الخميس، 18 يونيو 2009

ثورة المخمل» المعتدلة والانتخابية تَهدّدت مراتب الأوليغارشية الحاكمة فَقُمعت


الحياة 16 يونيو 2009
عشية انتخابات ايران الرئاسية حذر أحد أبرز مفوضي الحرس الثوري السياسيين، وليس أحد جنرالاته العسكريين، المدعو يدالله جواني الناخبين الإيرانيين من اجتماعهم على «ثورة مخملية» على النظام الخميني الحاكم، ومن إطاحتهم النظام بينما هم يقترعون في انتخابات مشروعة يتولى النظام نفسه، هو وهيئاته وأجهزته الأمنية والإعلامية والإدارية والسياسية، إعدادها وتأطيرها والإشراف عليها. وفي معرض شرحه ما يعنيه بثورة مخملية، تناول رئيس المكتب السياسي الحرسي تفصيلاً عارضاً وثانوياً هو اختيار حملة المرشح مير حسين موسوي، المتحفظ الإسلامي (أو نظير يمين الوسط الإسلامي الخميني)، اللون الأخضر شعاراً للحملة. ولكن اللون الأخضر الحسيني، أحد لوني عمائم أهل البيت مع الأسود الموسوي ولون «الربيع»، ليس محل اعتراض أو انكار الجناح الحرسي من الطاقم الخميني الحاكم. والثورات الملونة ليست كلها مخملية، على المعنى التشيكي الذي طوى السلطة الشيوعية على تشيكوسلوفاكيا (سابقاً) في 1989.
فما يريده أو يعنيه المفوض السياسي والفكري والاعتقادي بثورة مخمل ايرانية محتملة هو خروج الناخبين، وعلى وجه الخصوص منهم الشبان والشابات والطبقات الوسطى المدينية وأهل الخبرات المهنية والثقافية ومتنورو المعممين والطلبة، خروجهم من اطار الاختيار الانتخابي المقيد الى استفتاء رأي. وعلى رغم ان استفتاء الرأي هذا ليس حراً، فاليد العليا في استبقاء المرشحين أو أطراحهم واستبعادهم هي يد طاقم النظام الحاكم، وسع جمهور المرشح موسوي نفخ حياة سياسية واعدة في مرشحه الباهت والبطيء والصامت طوال عشرين عاماً من تاريخ ايران المعاصر والمكبل.
فمير حسين موسوي «ورث» ترشحه من محمد خاتمي. وكان هذا، في أثناء ولايتيه (1997 - 2005)، رجل الناس و «المجتمع المدني» في وجه أهل المناصب والقوة والقمع. وهو عزم على الترشح قبل نحو شهرين، ولكنه أحجم وأمسك خوفاً من الترهيب والتهديد بالاغتيال، واحتساباً لتقدم حظوظ موسوي الراجحة بالفوز، نظراً لعلاقاته الواسعة بأوساط المحافظين المتعقلين والمعتدلين ولحظوته عند مساعدي خميني ووارثي نظامه وسلطاته. ويرجح مراقبون كثر أن موسوي، وهو رئيس وزراء روح الله خميني «الأول»، يوم كان علي خامنئي رئيساً للجمهورية وكانت السلطة التنفيذية مقسومة في رئيس جمهورية ورئيس وزراء، ما كان ليترشح، ويخرج من عزلته النسبية واقتصاره على شورى خامنئي، لولا رغبة خامنئي في احياء الحملة الرئاسية وبث الروح فيها. فلو بقي أحمدي نجاد، أو أحد حملة لواء الخمينية الرسميين، المرشح الراجح الوحيد، لغطت الحملة في سبات عميق، واسترسلت في رتابة رمادية فضَّت عنها الناخبين الإيرانين وصرفتهم. و «الثورة»، أو السلطة القاهرة والموزعة في هيئات الحكم المؤتلفة والمركبة لا تزال تحتاج الى التعبئة والمبايعة الشعبيتين. وذلك تسويغاً لزعم طاقم الحكم التحدر من قيام الإيرانيين، قبل 30 عاماً، على الإمبراطور البهلوي، ومن إجماعهم يومذاك على وجه الثورة ورائدها.
ويقتضي التسويغ، اليوم، شأنه في أوقات الأزمات والاستنقاع التي ينفض فيها الناس عن الطاقم الخميني المتهافت والقاصر والفاسد، التلويح باحتمال منافسة حقيقية بين مرشحين ليسوا فقط ممثلي الأجهزة أو ألسنتها. وهؤلاء، ليسوا على شاكلة محمود أحمدي نجاد وعلي لاريجاني ومحسن قاليباف وعلي أكبر هاشمي رفسنجاني ومحسن رضائي، يؤدي انفرادهم بالمسرح السياسي الى اظهار خواء وفاض السلطة وطاقمها من تأييد الناخبين، وضعف تمثيلها (وتمثيلهم) العددي والإحصائي جمهور هؤلاء. ولا يخول انقسام طاقم الحكم، وائتلافه من أجنحة وكتل متباينة تلحم بينها نواة علمائية وعسكرية قومية وعامية (شعبوية)، لا يخول الانقسام هذا طاقم الحكم حشو صناديق الاقتراع بـ 97 في المئة من الأوراق التي تحمل اسم زعيم أوحد و «أبدي» على شاكلة الحاكم العراقي السابق وزميله السوري اليوم وبالأمس.
ومن الشق هذا أو الثغرة هذه، أي كثرة كتل السلطة واضطرارها الى التحكيم، تخرج ثورة المخمل، أو يخرج خوف أهل الأجهزة الخمينية الحاكمة منها. فالثورة العتيدة تحصل سلماً، ومن غير قصد من أصحابها، وفي ظل الهيئات والمؤسسات والقوانين الغالبة والمسيطرة، وفي أثناء أداء الهيئات وظائفها. ولعل ثورة المخمل الأولى التي يعرفها المفوض السياسي الحرسي جواني من قرب، هي انتخاب محمد خاتمي المفاجئ في 1997، وعلى مقدار أقل تجديد ولايته في 2001. فالرجل حظي، شأن مير حسين موسوي اليوم، بتزكية مجلس الوصاية على الدستور، الهيئة التي تتولى دور المصفاة، أو الحاكم المتعسف في مطابقة المرشح معيار المنافسة والتزامه قيود النواة الخمينية عليها. وهذا قرينة على انضوائه في النواة. وهو رضي به المجلس العتيد، حيث رأي المرشد راجح في الأحوال السائرة، استدراجاً للناخبين المتحفظين أو الصادفين يأساً وقرفاً، شأن «مرشح» خاتمي اليوم. ولكن تخطيه دوره هذا، أي الاستدراج والترغيب، وتجاوز المهمة الداخلية الى تعبئة دوائر عريضة من الناخبين العصاة على أطر النواة الخمينية العلمائية والحرسية القومية والإدارية (المالية)، هذا التخطي هو ما يخشاه المفوض السياسي والحرسي، ويسميه ثورة ملونة. وهذا كناية عن يد «أميركية» مزعومة يعزى اليها خروج المواطنين عن التزام حدود الهيئات المرسومة والمقدرة. وكان «أمير» الحزب الخميني المسلح (في لبنان) ذهب، في 8 آذار (مارس) 2005، على ما سمي من بعد تكتل الحزب وملحقاته، الى استحالة ثورة ملونة، برتقالية، لبنانية، أي الى الخروج على السيطرة السورية من باب الانتخابات.
وعلى هذا، فالهيئات النظامية، وأولها هيئة الإرشاد والولاية الفقهية ومجلس صيانة الدستور، متنازعة بين دورين، دور رعاية «الإجماع» الشعبي والجماهيري على النظام، ودور حماية النواة الصلبة الحاكمة، والمستأثرة، من القوى العريضة التي لا تتفق مصالحها ورغباتها الجزئية والعامة مع مصالح النواة وحاجات أنصار أطرافها (أطراف النواة الحاكمة). ولعل التنازع هذا، وهو رافق العقود الثلاثة الماضية من تاريخ الخمينية في ايران وخارجها، هو السبب في تلازم وجهي الخمينية، المنفتح (المتعدد) والحر والمنقبض والمستبد، وفي انقلابها من وجه الى آخر وترجحها بين الوجهين.
وبنية المؤسسة السياسية هي مرآة التنازع والتقلب هذين. فتتولى هيئات الرقابة والوصاية اخراج قلب الولاية الخمينية، العلمائية والحرسية، وهويتها الإيديولوجية والسياسية والاجتماعية، من التنازع والخلاف والمناقشة. وهذا معنى تنصيب هيئات أو مراجع غير منتخبة فوق إرادة الناخبين، وإفتائها سلفاً في من يحق له الترشح، والاحتكام الى اختيار الناخبين تالياً، وفيمن لا يحق له. وهذا نظام حزبي «بلشفي»، وينطوي على وجه من وجوه العائلية أو العشائرية المافياوية والإخوانية الصوفية. فهو يوكل الى نواة ضيقة من الأفراد يختار بعضهم بعضاً في ميزان معايير مشتركة، ويتوالد بعضهم من بعض، حماية أركان النظام، المعنوية والشخصية، من آراء العوام وأهوائهم وانقيادهم المحتمل الى من يوهمهم باستقامته. وأساس التمييز بين أهل الولاية والعلم والإيمان وبين أهل الأصنام والزيغ والظاهر أصل أو مبدأ اسماعيلي يرتب الناس على مراتب من «العلم» والفهم لا مقارنة بينها ولا قياس. والإكثار من النسبة الى الألوهة، ومن إطلاق صفة «الإلهي» أو «القدسي» على الخسارة العسكرية المحدودة، أو على احتساب اصوات الاقتراع المبكر والمتسرع، أو على عدد أجهزة الطرد المركزي، أو على عثرة الأعداء - هذا الإكثار مصدره إرادة عزل نواة النظام المستبد وركنه من المحاسبة والمناقشة ومن اقتراع العوام «الجاهلين». ويضمر أو يعلن هذا تقسيم الإيرانيين (واللبنانيين والفلسطينيين والعرب) طبقة أولى، هادية ومهدية، وطبقة دنيا تتولى الطبقة العليا، من المرشد وبطانته ومجالسه وعماله الى قواعد الباسيج والباسدران وبينهما الأجهزة و «كوادرها»، الاستيلاء عليها وقيادتها وتنظيمها وتجديدها.
فالانتخابات، عموماً، ينبغي ألا تتناول صلاحيتها، أي صلاحية رأي الناخبين، نواة «الثوابت»، على قول «سوري» أسدي. فلا يترك إلى الإيرانيين، من الجمهور والعوام والضعفاء (ديناً وموارد معيشة وعمل) و «أشرف الناس» على القول الديماغوجي المعروف والشائع، البت في الأمور «العظيمة» و «الكبيرة» مثل من «يدير» البلد، وكيف يحكمه، وما يليق بالإيرانيين فعله أو لا يليق، وكيف يتنازعون أو يتفقون، وما هي معايير التحكيم في منازعاتهم وهيئاته، وما هي معايير احلافهم وسلمهم وحربهم، وغيرها من المسائل. ففيها كلها ثمة مدونة أجوبة وعلم سابقة وثابتة. والأجوبة «العلمية» مستودعة في المرشد ودائرة اصحابه ومن يرون رأيه ويرى رأيهم. والمرشد ورجاله هم مستودع العلم المكنون هذا. وعلى الناس ان تنتخب، اي ان تدلي بصوت مقيَّد لا يتخطى «ألوان» الدائرة، على ان يقتصر الفرق بين هذه الألوان على اقل القليل ما أمكن، بناء على عزل دائرة المسائل، ودائرة الطاقم الحاكم، عن المحاسبة والمداولة.
وهذا شأن السلاح الذري، والصناعة النووية، في العقيدة السياسية الخمينية والخامنئية، العلمائية والحرسية. فما لا يكف الطاقم الحاكم عن ترديده هو ان التخصيب خارج المناقشة والمفاوضة، وهو موضوع «طوي»، على قول أحمدي نجاد «المنتصر». وهو وسيادة ايران وكيانها ودينها، واحد لا يتجزأ ولا يتعدد. وهذا ما يقوله الحزب الخميني والشيعي المسلح و «المدني» (بلبنان) في سلاحه و «مقاومته» وأراضيه الإقليمية ونوابه ووزرائه وحلفائه وموظفيه و «موازنته».
وهو ما تقوله «حماس» في «مقاومتها» وصواريخها وقوتها الأمنية ومعازلها الغزاوية. فالسلاح، والمنظمة العسكرية المسلحة والكتلة الأهلية التي تحوط البنية العسكرية وتحميها بنفوسها وباستعدادها للموت في سبيلها، هو على الدوام «خارج النقاش». فهو وسيطرة نواة الطاقم الحاكم في الدولة أو في الجماعة متلازمان ولا ينفصلان. وعلى هذا، ينبغي ان يبقى بمنأى من مناقشة الداخل، على نحو ما يصر الحكام على أنه بمنأى من مناقشة المجتمع الدولي، ودوله المستكبرة والمستضعفة على حد سواء. وطلب المناقشة، أو الحوار على قول اللبنانيين المهذب والحيي، إذا صدر عن الداخل، فهو قرينة على عمالة الداخل للخارج المستكبر والإمبريالي. وإذا صدر عن الخارج فهو قرينة على تواطؤ الاثنين، وعلى سعيهما في تقويض الثورة. و «ثورة المخمل»، على المعنى الحرسي، هي شعار التواطؤ المزعوم هذا.
وتوحيد كلا الخارج بالداخل والداخل بالخارج يعقل في ضوء مقاصد النظام السياسي أو البنية السياسية والاجتماعية التي تتعهدها السيطرة العلمائية الحرسية. فلا تستقيم هذه السيطرة إلا بتأليب العوام وتكتيلهم وراءها وتحتها. ويقتضي التأليب، ودوامه، استتباع العوام أو جعلهم أتباعاً للنواة المستبدة والمستأثرة بالسلطة على النفوس والجوارح والعقول. وفي اثناء ولايته الأولى رشا احمدي نجاد نحو 4 ملايين شاب وشابة تزوجوا في الأثناء، وأمر المصارف بتقديم «منحة» لهم من غير شروط تسديد. وكان توزيع أكياس البطاطا من عناوين حملته الانتخابية. ومحاولته زيادة الرسم على محروقات السيارات، قبل نيف وسنة، إجراء أراد به الأخذ من متوسطي الحال والميسورين، «أنصار» خاتمي وموسوي وقبلهما وبعدهما ربما أنصار رفسنجاني، والتخفيف عن مالية عامة غرضها الأول إعالة أنصار النواة العلمائية والحرسية. وتلبس الإعالة هذه لباس المنح والهبات و «الصناديق»، على شاكلة صندوق الجنوب اللبناني، وشاكلة المساعدات الحمساوية. وهي غير منتجة وليست استثماراً مجزياً ذا عوائد، وتؤدي الى إفقار الفئات المتوسطة والعوام والدولة (والمجتمع) عموماً. ولكنها شرط ضروري لتثبيت الطغمة أو الأوليغارشية الحاكمة، وإرساء سيطرتها على المعدمين والمحرومين وأهل الضعف وشراء ذممهم. والصناعة النووية عامل آخر في تثبيت الطغمة وسيطرتها. فهي عنوان الحرب على الداخل والخارج، وعلى «تواطئهما» المفترض على سيادة ايران وكيانها.
فلما تهدد ناخبو مير حسين موسوي، وهم ناخبوه وناخبو حليفه المعلن خاتمي وحليفه المستتر ربما رفسنجاني، مرشح الثورة العلمائية والحرسية، بدا التهديد هذا إيذاناً بتصديع اللحمة الإيديولوجية والسياسية والاجتماعية التي تلحم بين أجنحة الأوليغارشية الخمينية ومراتبها. فثار الحرس الثوري، من قبل ومن بعد.
وكان سبقه أخوه اللبناني. وهو اليوم في صدارة المهنئين بانتصار الثورة، الى «حماس» والرئيس السوري.

ليست هناك تعليقات: