الحياة 14/4/2010
استبق الأمين العام لجامعة الدول العربية، ووزير خارجية مصر سابقاً، عمرو موسى، انعقاد الجامعة في سرت الليبية، فحاضر في جمهور جامعة الروح القدس، المارونية اللبنانية، في ذكرى تأسيس الجامعة. وأراد الأمين العام المحاضرة، عشية القمة العتيدة، مطارحة عامة وجامعة تناولت قضايا المنظمة الإقليمية، شعوباً ودولاً و «عروبة» مشتركة، ومحلها من أطوار العالم الأوسع. ولم تسعف نتائج القمة ولا مناقشاتها المعلقة والمبتسرة الأمين العام على بلورة بعض مقترحاته وأفكاره التي أراد التمهيد لها في محاضرته اللبنانية. وجاءت النتائج والمناقشات على شاكلة علاقات الدول والشعوب و «العروبة» بعضها ببعض، وتغلَّب الإغفال على الإعلان، والالتباس على التوضيح والجلاء، والتهرب والتورية على صوغ الخلافات ومواجهتها.
وقد يقال إن هذه جميعاً من طينة الدول الوطنية التي تجمعها الجامعة، وطينة شعوبها وهويتها وسياساتها منذ نشأة الجامعة وإطارها الإقليمي المشترك قبل ستة عقود ونصف العقد. و «تقرير» الأمين العام التمهيدي، أو محاضرته، يتقلب في أحضان الالتباسات والترجحات التي يشكو «العمل العربي المشترك»، وهو اسم حالم على مسمى بائس، من إغفالها، والسكوت عنها. وربما أسهم طموح المحاضر الى صوغ «رؤية» مترابطة لمشكلات منظمته في بروز معضلاتها المستعصية. وركن «الرؤية» تعريف الجامعة ودورها ومحلها من العناصر والعوامل التي تأتلف منها. فهو يذهب، على خلاف الوقائع والاختبارات والامتحانات (أو المحن)، الى ان الجامعة هي «بيت العرب» و «مركز القرار الجماعي العربي». ويمزج التعريف الطموح والقصي والمغرق في التمني، بتعريف متواضع يقصر الجامعة على «منتدى مناقشات».
وشتان بين نحوي التعريفين ووجهيهما. ويعلل المحاضر فعل إيمانه بالمنظومة، و «ضرورة وجودها»، بعلة هي «ما تفرضه الضرورة على شعوب هذه المنطقة وحكوماتها في أن يكون لهم منظمة ترعى شؤونهم...». والعلة هذه غريبة على لسان رجل سياسة أو رجل دولة مفترض. فمناقشة دور جامعة الدول العربية، وتعريف هذا الدور، ليس موضوعها الضرورات التي تقتضي وجود جامعة إقليمية و «قومية»، بل إن موضوعها هو اضطلاع المنظمة الإقليمية العتيدة بالدور المفترض أو المقتضى «الضروري». فإذا استقوى أمينها العام على وصف دورها، أو تعريفها، بالضرورات الموضوعية، بقي عليه، أو على المنظمة وأبنيتها وطرائق عملها وأصحابها، القيام بموجبات الضرورات الموضوعية، والوفاء بإلتزاماتها. وتتردد في التعريف الوظيفي والهيكلي هذا أصداء زعم «قومي» يحمل السياسة، و «قرار(ها) الجماعي» و «المركزي»، على ثمرة طبيعية وتلقائية ناجمة عن طبائع وضرورات و «روح» و «جذور» (فيكتب: «والحفاظ على التراث، أي أن نظل عرباً» بإزاء «التحديث»، وهذا من أهومة الهوية العروبية وهواجسها وكوابيسها). فيحتج الزعم الطبيعي لدعوته العربية المعتمرة بإنجاز «الكيانات المتنافرة»، الأوروبية، «كيانات كبيرة». وهذا قرينة على الحط بالسياسة الى درك العصبية.
ويغفل أصحاب الزعم الطبيعي، أو بعضهم، عن مترتبات يسوغها هذا الزعم، ويجر إليها، وأولها تصدي بعض «أصحاب» الهوية الى التمثيل على «الطبائع» القومية وروحها وجذورها، واستجابة ضروراتها، فوق غيرهم من شركائهم في الهوية المشتركة و «الإطار العام للأمة»، على قول موسى (محامياًَ عن ضم الأكراد والأمازيغ وأهل جنوب السودان الى العرب). ولعل هذا التصدي - وتصنيفه الدول أو الأنظمة على مراتب من الأصالة والوطنية، وإدراك مصالح «النظام» العربي الحقيقية، والجدارة بقيادة سياسته - في صلب أزمة جامعة الدول العربية المزمنة، وأزمة العمل العربي المشترك والمفترض. فزعم قيادات دول أنها مؤتمنة، فوق غيرها، على قرار عربي جماعي ومركزي ركنه «قضية» كبرى، بمعزل عن المنازعات السياسية والاجتماعية والفكرية داخل الكيانات الوطنية وفي علاقات بعضها ببعض، هذا الزعم ينتقص من سيادة الدول المتفرقة، وينيط ببعضها، أي بقيادة بعضها، الوصاية على بعضها الآخر، أو على أجزاء أهلية و «قومية» من بعض هذه الدول.
ويكتمل الخلل ويبلغ تمامه، إذا جازت العبارة، مع إرساء قيادات حاكمة عربية مشروعية قيادتها، أو غلبتها الداخلية، على تصديها لأعباء القضية الكبرى، «القومية». فيُنكر على الفلسطينيين أو على اللبنانيين أو على الأردنيين أو على العراقيين أو على المصريين، بحسب الأوقات والظروف والأحوال، وبذريعة انقسامهم ومنازعاتهم، الحقُ في معالجة منازعاتهم من طريق قوانينهم الأساسية وهيئاتهم. ويُنكر الحق في المنازعة والخلاف على أهالي الكيانات، وأولها الكيانات المتصدرة و «المفتاحية». ويُفترض أن المنازعة والخلاف - ومتعلقاتهما من حريات رأي وقول واعتقاد وتجمع وامتلاك وأمان بضمانة الدولة ورعاية حقها العام وأمنها وقضائها، ومن حقوق متساوية في هذه كلها - تَطاولٌ على السيادة والقيادة، وعلى صدارة القضية الكبرى. فتستبقي القيادات «القومية» من عدة السياسة الظاهرة، و «الحديثة»، الانتخابات والهيئات التمثيلية واختصاصات السلطات والنصوص القانونية والدستورية، وتملؤها بمادة سلطانية وعصبية تقسم «الشعب» على مراتب النفوذ والحظوة والامتيازات والعوائد الفعلية والمستترة.
وعلى قدر ما يزوِّر هذا الضرب من السياسات العلاقات الداخلية، على وجوهها، ويموه التسلط والانفراد والإكراه، يصبغ العلاقات «الخارجية» الإقليمية، وهي علاقات دولية أو بين الدول، بصبغة تزوير عام ومخيم، ويحملها على لعبة أقنعة مسرحية تفضي غالباً الى ما أفضت إليه قمة سرت. وجامعة الدول العربية مظهر من مظاهر لعبة الأقنعة هذه. فهي تنهض على التباس الوطني بالقومي، والقومي بالوطني، التباساً غير معلن يحول دون تمييز المستويين واحدهما من الآخر، ويجعل تحديد المسؤوليات والالتزامات مستعصياً أو مستحيلاً. فمن وجه يقول الأمين العام أن الجامعة «تحترم السيادة الوطنية»، وإنها «جامعة للدول، وليس في ميثاقها ولا أنظمتها ما يمنحها سلطات فوق سلطات الدول الأعضاء». ويخلص الى أن نظامها هو «نظام تعاون تعاهدي». وهو يرد عن الجامعة تهمة لم يتهمها بها أحد، وهي التدخل في الشؤون الداخلية، ومصادرتها سلطة فوق سلطات الدول الوطنية... فما يؤخذ على الجامعة هو تقصيرها عن حماية الدول الوطنية العربية، الواحدة من الأخرى، وإلزام الدول كلها مناقشة علاقاتها الإقليمية المتبادلة على «مائدة» المنظمة الإقليمية، والسعي في نقل العلاقات البينية والمشتركة من ميدان موازين القوى الى ميدان معايير المصالح المتبادلة على أساس المساواة والندية والتعاقد الحر والإلزام من غير إكراه.
وما يحصيه المحاضر «الجامعي» من أزمات عربية انفجرت في الأعوام الأخيرة، من الحرب على الإرهاب وغزو العراق والحربين الإسرائيليتين - العربيتين (لبنان وغزة) وحروب اليمن والسودان والصومال الأهلية، يتعمد إغفال الشطر العربي من عوامل اندلاعها، ومن عوامل استمرارها ودوامها وتقلبها بين أطوار مختلفة. وهو حين توسط في بعض مراحل الأزمة اللبنانية غداة اغتيال رفيق الحريري، وحين تمخض الاغتيال عن ذيول محلية وإقليمية أبرزها حرب صيف 2006 وهجوم كتلة حلفاء سورية وإيران على الدولة والأهالي والهيئات، نبه الى «الطبقات الأربع» التي نجمت الأزمة عنها ويقتضي الحل معالجتها. والطبقة العربية والإقليمية في القلب منها. ويلمح، في محاضرته، من طرف إيمائي الى «انقسام قيادات» و «خلافات ثنائية»، والى «النظرية العدوانية» (صفة ينفيها عن «العروبة» و «اكتساح الكيانات الوطنية» المترتبة على النظرية المفترضة، و «العوارض العرقية والعنصرية»، و «التشرذم»، و «السلبية الكامنة»، و «تنازع الإرادات العربية»، و»الاسفين» الطائفي... والإلماح هذا يصدر في معرض نفي أو استدراك أو اشتراط. ولا يخص المحاضر المسائل التي يلمح إليها بمعالجة يقفها على هذه المسائل، ولا يصلها بالإنجازات المشتركة التي يعددها، ويمدحها، ويغضي عن حدودها وقيودها. فيرسم لوحة انطباعية من غير إطار متماسك وجامع يتيح وحده للمواطن ترتيب المسائل، وتقدير الأفعال ووجوه تأثيرها.
ويتحاشى المحاضر في لائحة مقترحات ترمي، على قوله، الى «خلق وتنظيم المصلحة العربية المشتركة التي تحقق التقدم والازدهار»، وتتقدم التقرير، تخصيص الدول الوطنية، كيانات وشعوباً وسيادة، والإقرار بها، ببند على حدة أو مادة برأسها. وتجنب المحاضر إفراد الدول الوطنية العربية ببند يثبت سيادتها واستقلالها الوطنيين والداخليين، ويوجب على الجامعة ودولها احترامهما، ويشترطهما مقدمة لكل عمل مشترك، يلقي ظلال الريبة والشك على جدية المقترحات السبعة، وعلى سابعها وآخرها على وجه التخصيص («ضرورة أن يكون بند الإصلاح والتحديث، وتكريس مسيرة الديموقراطية وحقوق الإنسان بنداً رئيساً على جدول أعمال كل عمل عربي مستقبلي»). فتشخيص المصالح المشتركة العامة، وإحصاء الصداقات والعداوات والتحفظات، وتسمية دول الجوار، والإشارة الى الأزمات، ليست ما يشكل في نظام إقليمي أو عليه، وليست ما يعترض قيامه وبلورته تدريجاً. وإنما تنشأ المشكلات من الخلافات المشروعة على تعريف العوامل والأدوار وقواعد العلاقات الناظمة. ومعاهدة فيستفاليا الأوروبية، في أواخر النصف الأول من القرن السادس عشر وفي أعقاب «حرب» الثلاثين عاماً المذهبية بين دول الكثلكة ودول الإصلاح، لا تزال المثال الذي تقتدي به الأنظمة الإقليمية الواقعية.
فالشرط الذي ينهض عليها نظام إقليمي فاعل، لا يتستر على نوايا ومبانٍ توسعية بوليسية وقاهرة، هو تعريف الوحدات السياسية التي يأتلف منها، ومن أدوارها وإسهامها، النظام المرجو. ونهض النظام الفيستفالي على تولي الدول و «الأنظمة» السياسية تدبير الشؤون الدينية الداخلية وحدها، على رغم اشتراك رعايا (قبل المواطنين) بعض هذه الدول بمعتقد واحد، أو انتماء بعض هذه الدول الى كنيسة، أو رابطة كنائس، واحدة. وإقامة «العروبة»، أو وكالتها الفلسطينية، مقام المعتقد الديني، ومذاهبه وملله - وهذا ما يبدو الأمين العام مقراً بها من غير خطابة غنائية - فتحت الأبواب على مصاريعها بوجه سياسات إقليمية زرعت وحصدت ولا تزال تزرع وتحصد حروباً أهلية وصدوعاً داخلية متناسلة. وجامعة الدول التي لا ترى بعض «دولها» غضاضة في دعوة جماعات أهلية وحزبية الى تمثيل «شعبها» في المحفل الرسمي، أو يستقبل رئيس دورتها من تتهمهم دولهم ومفوضو هذه الدول بالقتل والاغتيال الجماعيين وبإرهاب المدنيين، أو تندد بعض قيادات دولها بجماعات أهلية في الدولة الأخرى وتدعو الى تغيير أنظمة هذه الدول «برمتها» - مثل هذه الجامعة يتساءل المواطن عمن تجمع، وما تجمع، وعلامَ تجمع إذا جمعت.
وقد يقال إن هذه جميعاً من طينة الدول الوطنية التي تجمعها الجامعة، وطينة شعوبها وهويتها وسياساتها منذ نشأة الجامعة وإطارها الإقليمي المشترك قبل ستة عقود ونصف العقد. و «تقرير» الأمين العام التمهيدي، أو محاضرته، يتقلب في أحضان الالتباسات والترجحات التي يشكو «العمل العربي المشترك»، وهو اسم حالم على مسمى بائس، من إغفالها، والسكوت عنها. وربما أسهم طموح المحاضر الى صوغ «رؤية» مترابطة لمشكلات منظمته في بروز معضلاتها المستعصية. وركن «الرؤية» تعريف الجامعة ودورها ومحلها من العناصر والعوامل التي تأتلف منها. فهو يذهب، على خلاف الوقائع والاختبارات والامتحانات (أو المحن)، الى ان الجامعة هي «بيت العرب» و «مركز القرار الجماعي العربي». ويمزج التعريف الطموح والقصي والمغرق في التمني، بتعريف متواضع يقصر الجامعة على «منتدى مناقشات».
وشتان بين نحوي التعريفين ووجهيهما. ويعلل المحاضر فعل إيمانه بالمنظومة، و «ضرورة وجودها»، بعلة هي «ما تفرضه الضرورة على شعوب هذه المنطقة وحكوماتها في أن يكون لهم منظمة ترعى شؤونهم...». والعلة هذه غريبة على لسان رجل سياسة أو رجل دولة مفترض. فمناقشة دور جامعة الدول العربية، وتعريف هذا الدور، ليس موضوعها الضرورات التي تقتضي وجود جامعة إقليمية و «قومية»، بل إن موضوعها هو اضطلاع المنظمة الإقليمية العتيدة بالدور المفترض أو المقتضى «الضروري». فإذا استقوى أمينها العام على وصف دورها، أو تعريفها، بالضرورات الموضوعية، بقي عليه، أو على المنظمة وأبنيتها وطرائق عملها وأصحابها، القيام بموجبات الضرورات الموضوعية، والوفاء بإلتزاماتها. وتتردد في التعريف الوظيفي والهيكلي هذا أصداء زعم «قومي» يحمل السياسة، و «قرار(ها) الجماعي» و «المركزي»، على ثمرة طبيعية وتلقائية ناجمة عن طبائع وضرورات و «روح» و «جذور» (فيكتب: «والحفاظ على التراث، أي أن نظل عرباً» بإزاء «التحديث»، وهذا من أهومة الهوية العروبية وهواجسها وكوابيسها). فيحتج الزعم الطبيعي لدعوته العربية المعتمرة بإنجاز «الكيانات المتنافرة»، الأوروبية، «كيانات كبيرة». وهذا قرينة على الحط بالسياسة الى درك العصبية.
ويغفل أصحاب الزعم الطبيعي، أو بعضهم، عن مترتبات يسوغها هذا الزعم، ويجر إليها، وأولها تصدي بعض «أصحاب» الهوية الى التمثيل على «الطبائع» القومية وروحها وجذورها، واستجابة ضروراتها، فوق غيرهم من شركائهم في الهوية المشتركة و «الإطار العام للأمة»، على قول موسى (محامياًَ عن ضم الأكراد والأمازيغ وأهل جنوب السودان الى العرب). ولعل هذا التصدي - وتصنيفه الدول أو الأنظمة على مراتب من الأصالة والوطنية، وإدراك مصالح «النظام» العربي الحقيقية، والجدارة بقيادة سياسته - في صلب أزمة جامعة الدول العربية المزمنة، وأزمة العمل العربي المشترك والمفترض. فزعم قيادات دول أنها مؤتمنة، فوق غيرها، على قرار عربي جماعي ومركزي ركنه «قضية» كبرى، بمعزل عن المنازعات السياسية والاجتماعية والفكرية داخل الكيانات الوطنية وفي علاقات بعضها ببعض، هذا الزعم ينتقص من سيادة الدول المتفرقة، وينيط ببعضها، أي بقيادة بعضها، الوصاية على بعضها الآخر، أو على أجزاء أهلية و «قومية» من بعض هذه الدول.
ويكتمل الخلل ويبلغ تمامه، إذا جازت العبارة، مع إرساء قيادات حاكمة عربية مشروعية قيادتها، أو غلبتها الداخلية، على تصديها لأعباء القضية الكبرى، «القومية». فيُنكر على الفلسطينيين أو على اللبنانيين أو على الأردنيين أو على العراقيين أو على المصريين، بحسب الأوقات والظروف والأحوال، وبذريعة انقسامهم ومنازعاتهم، الحقُ في معالجة منازعاتهم من طريق قوانينهم الأساسية وهيئاتهم. ويُنكر الحق في المنازعة والخلاف على أهالي الكيانات، وأولها الكيانات المتصدرة و «المفتاحية». ويُفترض أن المنازعة والخلاف - ومتعلقاتهما من حريات رأي وقول واعتقاد وتجمع وامتلاك وأمان بضمانة الدولة ورعاية حقها العام وأمنها وقضائها، ومن حقوق متساوية في هذه كلها - تَطاولٌ على السيادة والقيادة، وعلى صدارة القضية الكبرى. فتستبقي القيادات «القومية» من عدة السياسة الظاهرة، و «الحديثة»، الانتخابات والهيئات التمثيلية واختصاصات السلطات والنصوص القانونية والدستورية، وتملؤها بمادة سلطانية وعصبية تقسم «الشعب» على مراتب النفوذ والحظوة والامتيازات والعوائد الفعلية والمستترة.
وعلى قدر ما يزوِّر هذا الضرب من السياسات العلاقات الداخلية، على وجوهها، ويموه التسلط والانفراد والإكراه، يصبغ العلاقات «الخارجية» الإقليمية، وهي علاقات دولية أو بين الدول، بصبغة تزوير عام ومخيم، ويحملها على لعبة أقنعة مسرحية تفضي غالباً الى ما أفضت إليه قمة سرت. وجامعة الدول العربية مظهر من مظاهر لعبة الأقنعة هذه. فهي تنهض على التباس الوطني بالقومي، والقومي بالوطني، التباساً غير معلن يحول دون تمييز المستويين واحدهما من الآخر، ويجعل تحديد المسؤوليات والالتزامات مستعصياً أو مستحيلاً. فمن وجه يقول الأمين العام أن الجامعة «تحترم السيادة الوطنية»، وإنها «جامعة للدول، وليس في ميثاقها ولا أنظمتها ما يمنحها سلطات فوق سلطات الدول الأعضاء». ويخلص الى أن نظامها هو «نظام تعاون تعاهدي». وهو يرد عن الجامعة تهمة لم يتهمها بها أحد، وهي التدخل في الشؤون الداخلية، ومصادرتها سلطة فوق سلطات الدول الوطنية... فما يؤخذ على الجامعة هو تقصيرها عن حماية الدول الوطنية العربية، الواحدة من الأخرى، وإلزام الدول كلها مناقشة علاقاتها الإقليمية المتبادلة على «مائدة» المنظمة الإقليمية، والسعي في نقل العلاقات البينية والمشتركة من ميدان موازين القوى الى ميدان معايير المصالح المتبادلة على أساس المساواة والندية والتعاقد الحر والإلزام من غير إكراه.
وما يحصيه المحاضر «الجامعي» من أزمات عربية انفجرت في الأعوام الأخيرة، من الحرب على الإرهاب وغزو العراق والحربين الإسرائيليتين - العربيتين (لبنان وغزة) وحروب اليمن والسودان والصومال الأهلية، يتعمد إغفال الشطر العربي من عوامل اندلاعها، ومن عوامل استمرارها ودوامها وتقلبها بين أطوار مختلفة. وهو حين توسط في بعض مراحل الأزمة اللبنانية غداة اغتيال رفيق الحريري، وحين تمخض الاغتيال عن ذيول محلية وإقليمية أبرزها حرب صيف 2006 وهجوم كتلة حلفاء سورية وإيران على الدولة والأهالي والهيئات، نبه الى «الطبقات الأربع» التي نجمت الأزمة عنها ويقتضي الحل معالجتها. والطبقة العربية والإقليمية في القلب منها. ويلمح، في محاضرته، من طرف إيمائي الى «انقسام قيادات» و «خلافات ثنائية»، والى «النظرية العدوانية» (صفة ينفيها عن «العروبة» و «اكتساح الكيانات الوطنية» المترتبة على النظرية المفترضة، و «العوارض العرقية والعنصرية»، و «التشرذم»، و «السلبية الكامنة»، و «تنازع الإرادات العربية»، و»الاسفين» الطائفي... والإلماح هذا يصدر في معرض نفي أو استدراك أو اشتراط. ولا يخص المحاضر المسائل التي يلمح إليها بمعالجة يقفها على هذه المسائل، ولا يصلها بالإنجازات المشتركة التي يعددها، ويمدحها، ويغضي عن حدودها وقيودها. فيرسم لوحة انطباعية من غير إطار متماسك وجامع يتيح وحده للمواطن ترتيب المسائل، وتقدير الأفعال ووجوه تأثيرها.
ويتحاشى المحاضر في لائحة مقترحات ترمي، على قوله، الى «خلق وتنظيم المصلحة العربية المشتركة التي تحقق التقدم والازدهار»، وتتقدم التقرير، تخصيص الدول الوطنية، كيانات وشعوباً وسيادة، والإقرار بها، ببند على حدة أو مادة برأسها. وتجنب المحاضر إفراد الدول الوطنية العربية ببند يثبت سيادتها واستقلالها الوطنيين والداخليين، ويوجب على الجامعة ودولها احترامهما، ويشترطهما مقدمة لكل عمل مشترك، يلقي ظلال الريبة والشك على جدية المقترحات السبعة، وعلى سابعها وآخرها على وجه التخصيص («ضرورة أن يكون بند الإصلاح والتحديث، وتكريس مسيرة الديموقراطية وحقوق الإنسان بنداً رئيساً على جدول أعمال كل عمل عربي مستقبلي»). فتشخيص المصالح المشتركة العامة، وإحصاء الصداقات والعداوات والتحفظات، وتسمية دول الجوار، والإشارة الى الأزمات، ليست ما يشكل في نظام إقليمي أو عليه، وليست ما يعترض قيامه وبلورته تدريجاً. وإنما تنشأ المشكلات من الخلافات المشروعة على تعريف العوامل والأدوار وقواعد العلاقات الناظمة. ومعاهدة فيستفاليا الأوروبية، في أواخر النصف الأول من القرن السادس عشر وفي أعقاب «حرب» الثلاثين عاماً المذهبية بين دول الكثلكة ودول الإصلاح، لا تزال المثال الذي تقتدي به الأنظمة الإقليمية الواقعية.
فالشرط الذي ينهض عليها نظام إقليمي فاعل، لا يتستر على نوايا ومبانٍ توسعية بوليسية وقاهرة، هو تعريف الوحدات السياسية التي يأتلف منها، ومن أدوارها وإسهامها، النظام المرجو. ونهض النظام الفيستفالي على تولي الدول و «الأنظمة» السياسية تدبير الشؤون الدينية الداخلية وحدها، على رغم اشتراك رعايا (قبل المواطنين) بعض هذه الدول بمعتقد واحد، أو انتماء بعض هذه الدول الى كنيسة، أو رابطة كنائس، واحدة. وإقامة «العروبة»، أو وكالتها الفلسطينية، مقام المعتقد الديني، ومذاهبه وملله - وهذا ما يبدو الأمين العام مقراً بها من غير خطابة غنائية - فتحت الأبواب على مصاريعها بوجه سياسات إقليمية زرعت وحصدت ولا تزال تزرع وتحصد حروباً أهلية وصدوعاً داخلية متناسلة. وجامعة الدول التي لا ترى بعض «دولها» غضاضة في دعوة جماعات أهلية وحزبية الى تمثيل «شعبها» في المحفل الرسمي، أو يستقبل رئيس دورتها من تتهمهم دولهم ومفوضو هذه الدول بالقتل والاغتيال الجماعيين وبإرهاب المدنيين، أو تندد بعض قيادات دولها بجماعات أهلية في الدولة الأخرى وتدعو الى تغيير أنظمة هذه الدول «برمتها» - مثل هذه الجامعة يتساءل المواطن عمن تجمع، وما تجمع، وعلامَ تجمع إذا جمعت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق