الجمعة، 5 يونيو 2009

الاحتكام الى الناخبين اللبنانيين في ختام حملة دامت 4 سنوات: تعمّد تقويض مشروعية الدولة


الحياة -02 يونيو 2009
تحتكم كتلتان سياسيتان وأهليتان كبيرتان، في 7 حزيران (يونيو) الوشيك، الى الناخبين اللبنانيين. وموضوع الاحتكام هو إقرار الانعطاف الذي نجم عن اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط (فبراير) 2005، وجمع كثرة أو غالبية سياسية في 14 آذار (مارس) من العام نفسه، أو العودة عن الانعطاف هذا. وأثمر الانعطاف، الى الكثرة النيابية التي نسبت الى «14 آذار» وخرجت من الاقتراع في أواخر ربيع العام ذاك، جلاء القوات السورية عن الأراضي اللبنانية. وخرجت مع القوات السورية، المتبقية من 30 ألفاً، قيادة الاستخبارات، أو الرصد والاستطلاع، التي تولت طوال ثلاثة عقود تامة الوصاية السياسية والأمنية على الدولة اللبنانية وهيئاتها، وعلى شطر عريض من المجتمع اللبناني. وفي غضون الثلاثين عاماً من سطوة الاستخبارات السورية، في شراكة مع المنظمات الفلسطينية المسلحة طوال أقل من عقد «رسمي» ثم منفردة، قام «الحكم» على الفصل بين إدارة «مدنية» تقاسمتها الجماعات المحلية فيما بينها ومع الدولة أو الإدارات الرسمية، وبين إدارة سياسية أمنية تولى قراراتها «الكبيرة» جهاز سوري - لبناني مركب، وعاد البت فيها، في نهاية المطاف وفي أوله، الى المرجع السوري وأعوانه المقربين.
وخلف الفصل النسبي والجزئي بين إدارة مدنية، تولى رفيق الحريري معظمها على شرط تلبية احتياجات موالي «الشام» وصنائعها، وإدارة سياسية أمنية تولاها المرجع السوري، وولى هو وكـــلاءه بعضها، خلف علاقات بالحكم والحكومة والدولـــة هي من غرائب فن السياسة وعجائبها. وبناء على الغرائب والعجائب هذه، عهد الوالي السوري بالمرافق المدنية، من إعمار أو «إعادة إعمار» وإنتاج ناتج داخلي وتوزيعه عوائد وأجوراً وريوعاً بالعملة المحلية أو بالدولار، الى رجل أعمال لبناني - سعودي مقتدر وخبير. وجاء هذا إقراراً بقلة دراية طاقم الحكم في دمشق وملحقاته المحلية بشؤون الإدارة المدنية والاقتصادية والمالية، من وجه أول، وقرينة على رغبة طاقم السلطة هذا، من وجه آخر، في استدراج «العرب» وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية الى الاستثمار في لبنان، ورعاية استقرار العملة الوطنية، بينما تنصرف السياسة السورية، ومن ورائها سندها الإيراني المغرض، الى إدارة العمليات والمناوشات على المحتل في الأراضي اللبنانية المحتلة، أو ما سمي «حرب التحرير».
وكان على الوكيل المدني اقتسام مرافق إدارته مع وكلاء المنظمات الأهلية المسلحة، وحلفاء المرجع السوري الأقربين. فوُلي مفوضو «أمل» وزارات الإسكان والطاقة المائية والكهربائية والأشغال والزراعة والصحة، وهي أولى وزارات الخدمات، مداورة مع بعض الحلفاء وعلى التوالي. وخص مندوب «الحزب السوري القومي - الاجتماعي» بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية أعواماً طويلة، بعد ان مر بالوزارة العتيدة مفوض منظمة لبنان في حزب البعث العربي الاشتراكي. وهي وزارة خدمات كريمة. وذهبت الاتصالات غالباً الى رجل مقرب من رئيس الجمهورية. وأوكل بالوزارات «السياسية»، مثل الداخلية والخارجية والتربية والدفاع، والعدل والإعلام في أحيان كثيرة، الى بطانة الرئاسة المفترضة. وهي من أخصاء المحاسيب على المرجع السوري وفروع بطانته. واقتصرت «حصة» رئيس الوزارة، وهو من تسميه كثرة النواب في استشارات «ملزمة»، على وزارات المالية والاقتصاد والعدل (في بعض الأحيان). وازدوجت بعض الإدارات، مثل الأشغال والطاقة. فعهد بأعمالها الى مجلس الإنماء والإعمار. وهذا من صلب الوكالة المدنية ونواتها، شأن المالية. وخص زعماء الجماعات الأهلية البارزون بـ «صناديق» إنفاق على أهل العسر من ناخبيهم. و «أعفي» الحزب الخميني من التوزير، إرضاء للشريك الأميركي غير النزيه، وتخصيصاً للحزب بالتحرير النظيف. وكان لسان الحزب المسلح يقول ساخراً انه ترك «الطحين والمازوت» الى الحكومة، وأما السلاح فزينة السياسيين الرجال من امثاله. وفي الأثناء، كان يُقتل المتظاهرون لأجل الطحين والمازوت، ويُنسب قتلهم الى «الحكومة»، أي الى رفيق الحريري. وأدى فن الساسة السوريين الرفيع الى موازنة بهرت دقتها ومهارتها مخبري الإعلام المحلي ومعلقيه. فأُدخل الوزارات المتعاقبة والمتشابهة، والموسعة على الدوام فلا تقل عن 30 وزيراً، وكلاء الكتل النيابية كلها. والكتل هذه سبق احتساب ثقلها وعديدها إجراء الانتخابات نفسها. فإعداد اللوائح يقوم مقام مجلس صيانة الدستور الإيراني، ويستبعد من لا يأمن ويقرِّب من يتوسم فيه الامتثال. ورابطُ الوزير بكتلته شكلي. فهو لا يدين بوزارته، وخدماتها العامة والخاصة، إلا الى ولي نعمته. فوسع الوزير، في اثناء ولايته، الصولة والجولة بسيف مولاه، وانتهاج «السياسة» التي يرى ويراها له من ندبه. ولا يلزمه هذا بسياسة حكومة، أو مجلس وزراء «مجتمع» - قتل نحو 160 ألف لبناني وجرح وعوق 250 ألفاً في سبيل توليه (تولي مجلس الوزراء الذي يرئسه مسلم سني وعروبي مفترض) الحكم مجتمعاً، على ما ينص الدستور «الجديد». والمشاركة في الحكومة ليست دليلاً أو حجة على الموالاة، ولا على المعارضة. فاللفظتان، في فن السياسة السوري و «قانونها» في لبنان وعليه، لا ترتبان لا ولاء ولا تضامناً ولا التزاماً ولا قيداً. وحين دخل سليمان فرنجية، أحد أعيان موارنة الشمال و «صديق عائلة الأسد» على ما يعرف نفسه، وزارة رفيق الحريري الثانية، كان أول قوله انه لم يكف «معارضاً».
وتفسير الغرابة هذه هو ان الحكومة اللبنانية، في «العهد» (غير المسؤول) السوري، ليست هيئة سياسية متماسكة ومسؤولة، ولا شأن لمجلس نيابي تشريعي ورقابي، بها. وفي مستطاع من شاء أو قدر انتهاج «سياسته» أو «سياسة» أهل الحول والطول. ومن نتائج القسمة الكاريكاتورية والمأساوية هذه، ان بيضة القبان في السياسة اللبنانية، وهي الحزب الخميني والحرسي المسلح (وأعماله العسكرية وتسلطه على أراض لبنانية وجماعات، وأحلافه...)، بقي طوعاً خارج الحكم الظاهر والحكومة والإدارة، واستقل بجيشه وتسلحه وأمنه ورعاياه وولائه وعداواته، من غير حسيب ولا رقيب. وإذا به، على رغم استنكافه، إطار السياسة الوطنية والعامة، والقاضي في السلم والحرب، وفي الاقتصاد والمال والأمن والعدل من طريق السلم والحرب، من غير ان يتولى وزارة واحدة. وهو حمل حملاً على (طلب) النيابة، غداة اتفاق الطائف (1989) الذي رفضه. وقبوله (طلب) النيابة استجاب رأياً سورياً هو الاحتجاج بالتكليف الشعبي والديموقراطي، والتوسل به الى رد الاعتراض الأوروبي والأميركي المتوقع على صفة الحزب. وطمأن الساسة السوريون مفاوضيهم الأوروبيين والأميركيين الى فصل الوزارة، والمسؤولية السياسية العلنية، من النيابة. وهذه محل ازدراء يشترك فيه «السيّدان» السوري والإيراني وفروعهما وأذرعتهما. وتولي المنظمة الأهلية السرية والمقاتلة المناصب الوزارية علناً هو من نتائج الجلاء العسكري والأمني الجزئي عن الأراضي اللبنانية. فالجـــلاء حمـــل القـــوى السياسية المتفرقة، تلك التي أقامت على وفائها لساسة دمشق وتلك التي قامت على سياسة هؤلاء الساسة، على السعي في المطابقة بين التمثيل النيابي وبين الثقل السياسي الرسمي. والمطابقة هذه هي على خلاف فصل المدني والإداري الإجرائي من السياسي والسيادي. وهي من مصلحة الكتلة الاستقلالية والسيادية الوطنية التي ولدها القيام على اغتيال الحريري. واضطر الحزب الخميني المسلح إليها اضطراراً. ولكن المطابقة تخالف السنن والتقاليد السورية في الحكم. فهي تفترض الاضطلاع بالمسؤوليات، والمحاسبة. وتفترض، أولاً، وحدة الدولة الوطنية، على الضد من التستر السوري، وإلقائه التبعة عن الحرب والتردي الاجتماعي والاقتصادي على عاتق «الوطنيين المحليين»، على ما كانت القوى الاستعمارية تقول فــي رعايا المستعمـــرات. وتفترض، اخيراً، «ثقافــــــة حكـــم» واضطلاع بالمسؤولية عن القرارات، على خلاف «ثقافة المعارضة» والاقتصار على التنديد بإجـــراءات الحكومات المتعاقبة، والتنصل من تبعاتها ومقتضياتها على رغم المشاركة في الإجـــراءات وإملائها إملاء متعسفاً في احيان كثيرة.
واليوم يطمع تكتل القوى التي ترعرعت في كنف السيطرة والنفوذ السوريين، وورثت تقاليدهما وسننهما في فصل المدني والسياسي السيادي واطراح السياسي من الانتخابي ونسبة المطالبة السيادية الى السياسة «الأميركية - الإسرائيلية»، يطمع تكتل القوى هذه في تثبيت سيطرته وقوة نقضه بواسطة غلبة برلمانية. وفي أثناء الحملة الانتخابية الطويلة التي قادها التكتل منذ اغتيال رفيق الحريري، وانتخابات 2005، الى اليوم، انتهج سياسة إبطال الدولة وهيئاتها وسلطاتها من غير هوادة ولا مساومة. وهو يرى ان سياسته هذه تخوله «إدارة البلد»، وتؤهله لقيادة اللبنانيين على طريق «المقاومة»، اي التخطيط لحروب أو عمليات تحصن الموقع الإيراني، والسوري في المرتبة الثانية، في مفاوضتهما القوى الكبيرة على الشرق الأوسط واقتسامه.
وفي أثناء حملته «السياسية» الأمنية والأهلية الطويلة قدم تكتل «8 آذار» مصالحه وحاجاته الخاصة، وهي مصالح وحاجات فئوية وجزئية تنكص عن الدولة الوطنية ومواطنيها أو مصالح إقليمية تتعداها، على مصالح الدولة الوطنية. فحمل المطالبة بالعدالة في قضية اغتيال المواطن رفيق الحريري، والمواطنين الآخرين، على انحياز «اميركي». ونسب المطلب السيادي والاستقلالي الى العمالة. وشق الشعب الواحد والمتساوي «شعبين» متعاديين. وسور مناطق نفوذه بسلاحه.
وشن حرباً على إسرائيل اختارها هو، وأعد عدته الخاصة لها، وصمد هو فيها، بينما اقتصر دور الدولة على رعاية ضحاياه من اللبنانيين وحمايته وحماية مقاتليه ودرعه المدنية المذعنة. وطعن في الدولة والحكومة ودورهما، وقوضهما، وساوى الجيش الوطني بجماعة إرهابية قاتلته. وتنصل من مسؤوليته عن تسلل جماعات مسلحة ومدسوسة إلى الحدود، وإطلاقها الصواريخ على الدولة العبرية، بذريعة الترفع عن «حراسة حدود» إسرائيل. واجتاح بالقوة المسلحة، وأعمال القتل، أجزاء من الأراضي الوطنية دفاعاً عن نفسه وسلاحه. وأضعف الجيش الوطني واستدرجه الى التسليم بالعدوان على المواطنين، واتهمه في وطنيته.
وفي أثناء حملة الاستيلاء المديدة والمتعرجة، سكت التكتل العتيد عن الاغتيالات والاعتداءات. وأسهم جهازه الدعاوي الضخم في التحريض والتزوير والتشبيه. فالدولة التي يطلب حكمها وإدارتها هي «دولة» متخففة من المسؤولية عن أمن مواطنيها وسلامتهم، وحقهم في المقاضاة والعدالة. وهي «دولة» لا تحكمها مؤسساتها المنتخبة بل موازين قوة خفية ومستترة. ولكن استماتة التكتل العتيد في طلب الغلبة والاستيلاء الانتخابيين، وهو أنكر حق الكثرة في الحكم المقيد وأبطل قوة المرجع الانتخابي، تدعو الى الشك في «رغبته» المعلنة. وتعاقب «الإيرانيات» الخطابية الأخيرة قد يكون قرينة على رغبة في تعثر عوني كبير. ولا ينجم عن التعثر وربما الانهيار العونيين غير إبقاء الدولة والحكومة على ترجحهما وتعليقهما. وهذا مربح صاف: فتبقى الدولة قناعاً يحتمي به التكتل وأسياده، ولا تخرج سلطة النقض من يد المسلحين والخارجين على الدولة.

ليست هناك تعليقات: