المستقبل 18/4/2010
يدخل طه الشاذلي، ابن الشاذلي بواب عمارة يعقوبيان وأحد سكان "فوق سطحها المستقل تماماً عن بقية العمارة"، دائرة القص واقتفاء الخبر من باب سهره طوال الليل الى "الإيذان بصباح جديد" بينما لم ينفك "ضوء صغير شاحب... ينبعث من نافذة حجرة" البواب. ويتصل تقرير الواقعة الطبيعية والفلكية بتفسيرها وتعليلها. فيكتب علاء الأسواني تتمة الجملة: "... حيث كان ابنه الشاب طه قد قضى ليلته ساهراً...". والتتمة التالية: "... من فرط القلق" لا تتأخر، على شاكلة سابقتها، وتعقب على السهر الليلي الطويل، ودوران الليل والنهار، بتعليل نفسي. ويتوسط الإعلانَ عن القلق الداعي الى السهر الطويل، وتسويغه، انصراف الشاب الساهِر والقلِق الى الصلاة ثم الى تلاوة الأدعية، على السرير ولابساً جلباباً أبيض، في كتاب "الدعاء المستجاب"، وسؤالُه "ذا الجلال والإكرام" و "وجهه الكريم" الخير والحراسة والمغفرة والإقبال والضحك والرضا والرحمة في "هذا اليوم". وتختلط قراءة الأدعية بـ "أصوات وصياح وضحكات وسعال وأبواب تغلق وتفتح وروائح ماء ساخن وشاي وقهوة وفحم ومعسل" معاً.
تنزل الخارج
وصاحب القص ومقتفي الخبر – وهو من رأى الصباح الجديد ينفجر، على قول عربي بائد أو منصرم، ولاحظ الضوء الصغير الشاحب ينبعث من نافذة حجرة البواب، وانقضاء الليل على ابن البواب المسمى باسم نبي الإسلام ("كقولك يا محمد بلسان الحبشة" عن ابن عباس) من غير نوم، وسمعه يقرأ الدعاء في كتاب أدعية معروف وشائع بعد قيامه الى صلاة الفجر، وحدس القلق في نفس المصلي الساهر، ووصل القلق بـ "حيثيته"، وتناهت الأصوات الى سمعه والروائح الى خيشومه... – القاص والمخبر هذا لا يعلم قارئ الرواية كيف علم ما يخبر به، ومن أي وجه بلغه علمه أو علومه. فهو يقص من أنحاء كثيرة، وأوقات متصلة، معاً. فلا يعقل ان يكون فرداً قاراً بموضع أو محل، وملازماً "وجهة نظر" يلم منها بشطر من المرئيات والمسموعات والروائح، وسابراً دواخل طوية من الطوايا المطوية (تعريفاً) ووجدان من الوجدانات، أو مؤوِّلاً حركات وسكنات أو حادساً في بعض معاني ما يرى ويسمع ويشم ويحس. فلا ريب أنه كثير في واحد... وعلى هذا، فالقص ينزل أو يتنزل على القارئ من خارج غير متعين يلم بالأوقات والأحوال والأماكن والسرائر كلها، من خلف وقدام وفوق وتحت وبطن وظاهر. وكان جان – بول سارتر نعى، في باكورة مقالاته النقدية، على روائيين فرنسيين معروفين روايتهم ما يروون من خارج متعال ومفارق إلهي (حرفياً: "من وجهة نظر الله"، وهذا يتناقض)، على خلاف الروائيين الأميركيين المعاصرين، المنحازين الى موضع ووقت وعلم لا يتعدونها ولا يطّرحون قيودها ورسومها، على شاكلة جون دوس باسوس في ثلاثيته "يو إس إي" أو وليم فوكنر في "الضجيج والغضب" (أو ما اصطلح على ترجمته بهذا).
ويقدم راوي "عمارة يعقوبيان"، في صفحات القصة الأولى، لحادثة سهر طه الشاذلي طوال الليلة هذه، وعشية فحص كلية الشرطة أو "كشفها"، بالتأريخ للعمارة عموماً، ولسطحها على وجه الخصوص. والتأريخ، على طريقة الراوي، يبدأ من "الأول". والأول هو "فكرة" فكرها عميد الجالية الأرمنية بمصر، في 1934، هاغوب (هاجوب) يعقوبيان، وأوكل إنفاذها الى مكتب هندسي إيطالي. وفكرة المليونير الأرمني وَلَدت "تصميماً جميلاً" عن يد المكتب. وينتهي الى القارئ من الجمال الممتدح نسبةُ المبنى الى "الطراز الأوروبي الكلاسيكي الفخم". ويتداعى الوصف بالكلاسيكية الى "التماثيل الإغريقية"، وهو تداع لغوي أو لفظي، والى "الرخام الطبيعي". وينعطف الى "المصعد ماركة شندلر على أحدث طراز". واسم ماركة المصعد، والمصعد كله من عناصر المبنى الداخلية وغير المرئية، وغير المحتسبة تالياً في الجمال ولا الكلاسيكية ولا الاتحاف، أي الاسم الصناعي هو الواقعة المتعينة الوحيدة في صفة العمارة أو المبنى. وحين أنجز المبنى حلَّ به مستأجرون هم "صفوة المجتمع في تلك الأيام". وبنيت على السطح 50 غرفة حديدية خزن فيها المستأجرون المواد الغذائية" والثياب المغسول، وبيَّت فيها بعضهم الكلاب.
والفصل الثاني من تاريخ السطح، ومن تاريخ مصر كلها، ابتداؤه هو ثورة 1952. وغداتها هاجرت الصفوة. وهي من "اليهود والأجانب"، وليس فيها "وزراء وباشوات من كبار الإقطاعيين"، على حسب إحصاء الراوي المؤرخ قبل صفحة واحدة (ص20)، تشاركوا الإقامة مع "اثنين من مليونيرات اليهود" و "رجال صناعة أجانب" يليقون بتعريف ماوتسي تونغ البورجوازية الوطنية بـ "الكومبراردور"، أو اهل الوساطة والحاشية وخدمة رأسمالية الحواضر الغربية. وولاة الفصل الثوري، وأهل قوته، هم ضباط القوات المسلحة. "وكانت كل شقة تخلو بهجرة اصحابها يستولي عليها" ضابط من هؤلاء. واستجد استعمال جديد لغرف السطح صحب التجديد الطبقي والاجتماعي والسياسي الذي تولاه الضباط، من "ملازمين ونقباء" و "لواءات": "فصارت الغرف الحديدية مبيت السفرجية والطباخين والشغالات الصغيرة والمجلوبات من قراهن"، وكان الباشوات والأجانب واليهود يتورعون عن "(تصور) إمكانية نوم أي إنسان في غرفة ضيقة بهذا الشكل"، فكيف بإلزام "الإنسان" المبيت أو قسره عليه.
والفصل الثالث هو "الانفتاح". وحَمَلَ العهد الاجتماعي والسياسي الجديد "الأثرياء" على ترك "وسط البلد"، حيث العمارة، الى الضواحي الغنية والفخمة. وربما فات الراوي، العجول واللاهث، ان يقص على القارئ كيف انقلب الضباط من الرتب كلها، في غضون العقدين تقريباً، أثرياء يسمون بحالهم جديدة من غير تمهيد. فهم بقوا ضباطاً، على رأسهم اللواء الدكروري، زيادة في التعيين ولكي لا يحسب القارئ ان الكاتب يخبط على غير بينة (شأنه في "وصفه" العمارة الكلاسيكية والإغريقية والرخامية)، وأقاموا على حالهم الى السطر الذي سبق "حديث" الانفتاح. ومهما كان من امر الانقلاب الاجتماعي الخطير، وحصوله في غفلة من التأريخ والقص، فهو أدى الى انقطاع "الصلة شيئاً فشيئاً بين الغرف الحديدية وشقق العمارة". فأقام في الغرف على السطح "فقراء جدد" جاؤوا من الأرياف، وهم "يعملون في مكان ما في وسط البلد"، على قول الراوي المؤرخ والمدقق المحيط بأطوار السكن وموجات السكان ودوائر نزولهم وعملهم. ويتناول الراوي أحوال "الرجال جميعاً" من موجة اهل السطح الأخيرة، كفاحاً وإنهاكاً ومتعاً (ثلاثاً). ويثنّي بتناول أحوال "النساء جميعاً"، حباً للجنس وتهامساً بأخباره واستحماماً وتعطراً. ويجهر الراوي قصوره عن (نقل) تعبيرات وجه امرأة فوق السطح، صباح الجمعة، عندما ينزل زوجها لأداء الصلاة وتغتسل..."، فيوكل بالأمر، تواضعاً، "رساماً بارعاً". والروائي ليس إلا روائياً، ولا يتوقع منه تصوير "تعبيرات" وجه المرأة، ولا جسدها المنسي، ولا تصوير المعاني والخواطر والمشاعر التي تضطرب في وجدانها. فهذه مهمة "عالم نفساني" بارع.
الواحد... جميعاً
ويخرج الراوي من عموم التاريخ الاجتماعي، وتعاقب فصوله وحقباته العريضة المروية من خارج غفل وانتقائي، الى التدقيق في واحد من سكان السطح هو طه الشاذلي، على ما تقدم. وطه هذا، الساهر وقارئ الأدعية المستجابة والقَلِق، مرد سهره وقلقه الى بلوغه اليوم، وهو ابتدأه بالصلاة والدعاء، "الحاجز الأخير في سباق الأمل الطويل... بأن يكون ضابط شرطة". فهو أحد ابناء الجيل الثالث من "سكان" العمارة. وتناولُ القص واحداً فرداً، وليس جيلاً من الناس أو جزءاً من طبقة اجتماعية، لا يدعو الراوي الى تخصيص الموضع الذي يقص منه ويطل على "جزء" من المشهد او السياقة او الحوادث التي يأتلف القص منها. فالواحد الفرد، طه الشاذلي، يتناوله القص "جميعاً"، شأن كتلة الرجال وكتلة النساء في مجتمع سطح العمارة المستقل والمنفصل. والواحد الجميع كتلة لا تتميز أجزاؤها، ولا فرق بين الجزء والجزء الآخر منها. والمعنى الغالب على الكتلة، فرداً أو جمعاً، يغلب عليها كلها مرة واحدة، ويختصر أحوالها في حال متصلة يكني عنها الراوي بـ "سباق الأمل الطويل"، وعلته الغائية أو التمامية: التربع في مرتبة ضابط شرطة. وينصرف المتسابق الآمل الى غايته، وقبلة سعيه، لا يلوي على أمر أو شاغل آخر.
وهذه حاله "منذ الطفولة". والأرجح انها حاله قبل الطفولة، وقبل الولادة، وسبقه إليها والده، بواب العمارة، وكانت في بال الوالد "فكرة" أو "حلماً" قبل ان يعهد بها الولد، وهو ورثها عن والده، على خطى رسم اجتماعي غفل، الى المراحل المدرسية لتخط هذه "تصميمها الهندسي"، على شاكلة عمارة الثري الأرمني وهي تحبو وتدب وتشب وتبلغ تمامها الفخم والكلاسيكي والرخامي والشندلري. فطه الشاذلي يدخل "عمارة يعقوبيان" كتلة معنوية مجتمعة ومتصلة، تحركها قوة فيزيائية أو طبيعية ماثلة كلها، وتولد أطوارها بعضها من بعض ولادة "طبيعية" محكمة. وعلى مثال طه، طفولته هي "الطفولة"، وأمله هو "الأمل"، وحلمه هو "الحلم"، ودراسته هي "الاستذكار في الثانوية العامة حتى حصل على مجموع 89 في المئة بدون دروس خصوصية...". وكان سهره الطويل الى الصباح قبيل يوم الكشف الصورة المادية عن الاستذكار، والتمثيل الممتلئ عليه. وعلى المنوال هذا، انضم الفتى الى مركز شباب عابدين، و "صبر على تمرينات كمال الأجسام الشاقة"، وتودد الى ضباط الشرطة، و "تحمل رذالة سكان العمارة وغطرستهم"... يحدوه، في محنه ومقاماته ومراحل ابتلائه المتعاقبة تعاقب الفصول، الحلم إياه "وتحقيقه ايضاً". وهو، الشاب، آلة الحلم المسلط عليه، وعصاه الصماء. وتجتاز الآلة المراحل والمحن والمقامات مقيمة على "فكرتها" أو "حلمها" و "سباقها"، ونصب عينيها "مصير(ها) الى الأبد"، على ما يوجز الكاتب متنبئاً ومعتلياً من الزمن أو الدهر سناماً باسقاً، وشرفة تطل على الغيوب المطوية وراء الآفاق.
والحق ان الراوي أعد "بطله"، منذ المشهد الأول، الى مصير مرسوم ومقسوم، متصوِّر في نطفته القصصية، أو فكرته. وسياقة القص – إذا جازت العبارة، أو جاز الكلام على سياقة حين يوضع القص على أوقات ناجزة وقطع زمنية صبت في قوالب أنموذجية – تُحققُ الفكرة، وتُنزلها منازل الرسوم البيانية، وتُعاقِب بين المنازل والمراحل على مقادير ووجوه معلومة. ولا تغادر السياقة هذه، على معنى تحقيق الفكرة، الذهنيات ومجرداتها ومعادلاتها الحسابية والفيزيائية المستقيمة والجلية. ويملأ القص القوالب والمنازل والمراحل بمادة محسوسة تنحو نحو التعيين، أو الأعيان. ولكنها "أعيان على العموم" أو "أعيان عمومية"، على قول جورج بوليتزير في "معيوش" برغسون و "بدائه وجدان"(ـه).
وفي تمهيده وتسويغه القصصي خروجَ طه "الإسلامي" على الدولة والمجتمع المصريين، وهما دولة "الانفتاح" ومجتمعه على نحو ما يمثل عليهما الأستاذ فكري عبد الشهيد المحامي والحاج محمد عزام المقاول وكمال الفولي البرلماني والحزبي "القومي" (الحاكم) والأستاذ طلال السوري وبسيوني المصور وملاك خله الترزي الناشط وفوق هؤلاء جميعاً "الكبير" المحجوب - يضع الراوي الشابَ الطالب والمذاكر الطموح ومجتمع العمارة في شطريه على طرفي "تناقض" أو تقابل. وقسمة "أهل العمارة" قسمين، "بعضهم... يشجعه على الاستذكار" وآخرين "تزعجهم (فكرة ابن البواب المتفوق) على نحو ما"، بقيت من غير مفعول قصصي. فلا تخصيص ولا توسيط. وأقام القص على تكتيل الأدوار المفترضة كتلاً قَبَلية، على شاكلة قبائل الجمجمة وعظامها المتقابلة أو شاكلة الجماعات النسبية والقرابية التي يعرّفها اختلاف أرحامها وتفرقها. فيتناسل "الانزعاج" من "فكرة" تفوق ابن البواب "أفعالاً". وتترتب الأفعال على الفكرة الأولى ترتباً منطقياً: فحاول "الآخرون" إقناع والد طه، محمد، "بإلحاقه بالتعليم الصناعي بعد الإعدادية"، وكانوا "يسألون عليه أيام الامتحانات ويكلفونه بأعمال شاقة تستغرق وقتاً طويلاً...". ويفترض الراوي ان القارئ لم يفطن بعد الى غايات "سكان العمارة" وهو يصفها بـ "الدفينة". فيصرح، وهو لم يفعل غير التصريح، ويعزو السؤال والتكليف والأغراء بالبقشيش الى "رغبة دفينة خبيثة لتعطيله عن الاستذكار". وعلى شاكلة القَصَص البطولي الشعبي وأخباره "الحربية"، أو مثال قَصَص القُصّاص والوعاظ، يجمع طه "الأعمال" المرهقة والمصطنعة والمبدِّدة الى "التفاني" في الدرس والاستذكار. ويخرج الفتى منتصراً على "اولاد الكثيرين في العمارة".
فيزياء الطبائع
والواحد من "الكثيرين" ليس واحداً، على معنى الانفراد باسم وسيرة حال وقصد. فهو واحد على معنى إحصائي، وتمثيل على العينة. ويبقيه الراوي على سمته الغفل. وعلى هذا، فـ "الواحد... يلتقي بالآخر أمام المصعد فيسأله متهكماً... (فـ)يعلن الآخر بصراحة امتعاضه من هذا الموضوع...". ويتخفف الراوي من توسيط الواحد والآخر، ومن تخصيص لقائهما امام المصعد أو فيه. ويجمع الآحاد والآخرين في "هؤلاء السكان" جماعة أو جميعاً: "أخذوا يتحرشون بطه بعد ظهور النتيجة ويوبخونه على أهون سبب كان... يتعمدون إهانته... (يتثاقلون متعمدين) وهم داخلون الى العمارة حتى يهرع..." وهو على حاله "عندما يدخل الى فراشه آخر الليل يكون دائماً طاهراً متوضئاً بعد ان يصلي العشاء والشفع والوتر". ويتبدد، في الأثناء، "القسم" من اهل العمارة الذي دأب على "تشجيع" ابن البواب، وحضه على الاستذكار من طرق أبقاها الراوي طي الخفاء، أو عَلَماً على قصد قصصي يفترض التخصيص والتوسيط، ويواريه افتقار الراوي الى الإقبال على العالَم وعلى مسالكه الملتوية وأصحاب أدواره الكثر وأفعالهم.
فإذا نصب الراوي، وهو الخارج غير المتعين زمناً ولا موضعاً ولا مصالح أو ميولاً وهو المتناول الناس والحوادث كتلاً ومثالات، إذا نصب طه محمد الشاذلي تمثالاً وسطاً، حالماً منذ الطفولة بمثال الضابط "الناصري" أو السباعي (نسبة الى يوسف السباعي "الضابط"، على ما كان يوقع قصصه الأولى)، ومتسابقاً ومستذكراً وساهراً ومصلياً طاهراً وعفيفاً ومحباً بثينة السيد، جارة السطح ورفيقة الطفولة والمدرسة والصبا، وكاظماً الغيظ، ومترفعاً عن الإهانة – لم يبق ألا رمي المعدن الصافي هذا وبلّه في حمأة الاختبار وأتون الانفتاح والفساد و "الضلال" السياسي والاعتقادي. وحساب الراوي أو نهجه في القص ليس اختبارياً، على وجه الدقة. فـ "بروتوكول" الاختبار مغلق، ولا يحتمل نتاجاً غير ذاك المقدّر والمعلوم. واكتمال شرائط المثال، أو التمثال على ما مر، إنما هو المقدمة التي يريد القص ان يبني عليها أو يستنتجها حكماً في ضراوة "أهل" السلطة" و "أهل" المجتمع، أو "سكانهما". فلولا الضراوة هذه لما انتهى شاب من صنف الشاذلي الابن، دماثة واستقامة واعتدالاً، الى القتل والموت ثأراً من الإذلال الاجتماعي، والتحطيم النفسي الجسدي، والنفي من الإنسانية – في مجتمع يعرف الإنسانية بالكرامة المعنوية والرمزية وينزل "العيب" منزلة القتل. وموازنة الكفتين، كفة الفتى وكفة عوامل الإفساد والتضليل المسلطة عليه، يفترض فيها ان تقيس قياساً مجرداً وذهنياً، أي طبيعياً فيزيائياً، قوة عوامل الإفساد والتضليل.
وغلقُ "بروتوكول" الاختبار، وتحجير هذا على نتيجة واحدة، يحول دون حمل فصول الحوادث والوقائع التالية، والمفضية الى انخراط ابن العم الشاذلي في جماعة جهادية ثم الى مهاجمة الضابط الذي عذبه ورعى انتهاكه، على فصول ابتلاء، على معنى ديني أو أخلاقي. فتخرج قصة طه الشاذلي، وهو "رافد" بارز من روافد "نهر" الرواية المفترض، من الاختبار الروائي، واحتمالاته وجوازاته، على نحو ما تخرج من الابتلاء وإيحاءاته الخلاصية والإيمانية. وباب الخروج المزدوج هذا واحد، هو "بطولة" القَصَص الشعبي وملاحمه القتالية والأخلاقية. فالبطل المتوسط، والمتكتل كتلة معنوية متماسكة، يُلبسه الراوي صفات التمام والكمال البسيطة في معرض قص واقعي وطبيعي (على المعنى الأدبي الاصطلاحي) تقريباً له من مثال يجلو فصائل "الفارس" العامي الأخلاقية والدينية على تمامها وكمالها المتوقعين. ولا تخالف آداب السينما والتلفزيون والصحافة و "كتابتها"، ولا آداب السياسة المحلية، على وجهيها السلطاني والمعارض الخلاصي و "الخوارجي"، القصص الشعبي البطولي. فهي تشترك في نصبها خارجاً مفارقاً تلم منه بالحوادث والوقائع، وتُكتل الحوادث والوقائع وتحجرها انصاباً وأصناماً ومعاني ناجزة.
وليس انقلاب الفارس العامي مقاتلاً منتقماً انحرافاً عن مثال بطل القصص الشعبي، على وجهيه ومذهبيه. والحق ان الانقلاب هذا يستعير من "فكر" الرواية، على قول ناقد ومؤرخ أدبي معاصر، ومن "صورتها" المحدثة والبورجوازية الأوروبية والأميركية، رسمه. فهو يتعقب آثار دخول "البطل"، الصادر عن قيم الشرف والإقدام والعدالة وأحكام عملها الموجعة، "العالَم"، السفلي (تعريفاً) والمنفك من "سماء" القيم والصور. والتمثيل بـ "دون كيخوتيه" على الصدور والورود هذين، على خطى صاحب "نظرية الرواية"، جورج لوكاتش المجري، يكاد يكون مدرسياً. واشتباه معاني الحوادث والوقائع، والناس في ثنايا هذه وتلك وفي سياقتهما، هو ذريعة القص على وجه الرواية المحدثة، والباعث عليه. فالصدور عن قيم أو معان سامية وسابقة يقضي في من يصدرون عنها، حين مسارح السعي ولدت ناساً عاميين مختلفين وأحكاماً نثرية وذرائع تتماسك على منطق نفعي "تافه" – يقضي بعشي النظر واشتباه المعاني معاً. فلا يسع "البطل" المحدث والعامي، وهو ينتسب الى عالم دنيوي قوامه المنافع والأهواء في الأحوال كلها، الإقامة المزمنة، على غابر شأنه، (بـ)مقام البطولة الحربية والأخلاقية. وأوكل القصص البطولي الشعبي الى الشطار والزعار من العامة، على الضد من الأشراف نسباً وعملاً، التقلب بين أظهر العالم السفلي وأقنعته وحيله وتشبيهه. فثبَّت القصص، من هذه الطريق، انقسام الدنيا والناس طبقتين يحجز بينهما حاجز "عرقي" وكينوني، تتقاتلان قتال إفناء وإبادة، وقد تتداولان مرتبة "الأمر"، وهي مرتبة وجودية أو كينونية في عالم القصص وفي بعض الفقه السياسي الإمامي وفروعه المقاتلة والناطقة المعاصرة، على شاكلة مداولة الليل والنهار.
الحقيقة والتمثيل
وتجري "عمارة يعقوبيان" في تناولها سيرة الفتى طه محمد الشاذلي على رسمين: بطولي شريف وعامي وضيع، ملحمي القصد وإخباري النسيج وصحافيه أو تلفزيونيه (من باب متفرقات "البيبول" والمسلسلات). وتتوالى السيرة فصولاً. وفصلها الأول انفصال بثينة السيد، الجارة والرفيقة والحبيبة المرجوة والزوجة، وانحراف طريقها، على معاني الانحراف الكثيرة، عن طريق طه المستقيم. وانفصال بثينة ذريعة تشبيه تخلي الراوي، هنيهة سريعة ونادرة، عن موضعه الغفل من القص. فبعد لقاء طه ببثينة، وهو في طريقه الى كشفه "المصيري"، في مشهد "تعبيري" وتصويري تقليدي، يركب الشاب سيارة تاكسي. ويتأخر فكره أو خاطرته في "تغير" بثينة وفتور مشاعرها بإزائه وتحولها عنه، عن الواقعة نفسها. فيفترق الجاران والرفيقان، "تنسحب" هي وتمد يدها مصافحة "وتتحاشى النظر إلى عينيه (وتقول) بلهجة عادية رسمية: بالتوفيق إن شاء الله" (وكانت لتوها "هتفت بحرارة"، و "قالت بحنان صادق"، و "تطلعت إليه بعينيها العسليتين كالمندهشة")، "بعد ذلك فكر طه وهو جالس في التاكسي ان بثينة تغيرت ناحيته". وقد يحمل القارئ تفكر أو تفكير طه على تناول جانبي، على المعنى السينمائي والفوتوغرافي، لما يروي والعبارة عنه عبارة جزئية ومقيدة. فيكذِّب الراوي ظن القارئ تكذيباً قاطعاً. فالفكرة لم تكن فكرة، على معنى تقليب الرأي في أوجه جائزة، بل هي"حقيقة لا جدوى من تجاهلها". والحقيقة هذه ليست استدلالاً ولا استقراء، وهي لا توسِّط قرائن ولا تجمع وقائع، ولا تجر الى تحقيق ولا الى رواية تحتمل انقسام الرأي. فطه "يعرف (بثينة) جيداً وتكفيه نظرة واحدة لكي ينفذ الى أعماقها وهو يحفظ عن ظهر قلب كل أحوالها...". وانتهى العارف القلبي والحادس في الأحوال الى الحقيقة على صورة انقلاب من عدم الى وجود. وهي صورة الحادثة نفسها، أي حال بثينة. فالصبية "فجأة تغيرت... حدث ذلك عقب وفاة أبيها...".
وفي اليوم نفسه، وهو يوم الكشف، يتبدد "حلم" ابن البواب بالمرتبة والدور والمثال الاجتماعي والأخلاقي. ويوكل الراوي سرد واقعة الكشف الى ذاكرة الشاب المتحن. فيقول ان طه "يسترجع... احداث ذلك اليوم". وسبق الاسترجاع تمهيد قابل "الفيلم السينمائي"، والاستغراق فيه والانفعال به، بـ "الواقع" والعودة إليه، ونَقَضَ "السينما" أو صالة العرض بـ "الشارع المزدحم بالسيارات والمارة" ولفح "الهواء البارد". ويقص المسترجع في آخر النهار واقعة الامتحان في ضوء التقابل والنقض هذين، وعلى هدي تفريقه السينما من الواقع، وبلوغه مقام الحقيقة، والنفاذ الى الأعماق بنظرة واحدة، على ما فكر في تغير بثينة صباح يوم "الكشف" (وهو اسم صوفي على مسمى روحاني أو "مكي"). ويوجب مقام الحقيقة ان "كل ما حدث... مجرد فيلم، تمثيل في تمثيل...". وعلى هذا، لا تحول رواية الحادثة من جهة طه الشاذلي، وبحسب ما يرى، بينه و بين قص بعض أجزائها من جهة الفاحصين، "اللواء الرئيس" ومقدم الهيئة الفاحصة أو الكاشفة الثلاثية. فاللواء الرئيس علق على إجابة طه بالابتسام، و "هز رأسه في إيجاب صريح" دعا طه الى توقع أمره بالانصراف. و "لكن اللواء الرئيس حدق فجأة في الأوراق". والفجأة أو الفجاءة هذه من مقتضيات وقوع القدر وتنزله على المصائر العامية والضعيفة. ومهد التحديق الفجائي لكشف اللواء، هذه المرة، عن "حقيقة" طه، وهي "مهنة والد(ه)". وبددت حقيقة المهنة سينما الحلم. ونطقت الحقيقة بلسان بثينة و "علمها" الذي علمها إياه "الشغل"، وهي كانت موضوع علم طه بحقيقتها: "البلد دي مش بلدنا يا طه. دي بلد اللي معه فلوس".
ويمضي طه على تبديد "التمثيل" والأقنعة التي تحجب الحقيقة عن أعين الحالمين الواهمين، بينما تمضي "عمارة يعقوبيان" وفروعها وروافدها الأخرى، من جهتها أو جهاتها، على استعراض الحقيقة والتمثيل عليها، وعلى أعيانها الاجتماعية والسياسية والأمنية. فيكتب الممتحن الراسب الى "سيادة الرئيس" رسالة شكوى وتظلم يدعي فيها على "سيادة اللواء رئيس لجنة الاختبار بكلية الشرطة" بالسرقة. واحتج لدعواه بحديث نبوي صحيح. وشفع الدعوى بالانتساب الى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، سُلَّم "أولاد الكبراء" الى العمل الديبلوماسي. والصلاة في المسجد، حين رفع آذان الظهر، هي فارق "الطلاب الأغنياء (من) الفقراء"، والعصا التي تشق البحر كتلتين، واحدة من "خريجي مدارس اللغات وأصحاب السيارات الخاصة والملابس المستوردة والسجائر الأجنبية"، وهم قطب "أجمل البنات وأكثرهن أناقة"، والأخرى من "الطلاب الفقراء (المتلاصقين) كالفئران المذعورة". وذلك على قسمة تبويب وترتيب لا توسط فيها. ويقطع طه على "شكله" خالد عبدالرحيم. و "(يحبه) جداً ربما لأنه فقير مثله أو هو... أفقر منه"، وقطعاً "لأنه عميق التدين" و "(يستحضر) الله بمعنى الكلمة". ويقود خالد عبدالرحيم صديقه طه الشاذلي الى أصدقائه في المدينة الجامعية، وهم "ريفيون وطيبون ومتدينون وفقراء جميعاً". و "يفهم" طه من طريقهم ان "المجتمع في مصر مجتمع جاهلية لا مجتمع إسلام"، على قول سيد قطب الأشهر، وفتواه في التبديع والردة.
وتتداعى حلقات الدعوة والدعاة، وتسلم الحلقة طه الى تاليتها من غير التواء. ويقود خالد عبدالرحيم زميله وصديقه ومحبه الى الداعية الشيخ شاكر، إمام صلاة الجمعة في مسجد أنس بن مالك بميدان التحرير. وفي المسجد يسبح المريد الجديد في "جو اسطوري وصادق ونقي". ويدخل حلقة "المقربين" الى الشيخ. ويستبدل ملابسه الإفرنجية بالزي الإسلامي، ووجهه الحليق بلحية "أعفاها فمنحته مظهراً مهيباً وقوراً"، وشخصه القديم بشخص آخر جديد، و "روحه" القديمة بـ "روح جديدة قوية متوثبة". فتخفف من "التضاؤل والرهبة والانكسار أمام السكان". وأشركه الشيخ شاكر في تجارة الكتب الدينية، فلم يحتج مذ ذاك الى مداهنة أهل العمارة. و "طلق" بثينة و "طلقته": "دا انت حتى بقيت ملتح وملتزم وأنا بالبس قصير وعريان... شكلنا ما يلبقش على بعض". ويشركه شيخه في "مظاهرة كبرى في الجامعة" ويدعوه الى قراءة "ميثاق العمل الإسلامي". وفي التظاهرة "يستشهد" خالد حربي، ويعتقل مخبرون، "ثلاثة رجال ضخام"، الناشط الإسلامي. وينهش "كلب ضخم" في قسم التوقيف "في صدر (طه) وعنقه". وينهال الضباط عليه بـ "الضربات والركلات" قبل القارعة: "ألقوا به منكفئاً على الأرض وبدأت أكثر من يد... تنزع عنه ملابسه الداخلية... وثبتوا جسده بأيديهم وأقدامهم وامتدت يدان غليظتان فشدتا عضلتي إليته وفرقت بينهما وأحس بجسم صلب ينغرز في مؤخرته ويقطع أنسجته الداخلية...".
ويخرج طه من المعتقل الى لقاء الشيخ شاكر في "طبعة افرنجية"، كناية عن لباسه المتخفي والمتنكر، ويجاهر برغبته في الثأر من الذين "هتكوا عرضـ(ـه)"، والانتقام من الذين "قتلوه في المعتقل". والقتل هو التأنيث: "كانوا يسمونني فوزية... وكانوا كل يوم يضربونني حتى أقول امامهم: أنا امرأة واسمي فوزية". فلا يريد بعدها ان ينسى ولا ان "يعيش". و "فهم طه ان معارضة الشيخ (شاكر) له في البداية كانت حيلة لاختبار قوة عزمه". وفي الصحراء، وراء الجبال، يسافر طه وشيخه الى "مجموعة بيوت صغيرة مبنية بالطوب الأحمر (...) أشبه بشوارع المناطق العشوائية"، هي قاعدة الجهاد. وفي القاعدة، في إمرة الشيخ بلال، يتعلم طه "بإذن الله كيف يأخذ حقـ(ـه) وينتقم من الظالمين جميعاً". ولا يفصله عن مقتله المحتم إلا زواج هوليوودي برضوى، أرملة أحد "الشهداء" السابقين. ويتوسط سقوط طه الدامي مقتل حاتم المثلي بيد عبده الصعيدي، وزواج زكي الدسوقي، الدونجوان المتداعي، ببثينة السيد، العاشقة التائبة، في مطعم مكسيم "الملكي" السابق.
ولكن روافد القص الكثيرة والمتزامنة والمفترضة متضافرة، لا تلزم القارئ بشبكها، ولا تدعوه كتابتها التقريبية والرتيبة الى شبكها أو الى تعقب أصداء الرافد في الآخر. وعلى مثال سيرة طه محمد الشاذلي، في وسع من شاء إخراج السير الأخرى من مواضعها المتناثرة ودمجها في سير متصلة قائمة برأسها. وبعض الروابط بين السير، مثل "رابط" بثينة، تبقى ضعيفة، ولا تتطاول الى الحوادث، ولا الى الناس. والرابط المعلن – العمارة، وآصرتها المدينية والاجتماعية والزمنية، والوقت، جيل "الانفتاح" وأولاده (في اثناء حرب الخليج الثانية ورد صدام حسين عن الكويت) – لا يرتب تضافراً، ولا شبكاً، ولا اختياراً كتابياً. فيجمع الكاتب فنون القصص الشعبي، القديم الشفهي والجديد المصور ومتفرقاته، "الملحمة" والمشهد الكوميدي والمشهد العاطفي والدرامي والمشهد البورجوازي اليومي...، من غير حرج ولا ضيق ولا تركيب. ولعل هذا "أدب" الانفتاح، بدوره.
تنزل الخارج
وصاحب القص ومقتفي الخبر – وهو من رأى الصباح الجديد ينفجر، على قول عربي بائد أو منصرم، ولاحظ الضوء الصغير الشاحب ينبعث من نافذة حجرة البواب، وانقضاء الليل على ابن البواب المسمى باسم نبي الإسلام ("كقولك يا محمد بلسان الحبشة" عن ابن عباس) من غير نوم، وسمعه يقرأ الدعاء في كتاب أدعية معروف وشائع بعد قيامه الى صلاة الفجر، وحدس القلق في نفس المصلي الساهر، ووصل القلق بـ "حيثيته"، وتناهت الأصوات الى سمعه والروائح الى خيشومه... – القاص والمخبر هذا لا يعلم قارئ الرواية كيف علم ما يخبر به، ومن أي وجه بلغه علمه أو علومه. فهو يقص من أنحاء كثيرة، وأوقات متصلة، معاً. فلا يعقل ان يكون فرداً قاراً بموضع أو محل، وملازماً "وجهة نظر" يلم منها بشطر من المرئيات والمسموعات والروائح، وسابراً دواخل طوية من الطوايا المطوية (تعريفاً) ووجدان من الوجدانات، أو مؤوِّلاً حركات وسكنات أو حادساً في بعض معاني ما يرى ويسمع ويشم ويحس. فلا ريب أنه كثير في واحد... وعلى هذا، فالقص ينزل أو يتنزل على القارئ من خارج غير متعين يلم بالأوقات والأحوال والأماكن والسرائر كلها، من خلف وقدام وفوق وتحت وبطن وظاهر. وكان جان – بول سارتر نعى، في باكورة مقالاته النقدية، على روائيين فرنسيين معروفين روايتهم ما يروون من خارج متعال ومفارق إلهي (حرفياً: "من وجهة نظر الله"، وهذا يتناقض)، على خلاف الروائيين الأميركيين المعاصرين، المنحازين الى موضع ووقت وعلم لا يتعدونها ولا يطّرحون قيودها ورسومها، على شاكلة جون دوس باسوس في ثلاثيته "يو إس إي" أو وليم فوكنر في "الضجيج والغضب" (أو ما اصطلح على ترجمته بهذا).
ويقدم راوي "عمارة يعقوبيان"، في صفحات القصة الأولى، لحادثة سهر طه الشاذلي طوال الليلة هذه، وعشية فحص كلية الشرطة أو "كشفها"، بالتأريخ للعمارة عموماً، ولسطحها على وجه الخصوص. والتأريخ، على طريقة الراوي، يبدأ من "الأول". والأول هو "فكرة" فكرها عميد الجالية الأرمنية بمصر، في 1934، هاغوب (هاجوب) يعقوبيان، وأوكل إنفاذها الى مكتب هندسي إيطالي. وفكرة المليونير الأرمني وَلَدت "تصميماً جميلاً" عن يد المكتب. وينتهي الى القارئ من الجمال الممتدح نسبةُ المبنى الى "الطراز الأوروبي الكلاسيكي الفخم". ويتداعى الوصف بالكلاسيكية الى "التماثيل الإغريقية"، وهو تداع لغوي أو لفظي، والى "الرخام الطبيعي". وينعطف الى "المصعد ماركة شندلر على أحدث طراز". واسم ماركة المصعد، والمصعد كله من عناصر المبنى الداخلية وغير المرئية، وغير المحتسبة تالياً في الجمال ولا الكلاسيكية ولا الاتحاف، أي الاسم الصناعي هو الواقعة المتعينة الوحيدة في صفة العمارة أو المبنى. وحين أنجز المبنى حلَّ به مستأجرون هم "صفوة المجتمع في تلك الأيام". وبنيت على السطح 50 غرفة حديدية خزن فيها المستأجرون المواد الغذائية" والثياب المغسول، وبيَّت فيها بعضهم الكلاب.
والفصل الثاني من تاريخ السطح، ومن تاريخ مصر كلها، ابتداؤه هو ثورة 1952. وغداتها هاجرت الصفوة. وهي من "اليهود والأجانب"، وليس فيها "وزراء وباشوات من كبار الإقطاعيين"، على حسب إحصاء الراوي المؤرخ قبل صفحة واحدة (ص20)، تشاركوا الإقامة مع "اثنين من مليونيرات اليهود" و "رجال صناعة أجانب" يليقون بتعريف ماوتسي تونغ البورجوازية الوطنية بـ "الكومبراردور"، أو اهل الوساطة والحاشية وخدمة رأسمالية الحواضر الغربية. وولاة الفصل الثوري، وأهل قوته، هم ضباط القوات المسلحة. "وكانت كل شقة تخلو بهجرة اصحابها يستولي عليها" ضابط من هؤلاء. واستجد استعمال جديد لغرف السطح صحب التجديد الطبقي والاجتماعي والسياسي الذي تولاه الضباط، من "ملازمين ونقباء" و "لواءات": "فصارت الغرف الحديدية مبيت السفرجية والطباخين والشغالات الصغيرة والمجلوبات من قراهن"، وكان الباشوات والأجانب واليهود يتورعون عن "(تصور) إمكانية نوم أي إنسان في غرفة ضيقة بهذا الشكل"، فكيف بإلزام "الإنسان" المبيت أو قسره عليه.
والفصل الثالث هو "الانفتاح". وحَمَلَ العهد الاجتماعي والسياسي الجديد "الأثرياء" على ترك "وسط البلد"، حيث العمارة، الى الضواحي الغنية والفخمة. وربما فات الراوي، العجول واللاهث، ان يقص على القارئ كيف انقلب الضباط من الرتب كلها، في غضون العقدين تقريباً، أثرياء يسمون بحالهم جديدة من غير تمهيد. فهم بقوا ضباطاً، على رأسهم اللواء الدكروري، زيادة في التعيين ولكي لا يحسب القارئ ان الكاتب يخبط على غير بينة (شأنه في "وصفه" العمارة الكلاسيكية والإغريقية والرخامية)، وأقاموا على حالهم الى السطر الذي سبق "حديث" الانفتاح. ومهما كان من امر الانقلاب الاجتماعي الخطير، وحصوله في غفلة من التأريخ والقص، فهو أدى الى انقطاع "الصلة شيئاً فشيئاً بين الغرف الحديدية وشقق العمارة". فأقام في الغرف على السطح "فقراء جدد" جاؤوا من الأرياف، وهم "يعملون في مكان ما في وسط البلد"، على قول الراوي المؤرخ والمدقق المحيط بأطوار السكن وموجات السكان ودوائر نزولهم وعملهم. ويتناول الراوي أحوال "الرجال جميعاً" من موجة اهل السطح الأخيرة، كفاحاً وإنهاكاً ومتعاً (ثلاثاً). ويثنّي بتناول أحوال "النساء جميعاً"، حباً للجنس وتهامساً بأخباره واستحماماً وتعطراً. ويجهر الراوي قصوره عن (نقل) تعبيرات وجه امرأة فوق السطح، صباح الجمعة، عندما ينزل زوجها لأداء الصلاة وتغتسل..."، فيوكل بالأمر، تواضعاً، "رساماً بارعاً". والروائي ليس إلا روائياً، ولا يتوقع منه تصوير "تعبيرات" وجه المرأة، ولا جسدها المنسي، ولا تصوير المعاني والخواطر والمشاعر التي تضطرب في وجدانها. فهذه مهمة "عالم نفساني" بارع.
الواحد... جميعاً
ويخرج الراوي من عموم التاريخ الاجتماعي، وتعاقب فصوله وحقباته العريضة المروية من خارج غفل وانتقائي، الى التدقيق في واحد من سكان السطح هو طه الشاذلي، على ما تقدم. وطه هذا، الساهر وقارئ الأدعية المستجابة والقَلِق، مرد سهره وقلقه الى بلوغه اليوم، وهو ابتدأه بالصلاة والدعاء، "الحاجز الأخير في سباق الأمل الطويل... بأن يكون ضابط شرطة". فهو أحد ابناء الجيل الثالث من "سكان" العمارة. وتناولُ القص واحداً فرداً، وليس جيلاً من الناس أو جزءاً من طبقة اجتماعية، لا يدعو الراوي الى تخصيص الموضع الذي يقص منه ويطل على "جزء" من المشهد او السياقة او الحوادث التي يأتلف القص منها. فالواحد الفرد، طه الشاذلي، يتناوله القص "جميعاً"، شأن كتلة الرجال وكتلة النساء في مجتمع سطح العمارة المستقل والمنفصل. والواحد الجميع كتلة لا تتميز أجزاؤها، ولا فرق بين الجزء والجزء الآخر منها. والمعنى الغالب على الكتلة، فرداً أو جمعاً، يغلب عليها كلها مرة واحدة، ويختصر أحوالها في حال متصلة يكني عنها الراوي بـ "سباق الأمل الطويل"، وعلته الغائية أو التمامية: التربع في مرتبة ضابط شرطة. وينصرف المتسابق الآمل الى غايته، وقبلة سعيه، لا يلوي على أمر أو شاغل آخر.
وهذه حاله "منذ الطفولة". والأرجح انها حاله قبل الطفولة، وقبل الولادة، وسبقه إليها والده، بواب العمارة، وكانت في بال الوالد "فكرة" أو "حلماً" قبل ان يعهد بها الولد، وهو ورثها عن والده، على خطى رسم اجتماعي غفل، الى المراحل المدرسية لتخط هذه "تصميمها الهندسي"، على شاكلة عمارة الثري الأرمني وهي تحبو وتدب وتشب وتبلغ تمامها الفخم والكلاسيكي والرخامي والشندلري. فطه الشاذلي يدخل "عمارة يعقوبيان" كتلة معنوية مجتمعة ومتصلة، تحركها قوة فيزيائية أو طبيعية ماثلة كلها، وتولد أطوارها بعضها من بعض ولادة "طبيعية" محكمة. وعلى مثال طه، طفولته هي "الطفولة"، وأمله هو "الأمل"، وحلمه هو "الحلم"، ودراسته هي "الاستذكار في الثانوية العامة حتى حصل على مجموع 89 في المئة بدون دروس خصوصية...". وكان سهره الطويل الى الصباح قبيل يوم الكشف الصورة المادية عن الاستذكار، والتمثيل الممتلئ عليه. وعلى المنوال هذا، انضم الفتى الى مركز شباب عابدين، و "صبر على تمرينات كمال الأجسام الشاقة"، وتودد الى ضباط الشرطة، و "تحمل رذالة سكان العمارة وغطرستهم"... يحدوه، في محنه ومقاماته ومراحل ابتلائه المتعاقبة تعاقب الفصول، الحلم إياه "وتحقيقه ايضاً". وهو، الشاب، آلة الحلم المسلط عليه، وعصاه الصماء. وتجتاز الآلة المراحل والمحن والمقامات مقيمة على "فكرتها" أو "حلمها" و "سباقها"، ونصب عينيها "مصير(ها) الى الأبد"، على ما يوجز الكاتب متنبئاً ومعتلياً من الزمن أو الدهر سناماً باسقاً، وشرفة تطل على الغيوب المطوية وراء الآفاق.
والحق ان الراوي أعد "بطله"، منذ المشهد الأول، الى مصير مرسوم ومقسوم، متصوِّر في نطفته القصصية، أو فكرته. وسياقة القص – إذا جازت العبارة، أو جاز الكلام على سياقة حين يوضع القص على أوقات ناجزة وقطع زمنية صبت في قوالب أنموذجية – تُحققُ الفكرة، وتُنزلها منازل الرسوم البيانية، وتُعاقِب بين المنازل والمراحل على مقادير ووجوه معلومة. ولا تغادر السياقة هذه، على معنى تحقيق الفكرة، الذهنيات ومجرداتها ومعادلاتها الحسابية والفيزيائية المستقيمة والجلية. ويملأ القص القوالب والمنازل والمراحل بمادة محسوسة تنحو نحو التعيين، أو الأعيان. ولكنها "أعيان على العموم" أو "أعيان عمومية"، على قول جورج بوليتزير في "معيوش" برغسون و "بدائه وجدان"(ـه).
وفي تمهيده وتسويغه القصصي خروجَ طه "الإسلامي" على الدولة والمجتمع المصريين، وهما دولة "الانفتاح" ومجتمعه على نحو ما يمثل عليهما الأستاذ فكري عبد الشهيد المحامي والحاج محمد عزام المقاول وكمال الفولي البرلماني والحزبي "القومي" (الحاكم) والأستاذ طلال السوري وبسيوني المصور وملاك خله الترزي الناشط وفوق هؤلاء جميعاً "الكبير" المحجوب - يضع الراوي الشابَ الطالب والمذاكر الطموح ومجتمع العمارة في شطريه على طرفي "تناقض" أو تقابل. وقسمة "أهل العمارة" قسمين، "بعضهم... يشجعه على الاستذكار" وآخرين "تزعجهم (فكرة ابن البواب المتفوق) على نحو ما"، بقيت من غير مفعول قصصي. فلا تخصيص ولا توسيط. وأقام القص على تكتيل الأدوار المفترضة كتلاً قَبَلية، على شاكلة قبائل الجمجمة وعظامها المتقابلة أو شاكلة الجماعات النسبية والقرابية التي يعرّفها اختلاف أرحامها وتفرقها. فيتناسل "الانزعاج" من "فكرة" تفوق ابن البواب "أفعالاً". وتترتب الأفعال على الفكرة الأولى ترتباً منطقياً: فحاول "الآخرون" إقناع والد طه، محمد، "بإلحاقه بالتعليم الصناعي بعد الإعدادية"، وكانوا "يسألون عليه أيام الامتحانات ويكلفونه بأعمال شاقة تستغرق وقتاً طويلاً...". ويفترض الراوي ان القارئ لم يفطن بعد الى غايات "سكان العمارة" وهو يصفها بـ "الدفينة". فيصرح، وهو لم يفعل غير التصريح، ويعزو السؤال والتكليف والأغراء بالبقشيش الى "رغبة دفينة خبيثة لتعطيله عن الاستذكار". وعلى شاكلة القَصَص البطولي الشعبي وأخباره "الحربية"، أو مثال قَصَص القُصّاص والوعاظ، يجمع طه "الأعمال" المرهقة والمصطنعة والمبدِّدة الى "التفاني" في الدرس والاستذكار. ويخرج الفتى منتصراً على "اولاد الكثيرين في العمارة".
فيزياء الطبائع
والواحد من "الكثيرين" ليس واحداً، على معنى الانفراد باسم وسيرة حال وقصد. فهو واحد على معنى إحصائي، وتمثيل على العينة. ويبقيه الراوي على سمته الغفل. وعلى هذا، فـ "الواحد... يلتقي بالآخر أمام المصعد فيسأله متهكماً... (فـ)يعلن الآخر بصراحة امتعاضه من هذا الموضوع...". ويتخفف الراوي من توسيط الواحد والآخر، ومن تخصيص لقائهما امام المصعد أو فيه. ويجمع الآحاد والآخرين في "هؤلاء السكان" جماعة أو جميعاً: "أخذوا يتحرشون بطه بعد ظهور النتيجة ويوبخونه على أهون سبب كان... يتعمدون إهانته... (يتثاقلون متعمدين) وهم داخلون الى العمارة حتى يهرع..." وهو على حاله "عندما يدخل الى فراشه آخر الليل يكون دائماً طاهراً متوضئاً بعد ان يصلي العشاء والشفع والوتر". ويتبدد، في الأثناء، "القسم" من اهل العمارة الذي دأب على "تشجيع" ابن البواب، وحضه على الاستذكار من طرق أبقاها الراوي طي الخفاء، أو عَلَماً على قصد قصصي يفترض التخصيص والتوسيط، ويواريه افتقار الراوي الى الإقبال على العالَم وعلى مسالكه الملتوية وأصحاب أدواره الكثر وأفعالهم.
فإذا نصب الراوي، وهو الخارج غير المتعين زمناً ولا موضعاً ولا مصالح أو ميولاً وهو المتناول الناس والحوادث كتلاً ومثالات، إذا نصب طه محمد الشاذلي تمثالاً وسطاً، حالماً منذ الطفولة بمثال الضابط "الناصري" أو السباعي (نسبة الى يوسف السباعي "الضابط"، على ما كان يوقع قصصه الأولى)، ومتسابقاً ومستذكراً وساهراً ومصلياً طاهراً وعفيفاً ومحباً بثينة السيد، جارة السطح ورفيقة الطفولة والمدرسة والصبا، وكاظماً الغيظ، ومترفعاً عن الإهانة – لم يبق ألا رمي المعدن الصافي هذا وبلّه في حمأة الاختبار وأتون الانفتاح والفساد و "الضلال" السياسي والاعتقادي. وحساب الراوي أو نهجه في القص ليس اختبارياً، على وجه الدقة. فـ "بروتوكول" الاختبار مغلق، ولا يحتمل نتاجاً غير ذاك المقدّر والمعلوم. واكتمال شرائط المثال، أو التمثال على ما مر، إنما هو المقدمة التي يريد القص ان يبني عليها أو يستنتجها حكماً في ضراوة "أهل" السلطة" و "أهل" المجتمع، أو "سكانهما". فلولا الضراوة هذه لما انتهى شاب من صنف الشاذلي الابن، دماثة واستقامة واعتدالاً، الى القتل والموت ثأراً من الإذلال الاجتماعي، والتحطيم النفسي الجسدي، والنفي من الإنسانية – في مجتمع يعرف الإنسانية بالكرامة المعنوية والرمزية وينزل "العيب" منزلة القتل. وموازنة الكفتين، كفة الفتى وكفة عوامل الإفساد والتضليل المسلطة عليه، يفترض فيها ان تقيس قياساً مجرداً وذهنياً، أي طبيعياً فيزيائياً، قوة عوامل الإفساد والتضليل.
وغلقُ "بروتوكول" الاختبار، وتحجير هذا على نتيجة واحدة، يحول دون حمل فصول الحوادث والوقائع التالية، والمفضية الى انخراط ابن العم الشاذلي في جماعة جهادية ثم الى مهاجمة الضابط الذي عذبه ورعى انتهاكه، على فصول ابتلاء، على معنى ديني أو أخلاقي. فتخرج قصة طه الشاذلي، وهو "رافد" بارز من روافد "نهر" الرواية المفترض، من الاختبار الروائي، واحتمالاته وجوازاته، على نحو ما تخرج من الابتلاء وإيحاءاته الخلاصية والإيمانية. وباب الخروج المزدوج هذا واحد، هو "بطولة" القَصَص الشعبي وملاحمه القتالية والأخلاقية. فالبطل المتوسط، والمتكتل كتلة معنوية متماسكة، يُلبسه الراوي صفات التمام والكمال البسيطة في معرض قص واقعي وطبيعي (على المعنى الأدبي الاصطلاحي) تقريباً له من مثال يجلو فصائل "الفارس" العامي الأخلاقية والدينية على تمامها وكمالها المتوقعين. ولا تخالف آداب السينما والتلفزيون والصحافة و "كتابتها"، ولا آداب السياسة المحلية، على وجهيها السلطاني والمعارض الخلاصي و "الخوارجي"، القصص الشعبي البطولي. فهي تشترك في نصبها خارجاً مفارقاً تلم منه بالحوادث والوقائع، وتُكتل الحوادث والوقائع وتحجرها انصاباً وأصناماً ومعاني ناجزة.
وليس انقلاب الفارس العامي مقاتلاً منتقماً انحرافاً عن مثال بطل القصص الشعبي، على وجهيه ومذهبيه. والحق ان الانقلاب هذا يستعير من "فكر" الرواية، على قول ناقد ومؤرخ أدبي معاصر، ومن "صورتها" المحدثة والبورجوازية الأوروبية والأميركية، رسمه. فهو يتعقب آثار دخول "البطل"، الصادر عن قيم الشرف والإقدام والعدالة وأحكام عملها الموجعة، "العالَم"، السفلي (تعريفاً) والمنفك من "سماء" القيم والصور. والتمثيل بـ "دون كيخوتيه" على الصدور والورود هذين، على خطى صاحب "نظرية الرواية"، جورج لوكاتش المجري، يكاد يكون مدرسياً. واشتباه معاني الحوادث والوقائع، والناس في ثنايا هذه وتلك وفي سياقتهما، هو ذريعة القص على وجه الرواية المحدثة، والباعث عليه. فالصدور عن قيم أو معان سامية وسابقة يقضي في من يصدرون عنها، حين مسارح السعي ولدت ناساً عاميين مختلفين وأحكاماً نثرية وذرائع تتماسك على منطق نفعي "تافه" – يقضي بعشي النظر واشتباه المعاني معاً. فلا يسع "البطل" المحدث والعامي، وهو ينتسب الى عالم دنيوي قوامه المنافع والأهواء في الأحوال كلها، الإقامة المزمنة، على غابر شأنه، (بـ)مقام البطولة الحربية والأخلاقية. وأوكل القصص البطولي الشعبي الى الشطار والزعار من العامة، على الضد من الأشراف نسباً وعملاً، التقلب بين أظهر العالم السفلي وأقنعته وحيله وتشبيهه. فثبَّت القصص، من هذه الطريق، انقسام الدنيا والناس طبقتين يحجز بينهما حاجز "عرقي" وكينوني، تتقاتلان قتال إفناء وإبادة، وقد تتداولان مرتبة "الأمر"، وهي مرتبة وجودية أو كينونية في عالم القصص وفي بعض الفقه السياسي الإمامي وفروعه المقاتلة والناطقة المعاصرة، على شاكلة مداولة الليل والنهار.
الحقيقة والتمثيل
وتجري "عمارة يعقوبيان" في تناولها سيرة الفتى طه محمد الشاذلي على رسمين: بطولي شريف وعامي وضيع، ملحمي القصد وإخباري النسيج وصحافيه أو تلفزيونيه (من باب متفرقات "البيبول" والمسلسلات). وتتوالى السيرة فصولاً. وفصلها الأول انفصال بثينة السيد، الجارة والرفيقة والحبيبة المرجوة والزوجة، وانحراف طريقها، على معاني الانحراف الكثيرة، عن طريق طه المستقيم. وانفصال بثينة ذريعة تشبيه تخلي الراوي، هنيهة سريعة ونادرة، عن موضعه الغفل من القص. فبعد لقاء طه ببثينة، وهو في طريقه الى كشفه "المصيري"، في مشهد "تعبيري" وتصويري تقليدي، يركب الشاب سيارة تاكسي. ويتأخر فكره أو خاطرته في "تغير" بثينة وفتور مشاعرها بإزائه وتحولها عنه، عن الواقعة نفسها. فيفترق الجاران والرفيقان، "تنسحب" هي وتمد يدها مصافحة "وتتحاشى النظر إلى عينيه (وتقول) بلهجة عادية رسمية: بالتوفيق إن شاء الله" (وكانت لتوها "هتفت بحرارة"، و "قالت بحنان صادق"، و "تطلعت إليه بعينيها العسليتين كالمندهشة")، "بعد ذلك فكر طه وهو جالس في التاكسي ان بثينة تغيرت ناحيته". وقد يحمل القارئ تفكر أو تفكير طه على تناول جانبي، على المعنى السينمائي والفوتوغرافي، لما يروي والعبارة عنه عبارة جزئية ومقيدة. فيكذِّب الراوي ظن القارئ تكذيباً قاطعاً. فالفكرة لم تكن فكرة، على معنى تقليب الرأي في أوجه جائزة، بل هي"حقيقة لا جدوى من تجاهلها". والحقيقة هذه ليست استدلالاً ولا استقراء، وهي لا توسِّط قرائن ولا تجمع وقائع، ولا تجر الى تحقيق ولا الى رواية تحتمل انقسام الرأي. فطه "يعرف (بثينة) جيداً وتكفيه نظرة واحدة لكي ينفذ الى أعماقها وهو يحفظ عن ظهر قلب كل أحوالها...". وانتهى العارف القلبي والحادس في الأحوال الى الحقيقة على صورة انقلاب من عدم الى وجود. وهي صورة الحادثة نفسها، أي حال بثينة. فالصبية "فجأة تغيرت... حدث ذلك عقب وفاة أبيها...".
وفي اليوم نفسه، وهو يوم الكشف، يتبدد "حلم" ابن البواب بالمرتبة والدور والمثال الاجتماعي والأخلاقي. ويوكل الراوي سرد واقعة الكشف الى ذاكرة الشاب المتحن. فيقول ان طه "يسترجع... احداث ذلك اليوم". وسبق الاسترجاع تمهيد قابل "الفيلم السينمائي"، والاستغراق فيه والانفعال به، بـ "الواقع" والعودة إليه، ونَقَضَ "السينما" أو صالة العرض بـ "الشارع المزدحم بالسيارات والمارة" ولفح "الهواء البارد". ويقص المسترجع في آخر النهار واقعة الامتحان في ضوء التقابل والنقض هذين، وعلى هدي تفريقه السينما من الواقع، وبلوغه مقام الحقيقة، والنفاذ الى الأعماق بنظرة واحدة، على ما فكر في تغير بثينة صباح يوم "الكشف" (وهو اسم صوفي على مسمى روحاني أو "مكي"). ويوجب مقام الحقيقة ان "كل ما حدث... مجرد فيلم، تمثيل في تمثيل...". وعلى هذا، لا تحول رواية الحادثة من جهة طه الشاذلي، وبحسب ما يرى، بينه و بين قص بعض أجزائها من جهة الفاحصين، "اللواء الرئيس" ومقدم الهيئة الفاحصة أو الكاشفة الثلاثية. فاللواء الرئيس علق على إجابة طه بالابتسام، و "هز رأسه في إيجاب صريح" دعا طه الى توقع أمره بالانصراف. و "لكن اللواء الرئيس حدق فجأة في الأوراق". والفجأة أو الفجاءة هذه من مقتضيات وقوع القدر وتنزله على المصائر العامية والضعيفة. ومهد التحديق الفجائي لكشف اللواء، هذه المرة، عن "حقيقة" طه، وهي "مهنة والد(ه)". وبددت حقيقة المهنة سينما الحلم. ونطقت الحقيقة بلسان بثينة و "علمها" الذي علمها إياه "الشغل"، وهي كانت موضوع علم طه بحقيقتها: "البلد دي مش بلدنا يا طه. دي بلد اللي معه فلوس".
ويمضي طه على تبديد "التمثيل" والأقنعة التي تحجب الحقيقة عن أعين الحالمين الواهمين، بينما تمضي "عمارة يعقوبيان" وفروعها وروافدها الأخرى، من جهتها أو جهاتها، على استعراض الحقيقة والتمثيل عليها، وعلى أعيانها الاجتماعية والسياسية والأمنية. فيكتب الممتحن الراسب الى "سيادة الرئيس" رسالة شكوى وتظلم يدعي فيها على "سيادة اللواء رئيس لجنة الاختبار بكلية الشرطة" بالسرقة. واحتج لدعواه بحديث نبوي صحيح. وشفع الدعوى بالانتساب الى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، سُلَّم "أولاد الكبراء" الى العمل الديبلوماسي. والصلاة في المسجد، حين رفع آذان الظهر، هي فارق "الطلاب الأغنياء (من) الفقراء"، والعصا التي تشق البحر كتلتين، واحدة من "خريجي مدارس اللغات وأصحاب السيارات الخاصة والملابس المستوردة والسجائر الأجنبية"، وهم قطب "أجمل البنات وأكثرهن أناقة"، والأخرى من "الطلاب الفقراء (المتلاصقين) كالفئران المذعورة". وذلك على قسمة تبويب وترتيب لا توسط فيها. ويقطع طه على "شكله" خالد عبدالرحيم. و "(يحبه) جداً ربما لأنه فقير مثله أو هو... أفقر منه"، وقطعاً "لأنه عميق التدين" و "(يستحضر) الله بمعنى الكلمة". ويقود خالد عبدالرحيم صديقه طه الشاذلي الى أصدقائه في المدينة الجامعية، وهم "ريفيون وطيبون ومتدينون وفقراء جميعاً". و "يفهم" طه من طريقهم ان "المجتمع في مصر مجتمع جاهلية لا مجتمع إسلام"، على قول سيد قطب الأشهر، وفتواه في التبديع والردة.
وتتداعى حلقات الدعوة والدعاة، وتسلم الحلقة طه الى تاليتها من غير التواء. ويقود خالد عبدالرحيم زميله وصديقه ومحبه الى الداعية الشيخ شاكر، إمام صلاة الجمعة في مسجد أنس بن مالك بميدان التحرير. وفي المسجد يسبح المريد الجديد في "جو اسطوري وصادق ونقي". ويدخل حلقة "المقربين" الى الشيخ. ويستبدل ملابسه الإفرنجية بالزي الإسلامي، ووجهه الحليق بلحية "أعفاها فمنحته مظهراً مهيباً وقوراً"، وشخصه القديم بشخص آخر جديد، و "روحه" القديمة بـ "روح جديدة قوية متوثبة". فتخفف من "التضاؤل والرهبة والانكسار أمام السكان". وأشركه الشيخ شاكر في تجارة الكتب الدينية، فلم يحتج مذ ذاك الى مداهنة أهل العمارة. و "طلق" بثينة و "طلقته": "دا انت حتى بقيت ملتح وملتزم وأنا بالبس قصير وعريان... شكلنا ما يلبقش على بعض". ويشركه شيخه في "مظاهرة كبرى في الجامعة" ويدعوه الى قراءة "ميثاق العمل الإسلامي". وفي التظاهرة "يستشهد" خالد حربي، ويعتقل مخبرون، "ثلاثة رجال ضخام"، الناشط الإسلامي. وينهش "كلب ضخم" في قسم التوقيف "في صدر (طه) وعنقه". وينهال الضباط عليه بـ "الضربات والركلات" قبل القارعة: "ألقوا به منكفئاً على الأرض وبدأت أكثر من يد... تنزع عنه ملابسه الداخلية... وثبتوا جسده بأيديهم وأقدامهم وامتدت يدان غليظتان فشدتا عضلتي إليته وفرقت بينهما وأحس بجسم صلب ينغرز في مؤخرته ويقطع أنسجته الداخلية...".
ويخرج طه من المعتقل الى لقاء الشيخ شاكر في "طبعة افرنجية"، كناية عن لباسه المتخفي والمتنكر، ويجاهر برغبته في الثأر من الذين "هتكوا عرضـ(ـه)"، والانتقام من الذين "قتلوه في المعتقل". والقتل هو التأنيث: "كانوا يسمونني فوزية... وكانوا كل يوم يضربونني حتى أقول امامهم: أنا امرأة واسمي فوزية". فلا يريد بعدها ان ينسى ولا ان "يعيش". و "فهم طه ان معارضة الشيخ (شاكر) له في البداية كانت حيلة لاختبار قوة عزمه". وفي الصحراء، وراء الجبال، يسافر طه وشيخه الى "مجموعة بيوت صغيرة مبنية بالطوب الأحمر (...) أشبه بشوارع المناطق العشوائية"، هي قاعدة الجهاد. وفي القاعدة، في إمرة الشيخ بلال، يتعلم طه "بإذن الله كيف يأخذ حقـ(ـه) وينتقم من الظالمين جميعاً". ولا يفصله عن مقتله المحتم إلا زواج هوليوودي برضوى، أرملة أحد "الشهداء" السابقين. ويتوسط سقوط طه الدامي مقتل حاتم المثلي بيد عبده الصعيدي، وزواج زكي الدسوقي، الدونجوان المتداعي، ببثينة السيد، العاشقة التائبة، في مطعم مكسيم "الملكي" السابق.
ولكن روافد القص الكثيرة والمتزامنة والمفترضة متضافرة، لا تلزم القارئ بشبكها، ولا تدعوه كتابتها التقريبية والرتيبة الى شبكها أو الى تعقب أصداء الرافد في الآخر. وعلى مثال سيرة طه محمد الشاذلي، في وسع من شاء إخراج السير الأخرى من مواضعها المتناثرة ودمجها في سير متصلة قائمة برأسها. وبعض الروابط بين السير، مثل "رابط" بثينة، تبقى ضعيفة، ولا تتطاول الى الحوادث، ولا الى الناس. والرابط المعلن – العمارة، وآصرتها المدينية والاجتماعية والزمنية، والوقت، جيل "الانفتاح" وأولاده (في اثناء حرب الخليج الثانية ورد صدام حسين عن الكويت) – لا يرتب تضافراً، ولا شبكاً، ولا اختياراً كتابياً. فيجمع الكاتب فنون القصص الشعبي، القديم الشفهي والجديد المصور ومتفرقاته، "الملحمة" والمشهد الكوميدي والمشهد العاطفي والدرامي والمشهد البورجوازي اليومي...، من غير حرج ولا ضيق ولا تركيب. ولعل هذا "أدب" الانفتاح، بدوره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق