سياسة الجوار التركية في المشرق عثمانية بلغة غربية... على خلاف «اللغة» السورية
الحياة- 20 مايو 2009
تحدو حكّام تركيا من قادة حزب العدالة والتنمية، الإسلامي الليبرالي، رغبة قوية في حمل الأتراك أولاً والعالم القريب والبعيد ثانياً حركتهم الديبلوماسية والاقتصادية النشطة، في دوائر جوارهم الكثيرة، على انبعاث العثمانية أو تجددها. وكان تورغوت أوزال، رئيس الوزراء في أوائل تسعينات القرن الماضي، أدرج المفهوم هذا في التداول. وصاغه الأستاذ الجامعي ومستشار رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته منذ نحو الأسبوعين، أحمد داود أوغلو، في 2001، أي غداة تسلم الحزب الإسلامي الليبرالي الحكم، نهجاً سياسياً استراتيجياً في كتاب وسمه بـ «العمق الاستراتيجي». ويذهب المستشار السابق الى ان سند الديبلوماسية التركية، على مفترق أربع دوائر هي أوروبا والبلقان والقوقاز والشرق الأدنى والأوسط، هو الأراضي التركية. والأراضي هذه، على ما يسميها، «مرنة». و «الأراضي المرنة» تقوم على «اتصالها» الطبيعي والسكاني (وليس «استمرارها»، على ما تترجم صحيفة «الشرق الأوسط» في 10/4) داخل الحدود السياسية والقانونية التركية وخارجها. ويستثني داود أوغلو إيران من الاتصال والمرونة. فـ «الحدود التركية – الإيرانية تعود الى 1639 [معركة تشيلديران]»، وهي «على ثباتها منذ 350 سنة» على التمام والكمال، ولم تقع حرب عليها مذذاك.
وينتبه الوزير اللاحق الى ان الأراضي المرنة، قد تبعث على «توتر شديد» أو تدعو الى «سلام واعتماد متبادل» أو «تكامل». وتمهد الطريق الى زيادة المبادلات، وإنشاء المناطق الحرة، واستعمال النفوذ لدى الأقوام «المتصلة» وحضها على الاعتدال. وسورية مثال على المرونة الجغرافية، وعلى التحول من التوتر الشديد الى تبادل الاعتماد والتكافل. فقبل 11 عاماً، تهددت المسألة الكردية، واتصال إقامة الأكراد على جبهتي الحدود التركية – السورية الرخوة وأراضيها المرنة، علاقات البلدين بالانهيار. وكان الرئيس حافظ الأسد حسب يومها أن في وسعه إيواء قيادة حزب العمال الكردستاني بدمشق، وتدريب كوادره في البقاع اللبناني، والتستر على انتقال المقاتلين على جهتي الحدود، «رداً» على سلب «اللواء العربي»، وعلى حبس مياه الفرات عن الأراضي السورية والعراقية والتحالف التركي – الإسرائيلي العسكري الذي أعلن في 1994.
ويتعمد الرئيس التركي، عبدالله غل، رمي هذه المرحلة وراء ظهره أو ظهر الدولة التي يرئسها، فإحياء المدى العثماني السلطاني أو الامبراطوري لا يترتب عليه حكماً، ولا ينبغي ان يترتب عليه إحياء النازع الى إنشاء سلطنة أو مناطق نفوذ وولايات. وعشية زيارة غل الطويلة الى سورية، وإلى قطبيها المدينيين دمشق جنوباً وحلب شمالاً، «تكلم» الرئيس التركي العثمانية، إذا جاز القول، في (اللغة) الأوروبية. فهو، من وجه، مدح خطوات الحكم السوري «المهمة» على طريق الإصلاح الاقتصادي. وقرينته على الإصلاح ليست خطط الدولة، ولا استثماراتها، ولا إنفاقها، بل تعاظم الاستثمارات الخاصة في الاقتصاد السوري، وإجازة السلطة «إعلاماً خاصاً منفتحاً». وتوقع الزائر «استمرار المسيرة» هذه. وهو، من وجه آخر، نسب الى القضية الكردية تأخير قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي. وأوجب، على سبيل التمني جزئياً، ان يكون أكراد ســـورية سوريين، وأكراد العراق العراقيين، الخ. وهو اجتمع الى المســـؤولين الأكراد العراقيين، في اثناء زيارته العراق قبل 6 اسابيع تقريباً، في ضوء المعيار هذا. والجمع بين مديح الانفتاح على الاستثمارات الخاصة، وإرساء علاقات الجوار المثمرة على التعاون الاقتصادي، وبين تحميل الانشقاقات القومية، وانتهاكها الحدود الوطنية والســــياسية، التبعة عن غلق الباب بوجه الانخراط القاري الواعد والمثمر، هذا الجمع ليس اتفاقاً. والتنويه به، على عتبة زيارة المسؤول التركي الأول الى الدولة الجارة وهي الزيارة الرابعة على مستوى رفيع في غضون سنة والزيارة الـ15 على المستويات المتفرقة، ليس «بريئاً».
فالجمع بين مديح الانفتاح الاقتصادي وبين هجاء الانشقاقات الأهلية والقومية المتخلفة عن الأراضي المرنة والحدود الرخوة، قد يصلح كناية عريضة وقريبة عن أحوال الشرق الأوسط المضطربة، وعن سبل علاجها المجزية. وجدد غل، في يوم زيارته الثاني، دعوة ملحة الى إنشاء «أعمال اقتصادية مشتركة، وفتح أبواب التعاون على مصراعيها». وقد يبدو هذا من بدائه الأمور لولا إيلاء وزير الخارجية التركي الجديد التعاون المكانة التي يوليها إياه، وإلحاحه في استبدال المنافسة، وهي المصطلح الأوروبي (الاتحادي) المناسب والمستعمل، بالتعاون. ولولا عودة غل الى «التدخل» في الشؤون الاقتصادية السورية الداخلية.
فهو أثنى ثناء غنائياً على توقيع البلدين اتفاق التجارة الحرة قبل 7 أشهر، وعلى تعاظم التجارة بين البلدين، وبلوغها 1.7 بليون دولار في اثناء سنة (ويزيد الرئيس السوري المبلغ 300 مليون دولار على سبيل المدح). ولكنه استدرك، مستدرجاً ومنبهاً ومحذراً، وقال مخاطباً السوريين في افتتاح ملتقى رجال الأعمال المشترك: «تحريركم الاقتصاد، وتقليص البيروقراطية، وتقوية القطاع الخاص ورفعه الى مرتبة الصدارة، حرية بجعلكم تحصدون النتائج (الإيجابية)». وتوقع «تدفق رأس المال الأجنبي» على الاقتصاد المحلي حال إنجاز الدولة السورية «الإصلاحات التشريعية والقانونية» الضرورية. ومثّل الرئيس الديبلوماسي على السياسة المقترحة بحال تركيا، في معرض الإشارة الصريحة الى مواطن الخلل الفادحة في السياسة الاقتصادية السورية منذ 40 سنة. فقال ان مجيء رأس المال الى تركيا، واستثماره في مرافقها وأعمالها، يقتضي «توافر ضمانة حقيقية له» في البلد المضيف. «ودعانا هذا الى تقويم (ضماناتنا) تقويماً جديداً، وتذليل معوقات كثيرة» حالت بين الرساميل الأجنبية وبين الاستثمار في تركيا.
ويتوسط المشهد الجغرافي السياسي والاستراتيجي العريض الذي تنصب السياسة التركية خشباته، أو مسرحه الشرق الأوسطي، نهجٌ لخصه عبدالله غل في اقتضاب: «سورية هي بوابة تركيا على الشرق الأوسط، وتركيا هي بوابة سورية على أوروبا». وفي الحالين والاتجاهين، القطب الاستراتيجي الأول والراجح هو أوروبا واتحادها، أو الغرب عموماً، على ما قال أحد داود أوغلو يوم انتقلت إليه حقيبة الديبلوماسية من رجل الإصلاحات الاقتصادية، سلفه علي باباجان. ورجحان الكفة «الغربية» في الميزان الاستراتيجي والجغرافي السياسي في الدوائر التي ورثتها تركيا الحديثة، الكمالية، عن السلطنة العثمانية وتاريخها المديد والمختلط، يقوّم التواء الميزان هذا إذا خلي بينه وبين الميل مع نازعه السلطاني والتسلطي.
ولعل الحوار الضمني بين الرئيسين التركي والسوري في ملتقى رجال الأعمال المشترك، دليل على الزعم هذا. فاقترح الرئيس المضيف، مسترسلاً ربما مع «رؤى» ضيفه الجغرافية السياسية ومسوقاً الى بريقها، تكاملاً وتعاوناً في «فضاء اقتصادي» واحد بين تركيا والعراق وسورية وإيران. وذهب الى ان «معنى» التكامل والتعاون الاقتصاديين، في اللغة الخلابة التي يكتشفها المضيف، هو «ربط البحر المتوسط مع بحر قزوين والبحر الأسود والخليج». ودلل على انخراط سورية في الدائرة هذه بتطويرها «سكك حديد، باتجاه العراق لنصير العقدة الإجبـــارية لكل هذا العالم في الاستثمار وفي النقل وغيره». ويُفهِم الكلامُ هذا مغزى زيارة رئيس الوزراء السوري القريبة الى العراق، غداة زيارة وزير الخارجية، واستعجال دمشق تعيين سفير لها ببغداد وسبقها بغداد في هذا. وهو تفسير نضوب حركة «المجاهدين» الانتحاريين، وانتقالهم من الأراضي السورية والحدود المشتركة الى أنحاء العراق «الخصبة»، نضوباً جزئياً (سبق استئناف الحركة على مستوى أقل، على زعم المصادر الأميركية والعراقية).
ولكن أفق المضيف السوري، الجغرافي السياسي والاستراتيجي، عثماني سلطاني في لغة عثمانية. فهو يتوق الى «عقدة إجبارية» لا تقيدها الإصلاحات الاقتصادية ولا قوانين الاستثمار الخاص والأجنبي، ولا تلزمها الضمانات «الحقيقية»، على خلاف رأي الضيف الليبرالي الإسلامي. ويرى الرئيس السوري سورية وتركيا محوراً أو قطباً يقتصر على وجهة واحدة، «ممراً مهماً بالنسبة لآسيا وأوروبا والعالم العربي في مجال النقل والطاقة وكل المجالات الأخرى». وسورية وتركيا، في التصور التركي، بوابتان وممران في اتجاهين، جيئة وذهاباً: من طرف أوروبا التركي الى العالم العربي، ومن طرف العالم العربي السوري الى أوروبا. فهما «مهمتان»، (وهذا هاجس سوري مستبد) من غير شك، ولكن مقدار ما يحتاج العالمان، الأوروبي والعربي، الى التبادل، وتتعاظم علاقاتهما.
والفرق السياسي والاقتصادي والجغرافي بين اللغتين والصياغتين، عريض. فيغلّب الرئيس السوري الموقع الطبيعي والجغرافي على السياسة والاقتصاد، ودواعيهما وذرائعهما. ويحسب ان البلدين الحليفين هما، من تلقاء موقعهما المشترك ومن غير دولتيهما أو حكميهما وسياستيهما، جسر أو عقدة أو وصلة. فيضم الى «فضائه» المفترض بلداناً يجمع بينها «ود» سوري، ومصلحة سورية. وتنيط الرؤيا الاستراتيجية السورية الطارئة بالمصلحة والود السوريين التغلب على ما توليه السياسة والديبلوماسية التركيتان المكانة الأولى، أي الأنظمة الاقتصادية والإصلاحات والتشريعات والضمانات ورأس المال الأجنبي والاستثمارات والأسواق والحواجز البيروقراطية. وذلك داخل دول تتمتع بحدود قانونية ثابتة، وجماعات أهلية وطنية.
والبلدان التي يجمع بينها الرئيس السوري كتلة متصلة إنما ينتخبها بين بلدان أخرى محتملة يستبعدها، على رغم قربها وتجانسها النسبي وحاجتها. فلبنان والأردن أقرب الى تركيا، نظماً اقتصادية ودراية رأسمالية وخبرات تجارية وثقافة ليبرالية، من سورية نفسها، ومن إيران والعراق بالأحرى. وواجهة سورية الضيقة والمشكلة على المتوسط وحوضه، والعلامة على إشكالها دورها المعرقل في مسار برشلونة واضطراب علاقتها بالاتحاد الأوروبي، لا تتيح لها التنطح، على قدم المساواة مع تركيا «الأوروبية» والأطلسية، الى التمثيل على رابطة متوسطية، على خلاف لبنان، على سبيل المثال. وتربط الأردن بالعراق روابط أهلية واجتماعية وجغرافية واقتصادية وثيقة. وهو حلقة وصل بشبه الجزيرة العربية، وبساحل الخليج من طريق شبه الجزيرة، أقرب من سورية. وتفصل إيران عن الدائرة العربية حواجز تاريخية ومصلحية وثقافية وسياسية استراتيجية صفيقة. وجوار إيران القوقازي والآسيوي المتوسط أشد تعقيداً وتدافعاً من جوار تركيا. وهذه تقر بإخفاقين، بأرمينيا، في القوقاز، وقبرص، على المتوسط. وتنكر ايران إخفاقاتها الكثيرة. وهي، في الأحوال كلها، ليست جزءاً من «المنظومة» الأوروبية – المتوسطية. وقد تكون جزءاً من منظومة آسيا الوسطى – آسيا الجنوبية. فلا محل لها جغرافيا سياسياً واستراتيجياً في دائرة تتوسطها تركيا، وتجمع حولها بلداناً مشرقية ومتوسطية، تيمم شطر أوروبا. وأخيراً وليس آخراً، إيران الخمينية والإسلامية الشيعية بؤرة اضطرابات إقليمية أدت وتؤدي الى تقطيع أوصال الدوائر التي يُدخلها فيها موقعها.
والتعلل السوري، وعلى مقدار أقل الإيراني، بدعوة تركيا الى محاورة إيران و «حزب الله» و «حماس»، ومديح تركيا على سياستها هذه، لا يعتد بهما. فالأركان الأربعة التي يرسي عليها وزير الخارجية التركي الجديد علاقات بلده بجواره الأوسطي، و هي الأمن الجماعي والمفاوضة على الخلافات والاعتماد الاقتصادي المتبادل والتعايش الثقافي (والقومي) المتعدد، تنافي الأركان المضمرة، السلطانية الأمبراطورية، التي تنهض عليها السياسات السورية والإيرانية. فقوام السياسات هذه توظيف الأراضي المتصلة، وجماعاتها وأقوامها، في تقويض الكيانات الوطنية (العربية)، وبث الشقاق الأهلي، وخنق التقدم الاقتصادي المتاح، وابتزاز المجتمع الدولي ودائرته الغربية على وجه الخصوص بحروب إرادية ومختارة عمداً. وهذا ما لا يعلنه السياسيون الأتراك. وقد يعلنون بعض ما يخالفه حين يلقون باللائمة على «الحربين» الإقليميتين الأخيرتين على إسرائيل، على ما يقتضي العمل الديبلوماسي المجدي. ولكن لا لبس في الأفق السياسي الذي يسعون فيه: «إطلاق الصواريخ من غزة أو لبنان غير مجد»، «لا جدوى من التسلح النووي»، «لا ننافس مصر أو السعودية والعلاقة بيننا علاقة تعاون»، «المهم هو وحدة أراضي العراق ووحدة قراره السياسي»، «سعينا دوماً في سبيل ضمان الاستقرار في لبنان»، الى الآراء الاقتصادية التي مرت. وعلى هذا، فلا شك في صحة تشخيص احمد داود أغلو دور الأراضي المتصلة: فهي إما داعي انفجار أو مدرجة الى الحوار.
الحياة- 20 مايو 2009
تحدو حكّام تركيا من قادة حزب العدالة والتنمية، الإسلامي الليبرالي، رغبة قوية في حمل الأتراك أولاً والعالم القريب والبعيد ثانياً حركتهم الديبلوماسية والاقتصادية النشطة، في دوائر جوارهم الكثيرة، على انبعاث العثمانية أو تجددها. وكان تورغوت أوزال، رئيس الوزراء في أوائل تسعينات القرن الماضي، أدرج المفهوم هذا في التداول. وصاغه الأستاذ الجامعي ومستشار رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته منذ نحو الأسبوعين، أحمد داود أوغلو، في 2001، أي غداة تسلم الحزب الإسلامي الليبرالي الحكم، نهجاً سياسياً استراتيجياً في كتاب وسمه بـ «العمق الاستراتيجي». ويذهب المستشار السابق الى ان سند الديبلوماسية التركية، على مفترق أربع دوائر هي أوروبا والبلقان والقوقاز والشرق الأدنى والأوسط، هو الأراضي التركية. والأراضي هذه، على ما يسميها، «مرنة». و «الأراضي المرنة» تقوم على «اتصالها» الطبيعي والسكاني (وليس «استمرارها»، على ما تترجم صحيفة «الشرق الأوسط» في 10/4) داخل الحدود السياسية والقانونية التركية وخارجها. ويستثني داود أوغلو إيران من الاتصال والمرونة. فـ «الحدود التركية – الإيرانية تعود الى 1639 [معركة تشيلديران]»، وهي «على ثباتها منذ 350 سنة» على التمام والكمال، ولم تقع حرب عليها مذذاك.
وينتبه الوزير اللاحق الى ان الأراضي المرنة، قد تبعث على «توتر شديد» أو تدعو الى «سلام واعتماد متبادل» أو «تكامل». وتمهد الطريق الى زيادة المبادلات، وإنشاء المناطق الحرة، واستعمال النفوذ لدى الأقوام «المتصلة» وحضها على الاعتدال. وسورية مثال على المرونة الجغرافية، وعلى التحول من التوتر الشديد الى تبادل الاعتماد والتكافل. فقبل 11 عاماً، تهددت المسألة الكردية، واتصال إقامة الأكراد على جبهتي الحدود التركية – السورية الرخوة وأراضيها المرنة، علاقات البلدين بالانهيار. وكان الرئيس حافظ الأسد حسب يومها أن في وسعه إيواء قيادة حزب العمال الكردستاني بدمشق، وتدريب كوادره في البقاع اللبناني، والتستر على انتقال المقاتلين على جهتي الحدود، «رداً» على سلب «اللواء العربي»، وعلى حبس مياه الفرات عن الأراضي السورية والعراقية والتحالف التركي – الإسرائيلي العسكري الذي أعلن في 1994.
ويتعمد الرئيس التركي، عبدالله غل، رمي هذه المرحلة وراء ظهره أو ظهر الدولة التي يرئسها، فإحياء المدى العثماني السلطاني أو الامبراطوري لا يترتب عليه حكماً، ولا ينبغي ان يترتب عليه إحياء النازع الى إنشاء سلطنة أو مناطق نفوذ وولايات. وعشية زيارة غل الطويلة الى سورية، وإلى قطبيها المدينيين دمشق جنوباً وحلب شمالاً، «تكلم» الرئيس التركي العثمانية، إذا جاز القول، في (اللغة) الأوروبية. فهو، من وجه، مدح خطوات الحكم السوري «المهمة» على طريق الإصلاح الاقتصادي. وقرينته على الإصلاح ليست خطط الدولة، ولا استثماراتها، ولا إنفاقها، بل تعاظم الاستثمارات الخاصة في الاقتصاد السوري، وإجازة السلطة «إعلاماً خاصاً منفتحاً». وتوقع الزائر «استمرار المسيرة» هذه. وهو، من وجه آخر، نسب الى القضية الكردية تأخير قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي. وأوجب، على سبيل التمني جزئياً، ان يكون أكراد ســـورية سوريين، وأكراد العراق العراقيين، الخ. وهو اجتمع الى المســـؤولين الأكراد العراقيين، في اثناء زيارته العراق قبل 6 اسابيع تقريباً، في ضوء المعيار هذا. والجمع بين مديح الانفتاح على الاستثمارات الخاصة، وإرساء علاقات الجوار المثمرة على التعاون الاقتصادي، وبين تحميل الانشقاقات القومية، وانتهاكها الحدود الوطنية والســــياسية، التبعة عن غلق الباب بوجه الانخراط القاري الواعد والمثمر، هذا الجمع ليس اتفاقاً. والتنويه به، على عتبة زيارة المسؤول التركي الأول الى الدولة الجارة وهي الزيارة الرابعة على مستوى رفيع في غضون سنة والزيارة الـ15 على المستويات المتفرقة، ليس «بريئاً».
فالجمع بين مديح الانفتاح الاقتصادي وبين هجاء الانشقاقات الأهلية والقومية المتخلفة عن الأراضي المرنة والحدود الرخوة، قد يصلح كناية عريضة وقريبة عن أحوال الشرق الأوسط المضطربة، وعن سبل علاجها المجزية. وجدد غل، في يوم زيارته الثاني، دعوة ملحة الى إنشاء «أعمال اقتصادية مشتركة، وفتح أبواب التعاون على مصراعيها». وقد يبدو هذا من بدائه الأمور لولا إيلاء وزير الخارجية التركي الجديد التعاون المكانة التي يوليها إياه، وإلحاحه في استبدال المنافسة، وهي المصطلح الأوروبي (الاتحادي) المناسب والمستعمل، بالتعاون. ولولا عودة غل الى «التدخل» في الشؤون الاقتصادية السورية الداخلية.
فهو أثنى ثناء غنائياً على توقيع البلدين اتفاق التجارة الحرة قبل 7 أشهر، وعلى تعاظم التجارة بين البلدين، وبلوغها 1.7 بليون دولار في اثناء سنة (ويزيد الرئيس السوري المبلغ 300 مليون دولار على سبيل المدح). ولكنه استدرك، مستدرجاً ومنبهاً ومحذراً، وقال مخاطباً السوريين في افتتاح ملتقى رجال الأعمال المشترك: «تحريركم الاقتصاد، وتقليص البيروقراطية، وتقوية القطاع الخاص ورفعه الى مرتبة الصدارة، حرية بجعلكم تحصدون النتائج (الإيجابية)». وتوقع «تدفق رأس المال الأجنبي» على الاقتصاد المحلي حال إنجاز الدولة السورية «الإصلاحات التشريعية والقانونية» الضرورية. ومثّل الرئيس الديبلوماسي على السياسة المقترحة بحال تركيا، في معرض الإشارة الصريحة الى مواطن الخلل الفادحة في السياسة الاقتصادية السورية منذ 40 سنة. فقال ان مجيء رأس المال الى تركيا، واستثماره في مرافقها وأعمالها، يقتضي «توافر ضمانة حقيقية له» في البلد المضيف. «ودعانا هذا الى تقويم (ضماناتنا) تقويماً جديداً، وتذليل معوقات كثيرة» حالت بين الرساميل الأجنبية وبين الاستثمار في تركيا.
ويتوسط المشهد الجغرافي السياسي والاستراتيجي العريض الذي تنصب السياسة التركية خشباته، أو مسرحه الشرق الأوسطي، نهجٌ لخصه عبدالله غل في اقتضاب: «سورية هي بوابة تركيا على الشرق الأوسط، وتركيا هي بوابة سورية على أوروبا». وفي الحالين والاتجاهين، القطب الاستراتيجي الأول والراجح هو أوروبا واتحادها، أو الغرب عموماً، على ما قال أحد داود أوغلو يوم انتقلت إليه حقيبة الديبلوماسية من رجل الإصلاحات الاقتصادية، سلفه علي باباجان. ورجحان الكفة «الغربية» في الميزان الاستراتيجي والجغرافي السياسي في الدوائر التي ورثتها تركيا الحديثة، الكمالية، عن السلطنة العثمانية وتاريخها المديد والمختلط، يقوّم التواء الميزان هذا إذا خلي بينه وبين الميل مع نازعه السلطاني والتسلطي.
ولعل الحوار الضمني بين الرئيسين التركي والسوري في ملتقى رجال الأعمال المشترك، دليل على الزعم هذا. فاقترح الرئيس المضيف، مسترسلاً ربما مع «رؤى» ضيفه الجغرافية السياسية ومسوقاً الى بريقها، تكاملاً وتعاوناً في «فضاء اقتصادي» واحد بين تركيا والعراق وسورية وإيران. وذهب الى ان «معنى» التكامل والتعاون الاقتصاديين، في اللغة الخلابة التي يكتشفها المضيف، هو «ربط البحر المتوسط مع بحر قزوين والبحر الأسود والخليج». ودلل على انخراط سورية في الدائرة هذه بتطويرها «سكك حديد، باتجاه العراق لنصير العقدة الإجبـــارية لكل هذا العالم في الاستثمار وفي النقل وغيره». ويُفهِم الكلامُ هذا مغزى زيارة رئيس الوزراء السوري القريبة الى العراق، غداة زيارة وزير الخارجية، واستعجال دمشق تعيين سفير لها ببغداد وسبقها بغداد في هذا. وهو تفسير نضوب حركة «المجاهدين» الانتحاريين، وانتقالهم من الأراضي السورية والحدود المشتركة الى أنحاء العراق «الخصبة»، نضوباً جزئياً (سبق استئناف الحركة على مستوى أقل، على زعم المصادر الأميركية والعراقية).
ولكن أفق المضيف السوري، الجغرافي السياسي والاستراتيجي، عثماني سلطاني في لغة عثمانية. فهو يتوق الى «عقدة إجبارية» لا تقيدها الإصلاحات الاقتصادية ولا قوانين الاستثمار الخاص والأجنبي، ولا تلزمها الضمانات «الحقيقية»، على خلاف رأي الضيف الليبرالي الإسلامي. ويرى الرئيس السوري سورية وتركيا محوراً أو قطباً يقتصر على وجهة واحدة، «ممراً مهماً بالنسبة لآسيا وأوروبا والعالم العربي في مجال النقل والطاقة وكل المجالات الأخرى». وسورية وتركيا، في التصور التركي، بوابتان وممران في اتجاهين، جيئة وذهاباً: من طرف أوروبا التركي الى العالم العربي، ومن طرف العالم العربي السوري الى أوروبا. فهما «مهمتان»، (وهذا هاجس سوري مستبد) من غير شك، ولكن مقدار ما يحتاج العالمان، الأوروبي والعربي، الى التبادل، وتتعاظم علاقاتهما.
والفرق السياسي والاقتصادي والجغرافي بين اللغتين والصياغتين، عريض. فيغلّب الرئيس السوري الموقع الطبيعي والجغرافي على السياسة والاقتصاد، ودواعيهما وذرائعهما. ويحسب ان البلدين الحليفين هما، من تلقاء موقعهما المشترك ومن غير دولتيهما أو حكميهما وسياستيهما، جسر أو عقدة أو وصلة. فيضم الى «فضائه» المفترض بلداناً يجمع بينها «ود» سوري، ومصلحة سورية. وتنيط الرؤيا الاستراتيجية السورية الطارئة بالمصلحة والود السوريين التغلب على ما توليه السياسة والديبلوماسية التركيتان المكانة الأولى، أي الأنظمة الاقتصادية والإصلاحات والتشريعات والضمانات ورأس المال الأجنبي والاستثمارات والأسواق والحواجز البيروقراطية. وذلك داخل دول تتمتع بحدود قانونية ثابتة، وجماعات أهلية وطنية.
والبلدان التي يجمع بينها الرئيس السوري كتلة متصلة إنما ينتخبها بين بلدان أخرى محتملة يستبعدها، على رغم قربها وتجانسها النسبي وحاجتها. فلبنان والأردن أقرب الى تركيا، نظماً اقتصادية ودراية رأسمالية وخبرات تجارية وثقافة ليبرالية، من سورية نفسها، ومن إيران والعراق بالأحرى. وواجهة سورية الضيقة والمشكلة على المتوسط وحوضه، والعلامة على إشكالها دورها المعرقل في مسار برشلونة واضطراب علاقتها بالاتحاد الأوروبي، لا تتيح لها التنطح، على قدم المساواة مع تركيا «الأوروبية» والأطلسية، الى التمثيل على رابطة متوسطية، على خلاف لبنان، على سبيل المثال. وتربط الأردن بالعراق روابط أهلية واجتماعية وجغرافية واقتصادية وثيقة. وهو حلقة وصل بشبه الجزيرة العربية، وبساحل الخليج من طريق شبه الجزيرة، أقرب من سورية. وتفصل إيران عن الدائرة العربية حواجز تاريخية ومصلحية وثقافية وسياسية استراتيجية صفيقة. وجوار إيران القوقازي والآسيوي المتوسط أشد تعقيداً وتدافعاً من جوار تركيا. وهذه تقر بإخفاقين، بأرمينيا، في القوقاز، وقبرص، على المتوسط. وتنكر ايران إخفاقاتها الكثيرة. وهي، في الأحوال كلها، ليست جزءاً من «المنظومة» الأوروبية – المتوسطية. وقد تكون جزءاً من منظومة آسيا الوسطى – آسيا الجنوبية. فلا محل لها جغرافيا سياسياً واستراتيجياً في دائرة تتوسطها تركيا، وتجمع حولها بلداناً مشرقية ومتوسطية، تيمم شطر أوروبا. وأخيراً وليس آخراً، إيران الخمينية والإسلامية الشيعية بؤرة اضطرابات إقليمية أدت وتؤدي الى تقطيع أوصال الدوائر التي يُدخلها فيها موقعها.
والتعلل السوري، وعلى مقدار أقل الإيراني، بدعوة تركيا الى محاورة إيران و «حزب الله» و «حماس»، ومديح تركيا على سياستها هذه، لا يعتد بهما. فالأركان الأربعة التي يرسي عليها وزير الخارجية التركي الجديد علاقات بلده بجواره الأوسطي، و هي الأمن الجماعي والمفاوضة على الخلافات والاعتماد الاقتصادي المتبادل والتعايش الثقافي (والقومي) المتعدد، تنافي الأركان المضمرة، السلطانية الأمبراطورية، التي تنهض عليها السياسات السورية والإيرانية. فقوام السياسات هذه توظيف الأراضي المتصلة، وجماعاتها وأقوامها، في تقويض الكيانات الوطنية (العربية)، وبث الشقاق الأهلي، وخنق التقدم الاقتصادي المتاح، وابتزاز المجتمع الدولي ودائرته الغربية على وجه الخصوص بحروب إرادية ومختارة عمداً. وهذا ما لا يعلنه السياسيون الأتراك. وقد يعلنون بعض ما يخالفه حين يلقون باللائمة على «الحربين» الإقليميتين الأخيرتين على إسرائيل، على ما يقتضي العمل الديبلوماسي المجدي. ولكن لا لبس في الأفق السياسي الذي يسعون فيه: «إطلاق الصواريخ من غزة أو لبنان غير مجد»، «لا جدوى من التسلح النووي»، «لا ننافس مصر أو السعودية والعلاقة بيننا علاقة تعاون»، «المهم هو وحدة أراضي العراق ووحدة قراره السياسي»، «سعينا دوماً في سبيل ضمان الاستقرار في لبنان»، الى الآراء الاقتصادية التي مرت. وعلى هذا، فلا شك في صحة تشخيص احمد داود أغلو دور الأراضي المتصلة: فهي إما داعي انفجار أو مدرجة الى الحوار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق