الثلاثاء، 7 أكتوبر 2008

عزوف الكسندر سولجنتسين عن الرواية إلى القصّة والتقصّي...

المستقبل - الاحد 31 /8/ 2008 -
تحمل الصحافة اليومية، وأخبارها المتدافعة بالمناكب والأيدي، كتبتها وعمالها، أو مخبريها ومعلقيها، على التناول السريع أو اليومي. فإذا توفي رجل مثل سولجنتسين، على ما "فعل" الرجل قبل نحو الشهر، استبْقت "معالجة" الخبر، ولو في ملحق ثقافي وأسبوعي، من موضوعه، أي من حياة الكاتب والداعية التاريخي وليس السياسي وحسب، استبقت الأصداء القديمة التي بعثتها حوادث قديمة كذلك لابست حركات الكاتب وسكناته، وحفت أعماله الأدبية والسياسية. واستبقاء الأصداء القديمة قلما ينفخ حياة في أعمال وأقوال ضجت بالدعوة إلى الحياة، وتدين بدوام وقعها إلى قوة دعوتها هذه، وإلى استجابة الدعوة على هذا القدر أو ذاك. وربما لا ينبغي لمعالجة صحافية وظرفية، ولو موثقة، أن تطمع في بعث معنى سولجنتسين، أو معانيه، لمن لم يحضروا هذه المعاني، أو بعضها، إبان تكوينها وتصويرها وتخلقها ـ وهذه كلها تتعدى المقصد ـ، أو لم ينتبهوا اليها يوم تكونت وتصورت وتخلقت. ولكن الاقتصار على الأحكام المنمطة والواهنة التي إما عاصرت أعمال الكاتب، أو ثأرت منه، من أثره المفترض والبغيض في حوادث تالية، لا يعدو ترديد صدى الأصداء.والاقتصار هذا كاذب. فهو يكذب مرة أولى حين يتناسى جدة الكاتب يوم خرجت أعماله إلى النور، واستدرجت القراء إلى الاعجاب، أو خيَّبتهم، أو حيرتهم، أو تركتهم من غير رأي. وهو يكذب مرة ثانية حين يغفل الخلاف الذي فجرته أعمال سولجنتسين، ومدته تباعاً بمادة متجددة، واستأنفته عملاً بعد عمل، في ضوء حوادث التاريخ الكبيرة، و"الحوادث" الأدبية التي أعقبت أعماله، ومتت اليها بهذا السبب أو ذاك. ولا يغفل هذا أعمالاً لم تمت بسبب إلى أعمال سولجنتسين، ولا تشبهها. ولعل روايات ميلان كونديرا أوسعها شهرة. ولكنها لا تنفك، من طرف خفي، "تومي"، على ما كان بعض أدبائنا يقولون، إلى بعض "مخلوقات" الكاتب الروسي. فيقع قارئ "جناح (مرضى) السرطان" على فيرا كورنيلييفنا غانغارت، الطبيبة التي قتل صاحبها على الجبهة في أوائل الحرب (الروسية ـ الألمانية)، قبل أن يجرح، أو ينقل إلى المستشفى، أو يؤذن في "مأذونية"، فتركها "هي نجمته، تضيء وتضيء من غير انقطاع، ويُسفح نورها عبثاً". وبين فيرا هذه، وأخريات مثل آسيا، وبين بعض نساء الروائي التشيكي وجوه شبه حال اختلاف فني الكاتبين، وانتسابهما إلى تراثين قصصين وأدبيين متباينين دون ظهورها."خَصْورات" آيزينشتاينوالاقتصار على الأحكام المنمطة والكسلى يكذب مرة ثالثة حين يوهم بحمل أعمال سولجنتسين على "فن الرواية"، ومعاييره المفترضة، فيبخسها قيمتها، أي حقها من القراءة المتجددة والمستأنفة، بذريعة طغيان أصداء "سياسة" سولجنتسين على أدبه وفنه، وتقديم المعاصرين همومهم، وهموم الكاتب السياسية والنضالية، على "أدبية" أدب القاص الروسي، على قول أحد مواطنيه، "الشكلاني" شلوفسكي. ويلوح الكذب من غير يناع حين ينصرف بعض المتذرعين بضعف "فن" الكاتب الراحل عن أدبه وقصصه فيقصرون مناقشتهم أو احتجاجهم على سياسته.وكان الكسندر سولجنتسين استبق في عمله القصصي الأول، "يوم (من أيام) دينيسوفيتش"، المناقشة هذه. ففي أثناء تناول فطور الغداء يجلس اثنان من علية المعتقلين، وهم أصحاب السابقة الثورية المجيدة التي تخولهم التمتع بالمآكل الشهية والتبغ والأحذية والألبسة والأغطية الدافئة، سيزار (أو قيصر) والمعتقل سين ـ 123. ويدير سيزار ظهره إلى شوخوف، ويدخن غليونه، ووجهه إلى المعتقل الآخر، الشيخ المسن والكبير الجسم المدان بعشرين عاماً أشغالاً شاقة. فيقول سيزار إلى رفيق طاولته وطعامه أن الموضوعية تقضي بالإقرار للسينمائي الشيوعي سيرغي آيزينشتاين بالعبقرية. وهو يقول هذا برفق، ساعياً في استمالة صاحبه. ويحتج لرأيه بمشهد من فيلم آيزينشتاين "إيفان الرهيب": "ورقص حرس القيصر وأقنعتهم على وجوههم؟ ومشهد الكاتدرائية؟". فيجيب المعتقل سين ـ 123 مغضباً: "خَصْورات!". "فثمة إفراط في الفن يحول بين هذا وبين أن يكون فناً. فهو بهار وقنب في مثابة خبز يومي. وإلى هذا، وفوق هذا، فكرة سياسية تبعث على القرف والاشمئزاز: تسويغ طغيان فرد واحد. فكأنك تبصق على ذاكرة ثلاثة أجيال من المثقفين الروس!". فيسأله محاوره: فعلى أي نحو كان على السينمائي إلباس موضوعه من غير أن يحملهم (هم الأغنياء عن التعريف أي حرس الحزب "الثقافيون") على مراقبته وحبسه؟ فلا يكاد سين ـ 123 يسمع "إلباس موضوعه"، وسيزار يعني اللباس أو الزي الحربي بترك الرقباء يغضون عن العمل الفني، حتى ينتفض، ويطعن في صدق الكلام على عبقرية السينمائي حين يقصد المتكلم حسن تخلصه ومحاباته وصدوعه بأمر صدر اليه وأطاعه. وفي أثناء المحاورة يأكل سين ـ 123 يخنته "بحلق لا مبالٍ"، على ما يكتب سولجنتسين. فالحصة من الطعام قليلة ولا تغني عن الجوع. وعندما يفرغ من تنديد بطاعة آيزينشتاين أمر الطاغية الفرد، يقطع الراوي الغفل، وهو شوخوف نفسه أو "محله" القصصي، سرد المحاورة "الرفيعة"، على قول إيفان دينيسوفيتش في سره. فيتنحنح شوخوف متردداً ومنبهاً سيزار إلى حمله اليه صحن الطعام الذي يوزعه مطبخ المعتقل على المعتقلين. فيستدير سيزار، ويمد يده، ويتناول الصحن من يد شوخوف من غير أن ينظر اليه.وعلى نحو ما كتب القاص للتو أن شوخوف تنحنح، متهيباً قطع المحاورة الرفيعة، ومتعمداً في آن تنبيه سيزار إلى حمله حصته من الطعام اليه، فجمع داعيين متباينين ومتدافعين في (وجهي) فعل متصل، من غير صبغه بصبغة نفسية، يروي القاص أن سيزار استدار، ومد يده، وتناول الصحن من غير أن ينظر إلى شوخوف، ويختم: "فكأن الطعام جاء وحده على جناح طير". فيلحق الختامُ المروي على لسان أو قلم القاص، بشوخوف، تقديراً، على قول أهل النحو. ويدخل، على هذا، في باب أفكاره أو تداعياته وظنونه، من غير أن ينسبها إلى نفسه، أو ينسبها اليه القاص الغفل صراحة وعلناً. ويبقي الاشتباه القص بمقام وسط بين زعم السرد الخالص و"الموضوعي" وبين التأويل المقحم على السرد من غير أن يدري القارئ مصدره أو صاحبه.والمقام الوسطي هذا هو مقام شوخوف. و"اليوم" الذي يدور القص عليه هو يومه، على وسم الكتاب. ولكن شوخوف، إيفان دينيسوفيتش، ليس صاحب اليوم، وليس شاهده الممتاز أو بؤرته، أو مرآته وجامع معانيه، على ما نرى من بعد. فالمعتقل الروسي أو السوفياتي الشيوعي لا يقر لمعتقليه ومسجونيه بالمحل الذي توليه الشهادة للشاهد، أو يليه الشاهد من الشهادة، وتليه البؤرة من الخيوط المنعقدة عندها. وهم، المعتقلون، لا ينسبون إلى أنفسهم المحل هذا، ولا يحلونه حلول أصحابه وشاغليه. ويسخر إيفان في موضعين من الكتاب بالركن الذي ينهض عليه المعتقل السوفياتي. فهو يولي المعتقلين مهمة أولى هي بمنزلة المقدمة الضرورية من الاعتقال السياسي، أي بناء السور الذي يمنع المعتقلين من الهرب، بأيديهم، قبل أي عمل آخر. فهم السجانون، ليس على معنى مجازي خالص، وهم المسجونون. والسجن صنع أيديهم، على معنى مادي واجرائي، ولكنهم مادته. وحالهم هذه، لا تبعثهم على الانقياد انقياد المادة، على رغم ارادة "صاحب" المعتقل قسرهم على الانقياد من غير بقية ارادة، أو بقية رغبة، في كيانهم.الأقدار والمصائرفيقع قص سولجنتسين، ومقامه الوسطي، على حال "الزيك"، أو المعتقل المرقم والمحمول على رقم في جملة أرقام. وهو يقص قصصاً، ولا يروي رواية، على خلاف ميلان كونديرا التشيكي. فالمعتقل، وبالأحرى "أرخبيل" المعتقلات وعناقيد حباتها وجزرها المنتشرة في أرجاء العالم السوفياتي، الكولخوز (في "بيت ماتريونا")، ومصح الاستشفاء (في "جناح السرطان" أو مرضاه)، تشترك في كونها أقداراً ومصائر "لازمة" لا يختارها المعتقلون أوالكولخوزيون أو المرضى. وهي، المعتقل والكولخوز وجناح المصح، ملتقى آهليها على رغمهم. وهم لا يلتقون فيها، ويحلونها، إلا مكرهين، تكرههم على الالتقاء، والعيش معاً، والعمل، والتباغض، والتناصر، والشفقة، والمحاورة، ارادة "الطاغية الفرد" المستبدة بهم.وهذه الإرادة لا تجمعهم، مرضى يعانون المرض العضال، أو مزارعين في مزرعة جماعية، أو معتقلين تولت أجهزة الحزب القائد صيدهم­ على معايير مفهومة ومعقولة. فهم حيث هم ليس من تلقاء أنفسهم، ولا جراء حوادث العالم التي اختاروا، على مقدار أو آخر، الانخراط، أو الخوض فيها، سعياً في بلوغ غاية قدروها وأخطأوا تقديرها عموماً أو أصابوا غاية أخرى لم يقدروها. فوسعهم، في الأحوال هذه كلها، تعقب خط بياني يأتلف، على اضطراب وتعرج وتقديم وتأخير، من شذرات، أوقات وناس وأحوال وحوادث وإرادات ورغبات ودواع وحواجز ولهجات، وتنعقد منه رواية، بلزاكية أو فلوبيرية أو بروستيةأو كافكاوية أو فوكنرية، وربما سرفانتيسية وديدروية قبلها جميعاً. وما وسعهم هو، حقيقة، ما وسع الروائي كتابته.والمعتقل السوفياتي، شأن المعتقل النازي في مرآة تقصي القاص الإيطالي ومعاصر سولجنتسين تقريباً، بريمو ليفي (صاحب "أيكون هذا بشراً")، قد يتيح الحياة، على قول كوزيومين، أحد "شيوخ" المعتقل ـ على رغم بلوغ عدد ضحاياه رقماً فلكياً (أحصى سولجنتسين في "الأرخبيل" ثلاثين مليوناً، ورد المؤرخون الرقم إلى النصف) ـ، ولكنه لا يتيح الرواية، على معانيها وصورها التي تقدمت. وصدع سولجنتسين بالأمر. فجمع بموضع واحد من لا يد لهم في الاجتماع والحوار والتخلص، وصدروا عن حيوات وسير وتراجم ليس فيها ما يدعوا أصحابها، اضطراراً أو من داخل، إلى بلوغ ما ليس محجة، ولم يكن محجتهم ولا قبلتهم ولا مقصدهم. وأثر هذا في الرواية عميق وراجح، فهي تترجح بين أفعال يقصد بها أصحابها مقاصد يسعون فيها، وبين مترتبات وذيول تنشا عنها معانٍ ودلالات ومسالك لم يردها أحد.وانتفاء المعاني والدلالات والمسالك (الروائية) من القصد والإرادة لا يوقعها في التشعث، ولا في التخبط. فتنضبط، من طرف خفي، على رسوم قد يتعرفها القارئ أو قد تخفى عليه. ولكنها، في الحالين، تقود القراءة، وتوقّعها على نحو توقيع المراحل والمنعطفات سيرة المرء الواحد في المجتمعات "الجمهورية" والفردية، على ما يصفها جون بوكوك شارحاً ماكيا فيلي ودعاة إرساء النظم السياسية على المنازعة والانقسام. فالأفراد المنقسمون والمتنازعون قد تبطن سيرهم المكتوبة والمروية رسماً متماسكاً لا يصدر تماسكه عن ارادة، ولا يثوي في قصد، ولا ضامن له، ولا يسبق الحوادث، ولا مُسكة له من نفسه أو من غيره، وهو أقرب إلى ظل منه إلى شيء. والرواية هي شكل أو صورة التماسك التقريبيي المعلق هذا. وهي ما تجنبه وتفاداه صاحب "إيفان دينيسوفيتش"، وتحفظ عن انتهاج بعض كبار الكتاب الروس، شأن ليون تولستوي في "أنّا كارينينا"، طريقه. ولم يصدر، في تجنبه وفي تحفظه معاً، عن خصوصية ثقافية روسية، أو أرثوذكسية وسلافية، مقدار صدوره عن "علم" أدبي وتاريخي بأحوال الروس و"روسياهم"، على مثال قوله "روسيانا" في إحدى مقالاته.وهذا ما لا "علم" به لأرباع "روائيين" عرب يحسبون أن الرواية في متناولهم، ورهن مشيئتهم الفنية والكتابية، وأن "الملحمة" أو "المأساة" الفلسطينية أو اللبنانية تروى على شاكلة رواية ألان روب غرييه المفترضة "دراما" الغيرة، أو رواية صمويل بيكيت تعرّف مولوا النوامي مواضع من المدينة، فيتكبون من المضحكات ما يندى له جبين القارئ المتعرض للشموس وهجيرها وهجراتها).وحين تبلغ القصعة يد سيزار، الغافل عن شوخوف وعن يده، على ما قد يكون شوخوف انتبه بطرف انتباه، يستأنف سيزار حديثه والمعتقل القديم والمعروف برقمه. فيقول القولة المعهودة والمتواترة في "الفن"، وهي يقولها الذواقة المتدربون في أنحاء الأرض ويرددونها: "المسألة في الفن ليست (ماذا) بل (كيف)"، ليس المضمون بل الشكل. والذين نعوا، من بعد، على الكسندر سولجنتسين، ضعف فنه على زعمهم، عزوا أصداء أعماله المدوية إلى "ماذا" أعماله، أو مضمونها السياسي. والحق أن النعي هذا طريف. فالناعون على الكاتب دَينه بوقع أعماله إلى مضمونها السياسي والاجتماعي، دون شكلها الفني، هم من "التقدميين" و"الماركسيين"، على أنحاء متفرقة من التقدمية والماركسية. وطعنُهم عليه تقديمه المضمون على الشكل عرضٌ من أعراض حداثتهم المستدركة، وأوبتهم المتأخرة والغالية إلى الإقرار باستقلال 7-7-المستويات7-7-، المستوى السياسي والمستوى الفني، عن القاعدة الاقتصادية. فيرد ين ـ 123 "قافزاً في الهواء، وخابطاً بحدِّ يده الطاولة، طع طع": "لا، لا! ليذهب (ماذا) ك إلى الجحيم إذا لم يوقظ فيَّ شعوراً صادقاً وصريحاً واحداً!". وعندما يستدير شوخوف، ويخرج من المقصف مستطلعاً حال الطقس، تنقطع المناقشة، أو ينقطع نقلها.انقلابات القصوالمحاورة أو المناقشة هذه تُداوِل رأيين مختلفين في رجل، آيزينشتاين، وعمل، "إيفان الرهيب"، أثارا جدالاً عريضاً في روسيا السوفياتية. ولا يخلص القارئ من المطارحة إلى رأي. ولكنه يلاحظ أن صاحب "الكيف"، أي سيزار مدخن الغليون ومقصد البريد المثقل بالحاجيات الفاخرة والمنعم على شوخوف، يتربع في سدة عالية يشرف منها على المناقشة وعلى شوخوف معاً. فهو سيِّد، على معنى السيادة السياسية والاجتماعية والثقافية. وإعجابه برقصة الأقنعة التي يؤديها حرس القيصر، أو بمشهد تتويج إيفان (وفي وسع متعقب الأسماء أن يلاحظ توارد الإيفانين: القيصر الرهيب، "موضوع" آيزينشتاين العبقري والمراوغ والمقنع، والمعتقل البسيط والطيب، "موضوع" سولجنتسين الحرفي والصريح والسافر)، إنما هو إعجاب السيد لحظة تمتعه بخدمة "الخادم"، وتبدد الخادم وخدمته في صورة جناح الطير. وحين قد يتراءى للقارئ أن الكاتب يميل إلى "ماذا" سين ـ 123، ويقدم الشعور الصادق والصريح على فن التقنع وشعائر التتويج، يروي المطارحة على نحو شعائري، ومن طريق سمع المعتقل البسيط ونظره وخدمته السيد. فتقيد حكاية المطارحة الشعائرية، وإظهارُها الانقسام الذي يتخللها ولا تنفك منه، مضمون القول. وتحمل المضمونَ على شكل الشعيرة وصورتها. وهذا انقلاب يشبه انقلابات القص في قصة ديدرو "جاك القدري" (القائل بالجبر). ولا يلمح سولجنتسين إلى "فنه"، ولا يدلّ به. ولا يبعد أن يصح فيه نعي سين ـ 123 على آيزينشتاين الغلو في الفن غلواً يؤدي إلى انتفاء الفن أو نفيه. وهذا انقلاب آخر يدعو الكاتب قارئه إلى إغفاله، والمرور به مرور الكرام، بعد إثباته.فالقصة أو الحكاية ليست الرواية، على المعنى الذي تقدم، من غير أن ينجم عن هذا فقر موارد أو ضعف أودٍ وحيلة. ويرضخ سولجنتسين، في "إيفان..."، رضوخاً يكاد يكون مدرسياً لموجبات القصة أو الحكاية، أو لفروضها وأصولها الشكلية. فيقيد قصه بيوم المعتقل، وبحدوده المكانية، وبسكانه، ومدبريه، ودستور علاقات السكان بالمدبرين، وعلاقات المعتقل كله بإدارة المعتقلات و "دولتها"، وصاحب الدولة، وتاريخها القريب. واقتطاعه الشطر هذا يبدو، من وجه، تمثيلاً اختبارياً على "النظام" السوفياتي، وعلى ارخائه بثقله، وإناخته على روسيا والروس والشعوب القريبة التي ضمها النظام اللينيني ـ الستاليني، باسم "المسألة الوطنية" أو"القومية"، إلى سلطانه. ولكن التمثيل الاختباري، أو ما قد يتصور في هذه الصورة للوهلة الأولى، يصدع بهيئات النظام، ورسومه ومسالكه، شكلاً وصورة. فإذا باشر القص من داخل، وتناول حوادث المعتقل اليومية وهو على ظاهره الأول رضوخاً وصدوعاً، أعمل في قصه وتناوله ما يُعمله المعتقلون في هيئة المعتقل وأنظمته ورسومه ومسالكه من "فنون" المنازعة والمقاومة والتخريب والمساومة والانقياد معاً. و"شعب" المعتقلات الذي قسره السلطان السوفياتي على طاعته، والانقياد اليه، غصباً وعنوة، "ملأ" المعتقلات، على رغم وطأة السلطان و"نظامه" ومدبريه وآلاته، بحوادث وعلائق وأقوالٍ ومشاعر ومواطآت وشراكات ومنازعات تنتهك شرائع السلطان ودستوره (على معنى أصول القواعد والقوانين) في نظمه وهيئاته، والمعتقل منها بمنزلة القلب والمثال والجوهرة.وملأ سولجنتسين، على نحو قريب من هذا، حكايته، وملأ الأقدار والمصائر المرسومة المترتبة على فن الحكاية أو القصة، بحركات الخروج والانتقاض على الحكاية وأقدارها المفترضة. فيقتفي القص القرائن الكثيرة على الخروج والانتفاض والمساومة، من غير غنائية، ولا ملحمية، ولا قصد معانٍ جامعة. فالغنائية والملحمية والمعاني الجامعة هي من مزاعم السلطان السوفياتي، وطبائع الاستبداد عموماً. ولعل بعض ما اختص به السلطان السوفياتي هو حمل الاعتقال الجماهيري، واستهلاك البشر استهلاكاً نهماً في المعتقلات، على الهيئة العادية و "القانونية"، وسلكها في هيئات الحكم و"الدولة"، على ما احتج سولجنتسين طويلاً في "أرخبيل الفولاغ"، وملمحاً في "إيفان دينيسوفيتش". ودعا السلطان السوفياتي أدباءه وفنانيه، وجهاز دعاوته الضخم، إلى مديح انجازاته ونُصبه مديحاً غنائياً وملحمياً، أو "سمفونياً".ولعل ما ينكره سين ـ 123 على آيزينشتانين حين يصف آياته الفنية، على ما يراها سيزار، بـ "الخصورات"، أو الحركات الإيمائية المفرطة في العبارة والدلالة، هو محاكاته الفنية مزاعم السلطان الكبيرة والجسيمة. فـ "اختار"، من غير عَزو ما صنعه إلى ارادة وتسيد متمكنين، رداً على الأنصاب السلطانية عبارةً مراوغة هي القصة أو الحكاية. وتحاكي مراوغة سولجنتسين مراوغة "الشعب" الذي يأهل قصصه والمعتقلات. فالمراوغة، في الحالين، لا تحتاج لغير بث الخلاف والمنازعة والفرق في أركان البنيان الشامخ والمكين. ولا يقتضي هذا غير إخراج الحوادث اليومية من الانضباط على توالد الاستدلال بعضه من بعض، تاريخاً وفناً و "جمالاً".

ليست هناك تعليقات: