الأربعاء، 7 أبريل 2010

الأنساب جهاز التذكر القومي العربي والمشرقي وآلة السياسة الامبراطورية والسلطانية

التوحيد والتضمين النَّسَبيان ذريعة الى طلب عبودية مستميتة
النهار 4/4/2010
كان إدمون رباط جاز الثمانين قليلاً أو كثيراً في 1989، غداة إذاعة وثيقة الوفاق الوطني في أعقاب أشهر من الحرب اللبنانية - السورية ومناقشات البرلمانيين اللبنانيين في منتجع مدينة الطائف السعودية، يوم استجاب رجائي إبداء رأيه في التعديلات الدستورية المترتبة على الوثيقة العتيدة. وحين أُدخلت مكتبه، وهو مكتبته، في مبنى بشارع بدارو، أو أحد الشوارع المتفرعة عنه، حسبت أني أغرق في ظل قريب من العتمة لولا تكذيب النهار الذي خلفته لتوي ورائي شبهةَ الظلام. والأرجح ان انقطاع الكهرباء، ودكنة الكتب الكثيرة المجلدة على الرفوف والرابضة على الطاولات الواطئة وعلى الطاولة الكبيرة في صدر الغرفة الأرضية وفي مقابلة النوافذ، وانزواء الرجل على مقعده المتحرك وراء الطاولة، هذه كلها تضافرت على تعتيم الغرفة. ولما هممت بالدخول، وتركتني المرأة التي استقبلتني عند باب المكتب، أوصتني وهي تتمتم خجلة وحيية ألا أطيل على الرجل المسن والمريض وألا أرهقه.
واضطررت، لخجلي وحيرتي، أن أبحث عن الرجل الذي جئت ألتمس رأيه، وقَبِل متلطفاً إبداءه على رغم المرض والعقود والحرب. ورُفع لي إدمون رباط، فجأة، على كرسيه، أبيض البشرة والرأس، مائلاً الرأس على الصدر، وعلى قميص ناصعة الزرقة ومكوية كياً مستوياً لا غضون فيه ولا تردد. ورحب الرجل بضيفه. وأراد ترحيبه صادراً عن أريحيته، وكرم استقباله ونفسه ورغبته في المنازعة الحية والجدال، وليس عن جسده المرهق والمكبل بالسنين والشلل النصفي والنطق المستعصي. وتحادثنا قبل تناول موضوع الزيارة العاجل. وأردتُ إخباره، وأنا لم تسبق لي معرفة به ولم أوسط أحداً بينه وبيني، كيف قدِّر لي أن أعرف بعض ما كتب في فتوته الباريسية، في عشرينات القرن العشرين، وأن أقرأ ما لم يقتصر على شهرته فقيهاً في الحق الدستوري، وشارحاً أحكام الدستور اللبناني في صيغه المتفرقة والمتعاقبة.
وبدا الانتباه على الوجه المتعب والأملس، وفي العينين الحائلتين، متحفزاً. وعرت القسمات ابتسامة خفية سرت بين الرجل وبين نفسه، وافتر بها الفم المتحفظ والمرتعش. وقلت له ان كتابه الأول هذا، ورسالة "اجتهاده" في القانون والسياسة، عرَّف القومية "فعل تذكر"، وعلى هذا فهو "مصدر" تعريف ميشال عفلق القومية العربية، تلية نحو عشرين عاماً، بالكلمات نفسها. والتعريف العفلقي هذا سارت به الركبان، على قول العرب معظمين شيوع الكلام وفشوه (من بعد) فشواً إذاعياً وتلفزيونياً ورقمياً جامعاً. ويرجح المصدر الرباطي، الحلبي السوري، المصدر الإيطالي الموسوليني والفاشي، على ما أحسب، على رغم تستر المدرّس الأرثوذكسي الدمشقي على مصدره "الوطني" أو البلدي، وطلبه لإلهامه أو حدسه نسباً افرنجياً عالياً و "مجيداً"، أو ظنه مجيداً. فلما قلت قولي هذا، ولم أقصد به المديح إلا موارباً، وعلى وجه دون وجه أو وجوه ليست من باب المديح ولا من قبيله، طفح الوجه الشاحب بحمرة خفيفة وتهلل غير متكتم على سرور الرجل. وبدا ناسياً "سبقه" الذي زففت إليه خبره وبشراه متأخراً 60 عاماً، وغير دار بخبر (تعريف) عفلق واقتفائه خطوه ومثاله. فسأل: هل قال هذا حقاً؟ أو لم ينتبه احد الى القرابة؟
ولم تثنِ الإشارة الى الفاشية الإيطالية والموسولينية، وإلى صبغها عشرينات القرن العشرين بصباغها المقيت والقبيح، فقيه الحق الدستوري والمؤرخ عن الاسترسال بعض الوقت مع سروره. وتناول الحديث اموراً أخرى ومسائل قريبة، منها أو فيها مسألة الوحدة القومية (العربية ضمناً). فقال إدمون رباط في أواخر صيف 1989 اللبناني – العربي، غداة نشر تقريري اللجنة الوزارية العربية الثلاثية في "حوادث" لبنان و "وساطة" الوزراء الثلاثة بين الرئيس السوري وقائد جيش بلده الأعلى في سوريا ولبنان يومها، وبين اللبنانيين- قال ان الوحدة لا تنفك من الضم والقسر والعنف، وهو على هذا لا يؤيدها، ويعارض السعي فيها ما لم تقبل عليها الشعوب من غير تحفظ ولا انقسام أو نزاع، على ما يستحيل فعلاً وحقيقة.
وكان هذا قبل عام من محاولة صدام حسين، التكريتي العراقي العفلقي، "توحيد" الكويت والعراق، أي دمج الكويت في العراق قسراً وبالإكراه. وحين غزت قوات صدام حسين الأراضي الكويتية، وبددت الكويتيين وشردتهم، هلل للتوحيد القسري والمدمر والغادر ناشطون عفلقيون في لبنان، كانوا في عداد قيادة بعثية "عراقية" قبل ان ينقلبوا "فلسطينيين" خوفاً من القوات السورية واستخباراتها، وينقلبوا من "فلسطين" الى "سورية الأسد" ورصدها واستطلاعها، ويقيموا على ولائهم الصدامي و "كوبونات" نفطه، على التوالي ومعاً. و "اعتذروا" للعنف والدمار اللذين لحقا بالكويت والكويتيين، ولم يعتذروا عنهما، واحتجوا لاعتذارهم، أي تسويغهم وصدوعهم، بشهادة إدمون رباط: الوحدة القومية تقتضي إعمال العنف. وأسقطوا، بديهة، تتمة ما قاله الشاهد المؤرخ والمنخرط في ثلاثينات القرن في الحركة الوطنية السورية، والمستقيل منها طوعاً حين اختار "الانضمام" الى دولة لبنان، وانتخبه وطناً، وتولاه دولة وسيادة و "نظاماً".

مبنيا التذكر والمتذكرين

وعلى هذا، جمع المحامي ورجل الحق والقانون والمؤرخ، والمهاجر من الداخلية السورية العربية الى لبنان الجبل والساحل، جمع بين قومية فعل التذكر وبين إنكار عنف التوحيد القومي. وأقول "جمع" تعويلاً على صدور قولين مختلفي المسالك والمترتبات عن رجل واحد في وقتين متباعدين. وهو حين احتفل بسبق مقالته مقالة صاحب حزب البعث العربي الأول في القومية (العربية) لم يعرب عن موضوع احتفاله أو باعثه على الاحتفال، ولم يقل انه مقيم على رأي رآه يوم كان شاباً وطالباً. وحين أنكر العنف القومي والتوحيدي، وانحاز الى الانفصال و "القطرية" الكيانية دفعاً للعنف اللازم عن التوحيد القومي، لم يرجع في رأيه القديم الذي لم يتعرفه، ولم يوله عنايته ولم يخصه باهتمامه، ولم يُسَرّ إلا بسبقه ميشال عفلق إليه من غير ان يعلم.
ومهما كان من أمر المحامي وفقيه الحق الدستوري الراحل في رأييه، فالحق ان تعاقبه وصاحب البعث العربي القومي على التذكر تعريفاً للقومية العربية (المشرقية) "مفعم" بالمعنى والكناية، على شاكلة ما يمت بسبب الى الطوية المطوية على ثناياها الحارة والحميمة. ويوكل الرجلان، على فرق ما بينهما وفرق ما صارا إليه، الى "فعل" واحد، نفسي و "وجودي" (من وجد على معنى شم وأحس وذاق، وهي أفعال ذاتية وجدانية ناجمة عن ازدواج النفس ذاتاً تَحِس وذاتاً محسوسة)، القيام بأحمال كيان جماعي وتاريخي، معنوي ومادي، على النحو الذي يتجلى عليه الكيان الراجح والثقيل هذا على مدى الأزمان وربما الدهر ("الرسالة الخالدة" في الخطابة العفلقية). فيتولى الكيان الضعيف والهش، وهو نفس المتذكر، المنقلبة ذاكرة أو تذكراً (وهما ليسا شيئاً واحداً)، إحياء الكيان الجماعي والتاريخي "الضخم"، على قول المتنبي في أبي "أمه" (جدته)، وبعثه وتجديد قوته.
والسحر الخارق الذي يضطلع به في هذا المعرض التذكرُ والمتذكرون، وهم ليسوا فرداً على رغم السند الوجداني النفسي، مرده الى مبنيي الذاكرين وما يتذكرون. فالمتذكر أو الذاكر (العربي) يخرجه تذكره اليوم من عزلته وانقطاعه، واقتصاره على نفسه وحاله وضعفه، ومن انشداده الى حاضر يُشبِّه حضورُه أو مثوله الحسي الممتلئ البداهةَ والمتانة والحقيقة.
وعلى هذا، فتذكر الذاكر القومي ليس هوى، على معنى الانفعال والتخلية بين النفس وبين التأثر بمؤثر من خارج. وليس حركة نفسية، نطاقها أو مسرحها النفس المنطوية على نفسها، تتلقاها هذه من داخل، وتغشى النفس على نحو ما يغشاها الحلم أو النعاس أو الأسى أو عض الندم، وعلى نحو ما يعصف بها قلق تجهل مصدره أو تهذي بما "يرد" عليها ولم تستمد "وروده"، على قول تصوف عامي. ويخرج الذاكر من العزلة والانقطاع والاقتصار على النفس والاستغراق في الحاضر الى رحاب الجماعة العظيمة أو الضخمة، وإلى رابطة الأمة القومية والوثيقة ثقة الأوتاد المتينة والرواسي الراسخة في الأرض (والأرض هذه، على هذه الصورة، تُشْكل على القومي العربي، "المقيم" في نسبه ودمه ولغته وفتوحه ودينه، بينما يستمدها القومي "السوري" والمشرقي التمثيل على الثبات والدوام والصدور عن "نظام" يتخطى الفرد الضعيف والآفل). والأمة لا تموت، ولا تزول، وتنهض بعد كبوة أو سبات أو زلة أو تخلٍ أو انحطاط أو خيانة. ولكنها تنبعث وتتجدد وتقوم من الأنقاض والرماد والرميم.
والذاكر القومي في متناوله هذا كله، أي الخروج من العزلة والضعف والانقطاع والحاضر، لأن ما يتذكره هو من "طبيعة" أو طينة أو "فضيلة" تسوغ فعل السحر هذا. وما يتذكره، ويسوغ فعل السحر، هو الأمة أو النسب القومي الجامع والفاعل. فموضوع التذكر، أي الأمة، ليس ما يتوجه عليه التذكر من خارج، أي من المتذكر المنفصل، بل هو نفسُ المتذكر وأخص خاصه، أو خصوصيته العميقة والباطنة، وقد استيقظت من "فترتها"، أي من انقطاع نبوتها وحركتها الناشطة وديناميتها المنشئة عالماً. وحالُ الأمة في التذكر القومي، وفي المتذكر، توجبها على هذا النحو "النظرية" القومية العربية والمشرقية، ويوجبها مرتكزها أو صاحبها ومصدرها "السوري"، وهو المتناثر أقواماً ومعتقدات وتواريخ وثقافات وطبقات وأقاليم وبلاداً وأهواءً متفرقة ومختلفة تعصى الائتلاف الطوعي والتلقائي من غير قسر وتسلط خارجيين.
وصاغت "النظرية" القومية العربية والمشرقية ما يتذكره الذاكرون (وهو الأمة) على مبنى يقوم من مبنى الذاكر أو المتذكر مقام المتمم والمضاف المستوفي التتمة والإضافة. فتنهض الأمة في المتذكر وذاكرته القومية كياناً جامعاً ومؤلِّفاً (على خلاف عزلته). وتسبق لحمته الكيانية انفراطها أفراداً وتذررها آحاداً (على خلاف الاقتصار على النفس والحال)، وتستبق جواز الانفراط وتحول دونه وتحصن المتذكر منه. وتجمع الأمة في الذاكر القومي وذاكرته الأوقات المتفرقة في التاريخ المديد على صورة تدمج المواضي والأزمان والأيام الآتية في حاضر واحد مجيد وقوي وماثل في جسد ومعنى هما جسد الأمير ومعناه اللذين لا ينفكان واحداً (على خلاف الانشداد الى الحاضر والاستغراق في لحظته الهشة والمترجحة). فينفك تذكر الذاكر القومي، من طريق الأمة التي يذكرها على صورتها هذه أو المبنى هذا، من الهوى والانفعال والحركة النفسية وغاشية الحلم والهذيان بما "يرد" على النفس. ويعتصم تذكره (وهو الأمة مرة أخرى) بالجماعة العظيمة أو الضخمة، وبرابطة الأمة القوية والوثيقة والراسخة في الأرض (أو/ أي في النسب واللغة والدم والفتوح والدين).

"الحياة" والسلطان الامبراطوري

وعلاقة الذاكر القومي العربي المشرقي بما يتذكر هي علاقة دورية (من الدور في المنطق) أو دائرية تامة. فيخرج هذا الذاكر، وهو على تفرقه وضعفه واستغراقه في الحاضر، من أحواله المحبطة والمهيضة هذه بواسطة ما يتذكر. ويخرج كيانُ الأمة الفاعل من النسيان والعطالة التاريخية من طريق هذا (الصنف من) التذكر ومن طريق مثال المتذكِّر أو الذاكر هذا. فينقلب الفرد جماعة، والواحد جميعاً، "متحداً"، في صيغة الاسم وليس الصفة، على حسبان انطون سعادة (الاجتماعي) الآلي أو الميكانيكي. وتحيا الجماعة في الواحد أو الآحاد بحياة تتعالى على (الحياة) العضوية. فالحياة العضوية حياة منفصلة ومتفرقة في أفراد أو وحدات متعضية، ومستقلة بإيظاف أو عمل وظائفها، وبرجوعها الى وسطها أو بيئتها وتفاعلها معه (أو معها). والحياة "القومية" على معناها في "النظرية" القومية العربية المشرقية وعلى محلها منها، تستعير من الصورة العضوية التكامل والاتصال والتداعي (الاستجابة) والبناء المرصوص، ولكنها تقحم عليها نفي الآحاد والأفراد والأجسام المتعضية المنفصلة، أو هي تدمج (هؤلاء وهذه) في شروط استوائهم الأولى، وتغلب الكل على الجزء، على منطق جميعي هو نواة المنطق الديني الكلي والمرتبي الصلبة، وهو نواة منطق السلطان الإمبراطوري والبنية الإمبراطورية.
ويتعدى التزام التذكر القومي العربي السلطانَ الامبراطوري الميلَ الى الصور التاريخية الامبراطورية المجيدة، والاعتزاز بقوتها وفتوحها وعلوها المفترض، قيماً وإنسانية وعلماً وسيفاً، على أصحاب السلطان الحاليين أو أسياد اليوم. والالتزام هذا لا يقتصر على الثأر من أسياد اليوم المفترضين، ومن ركاكة سيطرتهم وهمجيتها. فيقرأ السيد عمر كرامي – شقيق رشيد كرامي رئيس الوزراء الطرابلسي ووارث تاريخ المدينة "الشامية" و "السورية الساحلية" على قول والده عبدالحميد كرامي، ورئيس الوزراء غداة الفتح الأسدي في 1990 ثم في ولاية إميل لحود الممددة التي اغتيل في اثنائها رفيق الحريري – يقرأ الرجل في خطبة مكتوبة بين يديه، فيقول: "نحن الغالبون على مدى اكثر من 14 قرناً ولن تغلبنا بعد اليوم خديعة القرن العشرين، قرن أميركا المشؤوم. وأقول لكم، مخالفاً كل الأدبيات المكررة حول الاستعمار، بأننا نحن الاستعمار، ونحن المستعمرون الأصليون، ونحن من فتحنا الأقطار والأمصار ونشرنا العدالة وأقمنا بنيان الرقي الإنساني وطبقنا للمرة الأولى في تاريخ البشرية قاعدة: لا إكراه في الدين... كانت أوروبا التي تلقي علينا دروساً في الحضارة تتخبط في النازية والفاشية وتقود الكرة الأرضية الى حروب ضارية أنهاها الأميركي بقنبلته الذرية، مفخرة سلطان الدنيا ومخترع الديموقراطية..." (صحف 21 آذار اللبنانية).
والمنطق الامبراطوري السلطاني الغالب على ركن التذكر القومي العربي المشرقي وعلى جماعات المتذكرين، يتطاول الى بنيان الوحدات السياسية، وإلى علاقات الأجزاء بالكل، وبعضها ببعض. والمنطق والبنيان واحد. فصاحب السلطان في الامبراطورية، أو في السلطنة، هو جزء مادي من الامبراطورية، وبعضها، من وجه. وهو كل الامبراطورية، مكانة وسلطاناً ومعنى، من وجه آخر. والتمثيل العثماني على هذه الحال واضح. فالسلطان، رأس السلطنة وخاقانها، هو حقيقة وفعلاً "صاحب" الأناضول، أوسع اقاليم السلطنة، وجابي التزاماتها، وأمير محاربيها. وتجمع الجباية، شأن النفقات، في ديوان الخاص، العائد الى السلطان لا يشاركه فيه أحد. ولكن السلطان نفسه هو رأس السلطنة، وجامعها، ومستودع "وحدتها"، وعلة الوحدة وركنها. والجزء لا ينفك جزءاً، ولا يضم الأجزاء الأخرى إليه، ولا ينفي كياناتها ولا جماعاتها ولا دوائرها. فهو يتوجها، ويقرها على حالها، شطراً أقل ومرتبة أدنى. وعلى هذا، فهو الأول والأعلى والمقدَّم، وإليه يعود التمثيل على وحدة الكل، المعنوية والرمزية فوق المادية. فتترجح علاقات الجماعات الجزئية بعضها ببعض، ومنها الجماعة المقدّمة و "الأسرة الحاكمة"، بين المساواة وبين المرتبية الكينونية والحادة (ويمثل أحد دارسي المساواة والمرتبية على هذا باليدين، اليمنى واليسرى، فيقول أنهما متساويتان في حالهما المشتركة ولكن اليمن تتقدم اليسرى مرتبة ومكانة و...تيمناً).
وما سرى البنيان والمنطق الامبراطوريان وغلبا، حلا محل النسب، وجمعا الفرق والهوية الجزئية والمنفصلة (في الإطار الجامع) الى الوحدة والهوية المتصلة والجامعة. فلا ترى الجماعة الأدنى، أي إحدى الجماعات الدنيا، غضاضة في نزولها مكانتها المتأخرة ما حُملت هذه المكانة على التمثيل على الكل الامبراطوري والنسبي. والانتساب الى الكل الامبراطوري، يشبه الدم والصلب والاسم، ويجمع المتفرقين والمتباينين مرتبة وطبقة وشرفاً على سوية الإضافة الى الكل ووظائفه وأدواره، والتمثيل على الإضافة ولو على مقادير شديدة التفاوت. فيسع الجماعة الامبراطورية، أو من يتوهم من أفرادها الإقامة على نسب امبراطوري، القول: إننا من "القوم" الامبراطوري، على معنى نسب الولاء والالتحاق والاستتباع في آخر المطاف. فيكتب جورج خضر، الأسقف الأرثوذكسي اللبناني: "... أحسسنا في بدء المسيحية أننا قائمون في الامبراطورية الرومانية التي هي ذاتها بيزنطية. وسلكنا بعد الفتح الإسلامي على اننا ننتمي الى دار الإسلام في حكمها وليس في دينها. وهذا ما أوضحناه للأمويين لما أدرنا شؤونهم المالية وبنينا لهم أسطولاً في ميناء طرابلس وهم احترموا عقيدتنا وشعائرنا (...) الولايات العثمانية في بلاد الشام كانت تعرف موهبة الروم الأرثوذكس على مستوى الإدارة والمال" ("النهار"، 13 آذار 2010). وفي الأثناء يستدرك الكاتب: "هناك أقلوية معنوية. لا تجبروا عليها الطائفة الرابعة من البلد".

فعل الانتساب

والنسب، وهو أنساب على الدوام، هو جهاز التذكر القومي وآلته الحية والعضوية. ورسم التذكر القومي على رسم النسب والانتساب، إصعاداً وإعلاءً وإيغالاً الى ابتداء، واتصالاً به، ونفياً للفروق، وإثباتاً للمراتب والفروع، وضوياً للمتفرق والمتفرع في أصل وتحت اصل، وتعقباً لآثار الماضي في الحاضر والآتي، وحملاً للحاضر والآتي على الماضي الأبعد فالأبعد، وتنقلاً بين الأوقات رواحاً ومجيئاً وكأن بعضها يعاصر بعضاً أو كأن ما كان إيذان أكيد بعودته وانبعاثه وقرينة على دوام الحياة في ما يبدو رميماً. والمنتسب، شأن المتذكر القومي، فرد في صيغة جميع. ونسبه هو جسره الى جماعته، أو عشيرته، كلاً وجميعاً وأبعاضاً وأفراداً، وهو سلمه إليها وإليهم. ويُبعث النسب في فعل الانتساب. وهو (النسب) أولاً، وليس آخراً، فعل الانتساب هذا وشرطه الإجرائي، وإن لم يقتصر النسب على فعل الانتساب وإرادته وجهره.
ويحضر النسبُ فعلَ الانتساب على شاكلة حضور الأمة وتاريخها فعل التذكر القومي. فالنسب، شأن الأمة، ليس تقريرَه أو إيجابه المجرد من امتلائه بالقيمة والمثال. وهو دعوة حارة ومحمومة الى الجدارة بالتحدر منه، وإلى استقامة التحدر القح وصليبةً، ونفي الاختلاط والهجنة والتوليد. ويستيقظ النسب في المنتسب على نحو انبعاث الأمة وتجددها في "أبنائها". وتنسب الأفعال الكبيرة والمجيدة إليه. فهو مجترح الأفعال وصاحبها الحقيقي. والمثال القرآني والإلهي المشهور ينفي الفعل (الرمي بالنبال والإصابة) عن فاعله ظاهراً ويحمله على الله (الأنفال، 17). ومقام النسب الصريح، والتذكر العميق، من الفعل المجيد ومن تاريخ الأمة السياسي ("فتوحها") هو مقام إلهي حكماً. وليس يغيب المقام الإلهي عن خواطر مداحي الأفعال "العظيمة" العربية. فذهب من ينوب عن الحرس الثوري الإيراني، والحرس عربي في هذا المعرض ومشرقي فوق المشرقيين العروبيين الأقحاح، الى نعت حربيه على إسرائيل، شمالاً لبنانياً وجنوباً فلسطينياً، بـ "الإلهيتين". ولم يشك اردنيون إسلاميون في ان رامي حذاءي منتظر الزيدي على جورج بوش الابن، في آخر زيارة الى بغداد، لم يكن الصحافي نفسه، وهذا لم يكن إلا ذريعة الرماية أو محلها وآلتها. والأنبياء هم "المقول بهم" ما يوحى إليهم، على ترجمة يازجية للتوراة.
وقد يبدو التعليق أو الشرح هذا تذييلاً ميتافيزيقياً على أحوال ومقالات سائرة وعابرة. والحق ان تواتر الأحوال والمقالات هذه، وتربصها بالمنعطفات "الكبيرة" والحوادث "الصغيرة" جميعاً، واضطلاعها بدور يوهم بدوام الفاعلين والأفعال والمرامي والغايات والنتائج، هذه كلها تدعو الى تذييل يسأل عما يعيد الأحوال والمقالات على بدئها أو بداياتها، ويقيدها بقيد لا فكاك لها منه. وفي الحوادث "اللبنانية" أو ارتكاساتها العروبية و "الإسلامية" القريبة، شواهد على قوة القيد النسبي القومي، وعلى سلطان التذكر "البعثي".
وفيما يبدو سجالاً مع ما تقدم، أو رداً عليه، يصدِّر خطيب الجماعة الخمينية المسلحة في لبنان ما سمته الصحافة "وثيقة حزب الله الثانية" (صحف 2 كانون الأول 2009)، بإثبات "أولوية الفعل وأسبقية التضحية" على "تصورات ومواقف... وآمال وطموحات وهواجس" جماعة الخطيب وقومه وأهله. والاحتجاج بسبق الفعل التصور، وبقيام الفعل من التصور مقام السند والمصدق، يماشي، في وقت أول، ظناً مشتركاً وسائراً عممته ثقافة غربية تاريخية تحمل العلم، والتحقيق "العلمي" واليقين، على التجريب والاختبار. وهذه لازمة في خطابة القيادات الحرسية الخمينية. فهي تستدل استدلالاً قاطعاً، وتريده "ضرورياً" ودافعاً للشكوك، على رسوخ غاياتها ومقاصدها وإنجازاتها في أرض تاريخية صلبة ومنيعة. وينبغي ألا يتعاور الاحتمالُ الإنساني والمخلوق الحتم الإلهي الذي لا راد له. فبعد تمجيد "التحولات الواعدة" – وهي ليست أقل من "ارتقاء" الجماعة الشيعية المسلحة الى "قيمة عالمية وإنسانية يجري استلهام أنموذجها والبناء على إنجازاتها في تجارب وأدبيات كل الساعين الى الحرية والاستقلال في شتى أنحاء المعمورة"-، وبعد إثبات "عالمية... جبهة المواجهة للخطر الأميركي"، يقر الخطيب بأن المواجهة "هي معركة ذات مدى تاريخي (و) معركة أجيال"، تتولاها "شعوب حية ومتفاعلة، وقيادة حكيمة... تراهن على تراكم الإنجازات، وتصنع النصر تلو النصر". وتتربع في قمة "التحولات الواعدة" في الحزام الإيراني جنوب لبنان وفي ضواحي بيروت، نهاية تاريخ نقيض أو معكوسة، "(عمودية) عبر التاريخ"، و "(أفقية) بالامتداد الجغرافي والجيو – سياسي ايضاً". فيجمع البشر في النهاية الموعودة، جنساً وأرضاً، "مستقبل محكوم بعلاقات من الأخوة والتنوع والتكافل في آن، ويسوده السلام والوئام، تماماً كما رسمت معالمه حركة الأنبياء والمصلحين العظام عبر التاريخ، وكما هو في تطلعات وأشواق الروح الإنسانية الحقة والمتساوية".
ويبعث الخطيب التلفزيوني المفوه "الرسالة الخالدة" العفلقية، ويرسيها على إنسانية "بلا ضفاف". ويدمجها في "روح الحياة"، وهي صورة عن عين الحياة التي نهض فيروز شاه (بطل "شاهنامه" في صيغتها العربية الشعبية) الى أقاصي الأرض ووحد أقاليمها في سبيل لقائها. ويدمج أقاليم الأرض في امبراطورية أو سلطنة شاهنشاهية أو نبوية إمامية، لا فرق، واحدة. ويترتب على اضطلاع الخطيب، و "أمته" أو رهطه الأقربين، بإحداث "التحولات الواعدة"، وتفتيح أكمامها، ان يعود إليه ريع "القيمة العالمية والإنسانية" المضافة والعظيمة التي كان نتاجُها، وولائدها، على يديه وأيدي أصحابه ورفاقه المشهورين والسريين. ولبنان، في المعرض الكوني هذا، هو محل الفعل الواصل ختام الملحمة الشاهنشاهية والامبراطورية بمطلعها. وحين يريد الخطيب التلفزيوني والمسلح تعريف المحل بما يليق بدوره الموعود والباهر، يقع على حد نَسَبي ضيق و "صغير". فإذا به "وطننا ووطن الآباء والأجداد، كما هو وطن الأبناء والأحفاد وكل الأجيال الآتية". وهذا قريب من درس معجم اللغة أو كتاب القراءة.
والخطيب لا ينتسب الى تاريخ "وطنه"، بل ينسب الوطن المفترض الى أهله هو وأنسابهم السابقة واللاحقة. وينسب الوطن والأهل الى نفسه ورهطه و "تقديماته"، وهي "أغلى التضحيات وأعز الشهداء". وإذا أرخ، أي تذكر ونسب "وطنه"، لم يبعد تأريخه من بعض تذكر والديه اللبنانيي المولد. ونسب الى نفسه التأسيس الأخير الحقيقي الوحيد: "استعادة الوطن من خلال المقاومة المسلحة". فعلى الأصل المزعوم هذا ارتفع "تحرير الأرض والقرار السياسي من يد الاحتلال الإسرائيلي... واستعادة الدولة وبناء مؤسساتها الدستورية". وسطا على الأفكار اللبنانية، وصادر اللبنانيين، وهو يضمر المسيحيين ومتلبنني المسلمين، عليها. فـ "الأهم من ذلك كله إعادة تأسيس القيم الوطنية التي يبنى عليها الوطن: السيادة والكرامة الوطنيتان، ما أعطى لقيمة الحرية بعدها الحقيقي"، على خلاف بعدها البطريركي والبكركي والماروني "مجردَ شعار معلق". والشعار المعلق زائف، على أضعف تقدير مهذب، وكاذب، على تقدير آخر.
والنسب الامبراطوري، والانتساب الى أمومة "الحياة" أو أبوتها وإلى "روح الإنسانية"، يقودان الى جَبِّ التاريخ، وقصره على تذكر نرجسي متوحد، من غير حوادث ووقائع، ومن غير لبنانيين من خارج الأصلاب وعمود النسب. فلا تعقل حوادثُ ونشأةٌ عن غير "صناعة الموت (والشهادة)". ولا تزن في كفة هذه الصناعة أفعال غير نسبية، ولا قومية، مثل التعلم والإعداد المدرسي (في المدرسة الشرقية الفاتيكانية فوق هذا!)، وأخذ الطباعة والمطبعة عن أصحابها الأوائل و "الأغراب"، واستصلاح الأرض وحرثها وتمليكها الأسر والأفراد وإخراجها من يد السلطان، والخروج من معقل الأهل الأول و "الانسياح" في ديرات الجيران المتروكة مواتاً، ومثل تولي الأهالي في بلداتهم تسيير أمورهم وانتخاب من ينوب عنهم الى التدبير البلدي والمحلي موقتاً ومداورة (بدير القمر وزحلة أولاً)، وإرساء الروابط بين الجماعات على نسيج الأعمال المشتركة والمتشابكة وليس على الولاء المفترض لـ "أمير" متحدر من أشراف السلطنة، والإقرار بكثرة الجماعات والأفراد والمصالح والتواريخ وحقها في المنازعة والمداولة، والصدوع بكثرة الأنساب والذاكرات، ومثل الانتقال من لغة الى لغة، وتجديد اللغة المستأنفة وإحياء اللغة الآبدة، وغير هذا ومثله. ولولا التاريخ هذا لما انتهى إلى الخطيب الخميني المسلح فقه معاني الدولة والدستور والسيادة والحداثة والحرية والتنوع... وغيرها من المفهومات والمعاني التي يحملها، هو ورهطه و "حلفاؤه"، على وجوه غير الوجوه التي تبلورت عليها في سياقات تاريخ اللبنانيين. فالخطيب المسلح يخطب على صفة المواطن، في لغة "لبنانية"، ويعمل عمل (الجزء من) الرعية السلطانية المندوبة الى المغازي وفتوح البلدان والولايات.
والانقلاب من الرعية السلطانية الى المواطَنة، أو المواطنية، اختبار ثقيل، لا ريب في ان رعية آخر، مثل وليد جنبلاط، عانى منه ويعاني الأمرّين. فهو صاحب نسب وذاكرة. ويتقدم نسبه وذاكرته، القومية والشخصية معاً، مواطنته، ويحولان بينها وبين التبلور والحصحصة. فهو، على الدوام، محل دراما عائلية. وروايته هذه الدراما الى شاشة "الجزيرة" في 13 آذار مفعمة، مرة أخرى، بالتفاف الأنساب، وعودتها على بدئها ووراثتها، وتذكرها ونسيانها، وانقطاعها بالقتل والثارات والخصوصية، وانبعاثها من طريق الخوف والأوبة الى النفس والعمومية والتضحية.

ليست هناك تعليقات: