراضي الإقليمية. فتسري على الطاقم الديبلوماسي، وعلى مباني بعثته الوطنية، قوانين البلد الذي يمثله. فيرضى البلد المضيف استثناء أرضٍ وناس من قوانينه، ومن سيادته وولايته على هؤلاء، وعلى هذه. فتقام "أوكار الجواسيس"، على ما وصف أنصار روح الله خميني السفارات الغربية وأولها السفارة الأميركية، على مقربة من دار السلطان وسراياه. وهذه "الغرابة" جزء من تقييد القانون الدولي الجديد، وكان يسمى "حقوق الناس"، الحرب بين الدول، على ما لاحظ الألماني كارل شميدت. وآذن ذلك بالتماس "مجتمع أمم" طريقه، وبخطوه خطواته الأولى عليها.
والشطر الآخر الكبير من النظم التي بلورت الدول وروابطها وكثرتها، هو شطر الحسبة (أو البوليس على ما سمي يومها، ووصفت البلدان المتمدنة والمتقدمة بـ "البوليسية" على المعنى المزدوج هذا). والحسبة الأوروبية، على نحو ما استنتها السلطات والمجتمعات الأوروبية عند منعطف القرنين الخامس عشر والسادس عشر، هي فن الحكم الجديد على عتبة الحداثة، على ما يعرفها ميشال فوكو. وفن الحكم لا يسعى في بعث مثال جوهر والإقامة عليه. ويتناول الفن عدد السكان، وعلاقته بمساحة الإقليم، والممتلكات والثروات، وموارد الغذاء، والسياسة الزراعية، واستصلاح الأرض، وزيادة سكان الريف، ومراقبة الرسوم، وجودة الهواء، وسعة الطرقات، ومواضع المسالخ والمقابر، وملاحظة العمل والبطالة والمهن، وتداول السلع ونقلها. وهذه أبواب "المجتمع". ويُعمِل فن الحكومة علاقات قوة في دائرة منافسة تفترض نماءً وسباقاً، ويقوم على حفظ القوة وتوزيعها وتجديدها، على شرط ألا يخل تنامي القوة الداخلية بالميزان الأوروبي المشترك. فعلى الدولة الواحدة من دول الجوق أن تضطلع بتعظيم قوتها الوطنية على مقدار يناسب نماء قوى الدول الأخرى، فلا تسبق هذه القوةَ الوطنية ولا تتخطاها. وموازنة الحسبات تفترض جودتها الداخلية، واحدة واحدة. وتفترض رعاية الدول الأخرى، وبينها على الدوام علاقة منافسة، جودة الحسبة في الدول التي تنافسها. وهذا منطق غريب على خصومة الحاكميات السلطانية، ويعصاها فهمه، على ما يُرى اليوم في "الشرق الأوسط"، واسعاً أو متوسطاً أو ضيقاً، وفي علاقات دوله، حليفاً أو خصماً، الواحدة بالأخرى.
وصُنع هذا النظام في سياقة صناعة معارف ومعاملات (على المعنى الفقهي الأعرض) نحت نحو إعمال العوامل بعضها في بعض. فلا تعالج المجاعات من طريق ضبط الأسعار بقانون أو فرمان، ولا بسياسة حمائية تحظر التصدير أو تحظر التخزين، بل بزيادة المساحات المزروعة، وتوافر الغلال، ورعاية نقلها وتوزيعها على وجه السرعة، وفتح أبواب الاستيراد، والاستفادة من زيادة السعر المحلية وزيادة الاستثمار. وفي باب آخر، يعالج وباء الجدري بالتلقيح وعمومه، وببعث واقعة المرض على نحو يجيز للجسد التغلب عليه. فلا يسعى العلاج في "إطفاء" المرض وقتله، ويُستدرج الى الظهور بعض الوقت، شأن الغلاء، ويقيد بعضه ببعض. وقد يبدو هذا بعيداً من السياسة والحركات القومية والوطنية، ومن الدول ونطاقها الإقليمي. وهو بعيد فعلاً عندما يقيم الناس، شأننا، في عوالم مادية وذهنية واجتماعية ومعيارية متنازعة ومختلفة، وعندما تقتضي منازعاتهم إغفال كثرة العوالم هذه، وانتسابها الى مصادر متضاربة. والوحدات "القومية"، والنهضات الثقافية، والإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، وحركة الإحياء على أوجهها، والحال هذه، من أيسر الأمور وأقربها متناولاً، على معنى اليسر الذي قصده الكاتب الأميركي الساخر، مارك توين: الإقلاع عن التدخين يسير، فأنا أقلعت عنه 46 مره.
من لا إلفة بينه وبين البيانات العربية في التنسيق والتعاون والتخطيط المشترك و "الوحدات"، الاقتصادية والأمنية والثقافية والعسكرية وأفقها السياسي و "القومي" الماثل ابداً ودوماً، قد يأخذه على حين غرة عجب بعض الساسة المشرقيين، من محترفي "الوحدات" هذه أو بياناتها، من تأخر "اتحاد عربي" يسابق الاتحاد الأوروبي ويتقدمه. والسبب في العجب السامي هو تمتع العرب، ودولهم وشعوبهم، على قول من تنوب عن بشار الأسد على رأس الجمهورية العربية السورية (اسم من ثلاث ألفاظ أو كلمات مشكلة المعنى والجمع)، باللغة العربية العظيمة والرائعة التي يتمتعون بها. ويؤيد خبير اقتصادي ومالي سابق، القول هذا. وحملُ الوحدة السياسية أو "القومية"، على قول عربي غامض ومزمن، على اتفاق اللغة المكتوبة والتراثية، حين أكثر من نصف المجتمع أمي والنصف غير الأمي معظمه "لا يقرأ" على ما زعم بن غوريون ويصدق من يروون عنه، هذا الحمل على اللغة يبعث على عجبين أو دهشتين: من رد السياسة الى اللغة وتوحيدها فيها، ومن تعظيم شأن ما لا تحصى القرائن على ازدرائه، والعبث به، وتركه مواتاً.
الزمن والدهري
فإذا رجع الواحد من عجبيه ودهشتيه، لم يفته طبعاً ان بعض الخفة تلازم الكلام على الاتحاد والوحدة، وعلى صفة العروبة المفترضة جامعة، وعلى ترتيب عوامل الوحدة التي لا يشك فيها "المؤمنون" بها (فهي "فعل" إيمان: حين القول فعل والفعل قول). ولا يفوت المراقب أو الملاحظ، من وجه آخر، ان إيجاب وحدة "العرب"، في أقطارهم الاثنين والعشرين الى اليوم أو دولهم، قلما يتعدى الإيجاب الوجودي، أو الحكم بالوجود والوقوع، الى الإيجاب السياسي، أو الحكم بإلحاح ضرب من العلاقة التنظيمية والإجرائية. فيسع بلدان الخليج والمغرب، ومصر بين هذه وتلك، نصب العروبة تعريفاً والاقتتال الأخوي فيما بينها، معاً. ويكاد يكون ساسة سوريا والسوريين وحدهم يُتبعون فعل إيمانهم العربي والوحدوي بترتيب تنظيم وإجراء على فعل الإيمان هذا، أي بتعدي القول الى الفعل. ولكنهم يخصون "لبنان" بتعديهم هذا.
وهو، التعدي (لغة وفعلاً)، يتوج عقوداً طويلة من سياسة جوار محمومة ومقلقة، غذّت حماها الفروق الاجتماعية والأهلية والدينية والجغرافية والسياسية المتعاظمة. وفي سياقة التاريخ الطويل هذا، وترقى "أوائله" الى أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن الذي يليه أي الى ظهور أعراض انحلال السلطنة العثمانية، مال اهل الساحلية الى بلورة هوية تاريخية أو "زمنية" اجتماعية وإدارية، مدارها على "حوادث" الأسر الحاكمة والعصبيات والنزعات المحلية والولاة والولايات والجبايات والتجارات والزراعات والمدارس والموانئ والمجاعات والهجرات. ومال أهل الداخلية، الى تثبيت هويتهم على الأنساب الأهلية والفتوح (الخالية)، وذاكرة هذه وتلك ولغتها. وكان الفرق مرآة تاريخين مختلفين ومتنازعين. وترتب على فرق التاريخين، وعلى اختلافهما وتنازعهما، تناولان متباينان للفرق التاريخي ولمحله من الهوية والسياسة. فذهبت بلدان الداخلية العربية، ولا يزال معظمها يذهب الى ان الفروق الحادثة، الأهلية والاجتماعية والثقافية والسياسية، لا يعول عليها في في تناول الهوية الجامعة، وليست عاملاً يعتد به في معالجة صيغ الحكم والأبنية السياسية الداخلية، أو في صيغ العلاقات بين الدول والبلدان والجماعات.
وعلى خلافها، استلهمت بعض جماعات بلدان الساحلية، وهي لم تفض الى بلورة دولة وطنية في غير لبنان، الحوادث "الزمنية"، وأوجبت اعتبارها واحتسابها في ميزان الهويات ومصائرها. وكان إنشاء الدولة الوطنية، على رغم مبادرة الدول الأوروبية إليها، ثم دوامها على مقادير متفاوتة من التنازع والقلق، إثباتاً مضطرباً لجواز إرساء كيان سياسي قائم برأسه، فعلاً وحقاً (أو قانوناً مشروعاً)، على حوادث تاريخية زمنية، وليس على هوية "قومية" جوهرية، أهلية ونسبية في المرتبة الأولى. وجوز النشأة والدوام رجحان كفة الدول الكبرى في ميزان القوة وكثرة الكيانات الإقليمية والأهلية وضعف قياداتها ومجتمعاتها (أو جماعاتها)، وجمع الكيانات هذه، قيادات ومجتمعات، بين وقائعها الإقليمية أو "الكيانية" المنفصلة والمنعزلة وبين انتسابها "القومي" والأهلي الجامع.
وهي جمعت بين الأمرين، الوقائع "الكيانية" والنسب الجامع، من غير تناقض وتدافع، من جهة، ومن غير تأليف ونسيج، من جهة أخرى. فبقي فعل الإيمان الوحدوي والعروبي معلقاً ومجرداً، ما لم يدعُ داع سياسي ظرفي إلى خلاف الأمر، والداعي هذا صادر غالباً عن موجب لا راد له هو محاماة الجماعة الحاكمة والمتسلطة عن نفسها بوجه إنكار مشروعيتها، وتنديد الكثرة الأهلية بأقلويتها الأهلية والاعتقادية (على ما هي الحال في سوريا البعثية الأسدية، وعلى ما كانت عليه في العراق البعثي الصدامي)، أو بتنطحها الاجتماعي والمرتبي (على ما كانت الحال عليه في مصر وسوريا والعراق واليمن في أعقاب الانقلابات العسكرية). وأقامت قيادات الكيانات ومجتمعاتها على جمعها بين قطبين متدافعين، في الأفكار والذهن، ومتآلفين فعلاً وعملاً، حين استظهرت القيادات والمجتمعات بحوادث "زمنية"، واستقوت بها على الطبقات الحاكمة القديمة أو السابقة، وسوغت انقلابها، العسكري في معظم الأحيان، عليها، وعلى سيطرتها. ولم تكن وحدها "متناقضة"، فناقض تسويغها "الزمني" والتاريخي منزعها "القومي" والأهلي الثابت والدهري. فالجماعة الوطنية الحادثة فعلاً، والناشئة عن حوادث سياسية وثقافية واجتماعية وأهلية معروفة "الأزمنة"، على قول بطريرك ماروني و "لبناني" كبير، هذه الجماعة لم تحمل نفسها، ومصيرها التاريخي والسياسي الذي أدلى بها الى إنشاء كيان سياسي وحقوقي وطني، على حدوثها وتكونها، بل نسبتها، بدورها وعلى مثال الجماعات "القومية" المتناقضة، الى هوية دهرية وألفية ("ستة آلاف سنة") ثابتة. وليس هذا نهاية "التناقضات". فعندما تخففت جماعات لبنانية عروبية من ثقل عروبة مبدئية وعامة، حلمت بعروبة "حضارية".
الدمج والتقطع
والحق ان الترجح بين الوطني وبين القومي، أو بين التاريخ السياسي وبين هوية تتعالى عن التاريخ، لم تقتصر فصوله الأخيرة على الطاقم الحاكم السوري في علاقته بلبنان واللبنانيين، ولا على علاقة جماعات لبنانية بساسة سوريا وبعض أجهزتهم الأمنية والعسكرية. ولا قبلها، على علاقة الجماعات هذه بالمنظمات الفلسطينية المسلحة، أو بالرئيس المصري الأسبق، جمال عبدالناصر فنصب "القائد" الليبي معمر القذافي، نفسه من تلقاء نفسه داعية "وحدوياً". وتنقل بين مصر والسودان وتونس والجزائر والمغرب وتونس (في إطار مغاربي هذه المرة). وحاول قسر حكومات، أي رئاسات هذه البلدان على الاتحاد. وانهارت المحاولات هذه قبل ان تتصور في أضعف صورة مرئية، على خلاف صورة الوحدة السورية – المصرية، وبعيداً جداً من صورة الكونفدرالية اللبنانية – السورية، وهي أوضح صور التوحيد القومي العربي، وأكثرها دقة وتفصيلاً. ولعلها أقواها وأعرضها دلالة على مضمرات التوحيد القومي العربي غداة الحرب العالمية والانقلابات العسكرية التي "جددت" الجماعات والكتل العربية الحاكمة.
فاتحاد دولتين أو أكثر هو، في مرآة ما يسمى افتئاتاً ومجازاً "تجارب وحدوية"، إعلان جهازين حاكمين عزمهما على دمج "شعبهما" الواحد والمشترك، على رغم كثرة الدولة، في دولة واحدة، أو تحت رئاسة مشتركة قد تكون واحدة وقد لا تكون. ويُغفل الإعلان عمداً المراحل، وشرائط إنجاز المرحلة قبل الانتقال الى التالية، والقرائن التي يستدل بها على الإنجاز أو على الإخفاق في هذا الميدان أو ذاك (من التعريفات الجمركية الى التعليم)، والإجراءات البديلة او الاستلحاقية في حال تأخر إنجاز المرحلة أو بدا مستحيلاً، إلخ. فما يتخطى مجلس الرئاسة، أو هيئات الحكم العليا، لا يحظى بالانتباه، ولا يستوقف دعاة الوحدة وأصحابها. واستثناء مجلس التعاون الخليجي، وخروجه على قاعدة عربية جارية، فرادة مردها الى "محافظة" دول مجلس التعاون، وإلى "واقعية" قياداتها ورئاساتها، على خلاف "ثورية" القيادات وضعف أودها السياسي واستعجالها العقيم. وتضمر الوحدات، على نحو ما يضمر تقديم اللفظة على أخرى قريبة هي الاتحاد، الذوبان في جسم واحد، وحين يبلغ الأمر هذا المبلغ من نفي التمييز، ورفض الإقرار به، تُحمل عوامل الإتحاد المفترض على اللغة والمعتقد والتاريخ (على معنى الأسطورة). وهي عوامل قوية الأثر من غير شك في طلب الانصهار على شاكلة الحلم وفي التسليم لإرادة توحيد "عليا" والتضحية بين يدي هذه الإرادة. ولكنها لا تقوم مقام نثر التدبير والإدارة، ولا مقام "شعر" السياسة الكبير. وهي، في الأحوال كلها، تفترض (وتغذي معاً) مثالاً من السياسة سلطانياً أو امبراطورياً فاتحاً لا يستقيم ولا يتفق مع بيئات إقليمية أو دولية، ولا محلية وطنية ابتداء، تدور مبانيها على معايير عمل مختلفة، وتسعى في غايات أخرى.
ولا يخفى ان الدول العربية، أي جماعاتها الحاكمة، التي يلح عليها شاغل التوحيد "القومي" والإقليمي، تكاد تكون نهباً، في الآن نفسه، لشواغل الحدود "القطرية" الصغيرة، ولمشكلات انتقال البضائع وسفر الأشخاص وتشريعات العمل والهجرة والإقامة والاستثمار والمياه. فإلى اليوم، لم ينجز ساسة سوريا المتعاقبون تخطيط حدود بلادهم مع دول الجوار "الشقيق" كلها: 1) لا مع لبنان، حيث لا يزال عمال مساحة لبنانيون يقتلون حين يوكل إليهم الأمر في الشرق الشمالي وفي البقاع الأوسط، ويثير ترسيم مزارع شبعا مسألة جغرافية سياسية واستراتيجية خطيرة، وحيث تغلق الجمارك السورية وأمنها بوابات الشاحنات والسلع الى الداخلية من طريق سوريا، ولا يعلم أهالي آلاف اللبنانيين ما مصير محتجزين أو رهائن أو موقوفين من أقاربهم في سوريا وسجونها وعلى أراضيها. 2) ولم ينجز الساسة أنفسهم تخطيط حدود بلدهم مع الأردن الذي ينازعونه نحو 50 كلم2 من أراضي الجرف الصحراوي، ويساومونه على المياه الثمينة وترعها، ويتحكمون في طريق النقل الى شبه جزيرة العرب. 3) والحدود السورية – العراقية مثار مشكلة عصية منذ 1978 – 1979، غداة انفراط عقد "جبهة الصمود والتصدي" التي أنشأها الحكمان البعثيان، الصدامي والأسدي، رداً على انخراط الرئيس المصري أنور السادات في مفاوضات كمب ديفيد، ثم في اتفاقاته. وتخلف عن انفراطها، الى إعدامات ميدانية بادر إليها صدام حسين، قطع علاقات التمثيل الديبلوماسي، ووقف تدفق النفط في أنبوب كركوك – بانياس، وغلق الحدود تقريباً ومراقبة المسافرين والتجارة (والسيارات المفخخة) مراقبة صارمة. ولم "تفتح" الحدود من جديد، عشية 2003 وغداتها خصوصاً، إلا بوجه مجندي "القاعدة" وقتلتها وانتحارييها، ومناضلي البعث الصدامي ومقاتليه، وهم في طريقهم الى الأنبار أو الموصل، وبعضهم في طريقه الى طرابلس وبيروت وصيدا.
وهذا غيض من فيض، وقليلة هي الدول العربية، في المشرق والمغرب، التي لم تشهد حروباً إما بين الدول وإما حروباً داخلية إقليمية ينهض لبنان، من طريق اللبننة، خالفة البلقنة، علماً عليها منذ نحو نصف القرن. فكانت باكورة الاستقلال الجزائري حرباً جزائرية مغربية في 1962. ولا يزال "الشعب" الصحراوي بتندوف والساقية الحمراء، معقلاً ثابتاً من معاقل حرب البلدين. وسبق السعي الليبي في "ضم" تونس الى حاكمية الجماهرية القذافية تسلل حدودي الى قفاصة موله القائد "العظيم". وحين أراد هذا إعلان العودة عن انخراطه في المسائل العربية، الداخلية اولاً، مثّل على عودته هذه بطرد عشرات الآلاف من الفلسطينيين الى الحدود الليبية – المصرية، وتشريدهم هناك. والرجل نفسه، ومن ورائه بلده، خاض حرباً على جبهة تشاد في أواخر ثمانينات القرن الماضي على أوزو. وتعرض الى تسلل من مصر في أواخر السبعينات وأدواره المتفرقة في السودان والصومال والنزاع الإريتري – الإثيوبي ومالي والنيجر، على جبهات هذه البلدان الداخلية والأهلية أو على جبهاتها فيما بينها، نشطة. ومتلونة وكان صدام حسين "محركاً" حدودياً فاعلاً ومدمراً. فهو خاض اعظم وأطول حرب دبابات بعد الحرب الثانية على الحدود الإيرانية – العراقية. وخلفت الحرب هذه نحو 600 ألف قتيل، وما لم يحص من الجرحى والمعوقين والمفقودين الى اليوم. وبعث اجتياحه الكويت، غداة سنتين على وقف النار على جبهة العراق الشرقية، أعرض تحالف أممي شهده المجتمع الدولي مع نهاية الحرب الباردة. واستبق التحالف الأممي، في قيادة الولايات المتحدة، احتمال انهيار الحدود الخليجية على حوض "بحر" النفط الكبير. فمن المحيط (سبتة ومليلة)، هادراً أم أبكم، الى البصرة (شط العرب) على الخليج واسكندرون، شمالاً، تتخبط دول "الأمة" وشعوبها وأقوامها وجماعاتها، في دوامة منازعات حدودية، في الداخل والخارج.
وهذا جزء من مخلفات "زواج" السرح الأهلي والقبلي والتجاري والديني (الحج) في عهدة خاقان البرين العثماني التركي، والولاية أو السيادة في عهدة الدول الوطنية. وحلت هذه محل الولايات، وقطّعت الأهل والأرض تقطيعاً وصف فيما بعد (ويوصف الى اليوم) بالكيفي والظالم و "التجزيئي". ويطلق الوصف غالباً في ضوء معايير ورغبات وخطط لاحقة وجزئية، قد لا تقل افتعالاً واصطناعاً عن "التجزئة" الاستعمارية. ولما ملكت الدول عصمتها، وآلت ولايتها على نفسها الى قياداتها الوطنية و "القومية" لم تدخر هذه جهداً ولا آلة في سبيل تدعيم الولاية المختلطة، السلطانية، والوطنية، على الرعايا والأرض. وانقسمت النخب السياسية، والعامة أو الجمهور، الانقسام الذي تقدم وصفه. فتنازعهما، النخب والجمهور، نازعان، واحد الى الانكفاء على الداخل، وتحصينه من الجوار والخارج من طريق قطع علاقاته الأهلية والسياسية والوطنية بهما، دولاً وجماعات. والنازع الآخر الى السيطرة على جماعات دواخل الدول الأخرى، واستمالة ولائها على دولها وجماعاتها الحاكمة، والانتصاب بإزائها مرجعاً وقطباً.
فالنخب السياسية الحاكمة "قومية" وعروبية ومتعالية على القطرية المحلية والانعزالية حين يغلب السرح الأهلي والقبلي والتجاري والديني، أو النطاق السلطاني والامبراطوري، على النطاق الوطني وهيئاته الرخوة ومصالحه المضطربة. وهي "قومية" وعروبية في كل مرة تحوجها فيها القوة الغربية، الأوروبية – الأطلسية (الواحدة على مثال امبراطوري استعماري، تعريفاً وماهية)، الى بعث صورة امبراطورية ماضية. وهذا ليس عسيراً عليها. فالتاريخ الإقليمي، القديم والوسيط و "الحديث"، يعج بالامبراطوريات، وبخليط الولايات والأقوام والأهل الذي يتربع في سدته أهل أو قوم، ويستولي على السدة متقنعاً بالدولة ونظام "الحكومة"، على معنى الدولة الأوروبية المحدثة. ولكن غلبة الصورة أو الرسم السلطاني والامبراطوري على الحركات السياسية العربية "الوطنية"، وفيها الحركات الإسلامية والقومية والأهلية والمحلية، أعجزتها حين بلوغها الحكم عن التدبير الحكومي، وعن بناء الدولة في الداخل والخارج. والتدبير يقدم "المساواة والكثرة والمنازعة والإدارة – وهي عوامل غير متجانسة – على تفاوت الحاكمية أوالولاية، وعلى تعاليها ووحدانيتها ونفيها الخلافات وتمهيدها بالإكراه.
الدولة والإمبراطورية
وحين تصدى دعاةٌ مؤسسون لمسألة "الضعف" أو "التأخر" أو "الانحطاط"، على ما سمى سياسيو القرنين الحاليين وكتابهما قصور أو تقصير بلدانهم (العربية والإسلامية) في ميدان "التمدن" و "المدنية" – وهذه كلها من مصطلح "النهضة" – بعثوا القوة المنشودة والمرجوة في صورة الوحدة الجامعة، وأنزلوا الوحدة الجامعة في جسم الخلافة وأحلوها فيه، أو في المملكة، أو في الامبراطورية الإقليمية. وليس حسن البنا المصري الإسلامي أو ميشال عفلق العروبي أو أنطون سعادة اللبناني "السوري"، ليسوا إلا أصداء منزع صادر عن السرح الأهلي والقبلي والتجاري والديني ونطاقه السلطاني والامبراطوري، وعن مقاومة السرح هذا رسم الدولة المحدثة، واستعدائه عليها الموارد الأهلية والقبلية والدينية والتجارية البسيطة أو السوقية. وهؤلاء كان حاديهم أو داعيهم الأول ضم أطراف "عوالمهم" بعضها على بعض، وغلق أبواب العوالم هذه وحدودها على دواخلها، واستعادة قوتها المفترضة بدءاً من حدودها وتخولها ومساكها، على ما كانت تسمى مواضع المراقبة على الانتقال والنقل.
وتستوقف، في أدبيات اليوم السياسية أو خطبه وبياناته، المقارنة المتواترة والبدهية بين الاتحاد الأوروبي وبين السوق العربية المشتركة المأمولة، على ما مر بمطلع العجالة. وتنكر الأدبيات هذه، والأرجح انها تجهل (أي يجهل اصحابها) السيرورة الأوروبية، ومراحلها ومرارة مخاضها ومنازعاتها المستمرة وترجحاتها. وهو جهل اضطرار وضرورة. فموضوع الجهل أو موضوعاته الكثيرة هي ما لا قياس عليه في الاختبارات أو في الحاجات العربية المدركة. ولعل مثال هذا الفرق الشاسع بين الرغبة المعلنة في رفع الحواجز والمعوقات بوجه التبادل والنقل والانتقال وبين اقتصار التجارة البينية على 4 الى 7 في المئة من التجارة الخارجية الإجمالية. وفي تقرير قريب لمنظمة العمل العربية ان نسبة انكشاف الاقتصاد العربي على الاقتصاد العالمي، وهي تقاس بقسمة التجارة الخارجية (العربية) على الناتج الإجمالي المحلي، بلغت، في 2006، نحو 80 في المئة. وتظهر مقارنة المؤشرين ضعف المبادلات قياساً على اقتصادات منكشفة وما يحجز أو يحول بين السلع وبين تبادلها يحول على نحو أشد وأقوى بين الناس وبين سفرهم وتنقلهم، وبين الأفكار والمطبوعات والكتب وبين تداول الرأي فيها ومناقشتها. وإذا أتاحت التقنية عبور الحدود البرية أو البحرية، تولت خطابة الصور والمقالات تحجيرها على خنادق وسرادقات متحزبة ومتناحرة. فالاتحاد الذي يزعم "الوحدويون" طلبه، وينشدونه، ينزل على البلدان والمجتمعات من عل سلطاني وفاتح، على مثال الولاية أو الحاكمية.
سيرورة الحكومة
وعندما تناول "مؤرخ" مجدد (لا تستوقفنا في المعرض هذا مسألة "اختصاصه" ومادة الاختصاص) هو الفرنسي ميشال فوكو، في محاصرات عامي 1977 و1978، مسائل "الأمن والإقليم والسكان" (نشرت في 2004)، وتضافرها، عالج النظام الإقليمي الأوروبي المتصل والمشترك على النحو الذي بدأ ينزع الى الاستقرار عليه في أواسط القرن السابع عشر. واختار، في أعقاب ما لا يحصى من الدارسين، عام 1648، وهو عام معاهدة فيستفاليا (أو وستفاليا، على ما يكتب بعضهم اسم المدينة الألمانية)، علماً على ولادة النظام الإقليمي هذا. وهو صار الى النضج، وبلغ مرحلته الطويلة، وغير المحصنة من الارتكاس، 12 عاماً غداة نهاية الحرب العالمية الثانية، مع معاهدة روما (1957). وحين ألقى المحاضر محاضراته، وهي لم يكن غرضها الوقائع السياسية الخبرية ولو "العظيمة"، غداة عشرين عاماً على معاهدة السوق الأوروبية المشتركة بين ست دول، صار عدد الدول تسعاً، وخطت خطوة أولى على طريق التنظيم النقدي فأقرت "ثعباناً" ضبط تقلب العملات داخل هوامش ضيقة، وأجرت أول انتخابات نيابية مباشرة الى برلمان أوروبي مشترك. ولكن أواخر السبعينات كانت تسبق ربع قرن المناقشة والخلاف الحادين اللذين نجما عن اقتراح دستور أوروبي، اقترعت فرنسا وهولندا على رفضه، في 2005، وعن طلب تركيا عضوية الاتحاد والهوية الأوروبية.
وذهب ميشال فوكو يومها، أي قبل ربع قرن على بروز معضلة الهوية الأوروبية في علاقتها بالمسيحية، من وجه أول، وبالإرادة الشعبية الموجبة، من وجه ثان، وبحدود أوروبا الجغرافية والسياسية، من وجه ثالث (وكان هذا الوجه رازحاً تحت ثقل النير الشيوعي السوفياتي وتقسيمه أوروبا وسطوه بالقوة على شرق أوروبا وبعض جنوبها البلقاني) – ذهب الى "كثرة" أوروبا، على معنى المصادر والمشارب والتواريخ الكثيرة. ولكن قوام الكثرة الأوروبية هذه هو اشتراكها في بنيان الدولة، أو الحكومة، وخروجها المشترك كذلك من الرسم الامبراطوري. والأمران متلازمان. فالإقرار بكثرة الدولة، وكياناتها المستقلة والنهائية، على قول لبناني شائع ومكرر، كسر الرسم أو الأفق الامبراطوري الجامع، وأحل "الميزان الأوروبي"، على ما قيل منذ مؤتمر فيينا في 1815، وجوق الأقطاب والدول الكبرى محل السدة الرأسية المتصدرة. وألغي المحل مع انقلاب مفهوم السياسة انقلاباً نقلها وأرساها على أركان أخرى لا عهد لها بها. فنشأت أوروبا المؤتلفة على نحو ائتلاف الجوق من أصوات متفرقة. ولا يبقى الجوق جوقاً، أو الميزان ميزاناً، إلا ببقاء الأصوات على تفرقها وفرادة اصواتها والمساواة بينها.
والتأريخ الشائع والرائج بفستفاليا ومعاهداتها – والمعاهدات هذه يتصدر شرحها والتعليق عليها "كتاب" هنري كيسنجر "الجامع" في "الديبلوماسية"، على سبيل المثال – مرده الى ان الوثيقة السياسية والديبلوماسية كانت ختام حروب دول وحروب أهلية ودينية عمت أوروبا، وشقتها بين الكثلكة والبروتستانتية داخل الدول بينها، وفي علاقاتها بعضها ببعضها الآخر. وعرفت الحروب هذه بحرب الثلاثين عاماً، وكان ابتداؤها الرسمي في 1608، سنة إنشاء الاتحاد الإنجيلي, وفي 1610، سنة إنشاء الرابطة المقدسة. وهي دامت حقيقة قرناً وبعض القرن. وشبت نذرها مع الحروب الدينية أو المذهبية. وكان الإصلاح البروتستانتي الألماني، في 1517، فاتحتها، والشمال الأوروبي، حيث انتشرت الشيع الإنجيلية، مسرحها الدامي، والامبراطورية الجرمانية المقدسة محورها. وخرجت الدول والمجتمعات الأوروبية من الحروب الكونفيديرالية، على ما سمى الالمان الحروب الدينية والسياسية والإقليمية هذه، مع التحول من إدراج الدول في زمن دائري هو زمن دولتها، أو مداولة القوة والغلبة بينها قبل ان تدور الدوائر عليها وتخلفها "دولة" أخرى (وهو الزمن الامبراطوري)، الى إدراجها في تاريخ لا يدول ولا يدور، ولا ينتهي الى نهاية أو ختام.
فالحروب المعقدة والمتشابكة والمدمرة التي خاضتها الدول والمجتمعات الأوروبي في معظم القرن السادس عشر وشطر من القرن التالي، سعياً في غلبة دولة على الدول الأخرى وفي غلبة مذهبها على المذهب الآخر وضم الجماعات المتفرقة التي تدين بمذهبها الى دولتها ورعاياها، امتحنت مثال الامبراطورية الجامعة أو المسكونية، والمقدسة قداسة الاعتقاد، ولفظته وأبطلته. فانتهت الحروب الأهلية والمذهبية داخل الدول المنقسمة الى فصل ديانة الحاكم والدولة، وهما واحد، من سلطته على رعاياه وإقليمه. ووسع بعض الرعايا التدين بمذهب أو معتقد غير مذهب الحاكم والدولة من غير الخروج عليه، أو موالاة حاكم آخر يدين بمذهبهم. وأما السبيل الى هذا فأمران: الأول سن قاعدة قضت بوجوب ان يكون الناس على دين ملوكهم وبطاعة "الكنائس" الوطنية ولي الأمر العام في الدولة، وقضى الثاني بحمل الدين المختلف على شأن ضميري وذاتي يقر في طوية المؤمن "الحرة" ولا يقدح في ولاء المؤمن لدولته وولي أمرها.
وعلى هذا فمعيار الدولة من نفسها، وليس من جامع عام كوني خارجها، وينطوي عليها انطواء الكل الواحد على أبعاضه وأجزائه، أو انطواء الغاية التي تتوج المراحل والأدوار الممهدة على المراحل والأدوار هذه. والدول كثيرة الى أبد الآبدين، إذا جاز القول. وقوانينها من نفسها، وغايتها هي نفسها، ولا غاية تمامية لها من غيرها. والقول بالدولة أصلاً وعلة و "عقلاً"، وهو قول وحال أو نظام عمل، ترتب عليه نزاع بين "السياسيين" على ما سموا، وبين انصار الكنيسة المسكونية والجامعة. وافترضت صورتا الكونية الجامعة هاتان، افترضتا الدول، وعلاقتها بعضها ببعض، على مراتب ومقامات وأعتاب (بحسب العبارة العربية المعروفة). وطي الصورتين الكونيتين طوى التفاوت بين الدول، وأحل محل الخصومة او العداوة، منافسة بين كيانات سياسية تامة، هي غاية نفسها، على ما مر القول للتو. ولا يتوقع تخطيها أو تجاوزها الى كيان أوسع أو "أعمق". وأما حيز المنافسة فهو المبادلات الاقتصادية المتمادية والمتكاثرة، وهذا الحيز ميدان يجري فيه المتنافسون، ويتسابقون على السيطرة فيه وعليه. ومالت علاقة الدول بعضها ببعض الى الدوران والاضطراب في الحيز هذا أولاً.
صرحا الديبلوماسية/ الحرب والحسبة
وكانت الخصومات والعداوات، والأحلاف تالياً، سلالية واسرية ملكية أو مالكة. فتحتسب احتمالات المجابهة والحلول، وأكلاف هذه وتلك، في ميزان ثروة "الأمير" الحاكم وممتلكاتها وخزينته، وفي ميزان استقرار سلطته، وقوة سطوته. ومع الانتقال من الولاية والحاكمية الى الحكومة، احتسبت الخصومات والعداوات والأحلاف، وهي أخلت المحل الى المنافسة (على معنى نشأة محل آخر)، في ميزان الدولة كلاً وجميعاً. ولم يبق موضوع الاحتساب، أو مادته، ممتلكات الحاكم وثروته وعوائده – وكان العثمانيون يسمون الممتلكات والعوائد السلطانية "ديوان الخاص" – فصار موارد الدولة ومقدراتها وطاقاتها التجارية وميزان مبادلاتها. وحملت الأحلاف مذذاك على مزيج المصالح الموقت، وعلى محصلة شبكها. فمعيار "القياس" السياسي الجديد هو قوة الدولة، على خلاف معيار توسع إقليمها وأراضيها، وبسطها تحكمها على أقاليم جديدة، وعلى أهل الأقاليم وممتلكاتهم. وتعظيم قوة الدولة في ميزان الموارد والقدرات والمبادرات ليست الغلبة، ولا الحاكمية، السبيل إليه ولا الذريعة، بل شبك قوى الدول المتفرقة والمستقلة في أحلاف سياسية تسعى في استعمال القوى على الوجه الأجدى.
وترتب على عقلنة القوة وعواملها، من موارد ومبادلات وتداول (سلع ومنتجات ورساميل، بديهة، وإليها البشر الأصحاء، والمدن الخالية من الأوبئة، والطرق السريعة، والبريد الآمن، والمعلومات المحققة، والتعليم المتصل، والعلماء المجددين...)، بناء صرحين أو كتلتين كبيرتين من المباني المركبة والمتماسكة: المباني الديبلوماسية – العسكرية، ومباني "البوليس"، على معنى الحسبة الإسلامي موسعاً، على ما يأتي. فنشأ عن إطار المنافسة نمط ديبلوماسي وعسكري يقيد الدول، ويعقل مطامحها ونماءها وتعاظم قوتها بقيد منها. ويترك لنماء القوة وتعاظمها متنفسات تتيح للدولة الواحدة موارد القوة من غير استفزاز منافسيها، ولا إضعافهم، وبالأحرى من غير القضاء عليهم. ونزعت تقنيات النمط الديبلوماسي والعسكري الجديد – وما ترتب عليه من بناء شبكة حصون، وشق طرق، وابتكارات تسليح، ورسوم تكتيكية، ومن تخصيص سلك من محترفي التخاطب بين الدول، وصوغ المعاهدات والمفاوضات، وشن تشريعات ونص على حقوق وقوانين – الى إرساء الجوار الأوروبي على إيجاب سياسات تشترك في توازن من غير مراتب.
ولا يفهم بالمنافسة محل الخصومة والعداوة، أو بالسعي في تعظيم القوة عوض التوسع والضم، وبانتفاء المراتب والمساواة بدل الوحدة الامبراطورية ورأسها، لا يفهم بهذه نظام من غير قوام أو عمود فقري. فأوروبا الكثيرة هي خريطة جغرافية داخل حدود وكيانات نحَّت أفق المسكونية الإكليركية والامتداد السلطاني. ولكن كياناتها، وتعد العشرات إذا احتسبت على ما ينبغي الإمارات الألمانية، ليست سواسية في ميزان القوة، على معناها الجديد. فثمة 15 دولة تفوق قوتها قوة الدول الأخرى، منفردة ومجتمعة، على المقياس المشترك. وعلى خلاف علاقة هذه الدول بعضها ببعضها الآخر، تنهض علاقاتها ببلدان العالم، خارج الخريطة الأوروبية، على السيطرة او الاستعمار، وعلى الاستعمال التجاري والاستغلال. وأما داخل أوروبا، فيستحيل على الدولة الأقوى، حسابياً، أن تملي إرادتها أو قانونها على أي دولة من الدول الأخرى، كانت من "النادي" المنتخب أم من خارجه. ولم يحل هذا بين دول قليلة، أربع أو خمس، وبين البروز. وقضى الميزان، والتزام أوروبا دوامه والحفاظ عليه، بانحياز الدول الأخرى مجتمعة ومتكتلة، الى قطب مشترك يكافئ الدولة البارزة قوة ووزناً راجحاً، ويقيدها بالميزان، ويردها الى حكم الأسوة في الشرف (أو الى "ارستقراطية أسوياء").
وعلى هذا، لا ينشأ السلم عن الوحدة، ولا عن بسط قوة غالبة أو جبارة واحدة سطوتها على الدول (الأوروبية) الأخرى، بل ينشأ عن الكثرة. وليست الكنيسة الجامعة مصدر السلم المتوقع، بل نظام الكثرة المقيمة على كثرتها. والنظام هذا يتولى امناً يتيح لكل دولة من الدول تعظيم قوتها، أو قواها، من غير ان يكون هذا سبباً في انهيار دول أخرى، أو في انهيار الدولة العظمى نفسها. وأداة الموازنة الأولى هي الحرب. وهذه كفت عن ان تكون حرباً "خاصة"، أو حرب الحاكم على حاكم آخر. وانقطعت من صلتها الحميمة والوثيقة بالقانون والحق والعدل، أو بـ "حكم الله"، على ما كانت الكنيسة تقضي في حروب الأمراء في العصر الوسيط. ونشأت صلة جديدة ومختلفة بين الحرب وبين السياسة. وذلك قبل نحو قرن من إرساء الصلة هذه على صيغتها السائرة والمعلنة. وتنص الصيغة على ان الحرب لا تشن لإحقاق حق، وهذا يفترض "سماءً" مأهولة بالحقوق والماهيات، والداعي الى شنها وخوضها هو علل القوة والدولة. ولعل وظيفة الحرب الأولى هي الحؤول دون الإخلال بالميزان المشترك. فهي، من وجوه كثيرة حرب على حرب الاستيلاء الامبراطورية اللائحة في الأفق (وكانت الحربان العالميتان حربين على لائحة ألمانيا الفاتحة، وعلى تهديدها أوروبا بالسيطرة عليها من غير تقيد بالميزان، والتحفظ الأوروبي عن تفوق القوة الأميركية ووحدانيتها مرده الى الخشية من انبعاث الرسم الامبراطوري، وينتقد "الواقعيون" الأميركيون الويلسونية، المبدئية أو المسلحة، باسم الميزان ورسمه).
واضطلعت المفاوضة الديبلوماسية الدائمة، ومعها نظام استعلام واستخبار معلن عن حال البلد "الآخر" وقواه أو موارده، بما لن تلبث عن الاضطلاع به البعثات والسفارات والقنصليات. وأُقر للبعثات هذه، ولمقارها ومبانيها وطاقمها ومراسلاتها، بحقوق لا تعقل في إطار نظام الحاكمية والسيادة هي حقوق الإخراج والاطراح من الأراضي الإقليمية. فتسري على الطاقم الديبلوماسي، وعلى مباني بعثته الوطنية، قوانين البلد الذي يمثله. فيرضى البلد المضيف استثناء أرضٍ وناس من قوانينه، ومن سيادته وولايته على هؤلاء، وعلى هذه. فتقام "أوكار الجواسيس"، على ما وصف أنصار روح الله خميني السفارات الغربية وأولها السفارة الأميركية، على مقربة من دار السلطان وسراياه. وهذه "الغرابة" جزء من تقييد القانون الدولي الجديد، وكان يسمى "حقوق الناس"، الحرب بين الدول، على ما لاحظ الألماني كارل شميدت. وآذن ذلك بالتماس "مجتمع أمم" طريقه، وبخطوه خطواته الأولى عليها.
والشطر الآخر الكبير من النظم التي بلورت الدول وروابطها وكثرتها، هو شطر الحسبة (أو البوليس على ما سمي يومها، ووصفت البلدان المتمدنة والمتقدمة بـ "البوليسية" على المعنى المزدوج هذا). والحسبة الأوروبية، على نحو ما استنتها السلطات والمجتمعات الأوروبية عند منعطف القرنين الخامس عشر والسادس عشر، هي فن الحكم الجديد على عتبة الحداثة، على ما يعرفها ميشال فوكو. وفن الحكم لا يسعى في بعث مثال جوهر والإقامة عليه. ويتناول الفن عدد السكان، وعلاقته بمساحة الإقليم، والممتلكات والثروات، وموارد الغذاء، والسياسة الزراعية، واستصلاح الأرض، وزيادة سكان الريف، ومراقبة الرسوم، وجودة الهواء، وسعة الطرقات، ومواضع المسالخ والمقابر، وملاحظة العمل والبطالة والمهن، وتداول السلع ونقلها. وهذه أبواب "المجتمع". ويُعمِل فن الحكومة علاقات قوة في دائرة منافسة تفترض نماءً وسباقاً، ويقوم على حفظ القوة وتوزيعها وتجديدها، على شرط ألا يخل تنامي القوة الداخلية بالميزان الأوروبي المشترك. فعلى الدولة الواحدة من دول الجوق أن تضطلع بتعظيم قوتها الوطنية على مقدار يناسب نماء قوى الدول الأخرى، فلا تسبق هذه القوةَ الوطنية ولا تتخطاها. وموازنة الحسبات تفترض جودتها الداخلية، واحدة واحدة. وتفترض رعاية الدول الأخرى، وبينها على الدوام علاقة منافسة، جودة الحسبة في الدول التي تنافسها. وهذا منطق غريب على خصومة الحاكميات السلطانية، ويعصاها فهمه، على ما يُرى اليوم في "الشرق الأوسط"، واسعاً أو متوسطاً أو ضيقاً، وفي علاقات دوله، حليفاً أو خصماً، الواحدة بالأخرى.
وصُنع هذا النظام في سياقة صناعة معارف ومعاملات (على المعنى الفقهي الأعرض) نحت نحو إعمال العوامل بعضها في بعض. فلا تعالج المجاعات من طريق ضبط الأسعار بقانون أو فرمان، ولا بسياسة حمائية تحظر التصدير أو تحظر التخزين، بل بزيادة المساحات المزروعة، وتوافر الغلال، ورعاية نقلها وتوزيعها على وجه السرعة، وفتح أبواب الاستيراد، والاستفادة من زيادة السعر المحلية وزيادة الاستثمار. وفي باب آخر، يعالج وباء الجدري بالتلقيح وعمومه، وببعث واقعة المرض على نحو يجيز للجسد التغلب عليه. فلا يسعى العلاج في "إطفاء" المرض وقتله، ويُستدرج الى الظهور بعض الوقت، شأن الغلاء، ويقيد بعضه ببعض. وقد يبدو هذا بعيداً من السياسة والحركات القومية والوطنية، ومن الدول ونطاقها الإقليمي. وهو بعيد فعلاً عندما يقيم الناس، شأننا، في عوالم مادية وذهنية واجتماعية ومعيارية متنازعة ومختلفة، وعندما تقتضي منازعاتهم إغفال كثرة العوالم هذه، وانتسابها الى مصادر متضاربة. والوحدات "القومية"، والنهضات الثقافية، والإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، وحركة الإحياء على أوجهها، والحال هذه، من أيسر الأمور وأقربها متناولاً، على معنى اليسر الذي قصده الكاتب الأميركي الساخر، مارك توين: الإقلاع عن التدخين يسير، فأنا أقلعت عنه 46 مره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق