الحياة، 21/4/2010
تلقى المواقف والتصريحات الأميركية التي تربط معالجة المسألة الفلسطينية (العربية) – الإسرائيلية بمصالح الولايات المتحدة الإقليمية والدولية، وبأثر المسألة في حظوظ السياسة الأميركية العسكرية من النجاح على مسارح مكافحة الجماعات الإرهابية - تلقى ترحيباً عربياً رسمياً وإعلامياً يكاد يكون عاماً لولا تحفظ إيراني تعلنه طهران و «وكالاتها» المحلية إعلاناً صاخباً. وتتوالى المواقف والتصريحات هذه فصولاً منذ تنبيه قائد القيادة الوسطى الجنرال ديفيد بترايوس في جلسة استماع بواشنطن، في 16 آذار (مارس)، الى ان دوام النزاع وتعثر حله، الى انخراط الولايات المتحدة في التوسط فيه وفي ميادين قتال شرق أوسطية وإسلامية قريبة، تعرض الجنود الأميركيين، وسياسة بلدهم الساعية في حلول سياسية وطنية، الى أخطار إضافية وعرقلة متمادية.
وفسر المراقبون على المعنى نفسه ما أعلنه الرئيس الأميركي مباشرة في مؤتمر الأمن النووي بواشنطن في 13 و14 نيسان (ابريل). فقال ان «المصلحة الحيوية» للولايات المتحدة تقضي بتقليص حدة النزاعات الإقليمية تمهيداً لحلها. وعلل مصلحة بلده بقوتها العسكرية الدولية، وبحشرها في النزاعات وإلزامها الانخراط فيها، مضطرة، حين انفجارها. «وهذا يؤدي الى ثمن باهظ نسدده دماً وموارد». وكررت وزيرة خارجية أوباما، هيلاري كلينتون، في الأسبوع نفسه، تسويغ الدعوة الى الحل، والإلحاح فيه، بالقول ان إرجاءه، والتسويف فيه، يقويان «دعاة الحقد والعنف، و (يعززان) قوة الرئيس الإيراني المعادي للسامية والمتطرفين» من أمثال «حماس» و «حزب الله». وكان ديفيد بترايوس نفسه يكرر، في 16 نيسان، ان «دوام النزاع العربي – الإسرائيلي يسهم في تكوين مناخ معاد في منطقة تخوض فيها القوات الأميركية حربين، بأفغانستان والعراق»، وأن التعثر على طريق السلام يغذي مساعي المتطرفين، ويسمم «المناخ» في المنطقة.
وإلى ربط المسؤولين الأميركيين المتواتر انخراط بلدهم في الحلول السياسية للنزاعات الإقليمية والمحلية الوطنية بمصالحهم الوطنية، ومسوغات هذه المصلحة وضروراتها، فهم يحرصون على رهن الحلول ونجاحها بـ «قرار» المتنازعين و «رغبتهم» في بلورة الحلول، والاضطلاع بتبعاتها. وشاهد أوباما من وزير خارجية جورج بوش الأب، وراعي خطوات مؤتمر مدريد الأولى، جيمس بيكر، يذهب الى ان الأميركيين لا يسعهم ان «يرغبوا في السلام فوق ما يرغب فيه» المتنازعون والمتقاتلون أنفسهم. وهو ما كررته وزيرة الخارجية في افتتاح مركز دانيال ابراهام للسلام في الشرق الأوسط، وصدّرت به خطبتها.
والحق ان عناصر سياسة أوباما وفريقه، اليوم، مستقاة، على هذا القدر أو ذاك، من «خطوط» سياسة الرئيس الأميركي الحادي والأربعين الموسومة بـ «الواقعية». ولا يقتصر الأمر على دعوة جورج بوش الأب في افتتاح مؤتمر مدريد في أواخر 1991، المتحاورين والمتفاوضين على الاضطلاع بالحوار والمفاوضة «مباشرة»، على قوله، والتخفف تدريجاً من الوسطاء، وأولهم الوسيط الأميركي. فهو حاول، في العام التالي، التخفف من التوسط في نزاعات البلقان عشية انفجار الاتحاد اليوغوسلافي. ونبه الى مواقف دولية متناقضة، بعضها دعا الولايات المتحدة الى الانخراط في النزاعات القومية والأهلية المتخلفة عن الحقبة السوفياتية، وبعضها الآخر نعى عليها التدخل والتوسط، واتهمها بالانحياز إلى أنصار التفتيت الوطني، أو التجزئة في مصطلح عربي، وإلى أداء دور «الشرطي» الدولي.
و «تخطى» بعض السياسيين العرب النازعين المتناقضين. فدعوا الى وساطة «نزيهة»، ولا يزالون يدعون إليها. وقوامها «الضغط على إسرائيل». ويتيح اشتراط النزاهة الجمع بين طلب الالتزام الأميركي، بذريعة دالتها على إسرائيل ومساندتها لها، ومهاجمة السياسة الأميركية المتغطرسة والمنحازة الى إسرائيل والحض على «مقاومتها»، من غير استبعاد السلاح الأعمال الإرهابية تحت ستارة حرب التحرر الوطني.
وينطوي الرأي هذا، وهو يصدر عن رأي عام في العلاقات الدولية، على التباس لا تسلم منه السياسة الأميركية نفسها وليس لها ان تسلم منه. فالمسؤوليات الدولية أو العالمية الأميركية حقيقة أو واقعة سياسية وعسكرية واقتصادية وتقنية (تكنولوجية) وثقافية ثقيلة تتولاها السياسات الأميركية المتعاقبة، على تنازع بين الاعتزال وبين الاضطلاع بتبعات «الاستثناء» الباهظة. ومؤتمر الأمن النووي الأخير بواشنطن قرينة قوية على مترتبات المكانة الأميركية، على نحو ما ان ضآلة «مؤتمر» طهران قرينة جيدة ومؤسفة في آن على عزلتها في عهد رئيسها الحرسي. وحين يقرر أوباما اضطرار بلده، القوة العسكرية الكبيرة، الى التدخل في النزاعات فهو يعزوه الى ان بلده «لا(يزال) دولة عسكرية قوية»، مهما كان رأي الأميركيين في تبعات قوة بلدهم العسكرية («بغض النظر عن رأينا»)، على قوله. وهذا رد صريح على دعاة العزلة ودعاة الاستثناء و «الرسالة المسلحة»، جميعاً. فهو يدعو الأولين الى تحمل المسؤولية عن الدور الأميركي العالمي والمتعاظم العولمة، وكان هؤلاء حملوا العولمة المسؤولية عن الإرهاب وهجماته و «كره أميركا». ويدعو الآخرين الى حماية المصالح الأميركية العالمية من غير التخلي عن معيار المصلحة الأميركية الوطنية، وعن التقيد بهذا المعيار في معاملة أقرب الأصدقاء والحلفاء، وإسرائيل في صدارتهم من غير شك.
وربما يهمل الترحيب العربي بعض الشيء دلالة الرابط الذي تقيمه السياسة الأميركية وتوجبه بين حماية مصالحها الوطنية وبين الإسهام في حل النزاع «العربي» – الإسرائيلي، ومضمون هذا الرابط. فهذا الرابط ينبغي حمله على عالمية القوة الأميركية، ومسؤولياتها ومصالحها المترتبة على مكانتها. وعلى هذا، فهو لا يُحمل لا على الصداقة الأميركية – الإسرائيلية، ولا على دور الولايات المتحدة في «إعالة» الدولة العبرية وضمان أمنها، ولا على عدالة القضية الفلسطينية – على حسبان الاعتبارات العربية وبعض الاعتبارات الإقليمية-، من غير إهمال هذه العوامل أو إغفالها. وسابقة جورج بوش الأب، ووزير خارجيته جيمس بيكر، في 1991، أي التلويح بتقييد ضمان القروض الأميركية الكبيرة الى اسرائيل اذا مضت على عرقلة الإعداد لمؤتمر مدريد، وهي السابقة التي يحلم «رأي عام» عربي بتكرارها، لم تخرج عن إطار الرابط ودلالته. وتوسطت الديبلوماسية الأميركية يومها وساطة قوية في مسألة ورطتها فيها سياسات إقليمية خرقاء، لم يكن التباس مصالحها بالمصالح الإسرائيلية في عدادها أو من بينها. وبعض الدعوات «العربية» الى وساطة «نزيهة» لم تحجم عن التوسل بـ «النزاهة» الأميركية الى الاستقواء بها، وبمفاوضة الأميركيين الى عقد صفقات على حساب الدول والقوى الصغيرة الجارة واقتسام النفوذ الإقليمي مع الدولة العبرية.
ويهمل الترحيب العربي كذلك اشتراط السياسة الأميركية على الجانب العربي، وهي تلوح بتقييد شطط الجانب الإسرائيلي ودعوته الى قبول مبدأ التسوية ثم تسويات جزئية، شروطاً غير يسيرة. وفي سابقة بوش الأب وبيكر، ينبغي التذكير ربما بأن القروض أو الائتمانات الكبيرة، نحو 10 بلايين دولار ، كان غرضها استقبال المهاجرين اليهود الروس وتوطينهم في مستوطنات، الضفة الغربية والقدس الشرقية. واشترت السياسة الإسرائيلية استيطان الوافدين الجدد لقاء انقيادها الى ما فيه مصلحتها، المشتركة مع المصلحة الأميركية. وهذا ثمن أضعف من الثمن المعنوي والسياسي المطلوب من بعض المفاوضين الفلسطينيين والعرب. ويتصدر الثمن المطلوب النزول عن «حق العودة». وتعلن بعض الأطراف العربية، وأولها سورية الأسدية، رفضها التقيد بمترتبات وساطة اميركية «نزيهة» تتضمن فيما تتضمن، وعلى خلاف «مكاسب» المفاوضة مع بيكر في 1991، انسحاب سياستها من فروعها الفلسطينية واللبنانية والعراقية.
ولا ريب في ان القواسم المشتركة، الأميركية والإسرائيلية، تتناول فك المسألة الفلسطينية، وفروعها العربية الباقية، من ارتهانها الإيراني و «الإسلامي» المتفاقم. فالسياسة الإيرانية جعلت المسألة الفلسطينية مطية أولى من مطايا أغراضها النووية والإقليمية والداخلية (تحصين طاقمها القيادي المضطرب). وهي نجحت في توسيط المسألة العربية الأولى، وإعمالها في إنشاء ولايات وأحزمة بعيدة تأتمر بأمرها، وتقوم مقام مسارح حرب بديلة أو فرعية تبادر طهران إليها، أو تسوغها وتتوسل بها الى إعلاء مكانتها قوةً إقليمية مقتدرة. وعلى رغم الفرق الكبير في الاستثمار في المسألة الفلسطينية، وفي الفلسطينيين، لم يقتصر التوسل والامتطاء على ايران الخمينية والحرسية وولاياتها، ولا على سورية الأسدية في عهديها ووكالاتها، بل تعدى «الدولتين» الى «قاعدة» بن لادن و «قواعد جهادها» و «دولها الإسلامية» المزعومة وجماعاتها المتقلبة والمتحولة في أواني «الجهاد» المستطرقة وخدماتها هنا وهناك، في العراق والأردن ولبنان.
وتجمع الكتل الثلاث، طهران وولاياتها ودمشق ووكالاتها و «القاعدة» وأذرعتها، على فرق ما بينها واختلاف مصالحها وسياساتها في بعض المسارح وتناقضها في بعضٍ آخر، تجمع على الأخذ بجدل «العدو الخارجي» و «العدو الداخلي»، بحسب تمييز وربط قاعديين يكثر أيمن الظواهري من استعمالهما على خطى «أمميات» ومنظمات «عالمية» سابقة وحالية. وترعى سياسات الكتل الثلاث، على مقادير متفاوتة، ربط الحرب «العالمية» على «الغرب الأميركي» و «المتصهين» بالخروج على أبنية الدولة الوطنية، بذريعة حلّ الدولة الوطنية وأجهزتها ووظائفها في تبعيتها للقوة العالمية العظمى، وفي طاقم الحكم «العميل». ويحمل النهج هذا القوى المتفرقة والمختلفة التي تنتهجه على إرساء العلاقات السياسية الداخلية («المنزلية») على الحرب الأهلية، وانتهاك سيادة الدول. والمزاودة على الانتهاك (ومن بعض فصول المزاودة الأخيرة تشهير العولقي، من «القاعدة»، بالجماعة المسلحة الشيعية في لبنان). وتتخفف العلاقات الإقليمية والخارجية من ضوابط العنف، وتسعى في الانتشار النووي والصاروخي، وفي استتباع مناطق نفوذ، وتغذي الحروب المحدودة وغير المتكافئة. وتعول في أفعالها وخططها ومقاصدها على تورط واشنطن، القوة العظمى، في المنازعات المحلية والإقليمية، وفي التحكيم الدولي.
فينشأ عن هذا نظام إقليمي هجين وموازٍ، من دول وأشباه دول ومنظمات أهلية معروفة ومعلنة وجماعات مسلحة سرية وغامضة الهوية، يحضن أنواعاً مركبة من «الكائنات» السياسية والأهلية والعسكرية والأمنية. وتتحدى هذه «الكائنات» النزعات الوطنية والإقليمية الساعية في بلورة أطر تقر بغير الحرب أداة سياسية، في الداخل الأهلي وفي الخارج الإقليمي والدولي. والنظام الهجين والموازي هذا يضيِّع المسؤوليات، ويهرب من المحاسبة، ويدمج النزاعات المختلفة بعضها في بعض، ويحول دون استقرار السياسات الوطنية الداخلية على تقاليد وأعراف تكبح جماح التعسف والتسلط، وتحضن نمو قوى اجتماعية متماسكة، وتمهد لعلاقات تجمع المنازعة الى التحكيم والتأليف.
والذريعة الفلسطينية التي ينوه أوباما ووزيرة خارجيته، بعد بترايوس قائد قيادته الوسطى، بضرورة نزع فتيلها والحؤول دون تسميمها بالعنف العلاقات الإقليمية، لم يقتصر إعمالها على طهران وطاقمها الحاكم، ولا على سورية ونظامها، أو «القاعدة» وأذرعتها. فهي نافذة فرص «إسلامية» عامة. ومنها دخل، أخيراً، قادة حزب العدالة والتنمية التركي، أو هم يحاولون الدخول منها. و «إشراقات» رجب طيب أردوغان «العربية» ليست بشير خير وفأل. فالحزب الإسلامي المعتدل لا يمتنع من إعمال «الموارد» الفلسطينية (والعربية والإسلامية تالياً) المتحصلة من وساطته المعلقة في المفاوضات السورية – الإسرائيلية غير المباشرة، ومن تنديده بحرب إسرائيل و «حماس» في غزة، وإحجامه عن الاضطلاع بتبعاته عن أحوال العراق، ولا يمتنع من توظيف الموارد هذه في سياسات داخلية وإقليمية حزبية ومشكلة. فهذه المكاسب ليست جزءاً من مثال سياسة إقليمية ينبغي أن تؤدي الى إحاطة تركيا بأصدقاء،وحسب. وإنماهي شطر راجح من برنامج سياسي داخلي يرمي الى إحلال غلبة حزبية واجتماعية مختلطة محل غلبة بيروقراطية متصلبة وشائخة،والى مقايضة القومية العسكرية التركية الآفلة بقومية «عثمانية» تحابي بعض بلدان الجوار وشعوبه، وتترك مخلفات المرحلة العثمانية – التركية (الأكراد والعلويون والأرثوذكس والعلمانيون في الداخل والأرمن وقبرص وقره باغ في الخارج) معلقة ومترجحة. ويستر الحزب المتردد المسائل الحاسمة هذه، وتركة التصدي لمعالجتها، بانتصاراته الفلسطينية والعربية، وينازع القاهرة على وساطتها الفلسطينية إمعاناً في إبراز ثقله المفترض.
والمقارنة بين أنقرة وطهران (ودمشق) عَرَضية وسطحية من غير شك، ولا تساوي بين أطرافها. وإهمال أردوغان مؤتمر «صديقه» النووي أحمدي نجاد أمارة صريحة على التزام الأول منطقاً سياسياً متعارَفاً على حدوده الدنيا. ويسوغ المقارنة موضع المسألة الفلسطينية، في صيغها السائرة، من استدراج سياسات مختلفة وتسعى في غايات متباينة وربما متعارضة، الى ركوب المركب الهجين، الأهلي والقومي والوطني والإقليمي والعالمي، المفضي الى مزج النزاعات، وتضييع المسؤوليات، والحض على استشراء عنف في الأحوال كلها. وأياً كان الموقف الأميركي، ورأي الإدارة «الشخصي» أو حتى السياسي في نزاع من النزاعات، فالمصلحة الوطنية الأميركية تدعو القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية والأمنية العالمية، الى رعاية أطر داخلية وإقليمية يعوَّل عليها في تقييد النزاعات، و «تصفيتها» من الهجنة والتداخل المعميين، وتحديد المسؤوليات، ولجم تناسل العنف ومسوغاته. وهذه مصلحة وطنية أميركية تلتقي ومصالح وطنية وإقليمية ودولية جامعة. وجزء من تبعات المصالح هذه، وهو جزء ثقيل، يقع على عاتق «العرب»، شعوباً ومجتمعات ودولاً. والاستقواء بـ «الرابط»، وقبله الاستقواء بـ «تقرير غولدستون» قبل نسيانه، لا يقيت من سياسة مسؤولة.
تلقى المواقف والتصريحات الأميركية التي تربط معالجة المسألة الفلسطينية (العربية) – الإسرائيلية بمصالح الولايات المتحدة الإقليمية والدولية، وبأثر المسألة في حظوظ السياسة الأميركية العسكرية من النجاح على مسارح مكافحة الجماعات الإرهابية - تلقى ترحيباً عربياً رسمياً وإعلامياً يكاد يكون عاماً لولا تحفظ إيراني تعلنه طهران و «وكالاتها» المحلية إعلاناً صاخباً. وتتوالى المواقف والتصريحات هذه فصولاً منذ تنبيه قائد القيادة الوسطى الجنرال ديفيد بترايوس في جلسة استماع بواشنطن، في 16 آذار (مارس)، الى ان دوام النزاع وتعثر حله، الى انخراط الولايات المتحدة في التوسط فيه وفي ميادين قتال شرق أوسطية وإسلامية قريبة، تعرض الجنود الأميركيين، وسياسة بلدهم الساعية في حلول سياسية وطنية، الى أخطار إضافية وعرقلة متمادية.
وفسر المراقبون على المعنى نفسه ما أعلنه الرئيس الأميركي مباشرة في مؤتمر الأمن النووي بواشنطن في 13 و14 نيسان (ابريل). فقال ان «المصلحة الحيوية» للولايات المتحدة تقضي بتقليص حدة النزاعات الإقليمية تمهيداً لحلها. وعلل مصلحة بلده بقوتها العسكرية الدولية، وبحشرها في النزاعات وإلزامها الانخراط فيها، مضطرة، حين انفجارها. «وهذا يؤدي الى ثمن باهظ نسدده دماً وموارد». وكررت وزيرة خارجية أوباما، هيلاري كلينتون، في الأسبوع نفسه، تسويغ الدعوة الى الحل، والإلحاح فيه، بالقول ان إرجاءه، والتسويف فيه، يقويان «دعاة الحقد والعنف، و (يعززان) قوة الرئيس الإيراني المعادي للسامية والمتطرفين» من أمثال «حماس» و «حزب الله». وكان ديفيد بترايوس نفسه يكرر، في 16 نيسان، ان «دوام النزاع العربي – الإسرائيلي يسهم في تكوين مناخ معاد في منطقة تخوض فيها القوات الأميركية حربين، بأفغانستان والعراق»، وأن التعثر على طريق السلام يغذي مساعي المتطرفين، ويسمم «المناخ» في المنطقة.
وإلى ربط المسؤولين الأميركيين المتواتر انخراط بلدهم في الحلول السياسية للنزاعات الإقليمية والمحلية الوطنية بمصالحهم الوطنية، ومسوغات هذه المصلحة وضروراتها، فهم يحرصون على رهن الحلول ونجاحها بـ «قرار» المتنازعين و «رغبتهم» في بلورة الحلول، والاضطلاع بتبعاتها. وشاهد أوباما من وزير خارجية جورج بوش الأب، وراعي خطوات مؤتمر مدريد الأولى، جيمس بيكر، يذهب الى ان الأميركيين لا يسعهم ان «يرغبوا في السلام فوق ما يرغب فيه» المتنازعون والمتقاتلون أنفسهم. وهو ما كررته وزيرة الخارجية في افتتاح مركز دانيال ابراهام للسلام في الشرق الأوسط، وصدّرت به خطبتها.
والحق ان عناصر سياسة أوباما وفريقه، اليوم، مستقاة، على هذا القدر أو ذاك، من «خطوط» سياسة الرئيس الأميركي الحادي والأربعين الموسومة بـ «الواقعية». ولا يقتصر الأمر على دعوة جورج بوش الأب في افتتاح مؤتمر مدريد في أواخر 1991، المتحاورين والمتفاوضين على الاضطلاع بالحوار والمفاوضة «مباشرة»، على قوله، والتخفف تدريجاً من الوسطاء، وأولهم الوسيط الأميركي. فهو حاول، في العام التالي، التخفف من التوسط في نزاعات البلقان عشية انفجار الاتحاد اليوغوسلافي. ونبه الى مواقف دولية متناقضة، بعضها دعا الولايات المتحدة الى الانخراط في النزاعات القومية والأهلية المتخلفة عن الحقبة السوفياتية، وبعضها الآخر نعى عليها التدخل والتوسط، واتهمها بالانحياز إلى أنصار التفتيت الوطني، أو التجزئة في مصطلح عربي، وإلى أداء دور «الشرطي» الدولي.
و «تخطى» بعض السياسيين العرب النازعين المتناقضين. فدعوا الى وساطة «نزيهة»، ولا يزالون يدعون إليها. وقوامها «الضغط على إسرائيل». ويتيح اشتراط النزاهة الجمع بين طلب الالتزام الأميركي، بذريعة دالتها على إسرائيل ومساندتها لها، ومهاجمة السياسة الأميركية المتغطرسة والمنحازة الى إسرائيل والحض على «مقاومتها»، من غير استبعاد السلاح الأعمال الإرهابية تحت ستارة حرب التحرر الوطني.
وينطوي الرأي هذا، وهو يصدر عن رأي عام في العلاقات الدولية، على التباس لا تسلم منه السياسة الأميركية نفسها وليس لها ان تسلم منه. فالمسؤوليات الدولية أو العالمية الأميركية حقيقة أو واقعة سياسية وعسكرية واقتصادية وتقنية (تكنولوجية) وثقافية ثقيلة تتولاها السياسات الأميركية المتعاقبة، على تنازع بين الاعتزال وبين الاضطلاع بتبعات «الاستثناء» الباهظة. ومؤتمر الأمن النووي الأخير بواشنطن قرينة قوية على مترتبات المكانة الأميركية، على نحو ما ان ضآلة «مؤتمر» طهران قرينة جيدة ومؤسفة في آن على عزلتها في عهد رئيسها الحرسي. وحين يقرر أوباما اضطرار بلده، القوة العسكرية الكبيرة، الى التدخل في النزاعات فهو يعزوه الى ان بلده «لا(يزال) دولة عسكرية قوية»، مهما كان رأي الأميركيين في تبعات قوة بلدهم العسكرية («بغض النظر عن رأينا»)، على قوله. وهذا رد صريح على دعاة العزلة ودعاة الاستثناء و «الرسالة المسلحة»، جميعاً. فهو يدعو الأولين الى تحمل المسؤولية عن الدور الأميركي العالمي والمتعاظم العولمة، وكان هؤلاء حملوا العولمة المسؤولية عن الإرهاب وهجماته و «كره أميركا». ويدعو الآخرين الى حماية المصالح الأميركية العالمية من غير التخلي عن معيار المصلحة الأميركية الوطنية، وعن التقيد بهذا المعيار في معاملة أقرب الأصدقاء والحلفاء، وإسرائيل في صدارتهم من غير شك.
وربما يهمل الترحيب العربي بعض الشيء دلالة الرابط الذي تقيمه السياسة الأميركية وتوجبه بين حماية مصالحها الوطنية وبين الإسهام في حل النزاع «العربي» – الإسرائيلي، ومضمون هذا الرابط. فهذا الرابط ينبغي حمله على عالمية القوة الأميركية، ومسؤولياتها ومصالحها المترتبة على مكانتها. وعلى هذا، فهو لا يُحمل لا على الصداقة الأميركية – الإسرائيلية، ولا على دور الولايات المتحدة في «إعالة» الدولة العبرية وضمان أمنها، ولا على عدالة القضية الفلسطينية – على حسبان الاعتبارات العربية وبعض الاعتبارات الإقليمية-، من غير إهمال هذه العوامل أو إغفالها. وسابقة جورج بوش الأب، ووزير خارجيته جيمس بيكر، في 1991، أي التلويح بتقييد ضمان القروض الأميركية الكبيرة الى اسرائيل اذا مضت على عرقلة الإعداد لمؤتمر مدريد، وهي السابقة التي يحلم «رأي عام» عربي بتكرارها، لم تخرج عن إطار الرابط ودلالته. وتوسطت الديبلوماسية الأميركية يومها وساطة قوية في مسألة ورطتها فيها سياسات إقليمية خرقاء، لم يكن التباس مصالحها بالمصالح الإسرائيلية في عدادها أو من بينها. وبعض الدعوات «العربية» الى وساطة «نزيهة» لم تحجم عن التوسل بـ «النزاهة» الأميركية الى الاستقواء بها، وبمفاوضة الأميركيين الى عقد صفقات على حساب الدول والقوى الصغيرة الجارة واقتسام النفوذ الإقليمي مع الدولة العبرية.
ويهمل الترحيب العربي كذلك اشتراط السياسة الأميركية على الجانب العربي، وهي تلوح بتقييد شطط الجانب الإسرائيلي ودعوته الى قبول مبدأ التسوية ثم تسويات جزئية، شروطاً غير يسيرة. وفي سابقة بوش الأب وبيكر، ينبغي التذكير ربما بأن القروض أو الائتمانات الكبيرة، نحو 10 بلايين دولار ، كان غرضها استقبال المهاجرين اليهود الروس وتوطينهم في مستوطنات، الضفة الغربية والقدس الشرقية. واشترت السياسة الإسرائيلية استيطان الوافدين الجدد لقاء انقيادها الى ما فيه مصلحتها، المشتركة مع المصلحة الأميركية. وهذا ثمن أضعف من الثمن المعنوي والسياسي المطلوب من بعض المفاوضين الفلسطينيين والعرب. ويتصدر الثمن المطلوب النزول عن «حق العودة». وتعلن بعض الأطراف العربية، وأولها سورية الأسدية، رفضها التقيد بمترتبات وساطة اميركية «نزيهة» تتضمن فيما تتضمن، وعلى خلاف «مكاسب» المفاوضة مع بيكر في 1991، انسحاب سياستها من فروعها الفلسطينية واللبنانية والعراقية.
ولا ريب في ان القواسم المشتركة، الأميركية والإسرائيلية، تتناول فك المسألة الفلسطينية، وفروعها العربية الباقية، من ارتهانها الإيراني و «الإسلامي» المتفاقم. فالسياسة الإيرانية جعلت المسألة الفلسطينية مطية أولى من مطايا أغراضها النووية والإقليمية والداخلية (تحصين طاقمها القيادي المضطرب). وهي نجحت في توسيط المسألة العربية الأولى، وإعمالها في إنشاء ولايات وأحزمة بعيدة تأتمر بأمرها، وتقوم مقام مسارح حرب بديلة أو فرعية تبادر طهران إليها، أو تسوغها وتتوسل بها الى إعلاء مكانتها قوةً إقليمية مقتدرة. وعلى رغم الفرق الكبير في الاستثمار في المسألة الفلسطينية، وفي الفلسطينيين، لم يقتصر التوسل والامتطاء على ايران الخمينية والحرسية وولاياتها، ولا على سورية الأسدية في عهديها ووكالاتها، بل تعدى «الدولتين» الى «قاعدة» بن لادن و «قواعد جهادها» و «دولها الإسلامية» المزعومة وجماعاتها المتقلبة والمتحولة في أواني «الجهاد» المستطرقة وخدماتها هنا وهناك، في العراق والأردن ولبنان.
وتجمع الكتل الثلاث، طهران وولاياتها ودمشق ووكالاتها و «القاعدة» وأذرعتها، على فرق ما بينها واختلاف مصالحها وسياساتها في بعض المسارح وتناقضها في بعضٍ آخر، تجمع على الأخذ بجدل «العدو الخارجي» و «العدو الداخلي»، بحسب تمييز وربط قاعديين يكثر أيمن الظواهري من استعمالهما على خطى «أمميات» ومنظمات «عالمية» سابقة وحالية. وترعى سياسات الكتل الثلاث، على مقادير متفاوتة، ربط الحرب «العالمية» على «الغرب الأميركي» و «المتصهين» بالخروج على أبنية الدولة الوطنية، بذريعة حلّ الدولة الوطنية وأجهزتها ووظائفها في تبعيتها للقوة العالمية العظمى، وفي طاقم الحكم «العميل». ويحمل النهج هذا القوى المتفرقة والمختلفة التي تنتهجه على إرساء العلاقات السياسية الداخلية («المنزلية») على الحرب الأهلية، وانتهاك سيادة الدول. والمزاودة على الانتهاك (ومن بعض فصول المزاودة الأخيرة تشهير العولقي، من «القاعدة»، بالجماعة المسلحة الشيعية في لبنان). وتتخفف العلاقات الإقليمية والخارجية من ضوابط العنف، وتسعى في الانتشار النووي والصاروخي، وفي استتباع مناطق نفوذ، وتغذي الحروب المحدودة وغير المتكافئة. وتعول في أفعالها وخططها ومقاصدها على تورط واشنطن، القوة العظمى، في المنازعات المحلية والإقليمية، وفي التحكيم الدولي.
فينشأ عن هذا نظام إقليمي هجين وموازٍ، من دول وأشباه دول ومنظمات أهلية معروفة ومعلنة وجماعات مسلحة سرية وغامضة الهوية، يحضن أنواعاً مركبة من «الكائنات» السياسية والأهلية والعسكرية والأمنية. وتتحدى هذه «الكائنات» النزعات الوطنية والإقليمية الساعية في بلورة أطر تقر بغير الحرب أداة سياسية، في الداخل الأهلي وفي الخارج الإقليمي والدولي. والنظام الهجين والموازي هذا يضيِّع المسؤوليات، ويهرب من المحاسبة، ويدمج النزاعات المختلفة بعضها في بعض، ويحول دون استقرار السياسات الوطنية الداخلية على تقاليد وأعراف تكبح جماح التعسف والتسلط، وتحضن نمو قوى اجتماعية متماسكة، وتمهد لعلاقات تجمع المنازعة الى التحكيم والتأليف.
والذريعة الفلسطينية التي ينوه أوباما ووزيرة خارجيته، بعد بترايوس قائد قيادته الوسطى، بضرورة نزع فتيلها والحؤول دون تسميمها بالعنف العلاقات الإقليمية، لم يقتصر إعمالها على طهران وطاقمها الحاكم، ولا على سورية ونظامها، أو «القاعدة» وأذرعتها. فهي نافذة فرص «إسلامية» عامة. ومنها دخل، أخيراً، قادة حزب العدالة والتنمية التركي، أو هم يحاولون الدخول منها. و «إشراقات» رجب طيب أردوغان «العربية» ليست بشير خير وفأل. فالحزب الإسلامي المعتدل لا يمتنع من إعمال «الموارد» الفلسطينية (والعربية والإسلامية تالياً) المتحصلة من وساطته المعلقة في المفاوضات السورية – الإسرائيلية غير المباشرة، ومن تنديده بحرب إسرائيل و «حماس» في غزة، وإحجامه عن الاضطلاع بتبعاته عن أحوال العراق، ولا يمتنع من توظيف الموارد هذه في سياسات داخلية وإقليمية حزبية ومشكلة. فهذه المكاسب ليست جزءاً من مثال سياسة إقليمية ينبغي أن تؤدي الى إحاطة تركيا بأصدقاء،وحسب. وإنماهي شطر راجح من برنامج سياسي داخلي يرمي الى إحلال غلبة حزبية واجتماعية مختلطة محل غلبة بيروقراطية متصلبة وشائخة،والى مقايضة القومية العسكرية التركية الآفلة بقومية «عثمانية» تحابي بعض بلدان الجوار وشعوبه، وتترك مخلفات المرحلة العثمانية – التركية (الأكراد والعلويون والأرثوذكس والعلمانيون في الداخل والأرمن وقبرص وقره باغ في الخارج) معلقة ومترجحة. ويستر الحزب المتردد المسائل الحاسمة هذه، وتركة التصدي لمعالجتها، بانتصاراته الفلسطينية والعربية، وينازع القاهرة على وساطتها الفلسطينية إمعاناً في إبراز ثقله المفترض.
والمقارنة بين أنقرة وطهران (ودمشق) عَرَضية وسطحية من غير شك، ولا تساوي بين أطرافها. وإهمال أردوغان مؤتمر «صديقه» النووي أحمدي نجاد أمارة صريحة على التزام الأول منطقاً سياسياً متعارَفاً على حدوده الدنيا. ويسوغ المقارنة موضع المسألة الفلسطينية، في صيغها السائرة، من استدراج سياسات مختلفة وتسعى في غايات متباينة وربما متعارضة، الى ركوب المركب الهجين، الأهلي والقومي والوطني والإقليمي والعالمي، المفضي الى مزج النزاعات، وتضييع المسؤوليات، والحض على استشراء عنف في الأحوال كلها. وأياً كان الموقف الأميركي، ورأي الإدارة «الشخصي» أو حتى السياسي في نزاع من النزاعات، فالمصلحة الوطنية الأميركية تدعو القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية والأمنية العالمية، الى رعاية أطر داخلية وإقليمية يعوَّل عليها في تقييد النزاعات، و «تصفيتها» من الهجنة والتداخل المعميين، وتحديد المسؤوليات، ولجم تناسل العنف ومسوغاته. وهذه مصلحة وطنية أميركية تلتقي ومصالح وطنية وإقليمية ودولية جامعة. وجزء من تبعات المصالح هذه، وهو جزء ثقيل، يقع على عاتق «العرب»، شعوباً ومجتمعات ودولاً. والاستقواء بـ «الرابط»، وقبله الاستقواء بـ «تقرير غولدستون» قبل نسيانه، لا يقيت من سياسة مسؤولة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق