الحياة - 06/05/09//
اشترط الرئيس الفرنسي «التاريخي» شارل ديغول على مفاوضي جبهة التحرير الوطني الجزائرية، في أعقاب 8 أعوام من حرب دامية تخللها من الجهتين إرهاب كثير، أن يتركوا المدي أو السكاكين في ردهة قاعة المفاوضة قبل الجلوس الى طاولتها، والخوض الكلامي في بنودها، والاحتجاج بالمنطق والوقائع والمصالح للآراء المختلفة. وترجمة القول الديغولي المأثور والبديهي الى لغة الحياة النيابية والبرلمانية، واللبنانيون يخوضون منذ أشهر إن لم يكن منذ سنوات فصلاً حاسماً ومضطرباً من فصول الحياة هذه، ترجمته جلية: الإقبال على صناديق الاقتراع يفترض استبعاد العنف والإكراه الماديين والمعنويين، وقبول النتائج سلفاً ما لم يطعن في الإجراءات بناءً على القوانين المرعية والمعروفة. والترجمة هذه صدى بعيد وخافت للأصل الحقوقي الذي انتهى إليه قبل ثلاثة قرون وبعض القرن أعرق البرلمانات والبرلمانيين، البرلمان البريطاني. وهو ينص على ان الاقتراع صحيح حين يتيقن المقترع من أن اقتراعه لا يتهدد سلامته الشخصية ولا أمنه.
والانتخابات اللبنانية الوشيكة، على هذا، بعيدة من الأركان الثلاثة أو الأربعة. فالعنف والإكراه الماديان والمعنويان غير مستبعدين وهما في صلب الإعداد للانتخابات، ويخالطان الإعداد مخالطة حميمة ومتصلبة. والنتائج غير مقبولة سلفاً، ويقال صراحة وبالفم الملآن أن عليها الانصياع سلفاً لاختيارات وسياسات سابقة مثل التسليم للمنظمات المسلحة، وتمتع الكتل المذهبية الكبيرة بحق النقض على السلطات كلها، والإقامة على حلف سياسي وعسكري وأمني إقليمي والتمسك به في الأحوال كلها، ومجاراة السياسات الداخلية احتياجات الحلف هذا من غير مناقشة. ولا تتستر كتل «المعارضة»، وهي في صلب الحكم وتملي عليه تجميد معظم قراراته، على تهديد المقترعين بعاقبة اقتراعهم الوخيمة على سلامتهم وأمنهم إذا هم لم يقترعوا، في المحصلة العامة، لسياستها، ودوامها الذي تسميه توافقاً بل «توافقية».
وكان يجوز ربما حمل هذا كله علــــى انحراف، قليل أو ثقيـــل، عــــن مثــــال انتخابي سوي، تسخر منه كتل المــعارضة فتنسبه الى سويسرا أو السويد، على ما جرى الوصف مرات كثيرة على ألسنة خطبائها. ولكن قران القول بالفــعال «التربوية» و «التعليمية» الطويلة والمتمادية لا يبرر التشخيص بالانحراف عن مثال مشترك.
فالمثال المشترك يقبله المتنافسون مثالاً، ويسعون في إصلاحه وتغييره على مقادير متفاوتة، وأنحاء مختلفة. وهذه ليست حال المتنافسين، إذا صح أن الأمر يقتصر على منافسة ولا يتعداها الى عداوة مريرة. وينتهك إحلال العداوة محل المنافسة - ناهيك بالسلاح، والأعمال العسكرية الأمنية، والاغتيالات، والتحصن داخل المعازل الأهلية وتخليصها من الدائرة المشتركة والعامة – ينتهك الأصل الوطني الأول والمسبق الذي لا قوام ولا معنى لانتخابات أو لمجلس نيابي من دونه، ومن دون إثباته أصلاً أول وسابقاً.
وطوال الأعوام الأربعة المنصرمة، منذ اغتيال رفيق الحريري، وطوال العقد ونصف العقد (1989 – 2004) قبل الاغتيال وقبل المجلس النيابي المنتخب في 2005، مثَّلت الكتل والمنظمات المنضوية تحت اللواء العروبي السوري الحزبي والإسلامي الإيراني الحرسي، على تعاطيها السياسة في لبنان واللبنانيين. فكتل «المعارضة» اليوم هي سليلة سياسات اللواء المشترك هذا، طوعاً وإرادة. وهو يميزها من مشاركة كتل أو جماعات استقلالية، اليوم، في ولاء وتبعية اضطراريين وقسريين (ينفي بعضها عن مراحل من مشاركته هذه الاضطرار والقسر، وينسبها الى «العروبة» و «فلسطين» و «التقدم»). وتمثيلها على مفهومها عن السياسة، وعلى منطق السياسة الذي تريده ولا ترتضي غيره، يناقض مقومات البرلمانية مناقضة صارخة وساخرة ودامية. فالزعم أن ركن العقد الوطني الأول، والأوحد، هو قتال عدو «قومي» و «وجودي» في إمرة صديق «قومي» و «وجودي»، على ما تلا إميل لحود في خطاب قسمه، هذا الزعم يبطل من الأساس استقلال الجماعة الوطنية السياسية، أو «الأمة» السياسية (وليس القومية ولا الدينية)، بكيان ودولة.
وترتبت على الركن المزعوم معظم الأفعال التي أطاحت الجماعة الوطنية والسياسية اللبنانية، أي الدولة اللبنانية أو «الكيان»، قياساً على «الكيان الصهيوني» تفادياً للتلفظ بإسرائيل. وتعريفه هو انفصاله وانعزاله. وتدعو السياسة القويمة، «الوطنية» على قول الجماعات العروبية الأهلية والسياسية، الى استئناف الاتصال، أو التوحيد في عهدة الوحدويين. والتوسل بالقوة المسلحة، والإرهاب، والاغتيال، والحرب الأهلية، والخطف، والتعطيل، والاحتلال، والإفساد الجماهيري، واستدخال الإدارة وأجهزة السيادة، والتضليل الإعلامي، وإدارة الجماعات سياسات خارجية وأمنية وعسكرية واجتماعية وقضائية تقررها وحدها على خلاف قواعد الغالبية والأقلية واشتراكهما في نصاب أو مرجع واحد – التوسل بهذه ليس جائزاً وحسب، بل هو فرض عين على الجماعات والأفراد. وعشرات بل مئات الحوادث «الأمنية» والسياسية منذ ابتداء الاغتيالات قبل 4 أعوام ونصف العام، تحقق المثال «السياسي»، أي الحربي والعرفي الذي تهتدي به جماعات «المعارضة» العروبية والإسلامية.
والشواهد من الفصل الأخير الذي يسبق إجراء الانتخابات النيابية العامة في 7 الشهر المقبل، كثيرة وبليغة. فلم يبتكر رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» («الإسلامية» الحرسية) النيابية، حين حمل رئيس الحكومة، الائتلافية والوطنية المفترضة، فؤاد السنيورة على محمل واحد مع الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق يهود أولمرت، نزولاً على إرادة محمود أحمدي نجاد، شيئاً أو رأياً غير مسبوق. ولكن الرأي هذا لا يقتصر على توحيد رئيس الحكومة بـ «عدوين وجوديين»، أو «كينونيين» في الرطانة الحرسية، بل يخلص من التوحيد بالعدو المطلق، الى إعلان إرادة الكتل التي يتكلم بلسانها رئيس الكتلة النيابية العتيدة إبطال أعمال الحكومة السابقة، والتنصل منها. وهذا ليس «إنقلاباً أبيض»، على ما حسب أحد السياسيين الاستقلاليين. فهو إيذان بالحرب الأهلية المرجأة التي وعد بها «سيد المقاومة» في خطبة الجمعة المسائية في الفاتح من أيار (مايو). ويقوم الإبطال والتنصل مقام من إحياء دين صحيح، وتقويم انحراف مبتدع. ويستحل المبطل، وهو صاحبنا رئيس الكتلة، ويُحل القتلَ جزاء الردة.
ويكمل النائب العتيد إبطاله في «مذكرة» قدمها نيابة عن «مقاومته» الى جلسة «الحوار الوطني» (في 28 نيسان/ ابريل). فيخلص من مقدمة يفترضها بدهية: «(ان) المقاومة في لبنان، فضلاً عن سورية وإيران، ليست في وارد شن هجمات صاروخية (ابتدائية) مفاجئة على إسرائيل»، وهو ما تكذبه «حربا» الخيار الحزب اللهية والحماسية، أي «الحربان» الأخيرتان اللتان اختارهما الحزبان المسلحان عمداً، يخلص من المقدمة الى النتيجة: إن «تشديد (العدو) على عنصر المفاجأة في سيناريوات اندلاع الحرب التي يناور عليها أمر باعث على الريبة، لجهة كونه الجهة التي تبيت نية البدء في الحرب». وعلى هذا، أي على خطط المناورة الإسرائيلية «نقطة تحول 3» المزمعة من آخر أيار الى 4 حزيران (يونيو) والمعلنة، يدعو البرلماني الرئيس والعريق الى إعلان حال طوارئ مزمنة، سياسية وتقنية، في لبنان. وهي الحال الوحيدة التي تليق بمجتمع الحرب ودولتها، وبأهلها ورعاياها، ويريدها قائد «المعارضة» الأوحد على مثال النظامين الإيراني والسوري. ومجتمع الحرب ودولتها لا يحتاجان الى انتخابات أو مجالس نيابية. وهذه تفترض كثرة واختلافاً ومفاوضة ودستوراً. فهما يحتاجان حكماً صارماً، و «إرادة والتزام القضايا المحقة (وهي واحدة، الكاتب) بروح المسؤولية العميقة»، بحسب رد الحزب الخميني المسلح على تقرير وزارة الخارجية الأميركية في الإرهاب، ومديحه «تقنيات» الحزب في المضمار هذا.
وفي استقبال نسيبه مدير عام الأمن العام السابق جميل السيد، مضى رئيس مكتب «حزب الله» السياسي إبراهيم أمين السيد على مقارنة رئيس كتلة حزبه النيابية، فقال: «كما طالبنا إسرائيل بخريطة الألغام الإسرائيلية في لبنان، فإننا الآن، بعد خروج الضباط الأربعة، نطالب فريق 14 آذار (مارس) بخريطة الألغام التي وضعوها في التحقيق الدولي، وهذه الألغام ستنفجر (التسويف نافل، الكاتب) بين أيديهم ووجوههم». وأردف نسيبه اللواء «المحرَّر»، على ما يقول الحزب في الأسرى السابقين في سجون إسرائيل، أن وزير العدل الحالي في وزارة خالف بوش وأولمرت على الرحيـــل، هــــو ممثل «العدل السياسي عند سمير جعجع». وهذا هو مفاوض رجل الأمن على دخول الوزارة ورافض الدخول عشية مقتلة كنيسة سيدة النجاة في الزوق (1994). والوزير و «عِلمه» «عبد عند السياسة». ويقصـــر رجل الأمن السابـــق قضيــــة رفيق الحريري، شأن حسن نصر الله بعد يومين، على أبوته سعد الحريري. ويـــندد بقاضيين لبنانيين يسميهما، ويطعن فيهما. وينقل عن أحدهما قولاً يترتب على صحته «عار» أبدي لا يغسله دم. وينكـــر، شأن ولي أمر الحزب الخمينــــي المسلح، مفاعيل الاغتيال الاستـقلالية والسيادية، وينتصب محامياً عن سياسة الاحتلال الأمنية التي كان أحد مهندسيها.
وليس هذا جديداً ولا تتويجاً لسوابق كثيرة متصلة. وليس هو أقوى إنكاراً لاشتراك الناخبين اللبنانيين المفترض في جماعة سياسية ووطنية واحدة تجمع مواطنين على قدم المساواة، على رغم اختلاف آرائهم ومشاربهم وعلاقاتهم بفصول تاريخهم القريب قبل البعيد. ولكن قول هذا من غير تحفظ، في سياق الإعداد لانتخابات وشيكة آتية مدارها على مفاهيم الدولة الوطنية والمواطنة والسياسة والحكم، وإرداف القول هذا بتزوير وقائع عريض وبدفاع مستميت عن تسلط أجنبي مستبد وعقيم – يطعن في وحدة الجسم الانتخابي المفترضة، وفي انتساب الناخبين الى دائرة ومعايير وطنية وحقوقية مشتركة. والمسألة تتعدى النظام الانتخابي وقوانين الانتخابات التي تحلو لنا مناقشتها، وتتناول أسس السلطة. فكتل «المعارضة» تحتكم ظاهراً، ومن طرف اللسان، الى انتخابات تبطل الكتل هذه، عملاً وقولاً و «فلسفة»، مقدماتها ونتائجها ومفاعيلها الدستورية والسياسية. وتؤوّل الدستور، على شاكلة «فقيهها» الدستوري والنيابي المأذون و «الشاطر»، في ضوء إرادة إبطال المفاعيل المعروفة والسائرة. فهي لا تصدر عن تقسيم الجسم الانتخابي والشعبي، وعن ترتيبه على مراتب متفاوتة في «طبيعتها» وأصالتها وجدارتها، وحسب. وإنما ترمي الى تثبيت التقسيم والتفاوت هذين. وتتوسل الى غرضها المزدوج بخلاف معايير الانتخاب، ونقيض افتراضها جماعة وطنية وشعباً واحداً في دولة واحدة يصنعها البشر.
اشترط الرئيس الفرنسي «التاريخي» شارل ديغول على مفاوضي جبهة التحرير الوطني الجزائرية، في أعقاب 8 أعوام من حرب دامية تخللها من الجهتين إرهاب كثير، أن يتركوا المدي أو السكاكين في ردهة قاعة المفاوضة قبل الجلوس الى طاولتها، والخوض الكلامي في بنودها، والاحتجاج بالمنطق والوقائع والمصالح للآراء المختلفة. وترجمة القول الديغولي المأثور والبديهي الى لغة الحياة النيابية والبرلمانية، واللبنانيون يخوضون منذ أشهر إن لم يكن منذ سنوات فصلاً حاسماً ومضطرباً من فصول الحياة هذه، ترجمته جلية: الإقبال على صناديق الاقتراع يفترض استبعاد العنف والإكراه الماديين والمعنويين، وقبول النتائج سلفاً ما لم يطعن في الإجراءات بناءً على القوانين المرعية والمعروفة. والترجمة هذه صدى بعيد وخافت للأصل الحقوقي الذي انتهى إليه قبل ثلاثة قرون وبعض القرن أعرق البرلمانات والبرلمانيين، البرلمان البريطاني. وهو ينص على ان الاقتراع صحيح حين يتيقن المقترع من أن اقتراعه لا يتهدد سلامته الشخصية ولا أمنه.
والانتخابات اللبنانية الوشيكة، على هذا، بعيدة من الأركان الثلاثة أو الأربعة. فالعنف والإكراه الماديان والمعنويان غير مستبعدين وهما في صلب الإعداد للانتخابات، ويخالطان الإعداد مخالطة حميمة ومتصلبة. والنتائج غير مقبولة سلفاً، ويقال صراحة وبالفم الملآن أن عليها الانصياع سلفاً لاختيارات وسياسات سابقة مثل التسليم للمنظمات المسلحة، وتمتع الكتل المذهبية الكبيرة بحق النقض على السلطات كلها، والإقامة على حلف سياسي وعسكري وأمني إقليمي والتمسك به في الأحوال كلها، ومجاراة السياسات الداخلية احتياجات الحلف هذا من غير مناقشة. ولا تتستر كتل «المعارضة»، وهي في صلب الحكم وتملي عليه تجميد معظم قراراته، على تهديد المقترعين بعاقبة اقتراعهم الوخيمة على سلامتهم وأمنهم إذا هم لم يقترعوا، في المحصلة العامة، لسياستها، ودوامها الذي تسميه توافقاً بل «توافقية».
وكان يجوز ربما حمل هذا كله علــــى انحراف، قليل أو ثقيـــل، عــــن مثــــال انتخابي سوي، تسخر منه كتل المــعارضة فتنسبه الى سويسرا أو السويد، على ما جرى الوصف مرات كثيرة على ألسنة خطبائها. ولكن قران القول بالفــعال «التربوية» و «التعليمية» الطويلة والمتمادية لا يبرر التشخيص بالانحراف عن مثال مشترك.
فالمثال المشترك يقبله المتنافسون مثالاً، ويسعون في إصلاحه وتغييره على مقادير متفاوتة، وأنحاء مختلفة. وهذه ليست حال المتنافسين، إذا صح أن الأمر يقتصر على منافسة ولا يتعداها الى عداوة مريرة. وينتهك إحلال العداوة محل المنافسة - ناهيك بالسلاح، والأعمال العسكرية الأمنية، والاغتيالات، والتحصن داخل المعازل الأهلية وتخليصها من الدائرة المشتركة والعامة – ينتهك الأصل الوطني الأول والمسبق الذي لا قوام ولا معنى لانتخابات أو لمجلس نيابي من دونه، ومن دون إثباته أصلاً أول وسابقاً.
وطوال الأعوام الأربعة المنصرمة، منذ اغتيال رفيق الحريري، وطوال العقد ونصف العقد (1989 – 2004) قبل الاغتيال وقبل المجلس النيابي المنتخب في 2005، مثَّلت الكتل والمنظمات المنضوية تحت اللواء العروبي السوري الحزبي والإسلامي الإيراني الحرسي، على تعاطيها السياسة في لبنان واللبنانيين. فكتل «المعارضة» اليوم هي سليلة سياسات اللواء المشترك هذا، طوعاً وإرادة. وهو يميزها من مشاركة كتل أو جماعات استقلالية، اليوم، في ولاء وتبعية اضطراريين وقسريين (ينفي بعضها عن مراحل من مشاركته هذه الاضطرار والقسر، وينسبها الى «العروبة» و «فلسطين» و «التقدم»). وتمثيلها على مفهومها عن السياسة، وعلى منطق السياسة الذي تريده ولا ترتضي غيره، يناقض مقومات البرلمانية مناقضة صارخة وساخرة ودامية. فالزعم أن ركن العقد الوطني الأول، والأوحد، هو قتال عدو «قومي» و «وجودي» في إمرة صديق «قومي» و «وجودي»، على ما تلا إميل لحود في خطاب قسمه، هذا الزعم يبطل من الأساس استقلال الجماعة الوطنية السياسية، أو «الأمة» السياسية (وليس القومية ولا الدينية)، بكيان ودولة.
وترتبت على الركن المزعوم معظم الأفعال التي أطاحت الجماعة الوطنية والسياسية اللبنانية، أي الدولة اللبنانية أو «الكيان»، قياساً على «الكيان الصهيوني» تفادياً للتلفظ بإسرائيل. وتعريفه هو انفصاله وانعزاله. وتدعو السياسة القويمة، «الوطنية» على قول الجماعات العروبية الأهلية والسياسية، الى استئناف الاتصال، أو التوحيد في عهدة الوحدويين. والتوسل بالقوة المسلحة، والإرهاب، والاغتيال، والحرب الأهلية، والخطف، والتعطيل، والاحتلال، والإفساد الجماهيري، واستدخال الإدارة وأجهزة السيادة، والتضليل الإعلامي، وإدارة الجماعات سياسات خارجية وأمنية وعسكرية واجتماعية وقضائية تقررها وحدها على خلاف قواعد الغالبية والأقلية واشتراكهما في نصاب أو مرجع واحد – التوسل بهذه ليس جائزاً وحسب، بل هو فرض عين على الجماعات والأفراد. وعشرات بل مئات الحوادث «الأمنية» والسياسية منذ ابتداء الاغتيالات قبل 4 أعوام ونصف العام، تحقق المثال «السياسي»، أي الحربي والعرفي الذي تهتدي به جماعات «المعارضة» العروبية والإسلامية.
والشواهد من الفصل الأخير الذي يسبق إجراء الانتخابات النيابية العامة في 7 الشهر المقبل، كثيرة وبليغة. فلم يبتكر رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» («الإسلامية» الحرسية) النيابية، حين حمل رئيس الحكومة، الائتلافية والوطنية المفترضة، فؤاد السنيورة على محمل واحد مع الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق يهود أولمرت، نزولاً على إرادة محمود أحمدي نجاد، شيئاً أو رأياً غير مسبوق. ولكن الرأي هذا لا يقتصر على توحيد رئيس الحكومة بـ «عدوين وجوديين»، أو «كينونيين» في الرطانة الحرسية، بل يخلص من التوحيد بالعدو المطلق، الى إعلان إرادة الكتل التي يتكلم بلسانها رئيس الكتلة النيابية العتيدة إبطال أعمال الحكومة السابقة، والتنصل منها. وهذا ليس «إنقلاباً أبيض»، على ما حسب أحد السياسيين الاستقلاليين. فهو إيذان بالحرب الأهلية المرجأة التي وعد بها «سيد المقاومة» في خطبة الجمعة المسائية في الفاتح من أيار (مايو). ويقوم الإبطال والتنصل مقام من إحياء دين صحيح، وتقويم انحراف مبتدع. ويستحل المبطل، وهو صاحبنا رئيس الكتلة، ويُحل القتلَ جزاء الردة.
ويكمل النائب العتيد إبطاله في «مذكرة» قدمها نيابة عن «مقاومته» الى جلسة «الحوار الوطني» (في 28 نيسان/ ابريل). فيخلص من مقدمة يفترضها بدهية: «(ان) المقاومة في لبنان، فضلاً عن سورية وإيران، ليست في وارد شن هجمات صاروخية (ابتدائية) مفاجئة على إسرائيل»، وهو ما تكذبه «حربا» الخيار الحزب اللهية والحماسية، أي «الحربان» الأخيرتان اللتان اختارهما الحزبان المسلحان عمداً، يخلص من المقدمة الى النتيجة: إن «تشديد (العدو) على عنصر المفاجأة في سيناريوات اندلاع الحرب التي يناور عليها أمر باعث على الريبة، لجهة كونه الجهة التي تبيت نية البدء في الحرب». وعلى هذا، أي على خطط المناورة الإسرائيلية «نقطة تحول 3» المزمعة من آخر أيار الى 4 حزيران (يونيو) والمعلنة، يدعو البرلماني الرئيس والعريق الى إعلان حال طوارئ مزمنة، سياسية وتقنية، في لبنان. وهي الحال الوحيدة التي تليق بمجتمع الحرب ودولتها، وبأهلها ورعاياها، ويريدها قائد «المعارضة» الأوحد على مثال النظامين الإيراني والسوري. ومجتمع الحرب ودولتها لا يحتاجان الى انتخابات أو مجالس نيابية. وهذه تفترض كثرة واختلافاً ومفاوضة ودستوراً. فهما يحتاجان حكماً صارماً، و «إرادة والتزام القضايا المحقة (وهي واحدة، الكاتب) بروح المسؤولية العميقة»، بحسب رد الحزب الخميني المسلح على تقرير وزارة الخارجية الأميركية في الإرهاب، ومديحه «تقنيات» الحزب في المضمار هذا.
وفي استقبال نسيبه مدير عام الأمن العام السابق جميل السيد، مضى رئيس مكتب «حزب الله» السياسي إبراهيم أمين السيد على مقارنة رئيس كتلة حزبه النيابية، فقال: «كما طالبنا إسرائيل بخريطة الألغام الإسرائيلية في لبنان، فإننا الآن، بعد خروج الضباط الأربعة، نطالب فريق 14 آذار (مارس) بخريطة الألغام التي وضعوها في التحقيق الدولي، وهذه الألغام ستنفجر (التسويف نافل، الكاتب) بين أيديهم ووجوههم». وأردف نسيبه اللواء «المحرَّر»، على ما يقول الحزب في الأسرى السابقين في سجون إسرائيل، أن وزير العدل الحالي في وزارة خالف بوش وأولمرت على الرحيـــل، هــــو ممثل «العدل السياسي عند سمير جعجع». وهذا هو مفاوض رجل الأمن على دخول الوزارة ورافض الدخول عشية مقتلة كنيسة سيدة النجاة في الزوق (1994). والوزير و «عِلمه» «عبد عند السياسة». ويقصـــر رجل الأمن السابـــق قضيــــة رفيق الحريري، شأن حسن نصر الله بعد يومين، على أبوته سعد الحريري. ويـــندد بقاضيين لبنانيين يسميهما، ويطعن فيهما. وينقل عن أحدهما قولاً يترتب على صحته «عار» أبدي لا يغسله دم. وينكـــر، شأن ولي أمر الحزب الخمينــــي المسلح، مفاعيل الاغتيال الاستـقلالية والسيادية، وينتصب محامياً عن سياسة الاحتلال الأمنية التي كان أحد مهندسيها.
وليس هذا جديداً ولا تتويجاً لسوابق كثيرة متصلة. وليس هو أقوى إنكاراً لاشتراك الناخبين اللبنانيين المفترض في جماعة سياسية ووطنية واحدة تجمع مواطنين على قدم المساواة، على رغم اختلاف آرائهم ومشاربهم وعلاقاتهم بفصول تاريخهم القريب قبل البعيد. ولكن قول هذا من غير تحفظ، في سياق الإعداد لانتخابات وشيكة آتية مدارها على مفاهيم الدولة الوطنية والمواطنة والسياسة والحكم، وإرداف القول هذا بتزوير وقائع عريض وبدفاع مستميت عن تسلط أجنبي مستبد وعقيم – يطعن في وحدة الجسم الانتخابي المفترضة، وفي انتساب الناخبين الى دائرة ومعايير وطنية وحقوقية مشتركة. والمسألة تتعدى النظام الانتخابي وقوانين الانتخابات التي تحلو لنا مناقشتها، وتتناول أسس السلطة. فكتل «المعارضة» تحتكم ظاهراً، ومن طرف اللسان، الى انتخابات تبطل الكتل هذه، عملاً وقولاً و «فلسفة»، مقدماتها ونتائجها ومفاعيلها الدستورية والسياسية. وتؤوّل الدستور، على شاكلة «فقيهها» الدستوري والنيابي المأذون و «الشاطر»، في ضوء إرادة إبطال المفاعيل المعروفة والسائرة. فهي لا تصدر عن تقسيم الجسم الانتخابي والشعبي، وعن ترتيبه على مراتب متفاوتة في «طبيعتها» وأصالتها وجدارتها، وحسب. وإنما ترمي الى تثبيت التقسيم والتفاوت هذين. وتتوسل الى غرضها المزدوج بخلاف معايير الانتخاب، ونقيض افتراضها جماعة وطنية وشعباً واحداً في دولة واحدة يصنعها البشر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق