المستقبل - الاحد 7 حزيران 2009 -
الملاحظات على رواية حنان الشيخ، إحدى روايات "الحرب اللبنانية" على ما جرى القول، جزء من مقالة في بعض الروايات هذه، وفي كتابتها ومباني هذه الكتابة. واقترح المعهد الفرنسي للشرق الأدنى IFPO، ومديره فرانك ميرمييه موضوع المقالة، واستضاف إنجازها. والجزء هذا يقتصر على الصفحات الأولى من الرواية، وينتقل الى أحكام عامة سندها الرواية كلها، وروايات أخرى هي معظم ما سمي روايات الحرب ونشر منذ 1975.توكل حنان الشيخ الى الصبية الفتية زهرة، في "حكاية زهرة" (دار الآداب، بيروت، 1980)، قص الفصل الأول من القسم الأول من "الحكاية" كلها. والحكاية كلها قسمان. ويتوالى على الأول، وعلى القص بضمير المتكلم، زهرة الفتية بين أهلها، ثم زهرة الشابة بأفريقيا مع خالها المهاجر والمقيمة ببيته، فخال زهرة المهاجر الى افريقيا، فزوج زهرة "الافريقي" ماجد، ثم زهرة "الافريقية" مرة أخرى. وعلى هذا، تُنقِّل الفصول الخمسة القص بين ثلاثة رواة هم زهرة، ثلاث مرات، وخالها وزوجها. ويقتصر القسم الثاني، وهو مئة صفحة من 250 صفحة، على قص زهرة الراجعة الى بيروت، والخائضة في حروبها.فالقاص الأول في مطلع الحكاية هو البنت التي تقول: "أنا الآن في سن أستطيع أن أميز معها تماماً الضيعة عن المدينة" (ص 10 من الطبعة الرابعة). ومسألة "التمييز"، في الفصل هذا، تتصدر ما تحكيه البنت، وتخبر عنه. فهي تروي خبر تشبيه الأم على بنتها، وعلى زوجها والد البنت تالياً، عشقها رجلاً آخر، وملاقاتها إياه بمواضع متفرقة. وزهرة، البنت، هي ذريعة الأم المتسترة الى المواضع الكاذبة أو الملفقة هذه. والمواضع هي تارة عيادة طبيب مزعومة تروح الأم بالبنت إليها، وتعلل رواحها بساقي بنتها المقوستين هزالاً وضعفاً، وتلتقي عشيقها بها. وينبغي ان تخبر البنت، صادقة، حين تعود الى بيت أهلها، أباها أن الطبيب، الدكتور شوقي، حقنها بحقنتي كالسيوم (ص 8). وتقتضي الرواية الصادقة المبتغاة ان تروي زهرة ما تشبهه الأم، والعشيق، وما تخرجه، على المعنى المسرحي رواية يقين وحق. وتفترض رواية اليقين والحق ألا تميز البنت مسرح المواعدة والملاقاة من مسرح العيادة المنصوب عمداً وإيهاماً. وإلى العيادة المزعومة، ثمة الشام، أي دمشق، تارة ثانية. وثمة الضيعة، تارة ثالثة. ويسبق العشيق، وهو سائق سيارة (والزوج سائق ترامواي)، صاحبته وبنتها الى الأماكن هذه. ويتزيا بزي يناسب تمويه المكان على البنت، وعلى مَلَكة "تمييزها"، أو ما تحسبه البنت تمييزها.الاختلاط والتمييزفعلى زهرة، وهي لم تبلغ العاشرة بعد، قص الحوادث التي تعرض على نحو ما تبصرها وتفهمها وتؤديها (او تؤدي عنها) بنت صبية في سنها، وفي حالها. وكتابة الفصل القصصية، ومن بعده الفصول الأخرى و "الحكاية" جملة، تترتب على حالي التشبيه والتمييز، أو الحال المختلطة التي تعرّف زهرة في ابتداء امرها (الروائي) وأمرنا (أمر القارئ أو القراء). فزهرة، في حال الالتباس والاختلاط التي هي حالها، هي ما تقول، ما تبصر وتفهم وتؤدي، ويقرأه القارئ مكتوباً ويسمعه. وبداية قص زهرة هي نون المتكلم جماعة. والجماعة هي البنت وأمها المتخفيتان بالباب، والمرتجفتان معاً و (بديهة) جميعاً. والوقوف "خلف البابا" (ص 7)، وارتجاف الاثنتين، لا يستوفيان معية الجماعة. فهي معية تتعدى الاشتراك في الوقوف والارتجاف الى اتصال دقات القلب ونبض عرق الرسغ. وتستشعر البنت الواقفة خلف الباب، والمرتجفة خوفاً، دقات قلبها هي ونبض الدم في عرق رسغ امها، واحداً "مختلطاً" لا يتميز.ولكن الواحد المختلط دماً ونبضاً ينشق عن اثنين أو اثنتين: واحدة، هي الأم، تطبق على فم الأخرى، البنت، وتحول بينها وبين الوشاية بهما وبوقوفهما وراء الباب والاختباء به. والشقاق أو الانفصال هذا تنم به بادرة تحجز بين الولد وبين دنيا الناس وسمعهم على نحو ما يحجز الباب بينهما وبين دنيا تتستر الأم عليها، وتتخفى. وهي تريد ألا تفشي البنت، الخائفة والمرتجفة، على الملأ التخفي هذا. والحركة التي تقمع بها الأم صراخ البنت، أو بكاءها، تجدد البنت بها حبل سرتها ورابطتها بأمها، وتصل دمها بدم الأم ونبضها بنبضها. والفرق الذي توجبه وتجلوه اليد على الفم يمحوه الدم الواحد النابض في قلبين وجسمين، على ما يتراءى للبنت الفتية. والدم الواحد لا ينفي الروائح، وشمها وتمييز رائحة البصل من رائحة الصابون، ولا الإحساس ببياضها وسمنتها ودفئها.وما أرادته الأم قمعاً أو علاجاً لطفولة البنت، ولعسر إكراهها نفسها من تلقائها على السكوت، حملته البنت الفتية على حرارة الضم، و "العودة" الى جسم الأم: "وددت لو تضع يدها على فمي الى الأبد" (ص 7). والفم هذا، الفم الذي يحس دفء يد الأم وامتلاءها وبياضها، ليس الفم الذي تسكته الأم وتكرهه على السكوت، بل هو الفم الذي تدعوه الأم الى "اكلها"، وإلى الاستقرار فيها لا إلا وقت أو غاية. و "إلى الأبد" هو وقت رحمي وأمومي ترى البنت نفسها وأمها معاً فيه. وتكاد تكني زهرة عن الرحم هذه حين تقول: "كنا في ظلام الغرفة مختبئتين وراء الباب المشقوق". ومن شق الباب تأتي الجلبة ووقع الأقدام و "النور كله"، وتخرج الأشياء، وأصواتها وصورها وألوانها، من العماء الى الكون. ويخرج القص من الزمن "الأبدي"، ومن كناياته ولغته، الى زمن الحوادث الجزئية، وتعاقبها السببي ومعانيها المباشرة والمركبة. فتتم زهرة الفتية، والمفاخرة بتمييزها الضيعة من المدينة، إخبارها عما حصل بعد سماع الجلبة ووقع الأقدام، فتقول: "بحركة لا شعورية التصقنا بالحائط...". ودخول "اللاشعور" على القص الفتي، وعلى التباس جسم البنت بجسم الأم، ورغبة الأولى في "أكل" الثانية، والعودة الى رحمها، والقرار في أبديتها وليلها، ينحرف بلغة القص وكتابته عما بدا، طوال ستة أسطر، سوية أولى ومختلفة.فـ"اللاشعور" المفترض ليس في دائرة الألفاظ والكلمات التي تؤدي، وأدت للتو اختلاط نبضات قلبي الأم والبنت وخوفهما وإحساس البنت الصبية بروائح أمها وبياض يدها على فمها. ومعين اللفظة والمعنى ثقافة مدرسية وصحافية لم تبلغها البنت بعد، وقد يعزف القص عنها، ويتخفف منها، ما لم تضطره سياقة أخرى إليها. ولا تتعهد الثقافة هذه، ولا ألفاظها ومعانيها، ما ابتدأت زهرة قوله، ويصدر عن وجه يلابسه التشبيه والاضطراب والأحاسيس المختلطة. فنسبة الحركة الخاطفة والتلقائية، أو الغريزية، الى "اللاشعور"، أي الى نصاب نفسي لا تدرك الصبية الفتية منشأه، ويخفاها العلم به، هذه النسبة تقحم على قص الصبية ولغتها ما لا طاقة لها به، ولا حاجة إليه. وهي تحمل على لاشعورها، ولا شعور امها، الالتصاق بالحائط. فتخبر البنت عن لا شعور الأم حين موضع الخبر ليس "اختلاط" الواحدة بالأخرى، ولا رغبة البنت في امها، بل تأويل فعل خارجي وآلي. ولا تغفل زهرة غفلة تامة عن الأم. فتقول: "... وكان (أم كأن؟ و. ش.) الخوف قد انتقل إليّ عبر سلك غرس بزندها وزندي في آن". فبعد الاستعارة من المصطلح النفسي، اللاشعور، تستعير الراوية، وهي هي حالاً وسناً من المصطلح الوظيفي الطبيعي أو الفيزيولوجي. ويطّرح المصطلحان، على اختلافهما وفرق ما بينهما، البنوة والأمومة والتماس الجسم الجسم، وتوسلهما كلاهما بالظلمة والخوف والتخفي الى الاعتناق والاختلاط. فليست الحركة وحدها "لا شعورية"، على معنى آلية وخارجية، بل القلب كله, ونبضاته ودمه وعروقه، بمنزلة سلك أو كبكوب أسلاك تنغرس بهذا الموضع أو ذاك من جسم "صاحبه"، وتبث الدم في العروق، والدقات في القلب.وتقص زهرة ما نجم عن الجلبة ووقع الأقدام، وأثرهما فيها وفي أمها، والفرق بين ما كانا عليه، وصارا إليه. فقبل الجلبة ثم فتح الباب كانتا خلف الباب ترتجفان. وبعدها التصقتا بالحائط. وقبلها، أطبقت يد الأم على فم البنت. وبعدها، "هذه المرة" (وهي تجهر وقتاً آخر وتالياً)، "أصابعها... شدت على فمي". وإذا كان الإطباق (الأول) على الفم وصل النبض والدم الأموميين بنبض الولد ودمه، وأثار روائح الاستحمام وإعداد الطعام، وحمل اللحظة على الدهر والأبد، لم يعدُ شد الأصابع على الفم ملاحظة الخوف في صورته الفيزيولوجية، على ما مر. ويفترق الجسمان واحدهما عن الآخر وينفصلان. وتستقل البنت زهرة بضمير متكلم فرد أو مفرد، على خلاف نون الجماعة الاستهلالية: "وقفنا...". فالخوف، هذه المرة، انتقل "إليّ". وثمة "زندها" و "زندي"، و "أصابعها" و "فمي". وتتولى الراوية تعقب الأوقات، وقتاً وقتاً. فتُخرج "هذه المرة" من زمن مديد يتصل بعتمة الأمومة ورحمها، ويتطاول الى "أبد" مرسل. وتثنّي الخروجَ من اتصال الزمن وتدامج اوقاته، فتنتصب الصبية إدراكاً منفصلاً ومفارقاً، فتقول: "لاحظتُ ان دقات قلبي...". والإدراك المنفصل والمفارق "يلاحِظ"، من خارج ومن بُعد، اتفاق "ذوبان" دقات قلب الراوية، الفرد، و "موت" نبض يد الأم. وتعلل الأمرين بـ"شدة الخوف"."الرأس الكبير والسمين"وعلى هذا، انقلبت البنت من بنوتها الأنثوية والرحمية الهوامية الى إدراك نهاري، متميز ومنفصل. فتحضر الحركات والسكنات، ومعها الأشياء، على شاكلة موضوعات وأعيان: الأصابع محل اليد، والشد عوض الإطباق، والملاحظة بدلاً من السمع، والانتقال (انتقال الخوف) وليس الاختلاط، والتعليل (بشدة الخوف) على خلاف الاستغراق، والمسافات والأوقات على الضد من الاتصال. وتستوي الملاحظة "فهماً" ناجزاً مع دخول "النور كله" من الباب بعد فتحه، وإطلالة "الرأس الكبير السمين" منه، و "(تحديقه) في الغرقة". فتقول الصبية: "وما أن أطل الرأس... حتى فهمت سر الخوف وسر يدها المطبقة على فمي". وتمضي الراوية على قصها وخبرها، وسبر غور الأسرار التي فهمتها مع دخول النور والرأس والتحديق بالغرفة، ومع استوائها هي متكلماً فرداً.ويطل "الرأس الكبير السمين"، وهو سبقته جلبة خطوه وسبَقَه اقترابُه من الباب المردود، على نحو متوقع ومنتظر. فتتداعى النتائج، وتتناسل من "رأس" المقدمة، إذا جازت العبارة، أو من المقدمة الرأسية والأولى. ويعطف القول: "وما أن..." سبحة الوقائع التالية، أو الحوادث، على جملة وقائع أو حوادث سابقة تقوم من تاليتها مقام السبب والعلة. وجملة الوقائع أو الحوادث السابقة التي يعطف عليها قول "وما ان..." هي، على الترجيح، الجلبة ووقع الأقدام المتقارب. وصيغة "وما ان..." لا تعطف الحوادث التالية على الحوادث السابقة وحسب. فهي تحقق التوقع والاستباق كذلك، وتملأهما بما أرهصا به ونمّا نماً مناسباً ومطابقاً. فينبغي ان يكون "الرأس الكبير السمين" متضمناً في الجلبة ووقع الأقدام المقتربة من الباب المشقوق ومضمراً فيه وفيها، لتقع "وما ان..." موقعاً مناسباً وصحيحاً. ويتأتى التضمين والإضمار، إذا صحا وصدقا، من اختبار سابق تكرره المرة هذه. وهذا ما لا يلبث تعاقب الحوادث ان يلمح إليه إلماحاً غامضاً. فتروي زهرة الحادثة نفسها على النحو الآتي (ص8): "ويدها البيضاء لا تزال تشد على يدي بدلاً من فمي. خاصة عندما برز وجه ابيض عبر الباب الذي فتحه صاحبة نصف فتحة وتفرس في الظلمة ورآنا وما رآنا". والجملة الأخيرة هي العلامة أو التوقيع على هوية "الوجه الأبيض غير الباب". فهو "الرأس الكبير السمين" نفسه، ومن سبق في السياقة الأولى أن حدق في الغرفة، وهو "يرانا ولا يرانا".وإذا صح هذا، لم يفهم القارئ (هذه المرة) "سر" ارتجاف الأم والالتصاق "بحركة لا شعورية" بالحائط وموت نبضها، الخ. وهو قد يفهم أعراض البنت الصبية إذا حملها على السن، وعلى اشتباه افعال الأم، وكذب دعاويها حين رواية الحوادث على نحو يخالف شهود البنت إياها. فالرجل المقتصر على وجهه، ووجهه تارة "رأس كبير سمين" يشبه الثور (وهذه من القارئ وتخييله) وتارة "وجه أبيض" يشبه صورة أو رسماً متخلفاً عن حلم أو منام غارب (وهذه كذلك من القارئ) ـ الرجل المقتصر على وجهه جزء أو مرحلة من حوادث تنتهي الى دخول وجه آخر. وتقول البنت انها تعرف الوجه هذا: "وجه لرجل رأيته قبلاً يتكئ برأسه فوق حضن امي" (ص 8). ولا ريب في ان الأم تستبق في الوجه الأول، على صورتيه ووصفيه، الوجه الثاني الغارق في حضنها (و "الاتكاء" كلمة أو لفظة تؤدي معنى يُفهِم السياق خلافه أو غيره). فما مساغ ارتجافها وخوفها وموت نبضها وإطباق يدها أو شدها على فم بنتها؟وظهور الرجل الأول على شاكلة "رأس كبير سمين"، ومنقطع من جسم، في العبارة أو الصيغة هذه، يصبغه بصبغة أسطورية أو حكائية. وتضمّنه الصبغة معاني لا فكاك له منها (ولا فكاك للكاتبة الروائية). ومثل العبارة هذه، أو التمثيل، يستأنف قصصاً سابقاً يقوم منها مقام ميراثها ونسبها ومستودع وجوه دلالتها. فالرأس الكبيرة تصف الغول، الأنثى، في أخبار الشاطر حسن. ويقتل الشاطر حسن الغول ويحز رأسها، ورقبتها العريضة والرخوة، في طريقه الى عروسه. وبعض الشبه بأوديب في طريقه الى طيبة المطعونة (المصابة بالطاعون) وقتله التنين (الأنثى القاتلة كذلك)، قد يكون أحد وجوهه عظم رأس التنين (وجه" أبي الهول المصري الرابض بجوار الأهرامات). وهي حين ترمي بنفسها في الهاوية السحيقة والبعيدة القرار، يتحطم رأسها أولاً، وتتشلع جوارحها وتتناثر. ووصف الرأس بالسمنة، بعد الكِبَر، يعرضها للذبح والأكل، على ما هي حالها في حلم فرعون الذي يؤوله يوسف ابن يعقوب. وعلى ما هي حالها في عبارة "العجل المسمن" وذبحه، كناية عن غلاء مهر العروس، وعلو قدرها وكرامتها في عين عريسها وأهله. فلا يبخلون عليها بواسطة عقد قطيعهم أو مالهم.وبعض الحيوانية الأسطورية التي تحوط "الرأس الكبير السمين" تمر الى التحديق وتخالطه. فتحسب الصبية الفتية ان الرجل "صاحب" الرأس، "يرانا ولا يرانا". والوقوف في نسبة النظر، أو الرؤيا والإثبات، الى الحيوان، يصدر عن بديهة خُبُر إنسي وسائر. وهو قد يصدر عن اختلاط كلامي ولفظي تتولاه محاكاة ببغائية لبعض مناحي العبارة. فالرأس المجردة من خلقة ورسم إنساني تام، والمنذورة للذبح أو المتخلفة عنه، على ما بدت حال الرأس هذه (في القراءة)، قد تكون عمياء. وتجردها من الجسم، على رغم الأقدام التي يسبقها وقعها، يجللها بإيحاءات أسطورية مر الإلماح إليها. وعلى هذا، فالقول: "الرأس الكبير السمين يحدق في الغرفة"، يجمع الوجه والمعنى الأسطوري الى الوجه الوصفي والعملي الفوتوغرافي. وهو يتنقل بين الوجهين أو المعنيين، ويخلط بينهما، ويمر بهما مرور الكرام. فقد تترتب "يرانا ولا يرانا" على حيوانية الرأس الأسطورية. وقد تترتب، من غير ترجيح، على وصف نفسي وبوليسي للرجل الذي قد يكون حاجباً أو حارسا او بواباً. وفي الحال الأخيرة، يبدو استبقاء القص الرأس المنقطعة من جسم، والطواف بها على باب مغلق، ونسبة التحديق إليها، والوقوف في إثباتها ما ترى ـ يبدو تخليطاً وعشواً وخبطاً. فهو يُدخل وجهاً في وجه آخر مختلف. ويفترض الوجهين متصلين، متآلفين ومتضافرين.فهم الأسراروترجع زهرة من رواية الاختباء والارتجاف والخوف في الغرفة الى "السرين" اللذين فهمتهما، "سر الخوف وسر يد (الأم) المطبقة على فمـ(ها)". وتجلو السرين وفهمهما، وتستدرك على الفهم فتقول انه "مهزوز". ويَغمُض على القارئ مأتى الصفة وأصلها: هل هو الصبية التي لم تبلغ العاشرة ام هو الكاتبة؟ فبعض القص يحاكي الصدور عن الصبية و"فهمها" ولسانها. وهو يميل الى أداء حسي وعضوي، وإلى أخيلة بعضها مثقل بالكلام العامي وأصدائه وتداعياته. وبعضه الآخر، على شاكلة "اللاشعور" و "المهزوز"، وانتقال الخوف "عبر سلك غرس بزندها وزندي"، معينه لغة مدرسية وصحافية متثاقفة وسائرة. ويدعوها جلاء السرين الى قص ما كان من الأم قبل خروجهما من البيت وقصدهما، تمويهاً، عيادة الدكتور شوقي، حيث يوافي الأم صاحبها. والإعداد لزيارة العيادة المزعومة، على ما ترويه زهرة، ينقل القص الى مسرح حركات وسكنات يومية ونهارية. ولا تُغفل الراوية، في المعرض الجديد، لا لون البنطلون، ولا قماشته ونسيجه، ولا حياكة الكنزة الخضراء بالصنارة. وضَفرُ الشعر يرافقه غمس المشط في كأس ماء، على ما كان يصنع أهل الريف وأهل المدينة التقليديون والمقيمون على سنن قديمة. والتذرع الى ترك البيت بعيادة الطبيب، في "كل مرة"، على قول الصبية الفتية، ينبه الى اعتياد الأم، واعتياد البنت الحيلة هذه، والى انطلائها على الأب الى حين.وتمتحن الحيلة تمييز البنت. فهي تسمع امها تحذرها، "بصوت عال" أسمعَ والدها ما تريد الأم إسماعه إياه، (من) معاندتها حقنة (إبرة) الطبيب، وتتوعدها بالضرب. وتزدوج البنت الفتية: فتسمع الآن، حاضراً، ما تقوله الأم في العيادة والطبيب والحقنة والمعاندة، وتحاول ان تتذكر وتتحقق من الحقن، ومن صدق رواية الأم أو كذبها. والحق ان هذا ما تقصه زهرة، وتقوله علناً، ويستوفيه قولها. فهي سرعان ما تخلص من "محاولة" التذكر، في منتصف السطر، الى إثبات بطلانه ونفيه في مطلع السطر التالي: "ولم أتذكر". واختصار "المحاولة" الى تعاقب على هذا القدر من القرب فلا تكاد (المحاولة) توجَب حتى يقفّى عليها بالنفي والإنكار، يُفهِم ان السؤال المضمر: هل حقنها الدكتور شوقي ("إذا كان الدكتور شوقي قد حقنني")؟ إنما هو صوري وخطابي، ولا يؤثر اثراً قصصياً أو كتابياً. وعلى حين يستعيد البنطلون أطوار لونه (الكحلي) ومادته (من الصوف)، وتجدد الكنزة ذاكرة لونها (الأخضر) وصنعها (الحياكة بالصنارة)، ويضفر الشعر بغمس المشط في الماء ـ فيأتلف من هذا رسم مشهد نمطي على شاكلة لوحات "الأوبيسون" أو اللوحات المرسومة بخيوط الصوف ـ تذوي محاولة التذكر في أداة أو حرف نفي جاف وقاطع. فتخرج الراوية من التخمين، وتُخرج قارئها معها وتسوقه سوقاً الى الخروج.ويترتب الخروج والإخراج على فهم الراوية السرّين، وغيرهما من الأسرار. و"فهمهما" القوي ينفذ الى ما وراء الظاهر، ويلم بما قبله وما بعده. فيتهاوى الظاهر سافراً عن مقاصد الفاعلين ونواياهم من غير بقية تعصى التمييز. ويشف مسرح الظاهر هذا، من طريق مشاهد أو "لوحات" رسمت أو نسجت على منوال حرفي ونمطي معروف، عن قاع قريب من "الأسرار" المعروضة على "النور كله". فإذا ألمّ القص بأحوال أو عبارات، أو بمزيج من الاثنتين على ما هي الحال غالباً (على مثال "الرأس الكبير السمين")، واعترضته الاحوال والعبارات هذه، وحرفته عن المشاهد واللوحات المفرطة المسرحة، لم يختر (القص) وجهاً من الوجهين، ولم يسعَ في شبكهما شبكاً مركباً، ولم يُعمل وجهاً في وجه. وعلى خلاف الاحتمالات والجوازات هذه، وهي ثمرة تجريبية واختبارية من ثمرات أعمال القص وأفعاله، يترك القص (في الجزء الذي تتناوله الملاحظات من "حكاية زهرة") الحبلَ على الغارب للجوار بين ضروب التناول وأنواعها، ويتنقل بين منازع العبارة ويسلكها في سلك يخيّل واحداً. وترصف الطباعةُ المنازع المتفرقة والمتناثرة رصفاً متصلاً، على شاكلة توالي السطور والفقرات والصفحات والفصول. ويحمل ضمير القاص المتكلم، أو ضمير الغائب، الحوادث المروية وأصحابها، على سياقة واحدة. ويعطف الرصفُ الطباعي، ونسبة القص (وضميره) الى صاحب يفترض جامعاً واحداً، أوقات ما يقص بعضها على بعض، ويجمع فصول قصة في أطوار يولد بعضها من بعض، ويعقل بعضها في ضوء بعض.ويتأتى هذا من قراءة تطرح، بدورها، الظاهر وصفحته، أو صفحاته المرئية والمسموعة والمقروءة والمحسوسة، وهي المعاني التي تقترحها الكتابة على القراءة والقراء. وتطّرح القراءة صفحات الظاهر، ومعاني الصفحات البادية والمقروءة، و "تتخطاها" أو تتجاوزها الى بؤرة روائية مشتركة. وينعقد على البؤرة الروائية المشتركة والمفترضة هذه، وعندها، قصٌ يؤلف من فوق ومن خارج بين احوال وعبارات ومنازع متفرقة ومتناثرة، وقراءةٌ تفترض التأليف هذا افتراضاً، وتلتمسه فوق المرويات وخارجها ووراءها. وعلى هذا، فلا القص الناجز الذي يقترحه صاحبه، "الروائي"، هو ما يكتبه الكاتب فعلاً، ولا هو (القص) ما يقرأه القارئ. فالبؤرة المشتركة تقوم فوق "العمل" المقترح وخارجه ووراءه على ما سبق القول للتو. ولعل سداها ولحمتها الجامعين، وما تتماسك به البؤرة هو تسليم الكاتب والقارئ، أي الكتّاب والقراء، بمثال روائي ثقافي مشهور ومتعارف يتعالى عن الكتابة والقراءة، وعن الاختبار، معاً. والمثال المبطن والمضمر، وهو ثمرة الرواية الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، يقاس عليه قياساً مرسلاً وغير مقيد. والحق ان المثال الذي يقاس عليه ليس كتابياً. فليس مداره أو مبناه على الأعمال المكتوبة، أو على تداولها ومناقشتها في ضوء صيروراتها وأطوارها وتجاربها. والتداول والمناقشة في ضوء هذه لا يستقيمان من غير إلمام دقيق باللغات الأصلية، أو من غير نقل وترجمة يستوفيان شرائط النظير والشبيه، ويدرجان المنقول والمترجم في تراث اللغة واستعمالاتها.وانتفاء هذا كله يقود، على سبيل الاطراح من وجه وعلى سبيل التخمين المرجّح من وجه آخر، الى التماس المثال المبطن والمضمر في غير الرواية الغربية. ولا يقودنا هذا بعيداً. ففي جوار الرواية الغربية، نبتت فروع كثيرة وتناسلت الى اليوم. ونشرت الصورة، الصناعية، الفوتوغرافية والسينمائية والتلفزيونية والرقمية، الفروع القصصية في المجتمعات من غير تفريق، على شاكلة الأفلام والاسكتشات والأشرطة المتحركة والمسلسلات. وتستبقي الفروع القصصية من المثال "الكبير" ما يسع الرصف الطباعي ونسبة القص الى ضمير واحد جامع وعطف الأوقات بعضها على بعض، الاضطلاع به. ولعل أول ما يترتب على المثال الفرعي، وعلى اقتباسه على الصورة التي اقتبس ويقتبس عليها، التخفف من مباني الكتابة، ومن إكراهها الكاتب على شبك وجوه القص والأحوال والعبارات، شبكاً مركباً، وإعمال الوجوه هذه بعضها في بعض. فيصنع هذا مثالاً أو فناً جديداً. ولا تستوفي مقارنته بمثال "كبير"، رابطته به ضعيفة على رغم مزاعمه ومزاعم اصحابه، صفته. فهو ليس "أقل" من المثال "الكبير"، ولا مقصراً عنه، بل هو شيء آخر، وينتسب الى أصلاب ومصادر أخرى، ويركض في ميدان غير ميدان الرواية. وتواضع الكتّاب والقراء على المثال الفرعي قرينة على اشتراك الفريقين في الصدور عن ثقافة (فرعية)، حصةُ الكتابة ومبانيها منها ضئيلة. وأحسب ان الملاحظات السريعة والابتدائية هذه مدخل الى معالجة مسائل أخرى عريضة مثل التأريخ للأعمال "الروائية" عموماً على غير وجه الموضوعات والمعالجات، والإشاحة عن تناول الكتابة الروائية ومبانيها، وعسر وصف المباني هذه، والرضوخ لانقطاع الرواية من تراث القص، وتعليق مسألة التراث في حقول القص. والمسألة العريضة التي تتصدر المسائل هذه ربما هي محل "الأدب" الروائي من "الثقافة العربية".
الملاحظات على رواية حنان الشيخ، إحدى روايات "الحرب اللبنانية" على ما جرى القول، جزء من مقالة في بعض الروايات هذه، وفي كتابتها ومباني هذه الكتابة. واقترح المعهد الفرنسي للشرق الأدنى IFPO، ومديره فرانك ميرمييه موضوع المقالة، واستضاف إنجازها. والجزء هذا يقتصر على الصفحات الأولى من الرواية، وينتقل الى أحكام عامة سندها الرواية كلها، وروايات أخرى هي معظم ما سمي روايات الحرب ونشر منذ 1975.توكل حنان الشيخ الى الصبية الفتية زهرة، في "حكاية زهرة" (دار الآداب، بيروت، 1980)، قص الفصل الأول من القسم الأول من "الحكاية" كلها. والحكاية كلها قسمان. ويتوالى على الأول، وعلى القص بضمير المتكلم، زهرة الفتية بين أهلها، ثم زهرة الشابة بأفريقيا مع خالها المهاجر والمقيمة ببيته، فخال زهرة المهاجر الى افريقيا، فزوج زهرة "الافريقي" ماجد، ثم زهرة "الافريقية" مرة أخرى. وعلى هذا، تُنقِّل الفصول الخمسة القص بين ثلاثة رواة هم زهرة، ثلاث مرات، وخالها وزوجها. ويقتصر القسم الثاني، وهو مئة صفحة من 250 صفحة، على قص زهرة الراجعة الى بيروت، والخائضة في حروبها.فالقاص الأول في مطلع الحكاية هو البنت التي تقول: "أنا الآن في سن أستطيع أن أميز معها تماماً الضيعة عن المدينة" (ص 10 من الطبعة الرابعة). ومسألة "التمييز"، في الفصل هذا، تتصدر ما تحكيه البنت، وتخبر عنه. فهي تروي خبر تشبيه الأم على بنتها، وعلى زوجها والد البنت تالياً، عشقها رجلاً آخر، وملاقاتها إياه بمواضع متفرقة. وزهرة، البنت، هي ذريعة الأم المتسترة الى المواضع الكاذبة أو الملفقة هذه. والمواضع هي تارة عيادة طبيب مزعومة تروح الأم بالبنت إليها، وتعلل رواحها بساقي بنتها المقوستين هزالاً وضعفاً، وتلتقي عشيقها بها. وينبغي ان تخبر البنت، صادقة، حين تعود الى بيت أهلها، أباها أن الطبيب، الدكتور شوقي، حقنها بحقنتي كالسيوم (ص 8). وتقتضي الرواية الصادقة المبتغاة ان تروي زهرة ما تشبهه الأم، والعشيق، وما تخرجه، على المعنى المسرحي رواية يقين وحق. وتفترض رواية اليقين والحق ألا تميز البنت مسرح المواعدة والملاقاة من مسرح العيادة المنصوب عمداً وإيهاماً. وإلى العيادة المزعومة، ثمة الشام، أي دمشق، تارة ثانية. وثمة الضيعة، تارة ثالثة. ويسبق العشيق، وهو سائق سيارة (والزوج سائق ترامواي)، صاحبته وبنتها الى الأماكن هذه. ويتزيا بزي يناسب تمويه المكان على البنت، وعلى مَلَكة "تمييزها"، أو ما تحسبه البنت تمييزها.الاختلاط والتمييزفعلى زهرة، وهي لم تبلغ العاشرة بعد، قص الحوادث التي تعرض على نحو ما تبصرها وتفهمها وتؤديها (او تؤدي عنها) بنت صبية في سنها، وفي حالها. وكتابة الفصل القصصية، ومن بعده الفصول الأخرى و "الحكاية" جملة، تترتب على حالي التشبيه والتمييز، أو الحال المختلطة التي تعرّف زهرة في ابتداء امرها (الروائي) وأمرنا (أمر القارئ أو القراء). فزهرة، في حال الالتباس والاختلاط التي هي حالها، هي ما تقول، ما تبصر وتفهم وتؤدي، ويقرأه القارئ مكتوباً ويسمعه. وبداية قص زهرة هي نون المتكلم جماعة. والجماعة هي البنت وأمها المتخفيتان بالباب، والمرتجفتان معاً و (بديهة) جميعاً. والوقوف "خلف البابا" (ص 7)، وارتجاف الاثنتين، لا يستوفيان معية الجماعة. فهي معية تتعدى الاشتراك في الوقوف والارتجاف الى اتصال دقات القلب ونبض عرق الرسغ. وتستشعر البنت الواقفة خلف الباب، والمرتجفة خوفاً، دقات قلبها هي ونبض الدم في عرق رسغ امها، واحداً "مختلطاً" لا يتميز.ولكن الواحد المختلط دماً ونبضاً ينشق عن اثنين أو اثنتين: واحدة، هي الأم، تطبق على فم الأخرى، البنت، وتحول بينها وبين الوشاية بهما وبوقوفهما وراء الباب والاختباء به. والشقاق أو الانفصال هذا تنم به بادرة تحجز بين الولد وبين دنيا الناس وسمعهم على نحو ما يحجز الباب بينهما وبين دنيا تتستر الأم عليها، وتتخفى. وهي تريد ألا تفشي البنت، الخائفة والمرتجفة، على الملأ التخفي هذا. والحركة التي تقمع بها الأم صراخ البنت، أو بكاءها، تجدد البنت بها حبل سرتها ورابطتها بأمها، وتصل دمها بدم الأم ونبضها بنبضها. والفرق الذي توجبه وتجلوه اليد على الفم يمحوه الدم الواحد النابض في قلبين وجسمين، على ما يتراءى للبنت الفتية. والدم الواحد لا ينفي الروائح، وشمها وتمييز رائحة البصل من رائحة الصابون، ولا الإحساس ببياضها وسمنتها ودفئها.وما أرادته الأم قمعاً أو علاجاً لطفولة البنت، ولعسر إكراهها نفسها من تلقائها على السكوت، حملته البنت الفتية على حرارة الضم، و "العودة" الى جسم الأم: "وددت لو تضع يدها على فمي الى الأبد" (ص 7). والفم هذا، الفم الذي يحس دفء يد الأم وامتلاءها وبياضها، ليس الفم الذي تسكته الأم وتكرهه على السكوت، بل هو الفم الذي تدعوه الأم الى "اكلها"، وإلى الاستقرار فيها لا إلا وقت أو غاية. و "إلى الأبد" هو وقت رحمي وأمومي ترى البنت نفسها وأمها معاً فيه. وتكاد تكني زهرة عن الرحم هذه حين تقول: "كنا في ظلام الغرفة مختبئتين وراء الباب المشقوق". ومن شق الباب تأتي الجلبة ووقع الأقدام و "النور كله"، وتخرج الأشياء، وأصواتها وصورها وألوانها، من العماء الى الكون. ويخرج القص من الزمن "الأبدي"، ومن كناياته ولغته، الى زمن الحوادث الجزئية، وتعاقبها السببي ومعانيها المباشرة والمركبة. فتتم زهرة الفتية، والمفاخرة بتمييزها الضيعة من المدينة، إخبارها عما حصل بعد سماع الجلبة ووقع الأقدام، فتقول: "بحركة لا شعورية التصقنا بالحائط...". ودخول "اللاشعور" على القص الفتي، وعلى التباس جسم البنت بجسم الأم، ورغبة الأولى في "أكل" الثانية، والعودة الى رحمها، والقرار في أبديتها وليلها، ينحرف بلغة القص وكتابته عما بدا، طوال ستة أسطر، سوية أولى ومختلفة.فـ"اللاشعور" المفترض ليس في دائرة الألفاظ والكلمات التي تؤدي، وأدت للتو اختلاط نبضات قلبي الأم والبنت وخوفهما وإحساس البنت الصبية بروائح أمها وبياض يدها على فمها. ومعين اللفظة والمعنى ثقافة مدرسية وصحافية لم تبلغها البنت بعد، وقد يعزف القص عنها، ويتخفف منها، ما لم تضطره سياقة أخرى إليها. ولا تتعهد الثقافة هذه، ولا ألفاظها ومعانيها، ما ابتدأت زهرة قوله، ويصدر عن وجه يلابسه التشبيه والاضطراب والأحاسيس المختلطة. فنسبة الحركة الخاطفة والتلقائية، أو الغريزية، الى "اللاشعور"، أي الى نصاب نفسي لا تدرك الصبية الفتية منشأه، ويخفاها العلم به، هذه النسبة تقحم على قص الصبية ولغتها ما لا طاقة لها به، ولا حاجة إليه. وهي تحمل على لاشعورها، ولا شعور امها، الالتصاق بالحائط. فتخبر البنت عن لا شعور الأم حين موضع الخبر ليس "اختلاط" الواحدة بالأخرى، ولا رغبة البنت في امها، بل تأويل فعل خارجي وآلي. ولا تغفل زهرة غفلة تامة عن الأم. فتقول: "... وكان (أم كأن؟ و. ش.) الخوف قد انتقل إليّ عبر سلك غرس بزندها وزندي في آن". فبعد الاستعارة من المصطلح النفسي، اللاشعور، تستعير الراوية، وهي هي حالاً وسناً من المصطلح الوظيفي الطبيعي أو الفيزيولوجي. ويطّرح المصطلحان، على اختلافهما وفرق ما بينهما، البنوة والأمومة والتماس الجسم الجسم، وتوسلهما كلاهما بالظلمة والخوف والتخفي الى الاعتناق والاختلاط. فليست الحركة وحدها "لا شعورية"، على معنى آلية وخارجية، بل القلب كله, ونبضاته ودمه وعروقه، بمنزلة سلك أو كبكوب أسلاك تنغرس بهذا الموضع أو ذاك من جسم "صاحبه"، وتبث الدم في العروق، والدقات في القلب.وتقص زهرة ما نجم عن الجلبة ووقع الأقدام، وأثرهما فيها وفي أمها، والفرق بين ما كانا عليه، وصارا إليه. فقبل الجلبة ثم فتح الباب كانتا خلف الباب ترتجفان. وبعدها التصقتا بالحائط. وقبلها، أطبقت يد الأم على فم البنت. وبعدها، "هذه المرة" (وهي تجهر وقتاً آخر وتالياً)، "أصابعها... شدت على فمي". وإذا كان الإطباق (الأول) على الفم وصل النبض والدم الأموميين بنبض الولد ودمه، وأثار روائح الاستحمام وإعداد الطعام، وحمل اللحظة على الدهر والأبد، لم يعدُ شد الأصابع على الفم ملاحظة الخوف في صورته الفيزيولوجية، على ما مر. ويفترق الجسمان واحدهما عن الآخر وينفصلان. وتستقل البنت زهرة بضمير متكلم فرد أو مفرد، على خلاف نون الجماعة الاستهلالية: "وقفنا...". فالخوف، هذه المرة، انتقل "إليّ". وثمة "زندها" و "زندي"، و "أصابعها" و "فمي". وتتولى الراوية تعقب الأوقات، وقتاً وقتاً. فتُخرج "هذه المرة" من زمن مديد يتصل بعتمة الأمومة ورحمها، ويتطاول الى "أبد" مرسل. وتثنّي الخروجَ من اتصال الزمن وتدامج اوقاته، فتنتصب الصبية إدراكاً منفصلاً ومفارقاً، فتقول: "لاحظتُ ان دقات قلبي...". والإدراك المنفصل والمفارق "يلاحِظ"، من خارج ومن بُعد، اتفاق "ذوبان" دقات قلب الراوية، الفرد، و "موت" نبض يد الأم. وتعلل الأمرين بـ"شدة الخوف"."الرأس الكبير والسمين"وعلى هذا، انقلبت البنت من بنوتها الأنثوية والرحمية الهوامية الى إدراك نهاري، متميز ومنفصل. فتحضر الحركات والسكنات، ومعها الأشياء، على شاكلة موضوعات وأعيان: الأصابع محل اليد، والشد عوض الإطباق، والملاحظة بدلاً من السمع، والانتقال (انتقال الخوف) وليس الاختلاط، والتعليل (بشدة الخوف) على خلاف الاستغراق، والمسافات والأوقات على الضد من الاتصال. وتستوي الملاحظة "فهماً" ناجزاً مع دخول "النور كله" من الباب بعد فتحه، وإطلالة "الرأس الكبير السمين" منه، و "(تحديقه) في الغرقة". فتقول الصبية: "وما أن أطل الرأس... حتى فهمت سر الخوف وسر يدها المطبقة على فمي". وتمضي الراوية على قصها وخبرها، وسبر غور الأسرار التي فهمتها مع دخول النور والرأس والتحديق بالغرفة، ومع استوائها هي متكلماً فرداً.ويطل "الرأس الكبير السمين"، وهو سبقته جلبة خطوه وسبَقَه اقترابُه من الباب المردود، على نحو متوقع ومنتظر. فتتداعى النتائج، وتتناسل من "رأس" المقدمة، إذا جازت العبارة، أو من المقدمة الرأسية والأولى. ويعطف القول: "وما أن..." سبحة الوقائع التالية، أو الحوادث، على جملة وقائع أو حوادث سابقة تقوم من تاليتها مقام السبب والعلة. وجملة الوقائع أو الحوادث السابقة التي يعطف عليها قول "وما ان..." هي، على الترجيح، الجلبة ووقع الأقدام المتقارب. وصيغة "وما ان..." لا تعطف الحوادث التالية على الحوادث السابقة وحسب. فهي تحقق التوقع والاستباق كذلك، وتملأهما بما أرهصا به ونمّا نماً مناسباً ومطابقاً. فينبغي ان يكون "الرأس الكبير السمين" متضمناً في الجلبة ووقع الأقدام المقتربة من الباب المشقوق ومضمراً فيه وفيها، لتقع "وما ان..." موقعاً مناسباً وصحيحاً. ويتأتى التضمين والإضمار، إذا صحا وصدقا، من اختبار سابق تكرره المرة هذه. وهذا ما لا يلبث تعاقب الحوادث ان يلمح إليه إلماحاً غامضاً. فتروي زهرة الحادثة نفسها على النحو الآتي (ص8): "ويدها البيضاء لا تزال تشد على يدي بدلاً من فمي. خاصة عندما برز وجه ابيض عبر الباب الذي فتحه صاحبة نصف فتحة وتفرس في الظلمة ورآنا وما رآنا". والجملة الأخيرة هي العلامة أو التوقيع على هوية "الوجه الأبيض غير الباب". فهو "الرأس الكبير السمين" نفسه، ومن سبق في السياقة الأولى أن حدق في الغرفة، وهو "يرانا ولا يرانا".وإذا صح هذا، لم يفهم القارئ (هذه المرة) "سر" ارتجاف الأم والالتصاق "بحركة لا شعورية" بالحائط وموت نبضها، الخ. وهو قد يفهم أعراض البنت الصبية إذا حملها على السن، وعلى اشتباه افعال الأم، وكذب دعاويها حين رواية الحوادث على نحو يخالف شهود البنت إياها. فالرجل المقتصر على وجهه، ووجهه تارة "رأس كبير سمين" يشبه الثور (وهذه من القارئ وتخييله) وتارة "وجه أبيض" يشبه صورة أو رسماً متخلفاً عن حلم أو منام غارب (وهذه كذلك من القارئ) ـ الرجل المقتصر على وجهه جزء أو مرحلة من حوادث تنتهي الى دخول وجه آخر. وتقول البنت انها تعرف الوجه هذا: "وجه لرجل رأيته قبلاً يتكئ برأسه فوق حضن امي" (ص 8). ولا ريب في ان الأم تستبق في الوجه الأول، على صورتيه ووصفيه، الوجه الثاني الغارق في حضنها (و "الاتكاء" كلمة أو لفظة تؤدي معنى يُفهِم السياق خلافه أو غيره). فما مساغ ارتجافها وخوفها وموت نبضها وإطباق يدها أو شدها على فم بنتها؟وظهور الرجل الأول على شاكلة "رأس كبير سمين"، ومنقطع من جسم، في العبارة أو الصيغة هذه، يصبغه بصبغة أسطورية أو حكائية. وتضمّنه الصبغة معاني لا فكاك له منها (ولا فكاك للكاتبة الروائية). ومثل العبارة هذه، أو التمثيل، يستأنف قصصاً سابقاً يقوم منها مقام ميراثها ونسبها ومستودع وجوه دلالتها. فالرأس الكبيرة تصف الغول، الأنثى، في أخبار الشاطر حسن. ويقتل الشاطر حسن الغول ويحز رأسها، ورقبتها العريضة والرخوة، في طريقه الى عروسه. وبعض الشبه بأوديب في طريقه الى طيبة المطعونة (المصابة بالطاعون) وقتله التنين (الأنثى القاتلة كذلك)، قد يكون أحد وجوهه عظم رأس التنين (وجه" أبي الهول المصري الرابض بجوار الأهرامات). وهي حين ترمي بنفسها في الهاوية السحيقة والبعيدة القرار، يتحطم رأسها أولاً، وتتشلع جوارحها وتتناثر. ووصف الرأس بالسمنة، بعد الكِبَر، يعرضها للذبح والأكل، على ما هي حالها في حلم فرعون الذي يؤوله يوسف ابن يعقوب. وعلى ما هي حالها في عبارة "العجل المسمن" وذبحه، كناية عن غلاء مهر العروس، وعلو قدرها وكرامتها في عين عريسها وأهله. فلا يبخلون عليها بواسطة عقد قطيعهم أو مالهم.وبعض الحيوانية الأسطورية التي تحوط "الرأس الكبير السمين" تمر الى التحديق وتخالطه. فتحسب الصبية الفتية ان الرجل "صاحب" الرأس، "يرانا ولا يرانا". والوقوف في نسبة النظر، أو الرؤيا والإثبات، الى الحيوان، يصدر عن بديهة خُبُر إنسي وسائر. وهو قد يصدر عن اختلاط كلامي ولفظي تتولاه محاكاة ببغائية لبعض مناحي العبارة. فالرأس المجردة من خلقة ورسم إنساني تام، والمنذورة للذبح أو المتخلفة عنه، على ما بدت حال الرأس هذه (في القراءة)، قد تكون عمياء. وتجردها من الجسم، على رغم الأقدام التي يسبقها وقعها، يجللها بإيحاءات أسطورية مر الإلماح إليها. وعلى هذا، فالقول: "الرأس الكبير السمين يحدق في الغرفة"، يجمع الوجه والمعنى الأسطوري الى الوجه الوصفي والعملي الفوتوغرافي. وهو يتنقل بين الوجهين أو المعنيين، ويخلط بينهما، ويمر بهما مرور الكرام. فقد تترتب "يرانا ولا يرانا" على حيوانية الرأس الأسطورية. وقد تترتب، من غير ترجيح، على وصف نفسي وبوليسي للرجل الذي قد يكون حاجباً أو حارسا او بواباً. وفي الحال الأخيرة، يبدو استبقاء القص الرأس المنقطعة من جسم، والطواف بها على باب مغلق، ونسبة التحديق إليها، والوقوف في إثباتها ما ترى ـ يبدو تخليطاً وعشواً وخبطاً. فهو يُدخل وجهاً في وجه آخر مختلف. ويفترض الوجهين متصلين، متآلفين ومتضافرين.فهم الأسراروترجع زهرة من رواية الاختباء والارتجاف والخوف في الغرفة الى "السرين" اللذين فهمتهما، "سر الخوف وسر يد (الأم) المطبقة على فمـ(ها)". وتجلو السرين وفهمهما، وتستدرك على الفهم فتقول انه "مهزوز". ويَغمُض على القارئ مأتى الصفة وأصلها: هل هو الصبية التي لم تبلغ العاشرة ام هو الكاتبة؟ فبعض القص يحاكي الصدور عن الصبية و"فهمها" ولسانها. وهو يميل الى أداء حسي وعضوي، وإلى أخيلة بعضها مثقل بالكلام العامي وأصدائه وتداعياته. وبعضه الآخر، على شاكلة "اللاشعور" و "المهزوز"، وانتقال الخوف "عبر سلك غرس بزندها وزندي"، معينه لغة مدرسية وصحافية متثاقفة وسائرة. ويدعوها جلاء السرين الى قص ما كان من الأم قبل خروجهما من البيت وقصدهما، تمويهاً، عيادة الدكتور شوقي، حيث يوافي الأم صاحبها. والإعداد لزيارة العيادة المزعومة، على ما ترويه زهرة، ينقل القص الى مسرح حركات وسكنات يومية ونهارية. ولا تُغفل الراوية، في المعرض الجديد، لا لون البنطلون، ولا قماشته ونسيجه، ولا حياكة الكنزة الخضراء بالصنارة. وضَفرُ الشعر يرافقه غمس المشط في كأس ماء، على ما كان يصنع أهل الريف وأهل المدينة التقليديون والمقيمون على سنن قديمة. والتذرع الى ترك البيت بعيادة الطبيب، في "كل مرة"، على قول الصبية الفتية، ينبه الى اعتياد الأم، واعتياد البنت الحيلة هذه، والى انطلائها على الأب الى حين.وتمتحن الحيلة تمييز البنت. فهي تسمع امها تحذرها، "بصوت عال" أسمعَ والدها ما تريد الأم إسماعه إياه، (من) معاندتها حقنة (إبرة) الطبيب، وتتوعدها بالضرب. وتزدوج البنت الفتية: فتسمع الآن، حاضراً، ما تقوله الأم في العيادة والطبيب والحقنة والمعاندة، وتحاول ان تتذكر وتتحقق من الحقن، ومن صدق رواية الأم أو كذبها. والحق ان هذا ما تقصه زهرة، وتقوله علناً، ويستوفيه قولها. فهي سرعان ما تخلص من "محاولة" التذكر، في منتصف السطر، الى إثبات بطلانه ونفيه في مطلع السطر التالي: "ولم أتذكر". واختصار "المحاولة" الى تعاقب على هذا القدر من القرب فلا تكاد (المحاولة) توجَب حتى يقفّى عليها بالنفي والإنكار، يُفهِم ان السؤال المضمر: هل حقنها الدكتور شوقي ("إذا كان الدكتور شوقي قد حقنني")؟ إنما هو صوري وخطابي، ولا يؤثر اثراً قصصياً أو كتابياً. وعلى حين يستعيد البنطلون أطوار لونه (الكحلي) ومادته (من الصوف)، وتجدد الكنزة ذاكرة لونها (الأخضر) وصنعها (الحياكة بالصنارة)، ويضفر الشعر بغمس المشط في الماء ـ فيأتلف من هذا رسم مشهد نمطي على شاكلة لوحات "الأوبيسون" أو اللوحات المرسومة بخيوط الصوف ـ تذوي محاولة التذكر في أداة أو حرف نفي جاف وقاطع. فتخرج الراوية من التخمين، وتُخرج قارئها معها وتسوقه سوقاً الى الخروج.ويترتب الخروج والإخراج على فهم الراوية السرّين، وغيرهما من الأسرار. و"فهمهما" القوي ينفذ الى ما وراء الظاهر، ويلم بما قبله وما بعده. فيتهاوى الظاهر سافراً عن مقاصد الفاعلين ونواياهم من غير بقية تعصى التمييز. ويشف مسرح الظاهر هذا، من طريق مشاهد أو "لوحات" رسمت أو نسجت على منوال حرفي ونمطي معروف، عن قاع قريب من "الأسرار" المعروضة على "النور كله". فإذا ألمّ القص بأحوال أو عبارات، أو بمزيج من الاثنتين على ما هي الحال غالباً (على مثال "الرأس الكبير السمين")، واعترضته الاحوال والعبارات هذه، وحرفته عن المشاهد واللوحات المفرطة المسرحة، لم يختر (القص) وجهاً من الوجهين، ولم يسعَ في شبكهما شبكاً مركباً، ولم يُعمل وجهاً في وجه. وعلى خلاف الاحتمالات والجوازات هذه، وهي ثمرة تجريبية واختبارية من ثمرات أعمال القص وأفعاله، يترك القص (في الجزء الذي تتناوله الملاحظات من "حكاية زهرة") الحبلَ على الغارب للجوار بين ضروب التناول وأنواعها، ويتنقل بين منازع العبارة ويسلكها في سلك يخيّل واحداً. وترصف الطباعةُ المنازع المتفرقة والمتناثرة رصفاً متصلاً، على شاكلة توالي السطور والفقرات والصفحات والفصول. ويحمل ضمير القاص المتكلم، أو ضمير الغائب، الحوادث المروية وأصحابها، على سياقة واحدة. ويعطف الرصفُ الطباعي، ونسبة القص (وضميره) الى صاحب يفترض جامعاً واحداً، أوقات ما يقص بعضها على بعض، ويجمع فصول قصة في أطوار يولد بعضها من بعض، ويعقل بعضها في ضوء بعض.ويتأتى هذا من قراءة تطرح، بدورها، الظاهر وصفحته، أو صفحاته المرئية والمسموعة والمقروءة والمحسوسة، وهي المعاني التي تقترحها الكتابة على القراءة والقراء. وتطّرح القراءة صفحات الظاهر، ومعاني الصفحات البادية والمقروءة، و "تتخطاها" أو تتجاوزها الى بؤرة روائية مشتركة. وينعقد على البؤرة الروائية المشتركة والمفترضة هذه، وعندها، قصٌ يؤلف من فوق ومن خارج بين احوال وعبارات ومنازع متفرقة ومتناثرة، وقراءةٌ تفترض التأليف هذا افتراضاً، وتلتمسه فوق المرويات وخارجها ووراءها. وعلى هذا، فلا القص الناجز الذي يقترحه صاحبه، "الروائي"، هو ما يكتبه الكاتب فعلاً، ولا هو (القص) ما يقرأه القارئ. فالبؤرة المشتركة تقوم فوق "العمل" المقترح وخارجه ووراءه على ما سبق القول للتو. ولعل سداها ولحمتها الجامعين، وما تتماسك به البؤرة هو تسليم الكاتب والقارئ، أي الكتّاب والقراء، بمثال روائي ثقافي مشهور ومتعارف يتعالى عن الكتابة والقراءة، وعن الاختبار، معاً. والمثال المبطن والمضمر، وهو ثمرة الرواية الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، يقاس عليه قياساً مرسلاً وغير مقيد. والحق ان المثال الذي يقاس عليه ليس كتابياً. فليس مداره أو مبناه على الأعمال المكتوبة، أو على تداولها ومناقشتها في ضوء صيروراتها وأطوارها وتجاربها. والتداول والمناقشة في ضوء هذه لا يستقيمان من غير إلمام دقيق باللغات الأصلية، أو من غير نقل وترجمة يستوفيان شرائط النظير والشبيه، ويدرجان المنقول والمترجم في تراث اللغة واستعمالاتها.وانتفاء هذا كله يقود، على سبيل الاطراح من وجه وعلى سبيل التخمين المرجّح من وجه آخر، الى التماس المثال المبطن والمضمر في غير الرواية الغربية. ولا يقودنا هذا بعيداً. ففي جوار الرواية الغربية، نبتت فروع كثيرة وتناسلت الى اليوم. ونشرت الصورة، الصناعية، الفوتوغرافية والسينمائية والتلفزيونية والرقمية، الفروع القصصية في المجتمعات من غير تفريق، على شاكلة الأفلام والاسكتشات والأشرطة المتحركة والمسلسلات. وتستبقي الفروع القصصية من المثال "الكبير" ما يسع الرصف الطباعي ونسبة القص الى ضمير واحد جامع وعطف الأوقات بعضها على بعض، الاضطلاع به. ولعل أول ما يترتب على المثال الفرعي، وعلى اقتباسه على الصورة التي اقتبس ويقتبس عليها، التخفف من مباني الكتابة، ومن إكراهها الكاتب على شبك وجوه القص والأحوال والعبارات، شبكاً مركباً، وإعمال الوجوه هذه بعضها في بعض. فيصنع هذا مثالاً أو فناً جديداً. ولا تستوفي مقارنته بمثال "كبير"، رابطته به ضعيفة على رغم مزاعمه ومزاعم اصحابه، صفته. فهو ليس "أقل" من المثال "الكبير"، ولا مقصراً عنه، بل هو شيء آخر، وينتسب الى أصلاب ومصادر أخرى، ويركض في ميدان غير ميدان الرواية. وتواضع الكتّاب والقراء على المثال الفرعي قرينة على اشتراك الفريقين في الصدور عن ثقافة (فرعية)، حصةُ الكتابة ومبانيها منها ضئيلة. وأحسب ان الملاحظات السريعة والابتدائية هذه مدخل الى معالجة مسائل أخرى عريضة مثل التأريخ للأعمال "الروائية" عموماً على غير وجه الموضوعات والمعالجات، والإشاحة عن تناول الكتابة الروائية ومبانيها، وعسر وصف المباني هذه، والرضوخ لانقطاع الرواية من تراث القص، وتعليق مسألة التراث في حقول القص. والمسألة العريضة التي تتصدر المسائل هذه ربما هي محل "الأدب" الروائي من "الثقافة العربية".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق